شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) [الحج : ٢٥] ، (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ) [ص : ٣٣] ، أي : يمسح السوق مسحا ، ويجوز أن يكون صفة ، أي : مسحا واقعا بالسوق ، وقوله [من الرجز] :

١٥٦ ـ [نحن بنو ضبّة أصحاب الفلج]

نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج

الشاهد في الثانية ، فأما الأولى فللاستعانة ، وقوله [من البسيط] :

هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور

______________________________________________________

سماء بيته ثم ليقطع أي : ليختنق به وسمي الاختناق قطعا ؛ لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) [الحج : ١٥] أي : فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك فهل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ (ونحو ومن يرد فيه) أي في المسجد الحرام (بإلحاد) بظلم ، والإلحاد العدول عن القصد فالتقدير في هذه الآيات : ولا تلقوا أيديكم ، وهزي إليك جذع النخلة ، فليمدد سببا ، ومن يرد فيه إلحادا ونحو ((فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ) [ص : ٣٣] أي : يمسح السوق مسحا) وقد تقدم أنه قيل بزيادة الباء في آية الوضوء (ويجوز أن تكون صفة) للمسح (أي مسحا واقعا بالسوق) فالباء على هذا غير زائدة ، (و) نحو (قوله) :

نحن بنو ضبة أصحاب الفلج

(نضرب بالسيف ونرجو بالفرج) (١)

وضبة علم على رجل وهو ابن أذعم تميم بن مر ، والظاهر أن المراد بالفلج في البيت الظفر والفوز لكن لم يحك صاحب «الصحاح» فيه غير سكون اللام ، فيحتمل أن يكون الشاعر اتبعه فتحة الفاء للضرورة (الشاهد في) الباء (الثانية) وهي الجارة للفرج ؛ إذ المعنى ونرجو الفرج (فأما الأولى) وهي الداخلة على السيف (فللاستعانة) مثلها في كتبت بالقلم (و) نحو (قوله) :

هن الحرائر لاربات أخمرة

(سود المحاجر لا يقرأن بالسور) (٢)

الإشارة بتلك إلى النسوة المذكورات في البيت قبل هذا يليه وهو :

صلى على عزة الرحمن وابنتها

لنبي وصلى على خالاتها الآخر (٣)

والحرائر جمع حرة بضم الحاء المهملة وهي الكريمة ضد الأمة ، والأخمرة جمع خمار بكسر الخاء المعجمة وهو ما تستر به المرأة رأسها ، وفي «القاموس» وكل ما ستر شيئا فهو خمار والمحاجر جمع محجر بكسر الجيم وهو محجر العين ، والمراد به ما يبدوا من النقاب والسور

__________________

(١) لم أجده.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) البيت من البحر البسيط ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ١٢٢ ، ولسان العرب ١٤ / ٤٦٥ (صلا).

٤٠١

وقيل : ضمّن «تلقوا» معنى «تفضوا» ، و «يريد» معنى «يهمّ» ، و «نرجو» معنى «نطمع» ، و «يقرأن»

______________________________________________________

جمع سورة قال صاحب «الكشاف» والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات اه ، وهذا تفسير لسورة القرآن وإلا فالسورة أعم ، بدليل قولهم : إن من سور الإنجيل سور الأمثال وما قيل : من أن الكتب المنزلة على الأنبياء سورة مترجمة للسور ، ومعنى قوله : المترجمة المسماة باسم كسورة الفاتحة وسورة البقرة ، وبه يقع الاحتراز عن عدة آيات من سورة كالعشر والحزب ، ولا يرد مثل آية الكرسي ، لأنه مجرد إضافة لا تسمية وتلقيب وقوله : التي أقلها ثلاث آيات تنبيه على أن أقل ما يتألف منه السورة ثلاث آيات ، لا قيد في التعريف ، إذ لا يصدق على شيء من السور أنها طائفة مترجمة أقلها ثلاث آيات ، وفيه تأمل كذا في حاشية التفتازاني ، وقول الشاعر لا يقرأن صفة ثانية لربات أخمرة ، والمراد وصف تلك النسوة بأنهن كريمات في العرب لا من نسائهم البدويات ، اللاتي يقرأن القرآن (وقيل : ضمن تلقوا معنى تفضوا) فعدى بالباء ، كما يقال أفضى بيده إلى الأرض إذا مس ببطن راحتيه في سجوده ، وسكت المصنف عن تخريج وهزي إليك بجذع النخلة ، وتخريج فليمدد بسبب إلى السماء ، فإما هذه الثانية فلم أر من تعرض إلى كون الباء فيها غير زائدة ، وأما آية مريم ففي «الكشاف» والباء في بجذع النخلة للتأكيد كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] أو على معنى إفعلي الهز به كقوله : يجرح في عراقيبها نصلي قلت : يعني بالوجه الثاني أنه نزل هزي مع كونه متعديا منزلة اللازم للمبالغة ، نحو فلان يعطي ويمنع ، ثم عدي كما يعدى اللازم كقوله :

وإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها

إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي (١)

أي يفعل الجرح في عراقيبها ، وعن المبرد أن رطبا مفعول به والعامل هزي والمعنى وهزي إليك بجذع النخلة تتساقط عليك ، فالباء للاستعانة لا مزيدة ، ولا يخفى أن إعمال تساقط أولى من إعمال هزي لما يلزم من تأخر ما في حيز الأمر عن جوابه ، ولأنه خلاف الظاهر (و) ضمن (يرد) في ومن يرد فيه بإلحاد (معنى يهم) فعدي بالباء كما في قولك : هممت بالأمر أهم به (و) ضمن (نرجو) في قوله : ونرجو بالفرج (معنى نطمع) فجيء معه بالباء الظرفية ، كما تقول طمعت بكذا أي : طمعت فيه ، وقد تقدم أن المصنف ادعى في حواشي «التسهيل» أنه إن ثبت استعمال الباء للظرفية المجازية كان متوقفا على السماع عليه ، (و) ضمن (يقرأن) في قوله لا يقرأن بالسور

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٥٦ ، وأساس البلاغة ص ٢٩٦ (عذر) ، وخزانة الأدب ٢ / ١٢٨ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٢٥١.

٤٠٢

معنى «يرقين» و «يتبرّكن» ، وأنه يقال : «قرأت بالسورة» على هذا المعنى ، ولا يقال : «قرأت بكتابك» لفوات معنى التبرّك فيه ، قاله السّهيلي. وقيل : المراد لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم ، فحذف المفعول به ، والباء للآلة كما في قولك : «كتبت بالقلم» ، أو المراد بسبب أيديكم ، كما يقال : لا تفسد أمرك برأيك.

