شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

وخطّأ ابن زياد وابن حمزة ، في

ما قال فيها ، أبا بشر ، وقد ظلما

وغاظ عمرا عليّ في حكومته

يا ليته لم يكن في أمره حكما

كغيظ عمرو عليّا في حكومته ،

يا ليته لم يكن في أمره حكما

وفجّع ابن زياد كلّ منتحب

من اهله ، إذ غدا منه يفيض دما

كفجعة ابن زياد كلّ منتحب

من أهله إذ غدا منه يفيض دما

______________________________________________________

(وخطأ ابن زياد وابن حمزة في

ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما

وغاظ عمرا علي في حكومته

يا ليته لم يكن في أمره حكما

كغيظ عمرا عليا في حكومته

يا ليته لم يكن في أمره حكما

وفجع ابن زياد كل منتحب

من أهله إذ غدا منه يفيض دما

كفجعة ابن زياد كل منتحب

من أهله إذ غدا منه يفيض دما)

المنتحب هو الذي يبكي أشد البكاء ، وضمير أهله في البيت السابق يعود على عمرو والمراد به سيبويه أبو بشر ، وفي البيت الأخير يعود على علي المراد به أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه ، وإحدى قافيتي البيتين الأخيرين دما بكسر الدال المهملة جمع دم ، وقصره للضرورة ، والأخرى بفتحها مفرد الجمع المذكور دفعا للإيطاء بوجه بديعي وهو الجناس ، ويقع في بعض النسخ إحدى تينك القافيتين بالذال المعجمة المفتوحة وهو مقصور ، الدماء بالمد والمراد به بقية الروح ، لكن المناسب أن يكون معه يقيظ بياء مضمومة وظاء معجمة من قولهم : أقظت نفسه أي أذهبتها ، وفي أصل القصيدة بعد هذا البيت زيادة لم يذكرها المصنف ، وهي :

فظل بالكرب مكظوما وقد كربت

بالنفس أنفاسه أن تبلغ الكظما

الكرب الغم مكظوما مأخوذا بكظمه بفتح الكاف والظاء المعجمة ، وهو مفتح الفم كربت كادت بالنفس ، حال من أنفاسه والباء للمصاحبة ، والمعنى أنه كادت أنفاسه حال كونها ملتبسة بنفسه أن تبلغ مفتح الفم ، أي : كاد يموت وأدخل أن في حيز كرب وهو قليل :

قضت عليه بغير الحق طائفة

حتى قضى هدرا ما بينهم هدما

قضت حكمت وكأن مراده بالطائفة العرب الذين أرشوا على موافقة الكسائي ، قضى مات هدرا باطلا وهدما بمعناه يقال : دماؤهم بينهم هدم أي : هدر وهدم أيضا بسكون الدال ، وذلك

٣٤١

وأصبحت بعده الأنقاس باكية ،

في كل طرس ، كدمع سحّ وانسجما

وليس يخلو امرؤ من حاسد أضم

لو لا التنافس في الدنيا لما أضما

______________________________________________________

إذا قتلوا ولم يودوا ، وفي البيت الجناس التام بين الفعلين من قضت وقضى ، والجناس اللاحق بين الاسمين من هدرا وهدما :

من كل أجور حكما من سدوم قضى

عمرو بن عثمان مما قد قضى سدما

من سدوم ، أي : من قاضي سدوم وهي قرية قوم لوط عليه الصلاة والسّلام يضرب بهذا القاضي المثل في الجور ، وقضى الأول معناه مات والثاني معناه حكم ما مر ، والسدم الندم والحزن ففي البيت الجناس التام وجناس الاشتقاق أو ما يشبهه :

حساده في الورى عمت فكلهم

تلفيه منتقدا للقول منتقما

فما النهي ذمما فيهم معارفها

ولا المعارف في أهل النهى ذمما

انتقاد القول التفتيش عن معايبه ، والمناقشة فيه والانتقام معروف ، والنهى جمع نهيه بالضم وهي العقل والذمم جمع ذمة وهي العقد والميثاق ، يعني : أن العقول ليست ذمما في هؤلاء الحساد معارفها ، وليست المعارف في أهل العقول منهم ذمما ، ورفع معارفها بذمما لتأوله بمرعية ، وفي البيت الأول الجناس وفي الثاني العكس والتبديل.

فأصبحت بعده الأنفاس كامنة

في كل صدر كان قد كظ أو كظما

الأنفاس جمع نفس بفتح الفاء ، وكامنة مختفية وكظ جهد من الكرب ، وظاؤه معجمة وكظم أخذ الغم بكظمه ، وهو مفتح فيه كما مر ، وبعد هذا البيت ما أنشده المصنف وهو قوله :

(وأصبحت بعده الأنقاس باكية

في كل طرس كدمع سح وانسجما)

الأنقاس بالقاف جمع نقس بكسر النون وهو المداد ويجمع على أنقس أيضا تقول منه نقس دواته تنقيسا ، والطرس الصحيفة هو الكاغد وسح سال ، وانسجم مثله.

(وليس يخلو امرؤ من حاسد أضم

لو لا التنافس في الدنيا لما أضما)

وبعد هذا البيت في أصل القصيدة

فكم مصيب عزا من لم يصب خطأ

له وكم ظالم تلقاه مظلما

عزا نسب يقول كم ينسب مخطىء إلى المصيب خطأ ، وكم ظالم تجده يتظلم فلم ينشد المصنف هذا البيت وبعده ما أنشده في المتن وهو قوله :

٣٤٢

والغبن في العلم أشجى محنة علمت

وأبرح النّاس شجوا عالم هضما

وقوله : «وربما نصبوا ـ الخ» ، أي : وربما نصبوا على الحال بعد أن رفعوا ما بعد «إذا» على الابتداء ، فيقولون : «فإذا زيد جالسا».

وقوله : «ربما» في آخر البيت بالتخفيف توكيد لـ «ربّما» في أوّله بالتشديد.

و «غمما» في آخر البيت الثالث بفتح الغين كناية عن الإشكال والخفاء ، و «غمما» في آخر البيت الرابع بضمّها جمع «غمّة».

وابن زياد : هو الفرّاء ، واسمه يحيى ، وابن حمزة هو الكسائي ، واسمه عليّ ، وأبو بشر : سيبويه ، واسمه عمرو ، وألف «ظلما» للتثنية إن بنيته

______________________________________________________

(والغبن في العلم أشجى محنة علمت

وأبرح الناس شجوا عالم هضما)

أشجى أفعل تفضيل من شجاه يشجوه إذا أحزنه ، والشجو الحزن وأبرح معناه أشد يقولون : هذا الأمر أبرح من ذاك أي أشد ، والبرح الشدة والأذى (وقوله : وربما نصبها) اذكر أو أنشد (البيت أي : وربما نصبوا على الحال) فجعل المصنف الباء من قول الناظم باء الحال بمعنى على ، وقد أسلفنا فيه تجويز وجه آخر وهو أن تكون للسببية ، (بعد أن رفعوا ما بعد إذا على الابتداء) والأحسن أن لو قال على الخبرية لأن الذي جعل حالا هو الذي كان قبل ذلك خبرا ، ووجه قول المصنف أن الخبر مرفوع بالابتداء على رأي جماعة ، ولكنه ليس مذهب سيبويه (فيقولون : فإذا زيد جالسا) بعد أن قالوا فإذا زيد جالس (وقوله : ربما في آخر البيت بالتخفيف توكيد لربما في أوله بالتشديد) من باب التوكيد اللفظي (وغمما في آخر البيت الثالث بفتح الغين) المعجمة (كناية عن الإشكال والخفاء) فأريد من الغمم الموضوع لسيلان الشعر كما مر لازم معناه ، وهو خفاء ما تحته واستتاره (وغمما في آخر) البيت (الرابع بضمها جمع غمة) وقد عرفت أن معناه الكربة (وابن زياد) المذكور في قوله وخطأ ابن زياد (هو الفراء واسمه يحيى ، وابن حمزة) هو (الكسائي واسمه علي) وقيل له الكسائي لأنه أحرم في كساء أو لأنه كان في حداثته يبيع الأكسية ، أو لأنه كان من قرية من قرى السواد يقال لها كسايا ، أو لأنه كان يتشح في مجلس حمزة بكساء ، وكان حمزة يقول : اعرضوا على صاحب الكساء الأهوازي ، وهذا القول أشبه بالصواب (وأبو بشر هو سيبويه واسمعه عمرو ، وألف ظلما للتثنية) وفيه مسامحة إذ ليست للتثنية وإنما هي ضمير الاثنين ، وقول بعضهم ضمير المثنى لا ينطبق على مثل زيد وعمرو قاما (إن بنيته

