شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

وإذا تصبك خصاصة فتجمّل

والثاني : أنه ما في جوابها من فعل أو شبهه ، وهو قول الأكثرين ، ويرد عليهم أمور :

أحدها : أن الشرط والجزاء عبارة عن جملتين تربط بينهما الأداة ، وعلى قولهم تصير الجملتان واحدة ، لأن الظرف عندهم من جملة الجواب والمعمول داخل في جملة عامله.

الثاني : أنه ممتنع في قول زهير [من الطويل] :

١٣٥ ـ بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا

لأن الجواب محذوف ، وتقديره إذا كان جائيا فلا أسبقه ، ولا يصحّ أن يقال : لا أسبق شيئا وقت مجيئه ، لأن الشيء إنما يسبق قبل مجيئه. وهذا لازم لهم أيضا

______________________________________________________

استغن ما أغناك ربك بالغنى

(وإذا تصبك خصاصة فتجمل) (١)

لأن الإضافة من خصائص الأسماء فتنافي الجزم.

(و) المذهب (الثاني أنه ما في جوابها من فعل أو شبهة وهو قول الأكثرين ، ويرد عليهم أمور :

أحدها أن الشرط والجزاء عبارة عن جملتين تربط بينهما الأداة وعلى قولهم تصير الجملتان واحدة ؛ لأن الظرف عندهم من جملة الجواب) من حيث هو معمول لما فيها من فعل أو شبهه (والمعمول داخل في جملة عامله) فكما لا يكون قولك : قمت حين قام زيد ، جملتين لا يكون إذا قام زيد قمت على ذلك التقدير.

(والثاني أنه ممتنع في قول زهير :

بدا لي أني لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (٢)

لأن الجواب محذوف وتقديره إذا كان جائيا فلا أسبقه) ولا حاجة إلى إدخال الفاء لتصير الجملة اسمية أي : فأنا لا أسبقه ولو قال : إذا كان جائيا لا أسبقه صح وكان الجواب فعلية (ولا يصح أن يقال : لا أسبق شيئا وقت مجيئه ؛ لأن الشيء إنما يسبق قبل مجيئه وهذا لازم لهم أيضا

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٨٧ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٩٢ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١٥٤.

٣٦١

إن أجابوا بأنها غير شرطيّة وأنها معمولة لما قبلها وهو سابق. وأما على القول الأول فهي شرطية محذوفة الجواب وعاملها إما خبر «كان» ، أو نفس «كان» ، إن قلنا بدلالتها على الحدث.

والثالث : أنه يلزمهم في نحو : «إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا» أن يعمل «أكرمتك» في ظرفين متضادّين ، وذلك باطل عقلا ؛ إذ الحدث الواحد المعيّن لا يقع بتمامه في زمانين ، وقصدا ؛ إذ المراد وقوع الإكرام في الغد لا في اليوم.

فإن قلت : فما ناصب «اليوم» على القول الأول؟ وكيف يعمل العامل الواحد في ظرفي زمان؟

قلنا : لم يتضادّا كما في الوجه السّابق ، وعمل العامل في ظرفي زمان يجوز إذا كان أحدهما أعمّ من الآخر نحو : «آتيك يوم الجمعة سحر» ؛ وليس بدلا ؛ لجواز «سير عليه يوم الجمعة سحر»

______________________________________________________

إن أجابوا بأنها غير شرطية ، وأنها معمولة لما قبلها وهو سابق ، وأما على القول الأول فهي شرطية محذوفة الجواب) وهو ما قدره أولا (وعاملها إما خبر كان) يعني جائيا (أو نفس كان إن قلنا بدلالتها على الحدث) وهو المختار عند ابن مالك وجماعة كما ستعرفه في الباب الثالث إن شاء الله تعالى ، وقد عرفت أنه يرد على أصحاب هذا القول أنه يلزم كون إذا ظرفا غير مختص ، ولقائل أن يقول : السابق في البيت بمعنى الفائت ، ويتجه فيه مذهب الجمهور حينئذ ، إذ المعنى : إني لا أدرك الماضي ولا أفوت المستقبل الجائي إلي بل سيدركني ، فهي شرطية ، والتقدير : إذا كان شيء جائيا إني لا أفوته وانتفاء الفوت حاصل في وقت المجيء ، فاستقام وكذا يستقيم جعلها معمولة لما قبلها على أنها غير شرطية فتأمله.

(الثالث أنه يلزمهم في نحو إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا أن يعمل أكرمتك في ظرفين متضادين) وهما غدا وزمن المجيء ، وهو اليوم (وذلك باطل عقلا ، إذ الحدث الواحد المعين لا يقع بتمامه في زمنين) نعم يقع بعضه في زمن وبعضه في زمن آخر (وقصدا إذ المراد وقوع الإكرام في الغد ، لا في اليوم) ولهم أن يقولوا : معنى التركيب إذا جئتني اليوم يكون ذلك سببا لإكرامي لك غدا ، فليس أكرمتك في الحقيقة جوابا فطاح الإشكال.

(فإذا قلت) إذا كان الأمر كذلك (فما ناصب اليوم على القول الأول) المنقول عن المحققين (وكيف يعمل العامل الواحد) وهو الفعل من قولك جئتني (في ظرفي زمان؟) وهما إذا واليوم (قلت :) الناصب هو الفعل المذكور ، وإنما عمل في الظرفين المذكورين ؛ لأنهما (لم يتضادا كما) تضادا (في الوجه السابق) الآتي على قول الجمهور (وعمل العامل) الواحد (في ظرفي زمان يجوز إذا كان أحدهما أعم من الآخر نحو آتيك يوم الجمعة سحر) ، وأقول : ليس

٣٦٢

برفع الأول ونصب الثاني ، ونصّ عليه سيبويه ، وأنشد للفرزدق [من الطويل] :

١٣٦ ـ متى تردن يوما سفار تجد بها

أديهم يرمي المستجيز المعوّرا

فـ «يوما» يمتنع أن يكون بدلا من «متى» ، لعدم اقترانه بحرف الشّرط ، ولهذا يمتنع في «اليوم» في المثال أن يكون بدلا من «إذا» ، ويمتنع أن يكون ظرفا لـ «تجد» ،

______________________________________________________

بين السحر واليوم عموم وخصوص ، وذلك أن السحر هو الوقت الواقع قبل الفجر بقليل ، واليوم هو ما بين الشمس وغروبها ، أو ما بين الفجر والمغرب فليس شيء منهما بصادق على شيء من الآخر فهما متباينان ، اللهم إلا أن يقال : أطلق السحر على أول الفجر لقربه منه من باب إطلاق أحد المتجاورين على الآخر ، فيكون المراد جئتك في جزء من يوم الجمعة سحر ، ولا شك أن جزء يوم الجمعة أعم من سحره فتأمله ، (وليس) سحر (بدلا) من يوم الجمعة حتى يقال : إنما عمل الفعل في الثاني بطريق التبعية ، والكلام إنما هو في عمله في الظرفين بطريق الأصالة ؛ (لجواز سير عليه يوم الجمعة سحر ، برفع الأول ونصب الثاني) ولا سبيل إلى البدلية في هذا ، فيحمل التركيب الأول عليه (نص عليه سيبويه وأنشد للفرزدق :

متى تردن يوما سفار تجد بها

أديهم يرمي المستجيز المعورا) (١)