وكثرت زيادتها في مفعول «عرفت» ونحوه ، وقلّت في مفعول ما يتعدّى إلى اثنين كقوله [من الكامل] :

١٥٧ ـ تبلت فؤادك في المنام خريدة

تسقي الضّجيع ببارد بسّام

______________________________________________________

(معنى يرقين ويتبركن) فعدى بالباء التي للإلصاق ويرقين بكسر القاف ، يقال : رقاه يرقيه إذا عوذه (وأنه يقال : قرأت بالسورة على هذا المعنى) وهو معنى التبرك أي : تبركت بالسورة (ولا يقال قرأت بكتابك) حيث لا يكون المخاطب ممن يتبرك به ؛ (لفوات معنى التبرك فيه قاله السهيلي ، وقيل المراد) في الآية الأولى (ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم فحذف المفعول به ، والباء للآلة كما في كتبت بالقلم أو المراد بسبب أيديكم ، كما يقال لا تفسد أمرك برأيك) فالباء على هذا للسببية (وكثرت زيادتها في مفعول عرفت ونحوه) مما يتعدى إلى واحد كعلمت التي بمعناها ، وسمعت تقول : عرفت بزيد وعلمت به وسمعت بحال عمرو (وقلت) زيادتها (في مفعول ما يتعدى لاثنين كقوله :

تبلت فؤادك في المنام خريدة

تسقي الضجيع ببارد بسام) (١)

تبلت بمثناة فوقية فموحدة أي : أفسدت قال الجوهري يقال : تبله الحب وأبتله أي : أسقمه وأفسده ، والفؤاد القلب على المشهور وقيل : هو باطن القلب ، وقيل : غشاؤه ، والخريدة من النساء هي الحيية ، وقيل العذراء وخاؤها معجمة ودالها مهملة ، وتسقي بفتح حرف المضارعة وضمه والمراد بالضجيع ضجيع تلك الخريدة ، وهو الذي يضجع جانبه على الأرض إلى جانبها ، قلت : ويمكن أن تكون الباء في هذا البيت للاستعانة مثل سقيته بالقدح ، والمراد بالبارد البسام الثغر والمفعول الثاني محذوف أي : تسقي الضجيع ريقها ببادر بسام ، وأما على ما قاله المصنف فتكون الباء زائدة داخلة على ثاني المفعولين أي : تسقي الضجيع بادرا بساما وفيه نظر ؛ لأن المراد بالبارد الثغر بدليل وصفه ببسام ، وهو لا يسقي لكن لا يجوز أن يكون على حذف مضاف ، وعليه

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ١٠٧ ، والأغاني ٤ / ١٣٧ ، والجنى الداني ص ٥١.

٤٠٣

وقد زيدت في مفعول «كفى» المتعدّية لواحد ، ومنه الحديث «كفى بالمرء إثما أن يحدّث بكل ما سمع».

وقوله [من الكامل] :

١٥٨ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النّبيّ محمّد إيّانا

وقيل : إنها هي في البيت زائدة في الفاعل ، و «حب» : بدل اشتمال على المحلّ ، وقال المتنبي [من البسيط] :

١٥٩ ـ كفى بجسمي نحولا أنّني رجل

لو لا مخاطبتي إيّاك لم ترني

______________________________________________________

ففي البيت زيادة ونقص باعتبار الباء والمضاف ، وفي شرح «الحاجبية» للرضي أن الباء تزاد قياسا في مفعول علمت وعرفت وجهلت وسمعت وسقيت وأحسست ، فجعلها قياسا فيما ادعى المصنف فيه القلة بالنسبة إلى سقيت (وقد زيدت في مفعول كفى المتعدية لواحد ومنه الحديث (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» (١) وقوله) بالرفع عطفا على المبتدأ المتقدم وهو الحديث.

(فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حب النبي محمد إيانا) (٢)

أي : فكفانا بمعنى أجزأنا وأغنانا ومن إما موصوفة نحو مررت بمن معجب لك ، والمعنى في البيت على فريق غيرنا وإما زائدة على رأي من جوزه (وقيل : إنما هي) أي : الباء (في البيت زائدة في الفاعل وحب بدل اشتمال على المحل) نقل هذا القول ابن قاسم عن ابن أبي العافية (وقال) أبو الطيب (المتنبي :

كفى بجسمي نحولا أنني رجل

لو لا مخاطبتي إياك لم ترني) (٣)

فزاد الباء في مفعول كفى المتعدية إلى واحد ، والنحول بضم النون والحاء المهملة الهزال ، وأتى بضمير الحضور في صفة رجل مع أن طريقه الغيبة ؛ إذ هو اسم ظاهر لكونه مسندا إلى ضمير الحاضر من قوله إنني ومثله يجوز فيه الأمران ، نظرا إلى المخبر عنه وإلى الخبر تقول : أنا رجل قمت وأنا رجل قام.

__________________

(١) أخرجه أبو داود ، كتاب الأدب ، باب في التشديد في الكذب (٤٩٩٢) ، ونحو مسلم ، كتاب المقدمة باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (٥).

(٢) البيت من البحر الكامل ، وهو لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٨٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٢٠ ، ولبشير بن عبد الرحمن في لسان العرب ١٣ / ٤١٩ (منن) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٢.

(٣) البيت من البحر البسيط ، وهو للمتنبي في ديوانه ٤ / ٣١٩ ، والجنى الداني ص ٥٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٦٢.

٤٠٤

الثالث : المبتدأ ، وذلك في قولهم : «بحسبك درهم» ، و «خرجت فإذا بزيد» ، و «كيف بك إذا كان كذا» ، ومنه عند سيبويه : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (٦) [القلم : ٦] ؛ وقال أبو الحسن «بأيّكم» متعلّق باستقرار محذوف مخبر به عن «المفتون» ، ثم اختلف ، فقيل : المفتون مصدر بمعنى الفتنة ؛ وقيل : الباء ظرفيّة ، أي : في أيّ طائفة منكم المفتون.

* * *

تنبيه ـ من الغريب أنّها زيدت فيما أصله المبتدأ وهو اسم «ليس» ، بشرط أن يتأخر إلى موضع الخبر ، كقراءة بعضهم : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) [البقرة : ١٧٧] بنصب «البرّ» ، وقوله [من المتقارب] :

______________________________________________________

(الثالث) من محال زيادة الباء (المبتدأ وذلك في قولهم : بحسبك درهم) وإنما مثل بدرهم المنكر ليكون المثال مما اتفق فيه على زيادة الباء في المبتدأ وإلا فلو مثل بالمعرف نحو حسبك زيد لكان محل الزيادة مختلفا فيه ، هل هو خبر كما يقول ابن مالك أو مبتدأ كما يقول غيره؟ (وخرجت فإذا بزيد ، وكيف بك إذا كان كذا) إذا المعنى خرجت ، فإذا زيد وكيف أنت إذا كان كذا (ومنه عند سيبويه) قوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ٥ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (٦) [القلم : ٥ ـ ٦] أي : بأيكم المجنون ، لأنه فتن أي : محن بالجنون (وقال : أبو الحسن) الأخفش (بأيكم متعلق باستقرار محذوف مخبر به عن المفتون) فليست الباء فيه كما قال سيبويه (ثم اختلف) على قول الأخفش (فقيل : المفتون مصدر بمعنى الفتنة) ومجيء صيغة مفعول للمصدر لم يثبته سيبويه ، وأثبته غيره مع الاعتراف بقلته كالميسور بمعنى اليسر والمعسور بمعنى العسر المجلود بمعنى الجلد والموضوع بمعنى الوضع والمرفوع بمعنى الرفع ، والمعقول بمعنى العقل (وقيل : الباء ظرفية) والمفتون اسم مفعول لا مصدر (أي : في أي طائفة منكم المفتون) وقضية هذا أن الباء على القول الأول وهو جعل المفتون مصدرا بمعنى الفتنة ، ويحتمل أن تكون للسببية أو للإلصاق على ذلك القول فتأمله.

(تنبيه : من الغريب أنها زيدت فيما أصله المبتدأ وهو اسم ليس بشرط أن يتأخر إلى موضع الخبر) ، وكأن السر في ذلك أنه حينئذ يكتسب شبها بالخبر من حيث الصورة بسبب حلوله في محله ، فيجسر ذلك على زيادة الباء فيه كما تزاد في الخبر ، (كقراءة بعضهم (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) بنصب البر ، وقوله :

٤٠٥

١٦٠ ـ أليس عجيبا بأنّ الفتى

يصاب ببعض الّذي في يديه

والرابع : الخبر ، وهو ضربان : غير موجب فينقاس نحو : «ليس زيد بقائم» ، (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) [البقرة : ٧٤ ، ٨٥ ، ١٤٠] ، وقولهم : «لا خير بخير بعده النار» إذا لم تحمل على الظرفيّة ؛ وموجب فيتوقّف على السماع ، وهو قول الأخفش ومن تابعه ، وجعلوا منه قوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) [يونس : ٢٧] وقول الحماسي [من الوافر] :

______________________________________________________

أليس عجيبا بأن الفتى

يصاب ببعض الذي في يديه) (١)

الفتى بالقصر الشاب ، والسخي الكريم ، وبالمد الشباب.