٣٤٣

للفاعل ، وللإطلاق إن بنيته للمفعول. وعمرو وعلي الأوّلان : سيبويه والكسائيّ ، والآخران : ابن العاص وابن أبي طالب رضي‌الله‌عنهما. وحكما الأول اسم ، والثاني فعل ، أو بالعكس دفعا للإيطاء. وزياد الأول : والد الفرّاء ، والثاني زياد ابن أبيه ، وابنه المشار إليه هو ابن مرجانة المرسل في قتلة الحسين رضي‌الله‌عنه ؛ و «أضم» كـ «غضب» وزنا ومعنى ، وإعجام الضاد ، والوصف منه «أضم» : كـ «فرح» ، و «هضم» مبني للمفعول ، أي لم يوف حقه.

وأما سؤال الفراء فجوابه أن «أبون» جمع «أب» ، و «أب» فعل بفتحتين وأصله «أبو» ، فإذا بنينا مثله من «أوى» أو من «وأى» قلنا : «أوى» كـ «هوى» ، أو قلنا «وأى» كـ «هوى» أيضا ، ثم تجمعه بالواو والنون فتحذف الألف كما تحذف ألف «مصطفى» ،

______________________________________________________

للفاعل وللإطلاق) وهو إشباع حركة الروي فيتولد منها حرف مجانس لها (إن بنيته للمفعول وعمرو وعلي الأولان سيبويه والكسائي) رحمهما‌الله (والآخران) بكسر الخاء ويجوز الفتح هما (ابن العاصي) بإثبات الياء وحذفها (وابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما ، وحكما الأول اسم والثاني فعل أو) ذلك (بالعكس) أي متلبس به ، فيكون الأول فعلا والثاني اسما (دفعا للإيطاء) وهو تكرير القافية بلفظها ومعناها ، احترازا من نحو العين للباصرة والعين الجارية.

(وزياد الأول والد الفراء والثاني زياد ابن أبيه) وهو الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان بأبيه ، وكان يعترف بأنه أخوه وهو من دهاة العرب (وابنه المشار إليه هو ابن مرجانة) المسمى بعبيد الله على التصغير (المرسل في قتلة الحسين) بن علي (رضي الله تعالى عنه) وعن أبيه (وأضم كغضب وزنا ومعنى ، وإعجام ضاد والوصف منه أضم كفرح) وأضم بمعنى حسد وحقد أيضا ، والوصف منهما كالأول وكلاهما متأت في البيت ، فإن جعلته من الحسد كان تأكيدا لفظيا لحاسد ، وإن جعلته من الحقد فظاهر ، وأما أضم الواقع في القافية فهو فعل ، ويمكن حمله على كل من المعاني الثلاثة (وهضم مبني للمفعول أي لم يوف حقه) بنصب الحق على أن يكون النائب عن الفاعل ضميرا عائدا على العالم ، وبالرفع على أنه النائب ولا ضمير في الفعل.

(وأما سؤال الفراء فجوابه أن أبون جمع أب ، وأب فعل بفتحتين وأصله أبو) إلا أنه حذفت لامه اعتباطا ؛ فإذا جمع جمع سلامة للمذكر جعلت حركة الباء مع الواو ضمة ، ومع الياء كسرة إذ لا اعتداد بذلك المحذوف ؛ لكونه حذف نسيا منسيا (فإذا بنينا مثله) على ما يقتضيه القياس من الاعتداد بلامه المحذوفة (من أوى أو من وأى قلنا أوى كهوى ، أو قلنا : وأى كهوى أيضا ثم تجمعه بالواو والنون) أو بالياء والنون ونفعل فيه ما نفعله إذا جمعنا المقصور هذا الجمع (فتحذف الألف) من أوى أو من وأى (كما تحذف ألف مصطفى) إذا جمعناه كذلك حيث تقول

٣٤٤

وتبقى الفتحة دليلا عليها. فتقول : «أوون» أو «وأون» رفعا ، و «أوين» أو وأين جرّا ونصبا ، كما تقول في جمع «عصا» و «قفا» اسم رجل «عصون» و «قفون» و «عصين» و «قفين» ، وليس هذا مما يخفى على سيبويه ولا على أصاغر الطلبة ، ولكنه كما قال أبو عثمان المازني : دخلت بغداد فألقيت عليّ مسائل ، فكنت أجيب فيها على مذهبي ، ويخطّئوني على مذاهبهم ، اه.

وهكذا اتّفق لسيبويه رحمه‌الله تعالى.

وأما سؤال الكسائي فجوابه ما قاله سيبويه ، وهو «فإذا هو هي» هذا هو وجه الكلام ، مثل : (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) [الأعراف : ١٠٨] ، (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ) [طه : ٢٠]. وأما «فإذا هو إياها» إن ثبت فخارج عن القياس واستعمال الفصحاء كالجزم بـ «لن» ، والنصب بـ «لم» ، والجر بـ «لعلّ» ، وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك ، وإن تكلّم بعض العرب به.

______________________________________________________

أمصطفون ومصطفين (وتبقى الفتحة دليلا عليها) أي على تلك الألف المحذوفة (فنقول : أوون أو وأون رفعا ، وأوين ، أو وأين جرا ونصبا كما تقول في جمع عصا وقفا) حالة كون كل منهما (اسم رجل) فجاءت الحال باعتبار كل واحد ، أو جاءت من الأخير ، وحذف من الأول أو بالعكس وإلا فمقتضى الظاهر أن يقال اسمي رجل أو اسمي رجلين (عصون وقفون وعصين وقفين ، وليس هذا مما يخفى على سيبويه ولا على أصاغر الطلبة ولكنه) أي ولكن الأمر (كما قال أبو عثمان المازني ، دخلت بغداد) بموحدة مفتوحة وغين معجمة ساكنة ودالين بينهما ألف مهملتين أو معجمتين ، أو بإهمال الأولى وإعجام الثانية ، أو بالعكس ويقال فيهما أيضا بغدان وبغدين ومغدان وهي مدينة السّلام (فألقيت) أي : طرحت (علي مسائل فكنت أجيب فيها على مذهبي ، ويخطئوني على مذاهبهم) يعني من غير أن ينظروا في الأدلة (اه ، وهكذا اتفق لسيبويه) أي : في حق سيبويه (رحمه‌الله تعالى ، وأما سؤال الكسائي) في قول العرب : قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي ، هل يجوز أن يقال فيه فإذا هو إياها (فجوابه ما قاله سيبويه : وهو فإذا هو هي هذا وجه الكلام مثل (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) [الأعراف : ١٠٨]) ومثل ((فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ)) [طه : ٢٠] برفع ما بعد المبتدأ الواقع بعد إذا على أنه خبره فتكون هي ضمير رفع ؛ لأنه خبر عن هو ، فإن قلت : كيف صح الحمل مع التباين وعدم الصدق ، قلت : هو مثل زيد زهير فالأصل فإذا لسعته مثل لسعتها ، أو فإذا هو مثلها في شدة اللسع (وأما فإذا هو إياها إن ثبت فخارج عن القياس ، واستعمال الفصحاء) وهذا جواب لأما لا لإن من قوله : إن ثبت وقوله : إن ثبت جملة معترضة بين أما وجوابها (كالجزم بلن والنصب بلم والجر بلعل ، وسيبويه وأصحابه) البصريون (لا يلتفتون لمثل ذلك ، وإن تكلم به بعض العرب ،

٣٤٥

وقد ذكر في توجيهه أمور :

أحدها لأبي بكر بن الخياط ، وهو أن «إذا» ظرف فيه معنى «وجدت» و «رأيت» ، فجاز له أن ينصب المفعول كما ينصبه «وجدت» و «رأيت» ، وهو مع ذلك ظرف مخبر به عن الاسم بعده ، انتهى.