ورود الماء هو الشرب منه ، أو الوصول إليه وسفار اسم لبئر لبني مازن بن مالك ، والأديهم تصغير أدهم وهو الأسود ، والمستجيز بالجيم والزاي طالب الماء لأرض أو ماشية ، يقال : استجزت فلانا فأجازني إذا أعطاك ماء لأرضك أو ماشيتك ، وأما المعور بفتح العين المهملة والواو المشددة اسم مفعول من قولك عورته عن الأمر صرفته عنه ، قال أبو عبيدة ويقال للمستجيز الذي يطلب الماء إذا لم تسقه قد عورت شربه ، وأنشد للفرزدق :

متى تردن يوما سفار ... البيت

كذا في «الصحاح» (فيوما يمتنع أن يكون بدلا من متى ؛ لعدم اقترانه بحرف الشرط) والاقتران به شرط في البدل من اسم الشرط تقول : متى جئتني إن يوم الجمعة وإن يوم الخميس أكرمتك ، كما أن الاقتران بحرف الاستفهام شرط في المبدل من اسمه نحو من جاءك أزيد أم عمرو؟ (وبهذا) السبب (يمتنع في اليوم في المثال) المتقدم وهو إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا (أن يكون بدلا من إذا ويمتنع) أيضا (في اليوم) الواقع في بيت الفرزدق (أن يكون ظرفا لتجد) وهو

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ٢٨٨ ، ولسان العرب ٤ / ٣٧١ (سفر) ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ١٢٤.

٣٦٣

لئلا ينفصل «ترد» من معموله ـ وهو «سفار» ـ بالأجنبي ، فتعيّن أنه ظرف ثان لـ «ترد».

والرابع : أن الجواب ورد مقرونا بـ «إذا» الفجائيّة نحو : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥] ، وبالحرف الناسخ ، نحو : «إذا جئتني اليوم فإنّي أكرمك» ، وكلّ منهما لا يعمل ما بعده فيما قبله. وورد أيضا والصالح فيه للعمل صفة ، كقوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ٨ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) [المدثر : ٨ ـ ٩] ولا تعمل الصفة فيما قبل الموصوف.

______________________________________________________

جواب متى ، (لئلا يفصل ترد من معموله وهو سفار بالأجنبي) وهو يوما المعمول لتجد ، (فتعين أنه ظرف ثان لترد.

والرابع) من الأمور الواردة على الجمهور (أن الجواب ورد مقرونا بإذا الفجائية ، نحو (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥]) وما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها ، وجواب هذا وما بعده أن الجمهور إنما يقولون بأن العامل فيها جوابها إذا كان صالحا ، ولم يكن ثم مانع فإن منع من عمله فيها مانع كإذا الفجائية وإن ونحوها فالعامل فيها حينئذ مقدر ، يدل عليه الجواب (و) ورد مقرونا (بالحرف الناسخ نحو إذا جئتني اليوم فإني أكرمك ، وكل منهما) أي : من إذا الفجائية والحرف الناسخ (لا يعمل ما بعده فيما قبله) وقد عرفت جوابه ، فإن قلت : في قوله فإني أكرمك مانعان الحرف الناسخ وفاء الجواب ، فلم اقتصر على الأول وترك الثاني؟ قلت : لعله اعتمد على ما صرح به أبو البقاء في إعرابه ، من أن الفاء الداخلة في جواب إذا لا تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها ، وذكر الحوفي والزمخشري أن العامل في (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) [النصر : ١] سبح وهذا يدل على أن الفاء عندهما لا تمنع كما قال أبو البقاء ، قال ابن قاسم : وفيه نظر (وورد) الجواب (أيضا والصالح فيه للعمل صفة كقوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (٨) [المدثر : ٨]) أي نفخ في الصور وهي النفخة الأولى وقيل : الثانية (فذلك) إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ (يومئذ) مبني على الفتح لإضافته إلى إذ التي هي اسم غير متمكن ، وهو في محل رفع على البدل من ذلك (يوم عسير) وهذا خبر ذلك المبتدأ كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير (ولا تعمل الصفة فيما قبل الموصوف) فيمتنع عمل عسير في إذا ، فيرد على الجماعة وقد مر الجواب ، فإن قلت : في كلام المصنف تدافع وذلك ؛ لأنه جزم أولا بأن الصالح للعمل صفة ، وجزم ثانيا بعدم الصلاحية حيث منع عمل الصفة فيما قبل الموصوف ، قلت : يحتمل أنه أراد بالصالح ماله صلاحية في الجملة مع قطع النظر عن المانع ، وفي «الكشاف» عند الكلام على قوله تعالى : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء : ٦٣] ما نصه : فإن قلت : بم تعلق قوله في أنفسهم قلت : بقوله بليغا أي : قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم ، أو يتعلق بقوله : قل أي قل

٣٦٤

وتخريج بعضهم هذه الآية على أن «إذا» مبتدأ وما بعد الفاء خبر لا يصحّ إلا على قول أبي الحسن ومن تابعه في جواز تصرّف «إذا» وجواز زيادة الفاء في خبر المبتدأ ، لأن «عسر اليوم» ليس مسبّبا عن «النّقر» ، والجيّد أن تخرج على حذف الجواب مدلولا عليه بـ «عسير» ، أي : عسر الأمر. وأمّا قول أبي البقاء إنه يكون مدلولا عليه بذلك فإنه إشارة إلى «النقر» ، فمردود ، لأدائه إلى اتّحاد السبب والمسبّب ، وذلك ممتنع ؛ وأما نحو : «فمن كانت هجرته إلى الله

______________________________________________________

لهم في معنى أنفسهم الخبيثة قولا بليغا أو قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم ، مسارا لهم بالنصيحة ؛ لأنها في السر أنجع قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم اه قلت : وعلى الأول فمعمول الصفة قد تقدم على الموصوف وهو خلاف ما منعه المصنف فحرره.

(وتخريج بعضهم هذه الآية على أن إذا مبتدأ وما بعد الفاء خبر لا يصح إلا على قول أبي الحسن ، ومن تابعه في جواز تصرف إذا وجواز زيادة الفاء في الخبر) ولا يجوز أن تكون هذه الفاء هي الداخلة على الخبر ، حيث يتضمن المبتدأ معنى الشرط للدلالة على السببية نحو الذي يأتيني فله درهم ؛ (لأن عسر اليوم ليس سببا عن النقر) ، فيلزم كون الفاء لمحض الزيادة فإن قلت : قد يكون المراد من جواب الشرط الإعلام به فيكون هو المشروط ، كما في قولك : إن أكرمتني اليوم أكرمتك أمس ، فههنا يستحيل أن يكون مضمون الجملة وهو الإكرام الواقع في الأمس مسببا عن الإكرام الواقع بعده ، وإنما المشروط هو الإعلام بمضمون الجملة والإخبار به أي : إن إكرامك إياي في هذا اليوم سبب لأن أخبرك بإكرامي إياك أمس ، وهذا متأت هنا بأن يقال : المسبب عن النقر ليس العسر ، وإنما الإخبار به هو المسبب ، كما قال ابن الحاجب في قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] إن هذه الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم ، جهلوا معطيها وشكوا فيه فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للإخبار بأنها من الله ، قلت : الإخبار بالمسبب عن النقر وهو حصول الأهوال العظيمة لا يصلح لأن يكون معلقا بالنقر (والجيد أن تخرج على حذف الجواب مدلولا عليه بعسير أي : عسر الأمر) كذا قدره صاحب «الكشاف» وجماعة (وأما قول أبي البقاء أنه يكون مدلولا عليه بذلك ؛ لأنه إشارة إلى النقر فمردود لأدائه إلى اتحاد السبب والمسبب وذلك ممتنع) وعند التأمل لا يمتنع ؛ لأن النقر سبب لوقوع الأهوال العظيمة فإذا جعل جوابا للشرط المتحد معه لفظا جعل الجواب مسببه ، وكان من حذف المسبب وإقامة السبب مقامه ، ولا إشكال حينئذ (وأما نحو «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» (١) فمؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار المسبب أي :

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب ما جاء إن الأعمال بالنية (٥٤) ، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب قوله

٣٦٥

ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» فمؤوّل على إقامة السبب مقام المسبب ، لاشتهار المسبب ، أي : فقد استحقّ الثواب العظيم المستقرّ للمهاجرين.