(والرابع) من مواضع الزيادة (الخبر وهو ضربان : غير موجب فينقاس) دخول الباء الزائدة عليه ، وظاهر هذا العموم فيشمل خبر الفعل الناسخ المنفي كقوله :

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل (٢)

قال ابن قاسم : وظاهر كلام بعضهم أن هذا يجوز القياس عليه (نحو : ليس زيد بقائم) ، ولو مثل بنحو : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] لكان أولى جريا على عادته في عدم العدول عن الآيات (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) والظاهر أنه لا فرق بين ما الحجازية وما التميمية في ذلك ، وسيأتي فيه كلام (و) نحو (قولهم : لا خير بخير بعده النار إذا لم تحمل) الباء (على الظرفية) وحملها عليها في ذلك هو الظاهر كما قال الرضي ، وكان الأولى التمثيل لذلك بما هو متعين فيه كقوله :

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب (٣)

والفتيل ما في شق النواة وما فتلته بين أصابعك من الوسخ ، وهو موضوع موضع المصدر في قولك : ما أغنى فلان عن فلان فتيلا ، أو ما أغنى غناء حقيرا فكيف يغني غناء منتفعا به (وموجب فيتوقف على السماع ، وهو) أي : القول بزيادتها فيه موقوفة على السماع (قول الأخفش ومن تابعه) ، والجمهور لا يجوزون زيادتها في الخبر الموجب أصلا ولا يثبتون سماعه (وجعلوا) أي : الأخفش ومتابعوه (منه) أي : من هذا القسم قوله تعالى : ((وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) [يونس : ٢٧] وقول الحماسي) :

__________________

(١) البيت من البحر المتقارب ، وهو لمحمود الوراق النحاس في البيان والتبيين ٣ / ١٩٧ ، وبلا نسبة في شرح التصريح ١ / ٢٠١.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للشنفري في ديوانه ص ٥٩ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٤٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٢٤ ، وأوضح المسالك ١ / ٢٩٥.

(٣) البيت من البحر الطويل ، انظر : المنتظم ٢ / ٣٤٥ ، والبداية والنهاية ٢ / ٣٣٥.

٤٠٦

١٦١ ـ [فلا تطمع ، أبيت اللّعن ، فيها]

ومنعكها بشيء يستطاع

والأولى تعليق (بِمِثْلِها) باستقرار محذوف هو الخبر ، و «بشيء» بـ «منعكها» ، والمعنى : ومنعكها بشيء مّا يستطاع ؛ وقال ابن مالك في «بحسبك زيد» إن «زيدا» مبتدأ مؤخّر ، لأنه معرفة و «حسب» نكرة.

______________________________________________________

فلا تطمع أبيت اللعن فيها

(ومنعكها بشيء يستطاع) (١)

والظاهر أن الواو حالية وذو الحال إما فاعل تطمع أو مجرور في ، ولا تكون عاطفة لما يلزم عليه من عطف الخبر على الإنشاء.

(والأولى تعليق بمثلها باستقرار محذوف هو الخبر) ، وقد صرح المصنف في الباب الثاني حيث تكلم على جمل الاعتراض ، بأن الأظهر أن الذين ليس مبتدأ بل هو معطوف على الذين الأولى ، أي : للذين أحسنوا وزيادة ، (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ،) وذلك من العطف على معمولي عاملين عند الأخفش ، وعلى إضمار الجار عند سيبويه والمحققين ، ورجحه بأن الظاهر أن الباء في بمثلها متعلقة بالجزاء ويكون جزاء عطفا على الحسنى ، فلا يحتاج إلى تقدير ، فبين اختياريه تعارض ، (و) تعليق (بشيء بمنعكها والمعنى : ومنعكها بشيء ما يستطاع) وأجاز ابن جني الوجهين فقال : هي زائدة والمعنى ومنعكها شيء يستطاع أي : أمر مطاق غير باهظ أي : فاله عنه ولا تعلق فكرك بها ، ويجوز أن يريد ومنعكها بمعنى من المعاني مما يستطاع ، وذلك المعنى إما غلبة ومعازة لك أو فداء نفديها به منك ، فيكون المعنى قريبا من الأول إلا أنه ألين جانبا منه ، فالباء على هذا متعلقة بنفس المصدر ومن صلته ، قال : ويجوز أيضا أن تكون متعلقة بنفس يستطاع أي : يستطاع بمعنى من المعاني ويقدر عليه ، (وقال ابن مالك في بحسبك زيد : إن زيد مبتدأ مؤخر ، لأنه معرفة وحسبك نكرة) فيكون خبرا لذلك المبتدأ ، فقال : بزيادة الباء في الخبر الموجب ، قلت : وقد سمع زيادتها في خبر لكن مع أنه موجب قال :

ولكن أجرا لو فعلت بهين

وهل ينكر المعروف في الناس والأجر (٢)

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لعبيدة بن ربيعة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٢١١ ، ولرجل من تميم في تلخيص الشواهد ص ٨٩ ، وله أو لعبيدة بن ربيعة في خزانة الأدب ٥ / ٢٦٧.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٢٦ ، وأوضح المسالك ١ / ٢٩٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥٢٣.

٤٠٧

والخامس : الحال المنفي عاملها ، كقوله [من الوافر] :

١٦٢ ـ فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيّب منتهاها

وقوله [من البسيط] :

١٦٣ ـ [كائن دعيت إلى بأساء داهمة]

فما انبعثت بمزؤود ولا وكل

______________________________________________________

(الخامس) من أماكن الزيادة (الحال المنفي عاملها) وهذا القيد يظهر أن في اعتباره خلافا فقد وقع في «البحر» لأبي حيان ما معناه : أنه لو قيل في قوله تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [البقرة : ٢١٢] إنه يجوز كون الجار والمجرور راجعا للفعل أو الفاعل أو المفعول ، والتقدير : إما رزقا غير ذي حساب أو يرزق غير محاسب للمرزوق ، أو يرزق من يشاء غير محاسب ذلك المرزوق. اه ، وعليهن فالباء زائدة في الحال وصاحبها مختلف أما على الأول فهو ضمير الرزق ، وأما على الأخيرين فهو ضمير الفاعل والمفعول ، وذلك دليل على أن هذا القائل لا يشترط النفي ، وأضعفهن الأول لاشتماله على ما اشتمل عليه الآخران من زيادة الباء ، وعلى تقدير مفعول مطلق ، والتقدير يرزقه أي : الرزق ، وعلى تقدير مضاف أي : غير ذي حساب ، وقد يقال : وعلى الأخيرين يجب تقدير الوصف مكان المصدر ، وعلى الجملة ففي الأول ثلاثة لا اثنان ولا واحد ، رجعنا إلى كلام المصنف قال : في حواشيه على «التسهيل» ، وإنما جاز جر الحال بالباء الزائدة من حيث هي خبر في المعنى ، وإنما اشترط تقدم النفي ؛ لأن ذلك شرط الزيادة في الخبر ، وإنما كان الجر قبل الجر هنا بالباء لأن المشبه بالشيء ينقص عنه (كقوله :

فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيب منتهاها) (١)

الخيبة حرمان المطلوب ، والركاب الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة ، ولا واحد لها من لفظها كذا في «الصحاح» وأعرفهم ضبطوا والد سعيد بن المسيب بفتح الياء المشددة وكسرها ، وأما والد حكيم هذا فلا أتحقق ضبطه ، ومعنى البيت أن الركاب التي منتهاها هذا الرجل لم ترجع خائبة ، بل رجعت بالظفر بالمقصود ونيل المطلوب ، (وقوله) :

كائن دعيت إلى بأساء داهمة

(فما انبعثت بمزؤود ولا وكل) (٢)

كائن بمعنى كم وستأتي في حرفها ، والبأساء الشدة قال الأخفش : مبني على فعلاء وليس

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو للعجيف العقيلي في خزانة الأدب ١٠ / ١٣٧ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٧٧ ، والجنى الداني ص ٥٥.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٦.