وهذا خطأ : لأن المعاني لا تنصب المفاعيل الصحيحة ، وإنما تعمل في الظروف والأحوال ، ولأنها تحتاج على زعمه إلى فاعل وإلى مفعول آخر ، فكان حقها أن تنصب ما يليها.

والثاني : أن ضمير النصب استعير في مكان ضمير الرفع ، قاله ابن مالك ، ويشهد له

______________________________________________________

وقد ذكر في توجيهه أمور أحدها لأبي بكر بن الخياط :

وهو أن إذا ظرف فيه معنى وجدت ورأيت فجاز له أن ينصب المفعول) كما ينصبه وجدت ورأيت (وهو مع ذلك ظرف مخبر به عن الاسم) المذكور (بعده اه) وهذا التوجيه بعينه منقول عن الكوفيين ، ولذلك قال الزجاج مشنعا عليهم : فإذا عندهم كالنعامة قيل لها : احملي قالت : أنا طائر فقيل لها : طيري فقالت أنا جمل ، كذلك إذا تطالب برفع ما بعدها فتقول أنا بمعنى وجدت فانصب ، فيقال فانصبي الاسم الواقع بعدك فتقول : أنا ظرف ، فإن قلت : ما معنى مطالبة إذا برفع ما بعدها فإن كان المراد رفع الاسم الذي يليها من حيث هو مبتدأ مخبر عنه بها فقد رفعته في الواقع عند الكوفيين ، ولا معنى لمطالبتها حينئذ بذلك ، إذ هو تحصيل الحاصل ، وإن كان المراد رفع الاسمين معا فما معنى مطالبتها بذلك وهي لا تقتضيه ، قلت : يحتمل أن يكون المراد مطالبتها بأن يكون الاسمان الواقعان بعدها مرفوعين ؛ لأنها تطالب برفعها هي لهما أي : بعملها الرفع فيهما ، ووجه المطالبة حينئذ أن الاسم الأول مرفوع على أنه مبتدأ باعترافهم فيكون الثاني مرفوعا على أنه خبر آخر كما يقولونه هم إذا لم يكن ثم نصب للجزء الثاني ، (وهذا) التوجيه الذي ذكره ابن الخياط (خطأ لأن المعاني لا تنصب المفاعيل الصحيحة) وهي ما لم يكن ظرفا ولا حالا (وإنما تعمل في الظروف والأحوال) كما سيجيء (ولأنها تحتاج على زعمه) بفتح الزاي وضمها وكسرها أيضا كذا في «القاموس» قال الزعم مثلثة القول الحق والباطل والكذب ، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه (إلى فاعل وإلى مفعول آخر) غير الذي نصبته في قولهم فإذا هو إياها (فكان حقها أن تنصب ما يليها) ؛ إذ المعنى عنده فوجدته إياها (والثاني أن ضمير النصب استعير في مكان ضمير الرفع قاله ابن مالك) كما استعير ضمير الرفع في مكان ضمير الجر في قولهم : ما أنا كانت ولا أنت كانا (ويشهد له) أي للإتيان بضمير النصب في مكان ضمير الرفع

٣٤٦

قراءة الحسن إياك تعبد [الفاتحة : ٥] ببناء الفعل للمفعول ، ولكنه لا يتأتّى فيما أجازوه من قولك : «فإذا زيد القائم» بالنصب ، فينبغي أن يوجّه هذا على أنه نعت مقطوع ، أو حال على زيادة «أل» ، وليس ذلك مما ينقاس. ومن جوّز تعريف الحال أو زعم أن «إذا» تعمل عمل «وجدت» ، وأنها رفعت «عبد الله» بناء على أن الظرف يعمل وإن لم يعتمد ، فقد أخطأ ، لأن «وجد» ينصب الاسمين ، ولأن مجيء الحال بلفظ المعرفة قليل ، وهو قابل للتأويل.

والثالث : أنّه مفعول به ، والأصل : فإذا هو يساويها ، أو فإذا هو يشابهها ، ثم حذف الفعل فانفصل الضمير ، وهذا الوجه لابن مالك أيضا ، ونظيره قراءة عليّ رضي‌الله‌عنه : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [يوسف : ١٤] بالنصب ـ أي نوجد عصبة أو نرى عصبة.

______________________________________________________

(قراءة الحسن إياك يعبد ببناء الفعل للمفعول) ولكني لا أتحرر الآن هل قرأ تعبد بالتاء الفوقية ، وهذا ظاهر إذ المعنى أنت تعبد أو قرأه بالياء التحتانية ، وهذا يحتاج إلى حذف أي : أنت إله يعبد والظاهر الأول (ولكنه) أي : ولكن هذا التوجيه (لا يتأتى فيما أجازوه من قولك : فإذا زيد القائم بالنصب) ضرورة أنه لا ضمير هنا حتى يقال : استعير ضمير مكان ضمير (فينبغي أن يوجه هذا على أنه نعت مقطوع) أي اذكر القائم (أو حال على زيادة أل وليس ذلك) أي : القول بزيادة أل في الحال (مما ينقاس) حتى يجوز في أي مثال كان من غير سماع (ومن جوز تعريف الحال ، أو زعم أن إذا تعمل عمل وجدت وأنها رفعت عبد الله) في قولهم خرجت فإذا عبد الله القائم ، وهو المثال الذي أورده الكسائي في مجلس مناظرته لسيبويه كما أسلفه المصنف هناك ، (بناء على أن الظرف يعمل وإن لم يعتمد) على نفي أو استفهام أو غير ذلك (فقد أخطأ لأن وجد تنصب الاسمين) وهذا تعليل لخطأ صاحب الرأي الثاني (ولأن مجيء الحال بلفظ المعرفة قليل ، وهو قابل للتأويل) وهذا تعليل لخطأ الرأي الأول فأتى بالعلتين على غير الترتيب السابق ، فجعل الأول هنا للثاني هناك وجعل الثاني هناك للأول هنا.

(والثالث أنه مفعول به والأصل فإذا هو يساويها أو فإذا هو يشبهها ثم حذف الفعل فانفصل الضمير) ولا استعارة هنا لضمير في مكان ضمير فإنه منصوب في حالتي ذكر الفعل وحذفه ، إنما التفاوت بالاتصال والانفصال فقط (وهذا الوجه لابن مالك أيضا) ولكنه لا يتأتى في مثل قولهم : فإذا زيد القائم بالنصب فيوجه بأنه نعت مقطوع كما مر (ونظيره) في حذف الخبر الفعلي (قراءة علي رضي الله تعالى عنه : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [يوسف : ١٤] بالنصب أي : نوجد عصبة ،

٣٤٧

وأما قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ) [الزمر : ٣] إذ قيل : إنّ التقدير : يقولون ما نعبدهم ، فإنّما حسّنه أن إضمار القول مستسهل عندهم.

والرابع : أنه مفعول مطلق ، والأصل : فإذا هو يلسع لسعتها ، ثم حذف الفعل كما تقول «ما زيد إلا شرب الإبل» ثم حذف المضاف ، نقله الشلوبين في حواشي المفصّل عن الأعلم ، وقال : هو أشبه ما وجّه به النصب.