قال أبو حيان : ورد مقرونا بـ «ما» النافية ، نحو : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ) الآية [الجاثية : ٢٥] ، و «ما» النافية لها الصّدر ، انتهى.

وليس هذا بجواب ، وإلا لاقترن بالفاء ، مثل : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت : ٢٤] ، وإنما الجواب محذوف ، أي : عمدوا إلى الحجج الباطلة.

______________________________________________________

فقد استحق الثواب العظيم المستقر للمهاجرين) وهذا متأت في قول أبي البقاء الذي تقدم على ما أسلفناه ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٧٦] ولا شك أن عدم تبليغ الرسالة سبب لما لا يخفى ، فحذف المسبب وأقيم السبب مقامه صونا له عليه الصلاة والسّلام عن أن يواجه بما يترتب على عدم التبليغ المفروض ، ومعاملة له بما يليق بمنصبه الشريف من الإجلال والتعظيم.

(قال أبو حيان : وورد مقرونا بما النافية نحو (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ) [الجاثية : ٢٥]) اذكر (الآية) وهي قوله تعالى : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وليس لقوله هنا الآية موقع عند المصنفين ؛ فإن العادة جارية عندهم بأنهم إنما يفعلون ذلك إذا كان في بقيته شاهد آخر لما يتلونها بسببه ، فيقتصرون على بعضها لما فيه من الشاهد ويشيرون بقولهم الآية إلى ما في بقيتها من شاهد أو أكثر لما هم بصدده ، وليس الأمر هنا بهذه المثابة (وما النافية لها الصدر) فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها (اه) كلام أبي حيان (وليس هذا الجواب وإلا لاقترن بالفاء مثل (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت : ٢٤]) ولقائل أن يقول : لا يلزم من اقتران الجواب هنا بالفاء اقترانه هناك ؛ لأن الشرط هنا بإن وهي أصلية في بابها ، بخلاف إذا ، قال الرضي : ولعدم عراقة إذا في الشرطية جاز أن يكون جوابها جملة اسمية بغير فاء ، كما في قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧] وقرن المصنف جواب إن الشرطية باللام وهو ممتنع ، وسيأتي له مثله في مواضع ويقع كذلك في كلام المصنفين كثيرا (وإنما الجواب محذوف أي : عمدوا إلى الحجج الباطلة) ويمكن أن يقال : إن المعنى على قسم مقدر مقدم قبل إذا فيكون الجواب له لفظا كما في قوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١١٢]

__________________

إنما الأعمال بالنيات ... (١٩٠٧) ، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا (١٦٤٧) ، والنسائي كتاب الطلاق ، باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمل معناه (٣٤٣٧) ، وأبو داود ، كتاب الطلاق ، باب فيما عني به الطلاق والنيات (٢٢٠١).

٣٦٦

وقول بعضهم : إنه جواب على إضمار الفاء مثل : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ١٨٠] مردود بأن الفاء لا تحذف إلا ضرورة ، كقوله [من البسيط] :

من يفعل الحسنات الله يشكرها ،

[والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان]

و «الوصيّة» في الآية نائب عن فاعل كتب ، و «للوالدين» : متعلّق بها ، لا خبر ، والجواب محذوف ، أي : فليوص.

وقول ابن الحاجب «إنّ «إذا» هذه غير شرطيّة فلا تحتاج إلى جواب ، وإن عاملها ما بعد «ما» النافية كما عمل ما بعد «لا» في «يوم» من قوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٢٢] وإن ذلك من التوسّع في الظرف» مردود بثلاثة أمور :

أحدها : أن مثل هذا التوسّع خاص بالشعر كقوله [من الرجز] :

١٣٧ ـ ونحن عن فضلك ما استغنينا

______________________________________________________

(وقول بعضهم : إنه جواب على إضمار الفاء مثل) (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ١٨٠] أي : فالوصية (مردود بأن الفاء لا تحذف إلا ضرورة كقوله :

من يفعل الحسنات الله يشكرها)

والشر بالشر عند الله مثلان (١)

وقد تقدم إسناده في إما (والوصية في الآية نائب عن فاعل كتب) وذكر فعلها للفاصل ، ولأنها بمعنى أن يوص ولذلك ذكر الضمير الراجع في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) [البقرة : ١٨١] (وللوالدين متعلق بها لا خبر) عنها كما توهمه ذلك القائل (والجواب محذوف أي :) إن ترك خيرا (فليوص ، وقول ابن الحاجب إن إذا هذه غير شرطية فلا تحتاج إلى جواب وإن عاملها ما بعد ما النافية كما عمل ما بعد لا في يوم من قوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٢٢] وإن ذلك من التوسع في الظرف مردود بثلاثة أمور :

أحدها أن مثل هذا التوسع خاص بالشعر كقوله :

ونحن عن فضلك ما استغنينا) (٢)

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٨٨ ، وله أو لعبد الرحمن بن حسان في خزانة الأدب ٩ / ٤٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ١١٤ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢١٠.

(٢) الشطر من الرجز ، وهو لعبد الله بن رواحه في ديوانه ص ١٠٧ ، وله أو لعامر بن الأكوع في الدرر ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٢٣٤.

٣٦٧

والثاني : أن «ما» لا تقاس على «لا» ، فإن «ما» لها الصّدر مطلقا بإجماع البصريين ، واختلفوا في «لا» ، فقيل : لها الصدر مطلقا ، وقيل : ليس لها الصدر مطلقا لتوسّطها بين العامل والمعمول في نحو : «إن لا تقم أقم» ، و «جاء بلا زاد» ، وقوله [من المتقارب] :

١٣٨ ـ ألا إنّ قرطا على آلة

ألا إنّني كيده لا أكيد

وقيل : إن وقعت «لا» في جواب القسم فلها الصدر : لحلولها محلّ أدوات الصّدر ، وإلا فلا ، وهذا هو الصحيح ، وعليه اعتمد سيبويه ، إذ جعل انتصاب «حبّ العراق» في قوله [من البسيط] :

١٣٩ ـ آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه

[والحبّ يأكله في القرية السّوس]

______________________________________________________

فكيف يخرج القرآن عليه

(والثاني : أن ما لا يقاس على لا فإن ما لها الصدر مطلقا بإجماع البصريين ، واختلفوا في لا) والظاهر أن اختلافهم في غير لا الناسخة ، أما لا الناسخة فلا يختلفون في أن لها الصدر ، وعلى هذا لا يتأتى هذا القول فحرر النقل في هذه المسألة ، فلست على وثوق منه الآن (فقيل : لها الصدر مطلقا) أي سواء وقعت في صدر جواب القسم أو لا (وقيل : ليس لها الصدر مطلقا لتوسطها بين العامل والمعمول) فعلا كان المعمول أو اسما (في نحو إن لا تقم أقم وجاء بلا زاد وقوله :

ألا إن قرطا على آلة

ألا إنني كيده لا أكيد) (١)

قرط بقاف مضمومة وراء ساكنة وطاء مهملة اسم رجل ، والآلة الحالة والمراد بها هنا السببية ، والكيد : المكر والخبث أي : أن هذا الرجل على حالة سوء ، ولست أكيد كيده (وقيل : إن وقعت في صدر جواب القسم فلها الصدر لحلولها محل أدوات الصدور ، وإلا فلا ، وهذا هو الصحيح وعليه اعتمد سيبويه ، إذ جعل انتصاب حب العراق في قوله :

آليت حب العراق الدهر أطعمه)

والحب يأكله في القرية السوس (٢)

__________________

(١) البيت من البحر المتقارب ، وهو للأخرم السنبسي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦٠٠ ، وبلا نسبة في تلخيص الشواهد ص ٥٠٩.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو للمتلمس في ديوانه ص ٩٥ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٥١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ١٨٠.