٤٠٨

ذكر ذلك ابن مالك ، وخالفه أبو حيان ، وخرّج البيتين على أن التقدير : بحاجة خائبة ، وبشخص مزؤود أي : مذعور ، ويريد بالمزؤود نفسه ، على حد قولهم : «رأيت منه أسدا». وهذا التّخريج ظاهر في البيت الأول دون الثاني ، لأن صفات الذم إذا نفيت على سبيل المبالغة لم ينتف أصلها ؛

______________________________________________________

له أفعل ، لأنه اسم كما يجيء أفعل في الأسماء ليس معه فعلاء نحو أحمد ، ومعنى داهمة آتية على بغتة وانبعثت أسرعت ، والمزؤد المذعور الخائف والوكل بفتح الواو والكاف العاجز الذي يكل أمره إلى غيره ، (ذكر ذلك ابن مالك ، وخالفه أبو حيان ، وخرج البيتين على أن التقدير) فما رجعت (بحاجة خائبة) فالباء للإلصاق أو للمصاحبة ، لكن هذا فيه حذف الموصوف من غير دليل ، وقد يخرج على جعل رجع من أخوات كان ، فالباء زائدة في الخبر على حد لم أكن بأعجلهم ، (وبشخص مزؤد أي : مذعور ويريد بالمزؤد نفسه على حد قولهم : رأيت به أسدا) فيكون من التجريد ، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه ، والباء حينئذ للملابسة والمصاحبة كما في قوله :

وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرحل (١)

أي فرس قبيح لسعة أشداقه كذا في شرح «التلخيص» للتفتازاني ، وقال ابن السبكي : الشوهاء صفة محمودة في الفرس ، ويقال : يراد بها سعة أشداقها وتعدو تسرع ، وصارخ الوغى المستغيث في الحرب ، والفنيق الفحل الذي لا يؤذي ولا يركب لكرامته على أهله ، والمرحل المرسل السائر ، أي : تعدو بي هذه الفرس ومعي من نفسي مستعد للحرب بالغ في استعداده للحرب حتى انتزع منه آخر مستعدا لها ، (وهذا التخريج) الذي ذكره أبو حيان (ظاهر في البيت الأول) وقد عرفت ما عليه من حيث إن حذف الموصوف مشروط بأن يعلم جنسه ، ولا دليل عليه في البيت مع أن المصنف استظهر التخريج على ذلك فيه (دون الثاني ؛ لأن صفات الذم إذا نفيت على سبيل المبالغة لم ينتف أصلها) وينبغي أن لا يتعلق الجار من قوله على سبيل المبالغة بنفيت ؛ لأنه ليس المراد أن نفيها مبالغ فيه ، وإنما يتعلق بمحذوف هو حال من ضمير نفيت العائد على الصفات ، وهذا الحكم ليس مخصوصا بصفات الذم بل هو جار في كل مقيد بقيد إذا دخل عليه النافي ، مثل ما جئت راكبا فيرجع النفي إلى القيد فقط ، ويثبت أصل الفعل فيكون المعنى في المثال المذكور جئت غير راكب ، وقد ذكر في قوله تعالى : (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٤٩٩ ، بلفظ (المدجّل) وشرح عمدة الحافظ ص ٥٨٩ ، وبلا نسبة في المقاصد النحوية ٤ / ١٩٥.

٤٠٩

ولهذا قيل في : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] إنّ «فعّالا» ليس للمبالغة بل للنسب كقوله [من الطويل] :

١٦٤ ـ [وليس بذي رمح فيطعنني به]

وليس بذي سيف وليس بنبّال

أي : وما ربّك بذي ظلم ؛ لأنّ الله لا يظلم الناس شيئا. ولا يقال : لقيت منه أسدا أو بحرا أو نحو ذلك إلا عند قصد المبالغة في الوصف بالإقدام أو الكرم.

والسادس : التوكيد بـ «النفس» و «العين» ، وجعل منه بعضهم قوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] ، وفيه نظر ؛ إذ حق الضمير المرفوع المتّصل المؤكد بـ «النفس» أو بـ «العين» أن يؤكّد أوّلا بالمنفصل ، نحو : «قمتم أنتم أنفسكم» ،

______________________________________________________

(وَعُمْياناً) [الفرقان : ٧٣] أنه نفي للصمم والعمى وإثبات للخرور هذا هو الأكثر ، وقد يقصد نفي الفعل والقيد جميعا بمعنى انتفاء كل من الأمرين فيكون قولك : ما جئت راكبا بمعنى لا مجيء ولا ركوب ، (ولهذا قيل في (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) إن فعالا هنا ليس للمبالغة) ؛ لئلا يتسلط النفي على شدة الظلم وكثرته فقط ، فيثبت أصل الظلم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، (وإنما هو للنسب كقوله) أي قول امرىء القيس :

(وليس بذي سيف وليس بنبال) (١)

أي بذي نبل فتخرج الآية عليه (أي : وما ربك بذي ظلم) فينتفي الظلم رأسا ، (ولا يقال : لقيت منه أسدا أو بحرا أو نحو ذلك إلا عند قصد المبالغة في الوصف) بالإقدام والشجاعة في قولك : رأيت منه أسدا ، (والكرم) في قولك : رأيت منه بحرا.

(والسادس) من محال زيادة الباء (التأكيد بالنفس والعين) نحو : جاء زيد بنفسه وذهب عمرو بعينه ، ولم يحكوا خلافا في جواز زيادة الباء في ذلك ، لكن وقع في شرح «الملحة» للحريري أجاز بعضهم زيادة الباء في النفس والعين ، فأشعر بخلاف في ذلك ، (وجعل منه بعضهم) (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] (وفيه نظر إذ حق الضمير المرفوع المتصل المؤكد بالنفس أو العين أن يؤكد أولا بالمنفصل ، نحو قمتم أنتم أنفسكم) وليس حقه ذلك على التعيين ، بل حقه أحد أمرين إما التأكيد وإما الفصل ، نص عليه أبو حيان في «الارتشاف» فيصح أن يقال : جئتم يوم الجمعة نفسكم ، ويمكن هنا أن يقال اكتفى بالباء الزائدة

__________________

(١) عجز بيت من البحر الطويل ، صدره : وليس بذي رمح فيطعنني به ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب ١١ / ٦٤٢ (نبل) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٣٣٩.

٤١٠

ولأنّ التوكيد هنا ضائع ؛ إذ المأمورات بالتربّص لا يذهب الوهم إلى أن المأمور غيرهن ، بخلاف قولك : «زارني الخليفة نفسه» ؛ وإنما ذكر «الأنفس» هنا لزيادة البعث على التربّص ؛ لإشعاره بما يستنكفن منه طموح أنفسهنّ إلى الرجال.