الخامس : أنه منصوب على الحال من الضمير في الخبر المحذوف ، والأصل : فإذا هو ثابت مثلها ، ثم حذف المضاف فانفصل الضمير ، وانتصب في اللفظ على الحال على سبيل النيابة ، كما قالوا : «قضيّة ولا أبا حسن لها» على إضمار «مثل» ، قاله ابن الحاجب في أماليه ، وهو وجه غريب ، أعني انتصاب

______________________________________________________

وأما قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر : ٣] (إذا قيل إن التقدير يقولون : ما نعبدهم) أي : فيكون من قبيل حذف الخبر الفعلي (فإنما حسنه أن إضمار القول مستسهل عندهم) أي : عند العرب أو عند النحاة ، وهو كثير جدا حتى قال أبو علي : حذف القول من حديث البحر قل : ولا حرج ، وقوله : فإنما حسنه جواب أما والشرطية المصدرة بإذا معترضة كما مر ، وإنما قيد هنا بذلك لتكون الآية على وفق المسألة المتكلم فيها ، وهو حذف خبر المبتدأ إذا كان فعليا وإلا فإذا قلنا بأن الذين اتخذوا مبتدأ ، أو يقولون المقدر حال من فاعل اتخذوا ، والخبر إن الله يحكم بينهم خرجت الآية من قبيل ما يتكلم فيه البتة.

(الرابع أنه مفعول مطلق والأصل فإذا هو يلسع لسعتها ، ثم حذف الفعل كما تقول ما زيد إلا شرب الإبل) أي : إلا يشرب شرب الإبل ثم حذف يشرب وهو الخبر ، وكذا حذف الخبر في ذلك المثال وهو يلسع (ثم حذف المضاف) من لسعتها ، وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب لنيابته عن المنصوب ، وانفصل لفقد ما يتصل به (نقله الشلوبين في حواشي «المفصل») عن الأعلم قال : وهو أشبه ما وجه به النصب.

(الخامس أنه منصوب على الحال من الضمير في الخبر المحذوف ، والأصل فإذا هو ثابت مثلها ثم حذف المضاف ، فانفصل الضمير) لتعذر اتصاله بسبب عدم ما يتصل به كما سبق ، (وانتصب في اللفظ) لا في المعنى إذ هو في التقدير مضاف إليه ، ولكن عند حذف المضاف إليه قام هو مقامه فانتصب (على الحال على سبيل النيابة ، كما قالوا قضية ولا أبا حسن لها على إضمار مثل) أي : ولا مثل أبي حسن لها ، فحذف مثل وأقيم المضاف إليه وهو أبا حسن مقامه ، فساغ دخول لا التبرئة عليه (قاله ابن الحاجب في «أماليه» وهو وجه غريب أعني : انتصاب

٣٤٨

الضمير على الحال ، وهو مبنيّ على إجازة الخليل : «له صوت صوت الحمار» بالرفع صفة لـ «صوت» ، بتقدير «مثل» ، وأما سيبويه فقال : هذا قبيح ضعيف ، وممن قال بالجواز ابن مالك ، قال : إذا كان المضاف إلى معرفة كلمة «مثل» جاز أن تخلفها المعرفة في التنكير ، فتقول : «مررت برجل زهير» بالخفض صفة للنكرة ، و «هذا زيد زهيرا» بالنصب على الحال ، ومنه قولهم : «تفرّقوا أيادي سبا» ، و «أيدي سبا» وإنما سكّنت الياء مع أنهما منصوبان لثقلهما بالتركيب والإعلال كما في «معد يكرب» و «قالي قلا».

______________________________________________________

الضمير على الحال ، وهو مبني على إجازة الخليل : له صوت صوت الحمار ، بالرفع) لصوت المعرف بإضافته إلى الحمار (صفة لصوت) الأول الذي هو نكرة (بتقدير : مثل) أي صوت مثل صوت الحمار ، وإنما وصفت النكرة بنكرة إذ مثل لا يزول تنكيره بإضافته إلى المعرفة لتوغله في الإبهام ، غير أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فلم يستنكر وصف النكرة به مع كونه معرفة ؛ لأن الوصف به بطريق النيابة لا بطريق الأصالة ، فهذا مثل ما أجازه ابن الحاجب من وقوع الضمير حالا على سبيل النيابة.

(وأما سيبويه فقال : هذا) أي : له صوت صوت الحمار بالرفع (قبيح ضعيف) وقال : لو جاز هذا لجاز هذا قصير الطويل ، أي : مثل الطويل (وممن قال بالجواز ابن مالك قال : إذا كان المضاف إلى معرفة كلمة مثل جاز أن تخلفها المعرفة في التنكير ، فتقول : مررت برجل زهير بالخفض صفة للنكرة ، وهذا زيد زهيرا بالنصب على الحال) والأصل مررت برجل مثل زهير ، وهذا زيد مثل زهير (ومنه) أي : من باب هذا زيد زهيرا في انتصاب المعرفة على الحال على تقدير مثل (قولهم : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ) أي : مثل أولاد سبأ بن يشجب حين أرسل عليهم سيل العرم ، والأيدي كناية عن الأبناء لأنهم في التقوي بهم والبطش بمنزلة الأيدي ، ولا يتعين هذا للنصب على الحالية ، بل يجوز ذلك كما قال المصنف ويجوز أن يكون على المصدر ، والمعنى : مثل تفرق أيادي سبأ وأيدي سبأ (وإنما سكنت الياء مع أنهما منصوبان) على الحالية كما قال (لثقلهما) بكسر الثاء المثلثة وفتح القاف ، أي : لثقل الكلمتين وهما أيادي وأيدي (بالتركيب) مع سبأ (والإعلال) من حيث إنّ آخر كل منهما حرف علة وهو الياء (كما في معد يكرب) وهو اسم رجل (وقالي قلا) وهو اسم بلد فإنهما لا يتأثران لفظا بالعوامل مع جعل الأول مضافا إلى الثاني فتقول : رأيت معد يكرب وقالي قلا بإسكان الياء في حالة النصب وظاهر كلام صاحب «التسهيل» أن ذلك متعين وفي «البسيط» وشرح سيبويه للصفار أنه يجوز في حالة النصب فتح الياء وإسكانها ، فإن قلت : إذا كان أيادي سبأ وأيدي سبأ مركبين فهما مبنيان ، فليست الياء منهما محلا للنصب بل المجموع هو في محل نصب ، قلت : نقل المصنف في حواشيه على

٣٤٩

والثاني من وجهي «إذا» أن تكون لغير مفاجأة ، فالغالب أن تكون ظرفا للمستقبل مضمنة معنى الشرط ، وتختصّ بالدخول على الجملة الفعليّة ، عكس الفجائيّة. وقد اجتمعا في قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥] ، وقوله تعالى : (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الروم : ٤٨].

______________________________________________________

«التسهيل» أنه يقال أيادي سبأ وأيدي سبأ بالتنوين فهو مضاف ، ويقال : بغير تنوين ، قال : ولك فيه حينئذ وجهان :

البناء على أنه مركب تركيب خمسة عشر.

والإعراب بناء على أنه مضاف ومضاف إليه ، وترك تنوين سبأ ؛ لأنه غير منصرف ولم تظهر الفتحة على الياء استصحابا للتركيب الأصلي ، وعليه يتمشى ما قاله هنا ويكون مراده بالتركيب التركيب الإضافي ، وفي شرح «الحاجبية» للرضى أن سبأ من قولهم أيدي سبأ لا ينون ؛ لأنه اسم رجل إذ معنى أيدي سبأ أولاد سبأ بن يشجب ، وليس اسم قبيلة كما أوّل في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) [سبأ : ٣٤](وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) [سبأ : ٣٤] قال : وأما قالي قلا فعده سيبويه من أخوات أيدي سبأ ، وجار الله من أخوات معد يكرب ، ولا دليل فيهما على مذهب سيبويه لأنه مجموع الكلمتين علم بلدة ، فيجوز أن لا ينصرف للتركيب والعلمية ولا يكون مبنيا هذا كلامه ، وهنا تنبيه : وهو أنه وقع في النسخ كتابة معدي كرب وقالي قلا مفصولين هكذا ، وهو مبني على أن تركيبهما إضافي وإلا فالمنقول في علم الخط أن الكلمتين متى تنزلتا منزلة شيء واحد كبعلبك ومعد يكرب عند كونهما مركبين تركيبا مزجيا فإنهما يكتبان متصلتين ، تنبيها على الامتزاج وشدة الاتصال ، فإن جعلت تركيبهما إضافيا فالغالب الاتصال استصحابا لما ثبت لهما في حالة المزج ، ويجوز مع ذلك أن يكتبا منفصلتين لأن الإعراب الإضافي فصلهما.