٣٦٨

على التوسع وإسقاط الخافض وهو «على» ، ولم يجعله من باب «زيدا ضربته» لأن التقدير : لا أطعمه ، و «لا» هذه لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وما لا يعمل لا يفسّر في هذا الباب عاملا.

والثالث : أن «لا» في الآية حرف ناسخ مثله في نحو : «لا رجل» ، والحرف الناسخ لا يتقدّمه معمول ما بعده ، ولو لم يكن نافيا ، لا يجوز «زيدا إنّي أضرب» فكيف وهو حرف نفي؟ بل أبلغ من هذا أن العامل الذي بعده مصدر ، وهم يطلقون القول بأن المصدر لا يعمل فيما قبله ، وإنما العامل محذوف ، أي : اذكر يوم ، أو يعذبون يوم.

ونظير ما أورده أبو حيان على

______________________________________________________

آليت بفتح التاء أي : حلفت (على التوسع فإسقاط الخافض وهو على) أي : آليت على حب العراق ، ثم حذف الجار فانتصب بالفعل على طريق التوسع (ولم يجعله من باب زيدا ضربته) وهو ما حذف فيه العامل على شريطة التفسير ، (لأن التقدير لا أطعمه) وهذا جواب القسم ، وحذف التاء في منه كما في قوله تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا) [يوسف : ٨٥] (ولا هذه لها الصدر) ؛ لوقوعها في جواب القسم (فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وما لا يعمل لا يفسر في هذا الباب) وهو باب المنصوب على شريطة التفسير ، ويعرف بباب الاشتغال (عاملا) فخرج من هذا أنه لا يجوز أن يكون أصل التركيب في البيت آليت لا أطعم حب العراق الدهر لا أطعمه ، فإن قلت : ما فائدة تقييد المصنف بقوله : في هذا الباب؟ قلت : الاحتراز عن مثل (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] فإن استجار مفسر لعامل أحد ، هو لا يمكن عمله في ذلك المعمول لو سلط عليه ؛ ضرورة أن رافع الفاعل لا يجوز تأخره عند البصريين.

(الثالث أن لا في الآية حرف ناسخ مثله في لا رجل ، والحرف الناسخ لا يتقدمه معمول ما بعده ، ولو لم يكن نافيا لا يجوز زيدا إني أضرب فكيف) يتقدم المعمول على الناسخ (وهو حرف نفي ، بل أبلغ من هذا أن العامل الذي بعده مصدر ، وهم يطلقون القول بأن المصدر لا يعمل فيما قبله) فقد اجتمع في الآية ثلاثة موانع ، كون العامل مصدرا وكونه بعد حرف ناسخ وكون ذلك الناسخ نافيا ، ولو استقل واحد منها لكفى ، ومن النحاة من تساهل في الظرف والجار والمجرور فأجاز تقديمهما على المصدر المقدر بالموصول الحرفي وصلته ، ومنع تقديمهما على صريح الحرف المصدري وصلته وحكى ابن قاسم في شرح «التسهيل» أنه نقل عن الأخفش أنه يجيز تقديم المفعول به على المصدر نحو يعجبني عمرا ضرب زيد (وإنما العامل محذوف أي : اذكر يوم) يرون الملائكة (أو يعذبون يوم) يرون الملائكة ، أو يمنعون البشرى يوم يرون الملائكة ، فحذف العامل مدلولا عليه بقوله : (لا بُشْرى) (ونظير ما أورده أبو حيان على

٣٦٩

الأكثرين أن يورد عليهم قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٧) [سبأ : ٧] فيقال : لا يصحّ لـ «جديد» أن يعمل في «إذا» ، لأن «إنّ» ولام الابتداء يمنعان من ذلك لأن لهما الصدر ؛ وأيضا فالصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف. والجواب أيضا أن الجواب محذوف مدلول عليه بـ «جديد» ، أي : إذا مزقتم تجدّدون ، لأن الحرف الناسخ لا يكون في أول الجواب إلا وهو مقرون بالفاء ، نحو : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢١٥] ، وأمّا (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١] فالجملة جواب لقسم محذوف مقدّر قبل الشرط ، بدليل (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) [المائدة : ٧٣] الآية ، ولا يسوغ أن يقال : قدّرها خالية من معنى الشرط ، فتستغني عن جواب ، وتكون معمولة لما قبلها وهو (قالَ) [سبأ : ٧] أو (نَدُلُّكُمْ) [سبأ : ٧] أو (يُنَبِّئُكُمْ) [سبأ : ٧] لأن هذه الأفعال لم تقع في ذلك الوقت.

______________________________________________________

الأكثرين أن يورد عليهم قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سبأ : ٧] فيقال : لا يصح لجديد أن يعمل في إذا لأن أن ولام الابتداء يمنعان من ذلك ؛ لأن لهما الصدور وأيضا فالصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف) وقد نبهناك على أنه وقع في كلام الزمخشري ما يخالف ذلك.

(والجواب أيضا) عن هذه الآية كالجواب عن تلك الآية (أن الجواب محذوف مدلول عليه بجديد أي : إذا مزقتم تجددون ؛ لأن الحرف الناسخ لا يكون في أول الجواب إلا وهو مقرون بالفاء ، نحو (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢١٥]) وقد أسلفنا أن الرضي أجاز وقوع الجملة الاسمية جوابا لإذا مع خلوها عن الفاء ؛ لعدم عراقة إذا في الشرطية وعليه تتخرج هذه الآية إن صح ولا حذف (وأما (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١] فالجملة جواب لقسم محذوف مقدر قبل الشرط بدليل (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) [المائدة : ٧٣] الآية) فإن الجواب فيها للقسم قطعا بشهادة اللام ونون التأكيد ، فيلزم تقديره قبل الشرط وبقية الآية ليست من الشاهد في شيء إذ الباقي منها هو ومعمول يمسن من مفعول وفاعل ، والآية هي قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (ولا يسوغ أن يقال : قدرها) في آية سبأ (خالية من معنى الشرط فتغنى) بفتح النون مضارع غني بكسرها أي : فتستغني (عن جواب وتكون) بالنصب عطفا على تغني المنصوب بإضمار أن بعد الفاء الواقعة بعد الأمر وهو قدرها أي : ليكن تقديرك فغناها عن جواب وكونها (معمولة لما قبلها ، وهو قال) من قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) [سبأ : ٧] (أو ندلكم أو ينبئكم ؛ لأن هذه الأفعال لم تقع في ذلك الوقت) فلا تكون إذا ظرفا لها.

٣٧٠

الفصل الثالث

في خروج «إذا» عن الشرطية

ومثاله قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧] ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩) [الشورى : ٣٩] ، فـ «إذا» فيهما ظرف لخبر المبتدأ بعدها. ولو كانت شرطيّة والجملة الاسميّة جوابا لاقترنت بالفاء مثل : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام : ١٧] ؛ وقول بعضهم : «إنه على إضمار الفاء» تقدم ردّه ؛ وقول آخر «إن الضّمير توكيد لا مبتدأ ، وإن ما بعده الجواب» ظاهر التعسّف ؛ وقول آخر «إن جوابها محذوف مدلول عليه بالجملة بعدها» تكلّف من غير ضرورة.