* * *

تنبيه ـ مذهب البصريّين أن أحرف الجرّ لا ينوب بعضها عن بعض بقياس ، كما أن أحرف الجزم وأحرف النصب كذلك ، وما أوهم ذلك فهو عندهم إمّا مؤوّل تأويلا يقبله اللفظ ، كما قيل في : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] : إن «في» ليست بمعنى «على» ، ولكن شبّه المصلوب لتمكّنه من الجذع بالحالّ في الشيء ؛ وإما على تضمين

______________________________________________________

في الفصل ، كما يكتفي بلا الزائدة في العطف نحو ما قمتم ولا زيد ، (ولأن التأكيد هنا ضائع إذ المأمورات بالتربص ، لا يذهب الوهم إلى أن المأمور غيرهن ، بخلاف قولك : زارين الخليفة) إذ قد يذهب الوهم إلى أن الزائر غلامه مثلا لا هو نفسه ، فإذا أكد مثل هذا النفس كان للتأكيد فائدة ، وهو رفع ذلك الأمر المتوهم ، وأما في الآية فليس كذلك ، ولقائل أن يمنع عدم ذهاب الوهم إلى أن المأمور بالتربص زمن العدة غير المطلقات ، فقد قال علماء الحنفية : إن الزوج إذا طلق الرابعة ثلاثا لا يتزوج الخامسة حتى تقتضي عدة هذه ، وكذا لو أراد نكاح أختها لم يجز له أن يتزوجها حتى تنقضي عدة الأخت المطلقة ، فقد أمر الزوج المطلق أن يتربص زمن العدة ، فلم لا يمكن ذهاب الوهم إلى أزواجهن فيرفع بذكر الأنفس ، (وإنما ذكر) الله تعالى (الأنفس هنا لزيادة البعث على التربص ، لإشعاره بما يستنكفن منه) أي : يستكبرن عنه (من طموح أنفسهن إلى الرجال) ، أي : تطلعها في ارتفاع من قولك : طمح بصره إلى كذا أي : ارتفع وهذا معنى كلام الزمخشري ، فإنه قال في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص ، وزيادة بعث ؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن ، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ، ويجبرنها على التربص.

(تنبيه : مذهب البصريين أن أحرف الجر لا ينوب بعضها عن بعض بقياس ، كما أن أحرف الجزم وأحرف النصب كذلك ، وما أوهم ذلك) أي : وقوع نيابة حرف جر عن حرف جر آخر (فهو عندهم إما مؤول تأويلا يقبله اللفظ كما قيل في) قوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] إن في ليست بمعنى على كما يقوله جماعة ، (ولكن شبه المصلوب لتمسكه في الجذع بالحال في الشيء) فأتى بفي على طريق الاستعارة التبعية ، وفي «الكشاف» شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعاية فلذلك قيل : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (وأما على تضمين

٤١١

الفعل معنى فعل يتعدّى بذلك الحرف ، كما ضمّن بعضهم «شربن» في قوله [من الطويل] :

شربن بماء البحر

معنى روين ، و «أحسن» في (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) [يوسف : ١٠٠] معنى : «لطف» ؛ وإمّا على شذوذ إنابة كلمة عن أخرى ، وهذا الأخير هو محمل الباب كله عند أكثر الكوفيّين وبعض المتأخّرين ، ولا يجعلون ذلك شاذّا ، ومذهبهم أقلّ تعسفا.

* * *

* (بجل) على وجهين : حرف بمعنى ، «نعم» ، واسم ، وهي على وجهين : اسم فعل بمعنى : «يكفي» ، واسم مرادف لـ «حسب» ، ويقال على الأول : «بجلني» وهو نادر ،

______________________________________________________

الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف ، كما ضمن بعضهم شربن في قوله :

شربن بماء البحر

معنى روين) فعداه بالباء كما يعدى روى به ، (وأحسن في) في قوله تعالى : ((وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) [يوسف : ١٠٠] معنى لطف) فجيء بالباء كما تجيء في قولك : لطف بي ، (وأما على شذوذ إنابة كلمة عن أخرى) حيث لا يكون للتأويل المقبول مجال ، وحيث لا يتأتى التضمين ، (وهذا الأخير) وهو جعل الكلمة نائبة عن أخرى (هو محمل الباب كله عند الكوفيين وبعض المتأخرين ، ولا يجعلون ذلك شاذا) ، وهذا موجب لما قلناه من جعل الإشارة في قوله : وهذا الأخير إلى كون الكلمة نائبة عن أخرى ، ولو جعلت راجعة إلى شذوذ الإنابة لنافى آخر الكلام أوله ، (ومذهبهم أقل تعسفا) وهذا جنوح من المصنف إلى مخالفة البصريين ، قلت : وكان حق هذا التنبيه أن يكون إما مذكورا عقيب كلامه على إلى في حرف الألف ؛ لأن ذلك أول موضع وقع فيه الكلام في نيابة بعض أحرف الجر عن بعض ، وإما مذكورا عند الكلام على الحرف الأخير من حروف الجر التي تقع فيها النيابة ، هذا الذي تقتضيه صناعة التصنيف ، والأمر في ذلك قريب.

(بجل)

(على وجهين) وهذا خبر عن المبتدأ الذي هو بجل وقوله : (حرف بمعنى نعم ، واسم) خبر آخر ؛ ولا يصح فيه الجر على البدلية من مجرور على (وهي) أي : وبجل التي هي اسم (على وجهين : اسم فعل بمعنى يكفي واسم مرادف لحسب) ، والكلام في إعراب هذا كالمتقدم (يقال على الأول) وهو كونها اسم فعل بمعنى يكفي (بجلني) بلحاق نون الوقاية (وهو نادر) نعم إذا كانت بمعنى حسب جاز الأمران إلا أن ترك النون أعرف من إثباتها ، فندور بجلني بالنون إنما هو إذا كانت بمعنى حسب لا بمعنى يكفي ، قال ابن قاسم في «الجنى الداني» : وأما بجل الاسمية فلها قسمان :

٤١٢

وعلى الثاني : «بجلي» ، قال [من الطويل] :

١٦٥ ـ [ألا إنّني أشربت أسود حالكا]

ألا بجلي من ذا الشّراب ألا بجل

* (بل) حرف إضراب ، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما الإبطال ، نحو : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦) [الأنبياء : ٢٦] أي بل هم عباد ،

______________________________________________________

أحدهما أن تكون اسم فعل بمعنى يكفي فتلحقها نون الوقاية مع ياء المتكلم ، فيقال : بجلني ، والثاني أن تكون اسما بمعنى حسب ، فتكون الباء المتصلة بها مجرورة الموضع ، ولا تلحقها نون الوقاية ، وذكروا أنها تلحقها قليلا ، فإن قلت في «التسهيل» في نون الوقاية وحذفها مع لدن وأخوات ليت جائز ، وهو مع بجل ولعل أعرف من الثبوت فأطلق في بجل ، ولعله مستند المصنف قلت : لم يذكر ابن مالك في هذا الفصل مجيء بجل اسم فعل بمعنى يكفي ، وإنما ذكرها حيث تكون ياء المتكلم في محل جر بها ، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت بمعنى حسب ، فإن قلت : لعل قول المصنف وهو نادر إنما يرجع إلى استعمال بجل اسم فعل ، فلا يرد هذا ، قلت : لا نسلم أن استعماله كذلك نادر ولو ثبت بالنقل ندوره لم ينبغ للمصنف إيراد هذا الحكم في هذا المحل وإنما موضع إيراده عند قوله اسم فعل.