(والثاني من وجهي إذا أن تكون لغير مفاجأة ، والغالب أن تكون ظرفا للمستقبل) لا يقال : قد عاب المصنف في الباب السابع الذي عقده للتحذير من أمور اشتهرت بين المعربين ، والصواب خلافها قولهم : إن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان بأنه يوهم أن إذا ظرف مظروفه الزمان ، وقد وقع هنا في عين ما عابه هناك ، إذ معنى كلامه أنها ظرف للزمان المستقبل ؛ لأنا نقول : ليس المستقبل صفة للزمان كما توهم ، بل هو صفة للحدث (وتختص بالدخول على الجملة الفعلية عكس الفجائية ، وقد اجتمعتا) أي : الشرطية والفجائية (في قوله) تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥] وقوله تعالى : (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الروم : ٤٨] فإذا الثانية في الآيتين للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب

٣٥٠

ويكون الفعل بعدها ماضيا كثيرا ، ومضارعا دون ذلك ، وقد اجتمعا في قول أبي ذؤيب [من الكامل] :

١٣٠ ـ والنّفس راغبة إذا رغّبتها

وإذا تردّ إلى قليل تقنع

______________________________________________________

الشرط (ويكون الفعل بعدها) أي : بعد إذا الشرطية (ماضيا كثيرا ومضارعا دون ذلك) أي قليلا ويحتمل أن يكون مراده أن الأول كثير جدا وأن الثاني كثيرا أيضا ، لكن دون تلك الكثرة ولذا لم يقل قليلا (وقد اجتمعا في قول أبي ذؤيب) الهذلي.

(والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع) (١)

وجاء بالمسند من قوله والنفس راغبة اسما لإفادة أن رغبتها في الكثير من الدنيا أمر ثابت لها دائم ، وأتى بالماضوية في إذ رغبتها لإبراز غير الحاصل في معرض الحاصل ؛ لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله ، أو أتى بها لإظهار الرغبة في حصول الشرط ، ولما كانت قناعتها بالقليل وردها إليه ليسا بهذه المثابة أتى فيها بالمضارع ، وهذا البيت من جملة قصيدة لأبي ذؤيب المذكور يرثي بنين خمسة ماتوا في عام واحد بالطاعون ، ومات هو في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقبل هذا البيت :

أمن المنون وريبه تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

أودى بني وأعقبوني حسرة

تنفي الرقاد وعبرة ما تقلع

فالعين بعدهم كأن حداقها

سملت بشوك فهي عور تدمع

سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم

فتخرموا ولكل جنب مصرع

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم

وإذا المنية أقبلت لا تدفع

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

وتجلدي للشامتين أريهم

أني لريب الدهر لا أتضعضع

حتى كأني للحوادث مروة

لصفا المشرق كل يوم تقرع

والنفس راغبة البيت ، وليس بمعتب أي : مرض يقال : أعتبه إذا أرضاه ، وأودى هلك ، والحداق جمع حدقة وهي سواد العين ، وسملت بسين مهملة فقئت ، وهوى أي هواي فقلب الألف ياء وأدغم على لغة هذيل ، وأعنقوا أسرعوا فتخرموا بالبناء للمفعول ، أي : أخدوا يقال تخرمته

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لأبي ذؤيب في الدرر ٣ / ١٠٢ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ٢٠٦.

٣٥١

وإنّما دخلت الشرطيّة على الاسم في نحو : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) [الانشقاق : ١] لأنه فاعل بفعل محذوف على شريطة التفسير ، لا مبتدأ خلافا للأخفش ، وأما قوله [من الطويل] :

١٣١ ـ إذا باهليّ تحته حنظليّة

له ولد منها فذاك المدرّع

فالتقدير : إذا كان باهليّ ، وقيل : حنظليّة فاعل لـ «استقرّ» محذوفا ، و «باهليّ» :فاعل بمحذوف يفسّره العامل في حنظليّة ، ويردّه أن فيه حذف المفسّر ومفسّره جميعا ، ويسهّله أن الظرف يدل على المفسر ، فكأنه لم يحذف.

ولا تعمل «إذا» الجزم

______________________________________________________

المنية أي : أخذته والتميمة خرزة رقطاء تنظم في السير ، ثم يعقد في العنق ، وريب الدهر صرفه وحوادثه وأتضعضع أي : أخضع وأذل والمروة جبل بمكة والصفا من مشاعرها يلحق بأبي قبس.

(وإنما دخلت الشرطية على الاسم في نحو (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) [الإنشقاق : ١] لأنه فاعل بفعل محذوف على شريطة التفسير) والأصل إذا انشقت السماء ثم حذف الفعل الرافع للفاعل مدلولا عليه بالمفسر الواقع بعده ، (لا مبتدأ خلافا للأخفش) فإنه جوز كونه مبتدأ ، ولم يمنع الأول فالأمران عنده سائغان لا كما يعطيه ظاهر عبارة المصنف ، وجواب إذا محذوف إما للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن ، أو محذوف لدلالة فملاقيه عليه أي : إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه أي : جزاء جهد النفس في العمل ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وقيل : الكدح كتاب سطرت فيه الأعمال.

(وأما قوله :

إذا باهلي تحته حنظلية

له ولد منها فذاك المدرع)

الباهلي منسوب إلى باهلة قبيلة من قيس عيلان بالعين المهملة والحنظلية منسوبة إلى حنظلة ، وهي أكرم قبيلة في تميم ، والمدرع الذي يكسي الدرع بالدال المهملة ، وهذا قد يشكل على بعض من حيث أنه ليس بعد الاسم المذكور بعد إذا فعل يجعل مفسرا لفعل محذوف يرفع ذلك الاسم كما في الآية ، وليس بمشكل إذا تؤمل (فالتقدير : إذا كان باهلي وقيل حنظلية فاعل باستقر محذوفا) والأصل إذا باهلي استقر تحته حنظلية (وباهلي فاعل بمحذوف يفسره العامل في حنظلية) أي : إذا استقر باهلي استقر تحته حنظلية (ويرده أن فيه حذف المفسر ومفسره جميعا) وهو محذور (ويسهله أن الظرف يدل على المفسر) بكسر السين والظرف مذكور (فكأنه) أي : فكأن المفسر (لم يحذف) تنزيلا لذكر الدال عليه منزلة ذكره نفسه ، قلت : وقد يشكل بأن عامل الظرف فعل وقع في جملة هي صفة ، فكيف يفسر عامل الموصوف؟! (ولا تعمل إذا الجزم) وإن

٣٥٢

إلا في ضرورة كقوله [من الكامل] :

١٣٢ ـ استغن ما أغناك ربّك بالغنى

وإذا تصبك خصاصة فتجمّل

قيل : وقد تخرج عن كلّ من الظرفية ، والاستقبال ، ومعنى الشرط ، وفي كل من هذه فصل.