ومن ذلك «إذا» التي بعد القسم نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) [الليل : ١] ، (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) [النجم : ١] ، إذ لو كانت شرطيّة لكان ما قبلها جوابا في المعنى كما في قولك : «آتيك إذا أتيتني» ، فيكون التّقدير : إذا يغشى الليل وإذا هوى النجم أقسمت.

وهذا ممتنع ؛ لوجهين :

أحدهما : أن القسم الإنشائي لا يقبل التعليق ، لأن الإنشاء إيقاع ، والمعلّق يحتمل

______________________________________________________

(الفصل الثالث في خروج إذا عن الشرطية ، ومثاله قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧]) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩) [الشورى : ٣٩] فإذا فيهما ظرف لخبر المبتدأ بعدها ، ولو كانت شرطية والجملة الاسمية جواب لاقترنت بالفاء ، مثل (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام : ١٧] وقد يقال : اغتفر مجيئها بدون الفاء ، لعدم عراقة إذا في الشرطية كما مر عن الرضى (وقول بعضهم إنه على إضمار الفاء تقدم رده) بأن ذلك لا يقع إلا في ضرورة الشعر (وقول آخر : إن الضمير توكيد لا مبتدأ ، وإن ما بعده الجواب ظاهر التعسف ، وقول آخر : إن جوابها محذوف مدلول عليه بالجملة بعدها تكلف لا داعي إليه) وقد يقال : بل الداعي قائم وهو إبقاء إذا على غالب أمرها ، من كونها متضمنة لمعنى الشرط.

(ومن ذلك إذا التي بعد القسم نحو (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) [الليل : ١]) ونحو (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) [النجم : ١] فهي في ذلك ظرف لكون محذوف كما مر ، ولا يمنع كونه حالا أي : أقسم بالليل كائنا إذا يغشى ، وأقسم بالنجم كائنا إذا هوى ولا يصح جعلها للشرط ؛ (إذ لو كانت شرطية كان ما قبلها جوابا في المعنى ، كما في قولك آتيك إذا اتيتني فيكون التقدير إذا يغشى الليل ، وإذا هوى النجم أقسمت ، وهذا ممتنع لوجهين :

أحدهما أن القسم الإنشائي لا يقبل التعليق ؛ لأن الإنشاء إيقاع والمعلق يحتمل

٣٧١

الوقوع وعدمه ، فأما «إن جاءني فو الله لأكرمنّه» ، فالجواب في المعنى فعل الإكرام ، لأنه المسبّب عن الشرط ، وإنما دخل القسم بينهما لمجرّد التوكيد ، ولا يمكن ادّعاء مثل ذلك هنا ، لأن جواب والليل ثابت دائما ، وجواب والنجم ماض مستمرّ الانتفاء ، فلا يمكن تسببهما عن أمر مستقبل وهو فعل الشرط.

والثاني : أن الجواب خبريّ ، فلا يدلّ عليه الإنشاء ، لتباين حقيقتهما.

______________________________________________________

الوقوع وعدمه) قال نجم الدين سعيد في شرحه للحاجبية : جزاء الشرط يجب أن يكون قضية خبرية معلقة بالشرط ؛ لأن الإنشاء ثابت ، والثابت لا يقبل تعليقا وقولنا : أنت حر إن دخلت الدار ، إنشاء للتعليق لا تعليق للإنشاء ، وأنكره الرضي مستدلا بما وقع كثيرا في القرآن من الجمل الإنشائية جزاء للشرط ، وهو مقتضى قول التفتازاني : إن الشرط قيد لمسند الجزاء لا يخرج الكلام عما كان عليه من خبرية أو إنشائية ، واعترضه الشريف الجرجاني في حاشيته على المطول بأن قال : لا شك أن مثل أكرم زيدا يدل بظاهره على طلب في الحال لإكرامه في الاستقبال ، فيمتنع تعليق الطلب الحاصل في الحال على حصول ما يحصل في المستقبل إلا بتأويل ، فالإكرام إما أن يعلق على الشرط من حيث طلبه ، أو من حيث وجوده فإذا علق من حيث هو مطلوب فكأنك قلت : إذا جاءك زيد فإكرامه مطلوب منك ، فيحمل اللفظ بواسطة القرينة على الطلب في الاستقبال ، ويلزم من انتفائه في الحال تأويل الطلبي بالخبري ، وأما إن علق عليه من حيث وجوده وكان الطلب حاصلا في الحال فكأنه قيل : إذا جاءك زيد يوجد إكرامك إياه مطلوبا منك في الحال ، فيلزم تأويل الطلبي بالخبري ، وأن لا يكون الطلب تعلق بالشرط أصلا ، وبالجملة لا يمكن جعل الطلبي جزاء بلا تأويل ، ثم قال : ويتفرع على التأويل وعدمه احتمال الصدق والكذب وعدمه في الشرطية التي جزاؤها طلبي وإن كان الطلب في نفسه لا يحتملهما.

(فأما إن جاءني فو الله لأكرمنه ، فالجواب في المعنى فعل الإكرام ؛ لأنه المسبب عن الشرط ، وإنما دخل القسم بينهما لمجرد التوكيد ، ولا يمكن ادعاء مثل ذلك هنا ؛ لأن جواب والليل) وهو إن سعيكم لشتى (ثابت دائما ، وجواب والنجم) وهو ما ضل صاحبكم وما غوى (ماض مستمر الانتفاء ، فلا يمكن تسببهما) أي : تسبب هذين الجوابين (عن أمر مستقبل وهو فعل الشرط.

والثاني أن الجواب) المقدر في الآيتين قيل : إن التقدير إذا يغشى الليل وإذا هوى النجم أقسمت (خبري) لما قدمه من أن الإنشائي لا يقبل التعليق ؛ لأن الإنشاء إيقاع معنى بلفظ يقارن في الوجود والمعلق يحتمل الوقوع وعدمه (فلا يدل عليه الإنشاء) وهو أقسم الذي يتعلق به حرف القسم ، فإن قلت : اختار المصنف كون إذا في الآيتين ظرفية غير شرطية لما قرره ، ويرد عليه أنها تقدر على رأيه بكون محذوف يجعل حالا من المجرور ، ولا شيء يقدر عاملا في هذه الحال إلا

٣٧٢

* (أيمن) المختص بالقسم ، اسم لا حرف ، خلافا للزّجاج والرمّاني ، مفرد مشتق من «اليمن» ـ وهو البركة ـ وهمزته وصل ، لا جمع «يمين» وهمزته قطع ، خلافا للكوفيين ، ويردّه جواز كسر همزته ، وفتح ميمه ، ولا يجوز مثل ذلك في الجمع من نحو : «أفلس» و «أكلب» ، وقول نصيب [من الطويل] :

١٤٠ ـ فقال فريق القوم لمّا نشدتهم :

نعم ، وفريق : ليمن الله ما ندري

فحذف ألفها في الدّرج ،

______________________________________________________

فعل القسم ، فيلزم أن تكون الأقسام في حال حصول الليل وهو فاسد قلت : يدفعه جعل الحال مقدرة ، والله تعالى أعلم بالصواب.