(و) يقال (على الثاني) وهو استعمالها بمعنى حسب بدون نون الوقاية (بجلي قال : ألا بجلي من ذا الشراب ألا بجل) (١)

وقد تقدم أنها تستعمل مع نون الوقاية إذا كانت بهذا المعنى إلا أن ذلك قليل ، وفي «الصحاح» : وبجل بمعنى حسب قال الأخفش : هي ساكنة أبدا يقولون بجلك كما يقولون قطك إلا أنهم لا يقولون بجلني كما يقولون قطني ولكن يقولون : بجلي أي : حسبي قال لبيد:

فمتى أهلك فلا أحفله

بجلي الآن من العيش بجل (٢)

(بل)

(حرف إضراب فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما الإبطال نحو (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] أي بل هم) أي : الملائكة الذين زعم القائلون المفترون أنهم بنات الله سبحانه وتعالى (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) مقربون وليسوا بأولاد ؛ إذ العبودية تنافي الولادة ، قيل في الآية : وإن لم يقع بعدها في اللفظ إلا مفرد لكن هذا المفرد خبر مبتدأ

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لطرفة بن العبد في لسان العرب ، مادة (سود).

(٢) البيت من البحر الرمل ، وهو للبيد في لسان العرب ، مادة (حفل).

٤١٣

ونحو : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) [المؤمنون : ٧٠] ، وإما الانتقال من غرض إلى آخر. ووهم ابن مالك إذ زعم في شرح كافيته أنها لا تقع في التنزيل إلا على هذا الوجه ، ومثاله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ١٤ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ١٥ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) [الأعلى : ١٤ ـ ١٦] ، ونحو : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٦٢ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) [المؤمنون : ٦٢ ـ ٦٣] ، وهي في ذلك كله حرف ابتداء لا عاطفة على الصحيح ، ومن دخولها على الجملة قوله [من الرجز] :

١٦٦ ـ بل بلد ملء الفجاج قتمه

[لا يشترى كتّانه وجهرمه]

______________________________________________________

محذوف ، فالواقع في التحقيق بعدها جملة اسمية (نحو (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) [المؤمنون : ٧٠]) فوقع بعدها جملة فعلية ومعنى الإبطال في الآيتين ظاهر.

(وإما الانتقال من غرض إلى آخر) مع عدم إرادة إبطال الكلام الأول المنتقل عنه ، (ووهم ابن مالك إذ زعم في «شرح كافيته» أنها لا تقع في التنزيل إلا على هذا الوجه) ومحمل كلامه هذا على أنها لا تقع بيقين في القرآن إلا للتنبيه على انتهاء أمر واستئناف غيره ، فلا يتم توجيهه بتينك الآيتين الشريفتين ، إذ ليس الإضراب على وجه الإبطال متعينا في شيء منهما ؛ لاحتمال أن يكون الإضراب فيهما عن القول ، لا عن المقول المحكي ، ولا شك أن الإخبار بصدور ذلك منهم ثابت لا يتطرق إليه الإبطال بوجه ، فيكون الإضراب فيهما لمجرد الانتقال من أمر إلى استئناف أمر آخر ، (ومثاله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ١٤ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ١٥ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (١٦) [الأعلى : ١٤ ـ ١٦] ونحوه : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٦٢ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) [المؤمنون : ٦٢ ـ ٦٣]) (مِنْ هذا) فالإضراب فيها لمجرد الانتقال من غير إبطال ، (وهي) أي بل (في ذلك كله) حيث تليها جملة وتكون هي للإبطال ، أو لمجرد الانتقال (حرف ابتداء لا عاطفة على الصحيح) وظاهر كلام ابن مالك أنها عاطفة ، وصرح به ولده بدر الدين في شرح الألفية ، وكذا صاحب «رصف المباني» فيما نقله ابن قاسم (ومن دخولها على الجملة قوله :

بل بلد ملء الفجاج قتمه) (١)

الفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع بين الجبلين كذا في «الصحاح» ، وأما قتمه فيحتمل أن يكون بفتح القاف والتاء كما في قول الحماسي :

__________________

(١) صدر بيت من الرجز ، عجزه : لا يشترك كتانه وجهرمه ، وهو لرؤبة في ديوانه ص ١٥٠ ، والدرر ١ / ١١٤ ، وبلا نسبة في الإنصاف ص ٢٢٥.

٤١٤

إذ التقدير : بل ربّ بلد موصوف بهذا الوصف قطعته. ووهم بعضهم فزعم أنها تستعمل جارّة.

وإن تلاها مفرد فهي عاطفة ؛ ثم إن تقدّمها أمر أو إيجاب

______________________________________________________

كأنها الأسد في عرينتهم

ونحن كالليل جاش في قتمه (١)

العرين المحل الذي يأوى إليه الأسد وكذا العرينة ، قال الجوهري : وأصل العرين جماعة الشجر ، وجاش كأنه مستعار من قولهم : جاش البحر إذا زخر وجاشت القدر إذا غلت ، والقتم السواد ، قال ابن جني : ينبغي أن يكون أراد في قتامه فحذف الألف تخفيفا ، كما روينا عن قطرب من قول الشاعر :

ألا لا بارك الله في سهيل

إذا ما الله بارك في الرجال (٢)

وكما قال الآخر :

مثل النقى لبده ضرب من الظلل (٣)

يريد الظلال ، وقد يجوز أن يكونا لغتين فعلا وفعالا كزمن وزمان ، وقال الإمام المرزوقي : والقتام والقتم والقتمة تجيء في الظلمة والغبار والريح ، وجاء الفعل منه فقيل : قتم يقتم قتما وقتاما ، وذكر بعضهم أنه أراد القتام وحذف الألف كما قال :

ألا لا بارك الله في سهيل (٤)

ومصدر ما كان على فعل الفعل في الأكثر فلا أدري لم أنكره حتى اعتذر بما ذكره ؛ (إذ التقدير) تعليل لدخولها على الجملة في البيت المذكور ، أي : لأن التقدير (بل رب بلد موصوف بهذا الوصف قطعته) فبلد مجرور برب ، والمتعلق محذوف فثبت وقوع الجملة فيه بعد بل ، (ووهم بعضهم فزعم أنها تستعمل جارة) بمنزلة رب قد ، حكى ابن مالك وابن عصفور الاتفاق على أن الجر بعد بل لا بها ، وقال الرضي : أما الفاء وبل فلا خلاف عندهم أن الجر ليس بهما بل برب المقدرة بعدهما ، (وإن تلاها مفرد فهي عاطفة ، ثم إن تقدمها أمر أو إيجاب) أي : أو

__________________

(١) البيت من البحر المنسرح ، وهو لرجل من حمير في ديوان الحماسة ١ / ١٢٢.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٣٤١ ، ولسان العرب ١٣ / ٤٧١ (أله) ، وتاج العروس (أله).

(٣) البيت من البحر البسيط ، وهو لابن الأعرابي في لسان العرب مادة طلل. وبلا نسبة في الخصائص ٣ / ١٣٤.

(٤) تقدم تخريجه.

٤١٥

كـ «اضرب زيدا بل عمرا» ، و «قام زيد بل عمرو» ، فهي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه ، فلا يحكم عليه بشيء ، وإثبات الحكم لما بعدها ، وإن تقدّمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حالته ، وجعل ضدّه لما بعده ، نحو : «ما قام زيد بل عمرو» و «لا يقم زيد بل عمرو» ، وأجاز المبرّد وعبد الوارث أن تكون ناقلة معنى النفي والنهي إلى ما بعدها ، وعلى قولهما ، فيصبح «ما زيد قائما بل قاعدا ، وبل قاعد» ويختلف المعنى ؛ ومنع الكوفيون أن يعطف بها بعد غير النفي وشبهه ، قال هشام : محال : «ضربت زيدا بل إياك» اه.