الفصل الأول

في خروجها عن الظّرفية

زعم أبو الحسن في (حَتَّى إِذا جاؤُها) [الزمر : ٧١] أن «إذا» جرّ بـ «حتى» ،

______________________________________________________

كان فيها معنى الشرط لما تقرر من أن الحدث الواقع فيها مقطوع به في أصل الوضع ، فلم يرسخ فيه معنى أن الدالة على الغرض ، والتقدير بل صار عارضا على شرف الزوال فلهذا لم تجزم (إلا في الضرورة كقوله :

استغن ما أغناك ربك بالغنى

وإذا تصبك خصاصة فتجمل) (١)

ما مصدرية ظرفية أي : استغن مدة إغناء ربك إياك ، وبالغنى يحتمل أن يتنازعه الفعلان ويحتمل تعليقه بالأول فقط ، والخصاصة الفقر والحاجة ، وتجمل إما بالجيم أي : أظهر الجمال وعدم الحاجة ، أو كل الجميل وهو الشحم المذاب تعففا ، وإما بالحاء المهملة أي تكلف حمل هذه المشقة (قيل : وقد تخرج إذا عن كل من الظرفية والاستقبال والشرط) الثابت لها في غالب الأحوال (وفي كل من هذه فصل.

الفصل الأول في خروجها عن الظرفية.

زعم أبو الحسن) الأخفش (في) قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها) في سورة الزمر في الآية المتعلقة بالكافرين ، وهي قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١] وفي الآية المتعلقة بالمتقين وهي قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] وسيأتي الكلام على هذه الآية في حرف الواو إن شاء الله تعالى. (أن إذا جر بحتى) أي : وسيقوا إلى وقت مجيئهم إياها فجعلها اسم زمان لا ظرفية فيه ، ولا شرطية ، ولم ينقل الرضي هذا القول عن أبي الحسن على إمامته ، بل ذكره عن بعضهم ولم يسمعه ، ونصه :

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لعبد قيس بن خفاف في الدرر ٣ / ١٠٢ ، ولسان العرب ٧١٢ (كرب) ، ولحارثة ابن بدر الغداني في أمالي المرتضى ١ / ٣٨٣ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٥ وهمع الهوامع ١ / ٢٠٦.

٣٥٣

وزعم أبو الفتح في (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١) الآية [الواقعة : ١] ، فيمن نصب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٣) [الواقعة : ٣] أن «إذا» الأولى مبتدأ ، والثّانية خبر ، والمنصوبين حالان ، وكذا جملة (لَيْسَ) [الواقعة : ٢] ومعموليها. والمعنى وقت وقوع الواقعة خافضة لقوم رافعة لآخرين هو وقت رجّ الأرض.

______________________________________________________

قال : بعضهم يجوز أن يتجرد معنى إذا بعد حتى عن الشرطية وتنجر بحتى ، ولعله حمله عليه قوله :

حتى إذا سلكوهم في قتائده

نشلا كما تطرد الجمالة الشردا (١)

وهذا البيت آخر القصيدة ويجوز أن يقال : إن جوابه مقدر محافظة على أغلب أحوالها ، وقال الميداني إذا فيه زائدة ، ولنا عن ارتكاب زيادته مندوحة ، إذ أحرف الجزاء لتفخيم الأمر غير عزيز ، وهذا كلامه ، والقتائدة بقاف مضمومة ومثناة فوقية بعدها ألف فمثناة تحتية فدال مهملة فهاء تأنيث تثنية أو عقبة ، ونشلا بالشين المعجمة من قولك : نشل الشيء أسرع نزعه ، والجمالة بالجيم أصحاب الجمال ، والشرد جمع شريد وهو الطريد.

(وزعم أبو الفتح) ابن جني (في) قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١) اذكر (الآية) وهي (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ١ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ٢ خافِضَةٌ رافِعَةٌ ٣ إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) (٤) [الواقعة : ١ ـ ٤] (فيمن نصب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أن إذا الأولى مبتدأ والثانية خبر والمنصوبين حالان وكذا جملة ليس ومعمولها) وهي ليس لوقعتها كاذبة (والمعنى : وقت وقوع الواقعة) متحققة بلا ريب (خافضة لقوم رافعة لآخرين هو وقت رج الأرض) وهذا نظير ما حكاه شارح «اللب» عن سيبويه في قولك : إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو أي : وقت قيام زيد هو وقت قيام عمرو ، وفي ثبوته عن سيبويه نظر فابن جني إمام حافظ بصري وإنما حكاه عن المبرد ، قال في شرح «الحماسة» : وقد أجاز أبو العباس المبرد أن تقول : إذا يقوم زيد إذا يقعد جعفر على أن تكون الأولى مرفوعة بالابتداء ، والثانية مرفوعة لكونها خبرا عن الأولى ، حتى كأنه قال : وقت يقوم زيد وقت يقعد جعفر ، وقال الرضي : وعن بعضهم أن إذا الزمانية تقع اسما صريحا نحو إذا يقوم زيد إذا يقعد عمرو أي : وقت قيام زيد وقت قيام عمرو ، وإن لم أعثر على شاهد من كلام العرب. إلى هنا كلامه ، وإنما قيد تخريج أبي الفتح بقوله : فيمن نصب خافضة رافعة ؛ لأن مع رفعهما كما في القراءة المشهورة لا يحتاج إلى ذلك التخريج ، بل تبقى إذا على ظرفيتها وتنتصب إما بليس

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو لعبد مناف بن ربع الهذلي في الأزهية ص ٢٠٣ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٩ ، ولابن أحمر في ملحق ديوانه ص ١٧٩.

٣٥٤

وقال قوم في «أخطب ما يكون الأمير» : إن الأصل أخطب أوقات أكوان الأمير إذا كان قائما ، أي : وقت قيامه ، ثم حذفت الأوقات ونابت «ما» المصدريّة عنها ، ثم حذف الخبر المرفوع ، وهو إذا ، وتبعها «كان» التامّة وفاعلها في الحذف ، ثم نابت الحال عن الخبر ، ولو كانت «إذا» على هذا التقدير في موضع نصب لاستحال المعنى كما يستحيل إذا قلت : «أخطب أوقات أكوان الأمير يوم الجمعة» إذا نصبت «اليوم» ، لأنّ الزمان لا يكون محلّا للزّمان.

وقالوا في قول الحماسيّ [من الطويل] :

١٣٣ ـ وبعد غد ، يا لهف قلبي من غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

إن «إذا» في موضع جرّ بدلا من «غد».

______________________________________________________

كقولك : يوم الجمعة ليس لي شغل أو بمحذوف أي : إذا وقعت كان كيت وكيت.

(وقال قوم في أخطب ما يكون الأمير قائما : إن الأصل أخطب أوقات أكوان الأمير إذا كان قائما أي : وقت قيامه ، ثم حذف الأوقات ونابت ما المصدرية عنها) كما نابت عنه في نحو : أكرمك ما دمت متقيا لله ، (ثم حذف الخبر المرفوع وهو إذا وتبعتها كان التامة ، وفاعلها في الحذف ثم نابت الحال) وهي قولك قائما (عن الخبر وهو إذا) المضافة إلى كان (ولو كانت إذا على هذا التقدير) وهو أن الأصل أخطب أوقات أكوان الأمير إذا كان قائما (في موضع نصب لاستحالة المعنى) ؛ إذ المعنى حينئذ الوقت الذي هو أخطب أوقات أكوان الأمير كائن في وقت وجوده قائما (كما يستحيل) المعنى (إذا قلت : أخطب أوقات أكوان الأمير يوم الجمعة إذا نصبت اليوم) ؛ لأن أفعل التفضيل هو بحسب ما يضاف إليه ، وقد أضيف إلى الأوقات فيكون وقتا وقد جعلت هذا الوقت واقعا في يوم الجمعة فيستحيل ، (لأن الزمان لا يكون محلا للزمان وقالوا في قول الحماسي :

وبعد غد يا لهف نفسي من غد

إذا راح أصحابي ولست برائح (١)

إن إذا في موضع جر بدلا من غد) وقال ابن جني : حديث إذا في هذا البيت ظريف ، وذلك أن هنا وقعت موقعا غريبا لأنها عندنا بدل من غد ، وفي موضع جر فكأنه قال : يا لهف نفسي من إذا راح أصحابي ، إلا أن هذا بغير توسط البدل منه يقبح ؛ لأن إذا قلما تباشر الجار ،

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لأبي الطمحان القيني في الأغاني ١٣ / ١١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٢٦.