(أيمن المختص بالقسم)

بحيث لا يستعمل إلا فيه واحترز عن الواقع في مثل قولك : حلف القوم بالله وبرت أيمنهم ، فإن هذا لا يطرقه الخلاف الآتي أصلا (اسم لا حرف خلافا للزجاج والرماني مفرد مشتق من اليمن) وهو البركة (وهمزته وصل ، لا جمع يمين وهمزته قطع خلافا للكوفيين) وحجتهم أن هذا الوزن مختص بالجمع كأفلس وأكلب ، وقد سمع جمع يمين على أيمن كقوله :

يأتي لها من أيمن وأشمل (١)

وكقول زهير :

فتجمع أيمن منا ومنكم

بمقسمة تمور بها الدماء (٢)

(ويرده جواز كسر همزته وفتح ميمه ، ولا يجوز مثل ذلك في الجمع من نحو أفلس وأكلب و) يرده أيضا (قول نصيب) على زنة تصغير فلس :

(فقال فريق القوم لما نشدتهم

نعم وفريق ليمن الله ما ندري) (٣)

الفريق الطائفة من الناس ، ونشدتهم استحلفتهم بالله (فحذف ألفها في الدرج) وللكوفيين

__________________

(١) الشطر من بحر الرجز ، وهو لأبي النجم في خزانة الأدب ٦ / ٥٠٣ ولسان العرب ٣ / ٢٥٩ (صمز) ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٤٠٦.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٧٨ ، والجنى الداني ص ٥٣٩ ، ولسان العرب ١٢ / ٤٨٣ (قسم).

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لنصيب في ديوانه ص ٩٤ ، والأزهيه ص ٢١ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٤٠٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٠.

٣٧٣

ويلزمه الرفع بالابتداء ، وحذف الخبر ، وإضافته إلى اسم الله سبحانه وتعالى : خلافا لابن درستويه في إجازة جرّه بحرف القسم ، ولابن مالك في جواز إضافته إلى «الكعبة» ولكاف الضمير ، وجوّز ابن عصفور كونه خبرا والمحذوف مبتدأ ، أي قسمي أيمن الله.

ـ حرف الباء ـ

* الباء المفردة ـ حرف جر لأربعة عشر معنى :

______________________________________________________

أن يقولوا : خففت بذلك لكثرة الاستعمال (ويلزمه الرفع بالابتداء ، وحذف الخبر وإضافته إلى اسم الله تعالى خلافا لابن درستويه) بفتح الدال والراء المهملتين ، وسكون السين المهملة (في إجازة جره بحرف القسم) وهو مقيد بالواو عنده ، أجاز أن تقول : وأيمن الله فلم يكن للمصنف هذا الإطلاق (ولابن مالك في إجازة إضافته إلى الكعبة) محتجا بما سمع من قولهم : ليمن الكعبة (وكاف الضمير) محتجا بقول عروة بن الزبير : ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت ، وجوز ابن مالك أيضا إضافته إلى الذي محتجا بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليمن الذي نفسي محمد بيده» وترك المصنف حكاية ذلك عنه ، وقد أضيف إلى غير ذلك في الشعر كقوله :

ليم أبيهم لبئس الغدرة اغتدروا (١)

(وجوّز ابن عصفور كونه خبرا والمحذوف مبتدأ أي : قسمي أيمن الله) والأول أولى بناء على أنه إذا دار الأمر بين كون المحذوف أولا أو ثانيا ، فكونه ثانيا أولى ، وفي هذه الكلمة لغات أيمن بفتح الهمزة والميم وإيمن بكسر الهمزة وفتح الميم ، وأيمن بفتح الهمزة وكسرها مع ضم الميم ، وأيم وإيم بحذف النون مع فتح الهمزة وكسرها ، وإم بكسر الهمزة وضم الميم وحذف الياء ، ومن مثلث الحرفين مع توافق الحركتين فهذه عشر لغات وم مثلثا فهذه ثلاث عشرة لغة حكاها في «التسهيل» وحكى غيره لغات أخر في هذه الكلمة منها إيم الله بكسر الهمزة والميم وحذف النون ، وأم بفتح الهمزة وكسر الميم وأم بفتح الهمزة وضم الميم مع حذف الياء والنون ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

(حرف الباء)

(الباء المفردة حرف جر لأربعة عشر معنى :

__________________

(١) لم أجده.

٣٧٤

أولها : الإلصاق ، قيل : وهو معنى لا يفارقها ، فلهذا اقتصر عليه سيبويه ، ثم الإلصاق حقيقيّ كـ «أمسكت بزيد» إذا قبضت على شيء من جسمه ، أو على ما يحبسه من يد أو ثوب ونحوه ؛ ولو قلت : «أمسكته» احتمل ذلك أن تكون منعته من التصرف ؛ ومجازيّ نحو : «مررت بزيد» أي ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد. وعن الأخفش أن المعنى مررت على زيد ، بدليل (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) (١٣٧) [الصافات : ١٣٧]. وأقول : إن كلّا من الإلصاق والاستعلاء إنما يكون حقيقيّا إذا كان مفضيا إلى نفس المجرور كـ «أمسكت بزيد ، وصعدت على السّطح» فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجاز كـ «مررت بزيد» في تأويل الجماعة ، وكقوله [من الطويل] :

١٤١ ـ [تشبّ لمقرورين يصطليانها]

وبات على النّار النّدى والمحلّق

______________________________________________________

أولها الإلصاق قيل : وهو معنى لا يفارقها) في شيء من موارد استعمالها ، فظهر بذلك أنه معناها الأصلي الموضوعة هي له ؛ (فلهذا اقتصر عليه سيبويه) ولم يذكر غيره قال : وإنما هي للإلصاق والاختلاط ، ثم قال : فما اتسع من هذا في الكلام فهذا أصله (ثم الإلصاق حقيقي كأمسكت بزيد إذا قبضت على شيء من جسمه ، أو على ما يحبسه) أي على شيء يحبس زيدا ، أو على الذي يحبس زيدا (من ثوب ونحو ، ولو قلت : أمسكته احتمل ذلك ، وأن يكون منعته من التصرف) ولا خفاء في أن الإلصاق بزيد حيث يقبض على شيء من جسمه حقيقي ، وأما في الثاني بحيث تمسك بما هو لابسه من ثوب ونحوه فالظاهر أن الإلصاق فيه مجازي لا حقيقي ؛ إذ القبض على ثوبه ليس قبضا عليه نفسه حتى يكون الإلصاق حقيقيا ، وإنما هو إلصاق بما يجاوره ويقرب منه ، فجعل إلصاق الإمساك بالثوب إلصاقا بزيد مجازا لما بينهما من المجاورة (ومجازي نحو مررت بزيد أي : ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد ، وعن الأخفش أن المعنى مررت على زيد) فالباء عنده في نحو هذا المثال ليست للإلصاق ، وإنما هي للاستعلاء كعلى (بدليل (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) (١٣٧) [الصافات : ١٣٧]) وفيه نظر قرره المصنف بقوله : (وأقول : إن كلا من الإلصاق والاستعلاء إنما يكون حقيقيا إذا كان مفضيا إلى نفس المجرور ، كأمسكت بزيد) إذا قبضت على شيء من جسمه (وصعدت على السطح ، فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجاز كمررت بزيد في تأويل الجماعة) وهذا مثال للإلصاق المجازي (وكقوله) أي قول الأعشى :

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في يفاع تحرق

تشب لمقرورين يصطليانها

(وبات على النار الندى والمحلق) (١)

__________________

(١) البيتان من البحر الطويل ، وهما للأعشى في ديوانه ص ٢٧٥ ، والأغاني ٩ / ١١١ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٤٤ ، ـ ـ وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ١١٩.