ومنعهم ذلك

______________________________________________________

خبر موجب (كاضرب زيدا بل عمرا وقام زيد بل عمرو) على طريق النشر المطابق للف في الترتيب (فهي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه ، فلا يحكم عليه بشيء) فزيد في المثالين كالمسكوت عن الأمر بضربه ، والإخبار بقيامه ، (وإثبات الحكم لما بعدها) فعمرو في ذينك المثالين هو المأمور بضربه والمخبر بقيامه ، (وإن تقدمها نفي أو نهي ، فهي لتقرير ما قبلها على حالته وجعل ضده لما بعدها ، نحو ما قام زيد بل عمرو ولا يقم زيد بل عمرو) ، ففي المثال الأول قررت نفي القيام لزيد وأثبتت القيام لعمرو ، وفي المثال الثاني قررت النهي عن ضرب زيد وأثبتت الأمر بضرب عمرو ، وهذا هو ظاهر كلام ابن الحاجب وابن مالك ، وظاهر كلام الأندلسي أن معنى الإضراب جعل الحكم الأول موجبا كان أو غير موجب كالمسكوت عنه ، ففي قولك : ما جاءني زيد بل عمرو أفادت بل أن الحكم على زيد بعدم المجيء كالمسكوت عنه ، يحتمل أن يصح فيكون قد جاءك كما أن الأمر كذلك مع الإيجاب ، (وأجاز المبرد وعبد الوارث أن تكون ناقلة معنى النفي والنهي إلى ما بعدها) هذا مع موافقتهما للجمهور فيما تقدم ، فالأمران جائزان عندهما على ما صرح به ابن قاسم في «الجنى الداني» ، قلت : وقد صرح ابن مالك بأن ما جوزاه مخالف لاستعمال العرب (وعلى قولهما) يتأتى التفريع (فيصح ما زيد قائما بل قاعدا) بالنصب عطفا على الخبر والإيجاب ؛ لأنها نقلت معنى النفي إلى ما بعدها ، (وبل قاعد) بالرفع على أنها جعلت ضد النفي لما بعدها فهو مثبت ، لكن لا يصح العطف على الخبر ضرورة أن ما لا تعمل عند انتقاض النفي ، فيكون المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف ، أي : بل هو قاعد وحينئذ لا تكون عاطفة لوقوع الجملة بعدها ، ويخرج عما الكلام فيه وهو حيث يتلوها مفرد فتكون عاطفة فتأمله ، (ويختلف المعنى) إذ القعود منفي على التقدير الأول مثبت على التقدير الثاني ، (ومنع الكوفيون أن يعطف بها بعد غير النفي) نحو : ما قام زيد بل عمرو ، (وشبهه) نحو : لا يقم بكر بل خالد ، (قال هشام : محال ضربت زيدا بل إياك. اه ، ومنعهم ذلك

٤١٦

مع سعة روايتهم دليل على قلّته.

وتزاد قبلها «لا» لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب ، كقوله [من الخفيف] :

١٦٧ ـ وجهك البدر ، لا ، بل الشّمس

يقض للشّمس كسفة أو أفول

ولتوكيد تقرير ما قبلها بعد النفي ،

______________________________________________________

مع سعة روايتهم دليل على قلته) إن قصد بذلك الرد على الجمهور فيلزم القدح في كل ما منعه فريق من أهل البلدين ، وأجازه الفريق الآخر فتأمله (وتزاد قبلها لا لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب كقوله :

وجهك البدر لا بل الشمس لو لم

يقض للشمس كسفة وأفول) (١)

أظن الكسفة بفتح الكاف فعلة من الكسوف وهو التغير إلى السواد ، والأفول الغيبوبة وهذا هو المسمى عند أهل البيان بالتشبيه المشروط كقوله :

عزماته مثل النجوم ثواقبا

لو لم يكن للثاقبات أفول (٢)

وما أحسن قول بديع الزمان :

وكاد يحكيك صوت الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيا بمطر الذهبا

والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت

والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا (٣)

(ولتوكيد تقرير ما قبلها بعد النفي) ففي مثل قولك : ما قام زيد لا بل عمرو تكون لا مزيدة لتوكيد تقرير نفي القيام عن زيد ، قال الرضي : وإذا ضممت لا إلى بل بعد الإيجاب أو الأمر نحو : قام زيد لا بل عمرو ، واضرب زيدا لا بل عمرا ، فمعنى لا يرجع إلى ذلك الإيجاب والأمر المتقدم لا إلى ما بعد بل ، ففي قولك : لا بل عمرو نفيت بلا القيام عن زيد وأثبته لعمرو ، ولو لم تجىء بلا لكان قيام زيد في حكم المسكوت عنه يحتمل أن يثبت ، وأن لا يثبت وكذا في اضرب زيدا لا بل عمرا ، أي : لا تضرب زيدا بل اضرب عمرا ولو لا لا المذكورة لاحتمل أن يكون أمرا بضرب زيد ، وأن لا يكون مع الأمر بضرب عمرو. اه كلامه ، وهو نص

__________________

(١) البيت من البحر الخفيف ، وهو بلا نسبة في الدرر ٦ / ١٣٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٦.

(٢) البيت من البحر الرجز ، وهو للجاحظ في الإيضاح (٢٤٦).

(٣) البيت من البحر البسيط ، وهو لبديع الزمان الهمذاني في شذرات الذهب ٢ / ١٥٠ ووفيات الأعيان ١ / ١٢٨ ، وقرى الضيف ٤ / ٣٣٦ ، والنجوم الزاهرة ٤ / ٢٩.

٤١٧

ومنع ابن درستويه زيادتها بعد النفي ، وليس بشيء ، لقوله [من البسيط] :

١٦٨ ـ وما هجرتك ، لا ، بل زادني

هجر وبعد تراخى لا إلى أجل

* (بلى) حرف جواب أصليّ الألف ، وقال جماعة : الأصل : «بل» ، والألف زائدة ، وبعض هؤلاء يقول : إنها للتأنيث ، بدليل إمالتها. وتختصّ بالنفي ،

______________________________________________________

في أن لا الواقعة قبل بل ليست زائدة ، بل أتى بها لتأسيس معنى لم يكن قبل وجودها ، وهو خلاف ما في المتن قلت : ووقع للمصنف في حرف اللام ، حيث ذكر شروط لا العاطفة أن قال : فإذا قيل جاءني زيد لا بل عمرو ، فالعاطف بل ولا رد لما قبلها ، وليست عاطفة هذا كلامه وهو صريح في أن لا في ذلك نافية لا زائدة ، فهو معارض لما هنا فتأمله ، (ومنع ابن درستويه زيادتها بعد النفي) لا بعد الإيجاب فيصح أن يقال : قام زيد لا بل عمرو ، ولا يصح ما قام زيد بل عمرو (وليس بشيء لقوله) بلام العلة.

(وما هجرتك لا بل زادني شغفا

هجر وبعد تراخي لا إلى أجل) (١)

وهذا قاطع في رد ما قاله ابن درستويه ، والشغف بالشين والغين المعجمتين المفتوحتين مصدر شغفة الحب إذا خرق شغاف قلبه حتى وصل إلى الفؤاد ، والشغاف حجاب القلب وقيل جلدة رقيقة يقال لها : لسان القلب والشعف بالعين المهملة أيضا.

(بلى)

(حرف جواب أصلي الألف) وهذا هو الظاهر (وقال جماعة : الأصل بل والألف زائدة) قال الفراء : زيدت للوقف فلذا كانت للرجوع عن النفي كما كانت للرجوع عن الجحد في ما قام زيد بل عمرو (وبعض هؤلاء) القائلين بزيادة الألف (يقول : إنها للتأنيث) أي : تأنيث الكلمة كالتاء في ربت وثمت (بدليل إمالتها) كإمالة ألف حبلى ، ولو كانت زائدة لمجرد التكثير كألف قبعثرى لم تمل.