٣٥٥

وزعم ابن مالك أنّها وقعت مفعولا في قوله عليه الصّلاة والسّلام لعائشة رضي‌الله‌عنها : «إنّي لأعلم إذا كنت عنّي راضية وإذا كنت عليّ غضبى».

والجمهور على أن «إذا» لا تخرج عن الظرفيّة ، وأنّ «حتى» في نحو : (حَتَّى إِذا جاؤُها) [الزمر : ٧١] حرف ابتداء دخل على الجملة بأسرها ، ولا عمل له. وأما (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١) [الواقعة : ١] فـ «إذا» الثانية بدل من الأولى ، والأولى ظرف ، وجوابها محذوف لفهم المعنى ، وحسّنه طول الكلام ، وتقديره بعد «إذا» الثانية ،

______________________________________________________

على أن أبا الحسن قد ذهب في نحو قولنا : حتى إذا كان كذا جرى كذا أن إذا مجرورة الموضع بحتى ، وهذا البيت يؤكد الاعتداد بالمبدل منه ، وأنه ليس في حكم الساقط اه ، وبعد غد ظرف لمحذوف أي : تروحون أو تلهف ، والأصحاب جمع صاحب كناصر وأنصار ، وشاهد وأشهاد كذا قيل ، والحق أن جمع فاعل على أفعال لم يثبت حتى قيل : بأن أصحاب جمع صحب بالكسر مخفف صاحب كنمر وأنمار ، أو صحب بالسكون اسم لجمع كنهر وأنهار.

(وزعم ابن مالك أنها وقعت مفعولا في قوله عليه الصلاة والسّلام لعائشة رضي الله تعالى عنها إني لأعلم إذا كنت عني راضية ، وإذا كنت عليّ غضبى) (١) أي : لأعلم وقت رضاك ووقت غضبك ، وفي «المدارك» لمولانا حافظ الدين النسفي : إذا وقعت الواقعة أن انتصاب إذا باذكر وهو كقول ابن مالك في الحديث (والجمهور) من النحاة (على أن إذا لا تخرج عن الظرفية وأن حتى) وفي بعض النسخ وأنها والضمير يرجع إلى حتى (في (حَتَّى إِذا جاؤُها) [الزمر : ٧١] حرف ابتداء دخل على الجملة بأسرها ولا عمل لها) فتكون الجملة بعدها مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، قال الشيخ أبو حيان : وكان بعض الأذكياء يستشكل مجيء هذه الجملة الشرطية من إذا وجوابها بعد حتى ، ويقول كيف تكون حتى غاية وبعدها جملة الشرط؟ فقلت الغاية في الحقيقة هو ما ينسبك من الجواب مرتبا على فعل الشرط ، فالتقدير المعنوي الإعرابي في آية الزمر مثلا (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) إلى أن تفتح أبوابها وقت مجيئهم فينقطع السوق ، وعلى ذلك فقس.

(وأما إذا وقعت) الواقعة الآية (فإذا الثانية بدل من الأولى ، والأولى ظرف) إما لفعل الشرط أو الجواب على الخلاف الذي يجيء قريبا (وجوابها محذوف لفهم المعنى ، وحسنه) أي : حسن حذف الجواب (طول الكلام وتقديره بعد إذا الثانية) لئلا يفصل بين البدل والمبدل منه

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب النكاح ، باب غيرة النساء ووجدهن (٥٢٢٨) ، ومسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل عائشة (٢٤٣٩) ، وأحمد (٣٧٩٧).

٣٥٦

أي : انقسمتم أقساما ، وكنتم أزواجا ثلاثة. وأما «إذا» في البيت فظرف لـ «لهف» ، وأما التي في المثال ففي موضع نصب ، لأنا لا نقدّر زمانا مضافا إلى ما يكون ، إذ لا موجب لهذا التقدير. وأما الحديث فـ «إذا» ظرف لمحذوف ، وهو معمول «أعلم» ، وتقديره : شأنك ونحوه ، كما تعلق «إذ» بالحديث في (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ٢٤ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) [الذاريات : ٢٤ ـ ٢٥].

الفصل الثاني

في خروجها عن الاستقبال

وذلك على وجهين :

أحدهما : أن تجيء للماضي كما تجيء «إذا» للمستقبل في قول بعضهم ، وذلك كقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) [التوبة : ٩٢] ،

______________________________________________________

(أي : انقسمتم أقساما (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (٧) [الواقعة : ٧] وأما إذا في البيت فظرف للهف) من قوله يا لهف نفسي ، لا بدل من غد المجرور بمن (وأما) إذا (التي في المثال) وهو قولهم : أخطب ما يكون الأمير قائما ، حيث يكون الأصل أخطب أكوان الأمير إذا كان قائما (فهي في موضع نصب) بالخبر المحذوف أي : أخطب أكوان الأمير حاصل في زمن وجوده قائما (لأنا لا نقدر زمانا مضافا إلى ما يكون) كما فعله أولئك القوم (إذ لا موجب لهذا التقدير) ، ولا داعي إليه (وأما الحديث) وهو «إني لأعلم إذا كنت عني راضية ، وإذا كنت علي غضبى» (فإذا) فيه (ظرف لمحذوف ، وهو مفعول أعلم وتقديره : شأنك) بالنصب على الحكاية (ونحوه) بالرفع عطفا على شأنك المحكي باعتبار الإعراب المقدر فيه (كما تعلقت إذ بالحديث في (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ٢٤ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) [الذاريات : ٢٤ ـ ٢٥]) ويجوز أن يتعلق بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم ، وإلا فبإضمار اذكر أي : اذكر وقت دخولهم عليه ؛ لأن إكرام الله لهم وكونهم مكرمين في أنفسهم ليس بمقيد بوقت دخولهم كما تقيد إكرام إبراهيم به.

(الفصل الثاني : في خروجها عن الاستقبال وذلك على وجهين :

أحدهما أن تجيء للماضي كما جاءت إذ للمستقبل في قول بعضهم) فتتقارض الكلمتان حيث استعملت كل واحدة منهما في معنى الأخرى (وذلك) الذي ذكرناه من مجيء إذا للماضي (كقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) [التوبة : ٩٢]) وهذا إخبار بقضية وقعت في

٣٥٧

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] ، وقوله [من الوافر] :

١٣٤ ـ وندمان يزيد الكأس طيبا

سقيت إذا تغوّرت النّجوم

______________________________________________________

الزمان الماضي فتكون إذا له وتولوا جوابها ، وقلت إما حال من كاف أتوك أو استئناف ، كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا فقيل : ما لهم تولوا باكين فقيل قلت : لا أجد ما أحملكم عليه إلا أنه توسط معترضا بين الشرط والجزاء ، قال شارح «التسهيل» القاضي محب الدين ناظر الجيش : ويمكن أن يقال في هذه الآية المراد حكاية حالهم حين ابتدؤا في الفعل ، وإذا كان كذلك كان المحل حينئذ موقع إذا ، دون إذ ، قلت : إنما يكون المحل ؛ لإذا حيث يكون المراد الاستقبال ، والمعنى على ما أول به على الحال فالموقع ليس لإذا في هذا المحل ؛ لأنها للاستقبال لا للحال (وذلك كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) [الجمعة : ١١]) وهذا إخبار بقضية العير التي قدمت المدينة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة فتفرقوا عنه حتى لم يبق معه منهم إلا اثني عشر رجلا (١) ، وقد مضت هذه الواقعة قبل نزول الآية ، فتكون إذا فيها للماضي ، وحاول ناظر الجيش أيضا الجواب عن الاستدلال بهذه الآية على ذلك ، فقال : المراد منها حكاية ما كانوا عليه وما هو شأنهم وديدنهم ، فالمعنى حال هؤلاء أنهم إذا رأوا تجارة أو لهوا كان منهم ما ذكر ، ولو أتى بإذ في هذا المحل لصار المعنى الإخبار عن واقعة وقعت منهم ، ولا يلزم من الإخبار بذلك أن يكون ذلك من شأنهم ، قلت لا نسلم أن المراد الإخبار بأن ذلك شأنهم وديدنهم فإن هذا ذم بليغ ، وكيف وهم الصحابة الذين هم خير القرون بشهادة الصادق المصدوق ، ولا يليق بهم اعتياد مثل هذا الفعل الذي اتخذوه عادة وديدنا من الخصال الذميمة القبيحة ، وإنما المراد الإخبار عن أمر وقع منهم على سبيل الندرة ، لا أنه عادتهم المستمرة فالمحل إذا محل الماضي لا محل الزمن المستمر ، التي تستعمل إذا فيه في بعض الأحيان كما في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (١١) [البقرة : ١١] وقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ٧٦] أي : هذه عادتهم المستمرة ، وهذا شأنهم الذي لا ينفكون عنه (وقوله :

وندمان يزيد الكاس طيبا

سقيت إذا تغورت النجوم) (٢)

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري ، كتاب الجمعة ، باب إذا نفر الناس عن الإمام ... (٩٣٦) ، ومسلم ، كتاب الجمعة ، باب في (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) (٨٦٣) ، والترمذي ، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب ومن الجمعة (٣٣١١).