٣٧٥

فإذا استوى التقديران في المجازيّة ، فالأكثر استعمالا أولى بالتّخريج عليه ، كـ «مررت بزيد ، ومررت عليه» وإن كان قد جاء كما في (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) [الصافات : ١٣٧] ، (يَمُرُّونَ عَلَيْها) [يوسف : ١٠٥] [من الكامل] :

______________________________________________________

وهذا مثال للاستعلاء المجازي فإن المراد بالندى الجود ، وبالمحلق صاحب تلك النار وهو بكسر اللام ، واليفاع بمثناة تحتية مفتوحة وفاء المكان المرتفع ، وتشب توقد والمقرور الذي أصابه القر وهو البرد ، والمراد بالمقرورين هنا الندى والممدوح ، والاصطلاء الاستدفاء بالنار والمحلق المذكور هو عبد العزيز بن حفص ، من ولد أبي بكر بن كلاب من بني عامر كان رجلا فقيرا وله بنات كثيرة لا يتزوجهن أحد من قومه ؛ لفقرهن فخرج المحلق من بينهم ونزل في مغارة فمر بها الأعشى ليلا فرأى نار المحلق فقصدها ونزل به ، فنحر له ناقة ليس له غيرها فلما أصبح قال له الأعشى : هل لك إليّ حاجة فقال نعم أن تمدحني بقصيدة وتنشدها في نادي قومي فلعلهم يتزوجون بناتي فامتدحه الأعشى بالقصيدة التي منها هذان البيتان ، وأنشدها في ناديهم فتنافسوا في بنات المحلق وخطبوهن إليه حتى لم يبق عنده منهن واحدة ، وما أحسن قول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني يضمن صدر البيت الثاني الذي أنشدناه :

وأهيف فاق الورد حسنا بوجنة

أنزه طرفي في رياض جنانها

كان بها من حول خالية جمرة

تشب لمقرورين يصطليانها

(فإذا استوى التقديران في المجازية) فإن جعل الباء للإلصاق في المثال المذكور ليس حقيقيا ضرورة أن المرور لم يلتصق بزيد ، وإنما التصق بملابسه وهو المكان الذي يقرب منه ، وجعل الباء للاستعلاء ليس حقيقيا أيضا ضرورة أن المرور لم يكن فوق زيد ، فقد استوى التقديران المذكوران في المجازية (فالأكثر استعمالا) وهو الإتيان بالباء في صلة هذا الفعل (أولى بالتخريج عليه) ؛ لئلا يلزم التجوز من وجهين استعمال الباء بمعنى على ، واستعمال على في غير الاستعلاء الحقيقي ، وما ذكره الجماعة ليس فيه إلا تجوز واحدا وهو استعمال الباء للإلصاق فيما لا يفضي إلى نفس المجرور (ومررت عليه وإن كان قد جاء) في الفصيح (نحو (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) ونحو (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) [يوسف : ١٠٥] ، نحو (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ونحو قول الشاعر:

٣٧٦

١٤٢ ـ ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

[فمضيت ثمّت قلت : لا يعنيني]

إلا أنّ «مررت به» أكثر ، فكان أولى بتقديره أصلا ، ويتخرّج على هذا الخلاف خلاف في المقدّر في قوله [من الوافر] :

١٤٣ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

[كلامكم عليّ إذا حرام]

أهو الباء أو على؟

الثاني : التعدية ، وتسمّى باء النقل أيضا ، وهي المعاقبة للهمزة

______________________________________________________

(ولقد أمر على اللئيم يسبني)

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني (١)

(إلا أن مررت به أكثر ، فكان أولى بتقديره أصلا) من مررت عليه الذي ليس بمثابة ذاك في الكثرة ، وهذا يقتضي أن على في مررت عليه تجعل بمعنى الباء ، وفيه نظر إذ لا داعي إلى إخراج حرف عن حقيقته ، وحمله على حرف آخر في معنى ليس حقيقيا له ، وفي «شرح اللب» أن مررت عليه إنما يقال إذا جاوزته في المرور ، لأنك بمجاوزتك إياه كأنك صرت فوقه في كثرة السير ، أو إذا كان المرور من جانب العلو فيكون فيه معنى الاستعلاء أيضا ، فإن صح هذا أشكل قول المصنف وقول الأخفش أيضا ، فإن قلت : لا يخفى أن مررت عليه من قول المصنف ، ومررت عليه وإن كان قد جاء مبتدأ فأين خبره وما موقع الشرط والاستثناء الواقعين بعده؟ قلت : الخبر محذوف وإن هي الوصلية ، والواو الداخلة عليها واو الحال عند بعض ، والاستثناء منقطع والتقدير : ومررت عليه لا ينبغي أن يجعل أصلا وإن سمع مثله في الفصيح ، لكن مررت به أكثر منه فهو أولى بتقدير الأصالة (ويتخرج على هذا الخلاف خلاف في المقدر في قوله :

تمرون الديار ولم تعوجوا)

كلامكم على إذا حرام (٢)

(أهو الباء) وهذا رأي الجماعة (أم على) وهذا رأي الأخفش ، وعاج يستعمل بمعنى وقف وبمعنى رجع ، وكل منهما محتمل في البيت أي : تمرون بالديار ولم تقفوا عندها إكراما لنا أو لم ترجعوا إلينا وإليها.

(الثاني) من معاني الباء الأربعة عشر (التعدية وتسمى باء النقل أيضا وهي المعاقبة للهمزة

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٢٧٨ ، والأغاني ٢ / ١٧٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ١١٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ١٤٥ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٥٨.

٣٧٧

في تصيير الفاعل مفعولا ، وأكثر ما تعدّي الفعل القاصر ، تقول في «ذهب زيد» : «ذهبت بزيد» ، و «أذهبته» ، ومنه : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] ، وقرىء (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)] ، وهي بمعنى القراءة المشهورة ، وقول المبرد والسهيلي «إن بين التّعديتين فرقا ، وإنك إذا قلت : «ذهبت بزيد» كنت مصاحبا له في الذهاب» مردود بالآية ،

______________________________________________________

في تصيير الفاعل مفعولا) وفسرها بذلك ؛ ليعلم أن مراده بالتعدية هنا أن يضمن الفعل معنى التصيير ؛ احترازا من التعدية بالمعنى الآخر ، فإنهم يطلقونها على توصيل العامل إلى المعمول بواسطة الحرف ، وهي بهذا المعنى لا خصوصية لها بالباء بل هي متحققة في جميع حروف الجر غير الزائدة ، وما هو في حكم الزائد ، وقال ابن مالك في ضابطها : هي الداخلة بعد الفعل اللازم قائمة مقام الهمزة في إيصالها إلى المفعول ، واعترضه أبو حيان بأنها قد وردت مع المتعدي في قولهم : صككت الحجر بالحجر ودفعت بعض النّاس ببعض ، وكأن المصنف عدل عن ضابط ابن مالك إلى ما قاله هو ، ليشمل اللازم والمتعدي ، فإن قيل هو وإن شملهما لا يشمل هذين المثالين ونحوهما ؛ لأن الباء داخلة فيهما على ما كان مفعولا ؛ إذ الأصل صك الحجر الحجر ودفع بعض الناس بعضا فالجواب أنا لا نسلم أن هذا هو الأصل ، بل الأصل صك الحجر الحجر ودفع بعض الناس بعض بتقديم المفعول ، ثم دخلت باء التعدية على ما هو الفاعل في الأصل ، والمعنى أن المتكلم صير ما دخلت عليه الباء صاكا أو دافعا للمجرد منها (وأكثر ما تعدى) أي : ما تعديه فحذف العائد وما عبارة عن الأفعال ، أي : وأكثر الأفعال التي تعديها الباء (الفعل القاصر تقول في ذهب زيد : ذهبت بزيد وأذهبت زيدا ومنه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧]) أي : أذهب نورهم وأزالهم (وقرىء) في الشواذ (أذهب الله نورهم) وهي بمعنى القراءة المشهورة (وقول المبرد والسهيلي إن بين التعديتين فرقا ، وإنك إذا قلت ذهبت بزيد كنت مصاحبا له في الذهاب) بخلاف ما إذا قلت أذهبت زيدا فإنه لا إشعار له بهذا المعنى (مردود بالآية) لاستحالة مصاحبة الله لنورهم في الذهاب ، قال السهيلي : لو كانت الباء كالهمزة في المعنى من غير زيادة لجاز أمرضته ومرضت به وأسقمته وسقمت به ، وأعميته وعميت به ، قياسا على أذهبته وذهبت به ، ويأبى الله ذلك والعلماء قال : وإنما الباء تعطي معنى التعدية طرفا من المشاركة في الفعل لا تعطيه الهمزة ، ثم أورد على نفسه هذه الآية وأجاب بأن النور والسمع كل بيده ، وقد قال بيده الخير وهذا من الخير الذي بيده وإذا كان بيده فجائز أن يقال : ذهب به على المعنى الذي يقتضيه قوله : بيده الخير كائنا ما كان ذلك المعنى ، ألا ترى أنه لما ذكر الرجس قال : ليذهب عنكم الرجس ، ولم يقل : يذهب به ، وكذا قال : ويذهب عنكم رجز الشيطان تعليما لعباده حسن الأدب معه ، حتى لا يضاف إليه شيء من الأرجاس وإن كانت خلقا له وملكا ، فلا