(ويختص) إما بياء المضارعة التحتية على أنه مسند لضمير يعود على قوله حرف جواب ، والجملة صفة له أو على بلى بناء على تذكيره باعتبار اللفظ ، والجملة خبر ثان ، وإما بالتاء الفوقية على أنه مسند لضمير بلى بتاء التأنيث باعتبار الكلمة ، والجملة على هذا خبر ثان (بالنفي) فلا تقع بعد الإثبات ، وحكى الرضي عن بعضهم أنه أجاز استعمالها بعد الإيجاب تمسكا بقوله :

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في الدرر ٦ / ١٣٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٦.

٤١٨

وتفيد إبطاله ، سواء كان مجرّدا ، نحو : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي) [التغابن : ٧] أم مقرونا بالاستفهام ، حقيقيّا كان ، نحو : «أليس زيد بقائم» ، فتقول : بلى ، أو توبيخيّا ، نحو : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى) [الزخرف : ٨٠] ، (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى) [القيامة : ٣ ـ ٤] ؛ أو تقريريّا ، نحو : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ٨ قالُوا بَلى) [الملك : ٨ ـ ٩] ، (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرّد في ردّه بـ «بلى» ، ولذلك قال ابن عبّاس وغيره : لو قالوا : «نعم» لكفروا ، ووجهه أن «نعم» تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب ، ولذلك قال جماعة من الفقهاء : لو قال «أليس لي عليك ألف» ، فقال : «بلى» لزمته ، ولو قال : «نعم» لم تلزمه. وقال آخرون : تلزمه فيهما ،

______________________________________________________

وقد بعدت بالوصل بيني وبينها

بلى إن من زار القبور ليبعدا (١)

أي : ليبعدن بالنون الخفيفة ، وقد قال الرضي : واستعمال بلى في البيت لتصديق الإيجاب شاذ ، (وتفيد إبطاله سواء كان مجردا نحو (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى) [التغابن : ٧]) فيكون قوله تعالى بعد ذلك : (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) تصريحا بما أفادته بلى ، من إبطال النفي المتقدم (أم) كان (مقرونا بالاستفهام حقيقيا كان) ذلك الاستفهام (نحو) أن يقول قائل : (أليس زيد بقائم فتقول :) أنت في جوابه : (بلى) أي : هو قائم ، (أو توبيخا نحو) قوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى) [الزخرف : ٨٠] أي : بل نسمع ذلك ، فأبطلت النفي الذي تعلق به الحسبان الموبخ عليه ، ونحو قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) [القيامة : ٣] أي : الكافر المنكر البعث (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ٣ بَلى) [القيامة : ٣ ـ ٤] أي : بلى نجمعها ، (أو تقريريا نحو (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ٨ قالُوا بَلى) [الملك : ٨ ـ ٩]) أي : بل أتانا نذير (و) نحو (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] أي : بلى أنت ربنا (أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى ، ولذلك قال ابن عباس وغيره : لو قالوا نعم لكفروا ، ووجهه أن نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب) والواقع في الآية نفي ، فلو أجيب بنعم لكان معناه نعم لست بربنا ، وهو كفر والعياذ بالله ، (ولذلك قال جماعة من الفقهاء : لو قال : أليس لي عليك ألف؟ فقال : بلى لزمته) الألف ؛ لأن بلى تفيد إبطال النفي ، فكأنه قال : بلى لك علي ألف ، فهو إقرار بالألف فتلزمه ، (ولو قال : نعم لم تلزمه) ؛ إذ معناه نعم ليس لك على ألف ، وهذا ليس إقرارا بثبوت الألف عليه فلا تلزمه ، (وقال آخرون تلزمه) الألف (فيهما) أي :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى ٢ / ١٩٤ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢١٠.

٤١٩

وجروا في ذلك على مقتضى العرف لا اللغة ، ونازع السهيلي وغيره في المحكيّ عن ابن عبّاس وغيره في الآية مستمسكين بأن الاستفهام التقريريّ خبر موجب ، ولذلك امتنع سيبويه من جعل «أم» متّصلة في قوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ) [الزخرف : ٥١ ـ ٥٢] لأنها لا تقع بعد الإيجاب ، وإذا ثبت أنه إيجاب فـ «نعم» بعد الإيجاب تصديق له ، انتهى.

ويشكل عليهم أن «بلى» لا يجاب بها عن الإيجاب ، وذلك متّفق عليه ،

______________________________________________________

في الصورتين المذكور في إحداهما بلى ، وفي الأخرى نعم (وجروا في ذلك على مقتضى العرف) الجاري عندهم في ذلك (لا اللغة) ، والأقارير مبنية على ما هو مستعمل عند أهل العرف ، ولا يلزمون فيها إلا بما هو المتعارف بينهم ، قال ابن الحاجب : غير العرف نعم في الإيجاب نفي معه استفهام ، ولذلك لو قال شخص : نعم في جواب أليس لي عليك ألف ألزمناه بالألف تغليبا للعرف ؛ إذ المراد منه عرفا لك علي ألف ، والعرف مقدم على اللغة باعتبار أحكام الشرع ، ومستند إخراج العرف نعم عن وضعه الأصلي أن النفي الواقع بعد الاستفهام للتقرير ، فيكون موجبا من حيث المعنى ، (ونازع السهيلي وجماعة في المحكى عن ابن عباس وغيره في الآية) وهي (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] (متمسكين بأن الاستفهام التقريري خبر موجب ، ولذلك امتنع سيبويه من جعل أم متصلة في قوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ ٥١ أَمْ أَنَا خَيْرٌ) [الزخرف : ٥١ ـ ٥٢] فإنها لا تقع بعد الإيجاب) وهذا معارض لما حكاه في الكلام على أم عن سيبويه ، من أنه يراها في هذه الآية متصلة ، والحق ما ذكره هنا ، وقد أسلفنا نص سيبويه من أنه يراها في الكتاب في ذلك المحل ، وما ذكره في تعليل امتناع سيبويه من جعل أم متصلة في الآية المذكورة مبني على أن الاستفهام المفاد بالهمزة المعادلة لأم لا بد أن يكون حقيقيا ، وقد أسلفنا الكلام عليه ، (وإذا ثبت أنه إيجاب فنعم بعد الإيجاب تصديق له) فلا يلزم الكفر ، إذ مضمون ألست بربكم أنا ربكم ، فذكر نعم في جوابه تصديق له فلا يلزم كفر (اه) كلام هؤلاء الجماعة ، قال الرضي : وجوز بعضهم إيقاع نعم في موضع بلى إذا جاء بعد همزة داخلة على نفي ، لفائدة التقرير أي : الحمل على الإقرار والطلب له ، فيجوز أن يقول في جواب : ألست بربكم ، و (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] ، نعم ؛ لأن الهمزة للإنكار دخلت على النفي فأفادت الإيجاب ، فتكون نعم في الحقيقة للخبر المثبت المؤول به الاستفهام ، ولا تقريرا لما بعد همزة الاستفهام فلا تكون جوابا للاستفهام ، لكون ما بعد أداته فالذي قاله ابن عباس مبني على كون نعم تقريرا لما بعد الهمزة ، والذي جوزه هذا القائل مبني على كونه تقريرا لمدلول الهمزة مع حرف النفي فلا يتناقضان (ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب ، وذلك متفق عليه) ولا إشكال في الحقيقة ؛ فإن

٤٢٠