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو للبرج بن سهر (أو الحلاس) في الأغاني ١٤ / ١٢ ، ولسان العرب ١٠ / ٢٤٣.

٣٥٨

والثاني : أن تجيء للحال ، وذلك بعد القسم ، نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) [الليل : ١] ، (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) [النجم : ١] ، قيل : لأنها لو كانت للاستقبال لم تكن ظرفا لفعل القسم ، لأنه إنشاء لا إخبار عن قسم يأتي ، لأن قسم الله سبحانه قديم ، ولا لكون محذوف هو حال من والليل والنجم ، لأن الحال والاستقبال متنافيان. وإذا بطل هذان الوجهان تعيّن أنه ظرف لأحدهما على أن المراد به الحال. اه.

والصّحيح أنه لا يصحّ التعليق بـ «أقسم» الإنشائيّ ، لأن التقديم لا زمان له ، لا حال ولا غيره ، بل هو سابق على الزّمان ،

______________________________________________________

المراد بالندمان هنا النديم لا النادم ، قال الشاعر :

إذا كنت تدماني فبالأكبر اسقني

ولا تسقني بالأصغر المتثلم (١)

والكأس مؤنثة مهموزة ، الإناء يشرب فيه ، وقيل : ما دام الشراب فيه فإذا كان خاليا منه سمي قدحا ، وتغورت غربت ، والبيت ليس بقاطع على مجيء إذا للماضي لجواز إن سقيت بمعنى اسقي وهو دليل جواب إذا أي : إذا غربت النجوم اسقنيه.

(والثاني أن تجيء للحال وذلك بعد القسم نحو (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) [الليل : ١] ونحو (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) [النجم : ١] قيل) دل استعمال إذا بعد القسم في نحو هاتين الآيتين على أنها للحال ؛ (لأنها لو كانت للاستقبال لم تكن ظرفا لفعل القسم لأنه إنشاء لا إخبار عن قسم يأتي ، لأن قسم الله سبحانه وتعالى قديم ولا يكون محذوف وهو حال من الليل) في الآية الأولى (و) من (النجم) في الآية الثانية ؛ (لأن الاستقبال والحال متنافيان) فلا يجعل أحدهما ظرفا للآخر (وإذا بطل هذان الوجهان) وهما كونها ظرفا لفعل القسم وكونها ظرفا للحال مع جعل إذا للاستقبال (تعين أنه) أي : أن لفظ إذا (ظرف لأحدهما) وهو إما فعل القسم أو الكون المحذوف الذي هو حال من الليل والنجم (على أن المراد به) أي : بإذا (الحال) فلا تنافي حينئذ ولا مانع لأن الإنشاء حالي فلا ينافيه أن المراد بهما الحال ؛ ولأن الكون المحذوف حال بالفرض فلا يمتنع كونه مظروفا لإذا المراد بها الحال (اه) كلام هذا القائل وزيفه المصنف بقوله : (والصحيح أنه لا يصح التعليق بأقسم الإنشائي لأن القديم لا زمان له لا حال ولا غيره ، بل سابق على الزمان) وهذا ليس بخاص بالإنشاء بل يجري في الخبر أيضا ؛ لأن كلام الله تعالى قديم لا

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للنعمان بن نضل العدوي في الأزهية ص ٢١٨ ، ولسان العرب ١٠ / ٣٥ (حسن) ، وبلا نسبة في لسان العرب ١٠ / ١٠٧ (دهق).

٣٥٩

وأنه لا يمتنع التّعليق بـ «كائن» مع بقاء «إذا» على الاستقبال ، بدليل صحة مجيء الحال المقدرة باتّفاق ، كـ «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا» ، أي : مقدّرا الصيد به غدا ، كذا يقدّرون. وأوضح منه أن يقال : مريدا به الصّيد غدا ، كما فسّر «قمتم» في (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] بـ «أردتم».

مسألة ـ في ناصب «إذا» مذهبان ، أحدهما : أنه شرطهما ، وهو قول المحقّقين ، فتكون بمنزلة «متى» و «حيثما» و «أيّان». وقول أبي البقاء إنه مردود بأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف غير وارد ، لأن «إذا» عند هؤلاء غير مضافة ، كما يقوله الجميع إذا جزمت كقوله [من الكامل] :

______________________________________________________

يوصف بزمان من الأزمنة ، وإخباره لا يتعلق بزمان والمتعلق بالزمان هو المخبر عنه ، فيلزم أن لا تقع إذا ظرفا لفعل خبري وقع في كلام الله تعالى ؛ لأنه قديم والقديم لا زمان له ، فما أجاب به المصنف عن هذا فهو جواب خصمه عن ذاك (وأنه لا يمتنع التعلق بكائنا مع بقاء إذا على الاستقبال) ؛ إذ لا مانع من وقوع الحال الصناعية مرادا بها الزمن المستقبل كما تقول : سأدخل البلد راكبا فإن الحال مقيدة لعاملها والعامل هنا مستقبل وقيده مقارن له في ذلك الزمن (بدليل صحة مجيء الحال المقدرة باتفاق كمررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا الصيد به غدا) وقد يقال : هذا لا يفضي إلى مطلوبه ؛ لأن الحال على هذا التقدير في الحقيقة إنما هو قولك : مقدرا وزمنه حالي لا استقبالي وغدا ظرف للصيد لا للتقرير (وكذا يقدرون وأوضح منه أن يقال : المعنى مريدا) الآن (به الصيد غدا كما فسر قمتم في إذا قمتم إلى الصلاة بأردتم) القيام وإنما عبروا عن إرادة الفعل بلفظ الفعل ؛ لأنه يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه ، فكان منه بسبب قوي وملابسة ظاهرة.

(مسألة في ناصب إذا مذهبان :

أحدهما : أنه شرطها وهو قول المحققين فتكون بمنزلة حتى وحيثما وأيان) في أنهن منصوبات بشروطهن ، لكن يلزم على هذا أن تكون إذا ظرفا مبهما لا مختصا ، وهي من الظروف المختصة عندهم ، فإن قلت : قد قال ابن الحاجب : إن تعيين الوقت في إذا يحصل بمجرد الفعل بعده ، وإن لم يكن مضافا كما يحصل في قولنا زمانا طلعت فيه الشمس قلت : رده الرضي بأنه إنما حصل التخصيص في المثال بما ذكر بعده ، لكونه صفة له لا لمجرد ذكره بعده ، ولو كان مجرد ذكر الفعل بعد كلمة كافيا في تخصيصها لتخصصت متى في قولك : متى قام زيد وهو غير مخصص اتفاقا (وقول أبي البقاء) العكبري (إنه مردود لأن إذا عند هؤلاء) القائلين بأن ناصبها هو شرطها (غير مضافة) إلى الشرط (كما يقوله الجميع إذا جزمت كقوله) :

٣٦٠