٣٧٨

وأمّا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٢٠] فيحتمل أن الفاعل ضمير البرق.

ولأن الهمزة والباء متعاقبتان لم يجز : «أقمت بزيد» ، وأما (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] فيمن ضمّ أوّله وكسر ثالثه ، فخرج على زيادة الباء ، أو على أنها للمصاحبة ، فالظرف حال من الفاعل ، أي مصاحبة للدّهن ، أو المفعول ، أي : تنبت الثمر مصاحبا للدهن ، أو

______________________________________________________

يقال فيها على الخصوص هي بيده تحسينا للعبارة وتنزيها له ، وفي مثل السمع [و] البصر والنور يحسن أن يقال : هي بيده فحسن أن يقال : ذهب الله بنورهم هذا كلامه ، وفيه بحث وذلك أن السمع والبصر مثلا من الأعراض فلا يصح انتقالهما فذهابهما عدمهما ، والعدم في حق الله سبحانه وتعالى محال ، فكيف يصح أن يقال في الذهاب المسند إليه : إن المراد به العدم مع استحالته عليه ، وقد درج الزمخشري في «الكشاف» على الفرق بين التعديتين ، فقال في سورة البقرة والفرق بين أذهبه وذهب به أن معنى أذهبه أزاله ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه ، وقال في سورة النساء في قوله تعالى : (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) [النساء : ١٩] إذا عدي بالباء فمعناه الأخذ والاستصحاب كقوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) [يوسف : ١٥] وأما الإذهاب فكالإزالة ، وقرر جدي قاضي القضاة ناصر الدين بن المنير في تفسيره هذا الفرق ، وارتضاه قال : ومن ثم فرق الإمام مالك رضي الله تعالى عنه في النذر بين أن يقول : إن فعلت كذا فأنا أحج فلانا أو أحج به ، فألزمه في الثانية أن يحج بنفسه وأن يحج معه صاحبه ، بخلاف الأولى فله أن يصاحبه وله أن يقعد.

(وأما قوله) تعالى ((وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٢٠] فيحتمل أن الفاعل ضمير البرق) فلا ينتهض مع هذا الاحتمال ردا على السهيلي (ولأن الهمزة والباء متعاقبتان) على الكلمة في التعدية ، فإذا وجدت إحداهما فقدت الأخرى ولا يجتمعان (لم يجز أقمت بزيد) بالجمع بين الهمزة والباء ، ولما كان هناك مظنة سؤال تقريره أن يقال : لا شك أن نبت لازم تقول نبت الزرع ويعدى بالهمزة فيقال : أنبته الله ، ومع ذلك اجتمع الحرفان المعديان في قوله تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] إذ هو في قراءة من جعله من الرباعي مضارع أنبت المتعدي بالهمزة ، أجاب المصنف على ذلك بقوله : (فأما تنبت بالدهن فيمن ضم أوله وكسر ثالثه) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والباقون على فتح الأول وضم الثالث ، مضارع نبت ولا سؤال عليه (فخرج على زيادة الباء) في المفعول وليست الزيادة في مثل هذا بمقيسة كما ستعرفه ، فلا ينبغي التخريج على ذلك (أو على أنها للمصاحبة فالظرف حال الفاعل) وهو الضمير المستتر في تنبت العائد على الشجرة (أي :) تنبت هي (مصاحبة للدهن أو) حال

٣٧٩

أن «أنبت» يأتي بمعنى «نبت» ، كقول زهير [من الطويل] :

١٤٤ ـ رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم

قطينا لها حتّى إذا أنبت البقل

ومن ورودها مع المتعدّي قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٢٥١] و «صككت الحجر بالحجر» ، والأصل : دفع بعض الناس بعضا ، وصكّ الحجر الحجر.

الثالث : الاستعانة ، وهي الداخلة على آلة الفعل ، نحو «كتبت بالقلم» ، و «نجزت بالقدوم».

______________________________________________________

(المفعول) المحذوف (أي : تنبت الثمر مصاحبا للدهن ، أو) على (أن أنبت بمعنى نبت) فليست الهمزة معدية ، حتى يضر اجتماعها مع الباء (كقوله) أي قول زهير :

(رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم

قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل) (١)

أي : نبت البقل قال صاحب «الصحاح» يقال : نبتت الأرض وأنبتت بمعنى ، ونبت البقل وأنبت بمعنى وأنشد البيت ، والقطين الخدم والأتباع يستوي فيه الواحد وغيره ، والبيت شاهد عليه ومنه قول جرير :

هذا ابن عمي في دمشق خليفة

لو شئت ساقكم إلى قطينا (٢)

(ومن ورودها) أي : ورود باء التعدية (مع) الفعل (المتعدي) قولهم : (دفع الله بعض الناس ببعض ، وصككت الحجر بالحجر) فإن كلا من دفع وصك متعد قبل دخول الباء إلى واحد (والأصل) قبل الإتيان بباء التعدية (دفع بعض الناس بعضا ، وصك الحجر الحجر) بتقديم الفاعل ، وقد عرفت السؤال الوارد عليه والجواب عنه ، ولو قال : إن الأصل دفع بعض الناس بعض وصك الحجر الحجر لكان حسنا ، ولم يتوجه ذلك السؤال.

(الثالث) من معاني الباء الأربعة عشر (الاستعانة وهي الداخلة على آلة الفعل نحو كتبت بالقلم ونجرت بالقدوم) وفي «القاموس» والقدوم آلة للنجر مؤنثة ، وفي «الصحاح» والقدوم الذي ينحت به مخففا ، قال ابن السكيت : ولا تقل : قدوم بالتشديد وظاهر كلامه أنه مذكر ، وقد أسقط ابن مالك الاستعانة وأدرجها في السببية ، قال : لأن مثل هذه الباء واقعة في القرآن ولا يجوز

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١١١ ، وخزانة الأدب ١ / ٥٠ ، ولسان العرب ٢ / ٩٦ (بنت).

(٢) البيت من البحر الكامل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٣٨٨ ، ولسان العرب ١٣ / ١٢ (أذن) ، واللمع ص ١٤٦.

٣٨٠