شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

وأنها مبتدأ ، و «أشدّ» خبر ، ثم اختلفوا في مفعول «ننزع» ، فقال الخليل : محذوف ، والتقدير : لننزعنّ الفريق الذي يقال فيهم أيهم أشدّ ، وقال يونس : هو الجملة ، وعلّقت «ننزع» عن العمل كما في (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢]. وقال الكسائي والأخفش : كل شيعة ، و «من» زائدة ، وجملة الاستفهام مستأنفة ؛ وذلك على قولهما في جواز زيادة «من» في الإيجاب. ويردّ أقوالهم أنّ التعليق مختصّ بأفعال القلوب ، وأنه لا يجوز «لأضربنّ الفاسق» بالرفع بتقدير الذي يقال فيه هو الفاسق ، وأنه لم يثبت زيادة من في الإيجاب ، وقول الشاعر [من المتقارب] :

١١٧ ـ إذا ما لقيت بني مالك

فسلّم على أيّهم أفضل

______________________________________________________

لا موصولة (وأنها مبتدأ وأشد خبر ، ثم اختلفوا في مفعول «ننزع» ، فقال الخليل :) هو (محذوف) لا مذكور (والتقدير : لننزعن الفريق الذين يقال فيهم أيهم أشد) فالجملة في محل رفع على أنها محكية بالقول المبني للمفعول ، وحذف الموصول الذي هو مفعول وصلته ، وبقي معمول فعل الصلة وهو الجملة الاستفهامية (وقال يونس :) المفعول هو (الجملة) الاسمية الاستفهامية ولا حذف (وعلقت ننزع عن العمل) لفظا لوجود المانع وهو الاستفهام (كما في (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : ١٢] وقال الكسائي والأخفش :) المفعول هو (كل شيعة ومن زائدة ، وجملة الاستفهام مستأنفة) لا محل لها من الإعراب (وذلك على قولهما في جواز زيادة من في الإيجاب ويرد أقوالهم) وهذا لف ذكره بعد النشر غير مرتب على حسب التعداد المتقدم (أن التعليق مختص بأفعال القلوب) وننزع ليس منها وهذا الرد المذكور أولا يتعلق بقول يونس الذي ذكر هناك ثانيا (وأنه لا يجوز لأضربن الفاسق بالرفع بتقدير : الذي يقال فيه : هو الفاسق) وهذا الرد المذكور ثانيا يتعلق بقول الخليل المذكور هناك أولا ، وإنما يتم هذا أن لو كان الخليل يمنع هذا التركيب وإلا فله أن يلتزم جوازه على نحو ما قاله في الآية ، نعم إن قام دليل على امتناع مثل هذا التركيب انتهض الرد والشأن فيه.

(وأنه لم يثبت زيادة من في الإيجاب) وهذا الرد الثالث يتعلق بقول الكسائي والأخفش المذكور هنا ثانيا ، (و) يرد أقوالهم أيضا (قول الشاعر :

إذا ما لقيت بني مالك

فسلم على أيهم أفضل (١)

__________________

(١) البيت من البحر المتقارب ، وهو لغسان بن وعلة في الدرر ١ / ٢٧٢ ، وشرح التصريح ١ / ١٣٥ ، ولغسان أو لرجل من غسان في خزانة الأدب ٦ / ٦١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٥٠.

٣٠١

يروى بضم «أيّ». وحروف الجر لا تعلّق ، ولا يجوز حذف المجرور ودخول الجارّ على معمول صلته ، ولا يستأنف ما بعد الجار.

وجوّز الزمخشري وجماعة كونها موصولة مع أن الضمّة إعراب ، فقدّروا متعلق النزع من كل شيعة ، وكأنه قيل : لننزعن بعض كل شيعة ، ثم قدّر أنه سئل : من هذا البعض؟

فقيل : هو الذي هو أشد ، ثم حذف المبتدآن المكتنفان للموصول ، وفيه تعسّف ظاهر ،

______________________________________________________

يروى بضم أي) وبجرها ، والرد به يتوجه على رواية الضم فقط ، وهو راد على تلك الأقوال الثلاثة بأسرها ، فأشار إلى رد قول يونس بقوله (وحرف الجر لا يعلق) عن العمل إجماعا وأشار إلى رد قول الخليل بقوله : (ولا يجوز حذف المجرور ودخول الجار على معمول صلته) ؛ إذ الأصل في ذلك على قياس قول الخليل في الآية ، فسلم على الذين يقال فيهم أيهم أفضل ، وأشار إلى رد قول الكسائي والأخفش بقوله (ولا يستأنف ما بعد الجار) للزوم حذف المجرور وبقاء الجار وحده ، ولا يجيز أحد في مثل سلم على زيد أن تقول : سلم على مكتفيا بالجار عن التلفظ بالمجرور ، وإذا بطلت الأقوال الثلاثة في البيت تعين أن تكون أي فيه موصولة مبنية بحذف صدر صلتها ، وهي في محل جر بعلى ولا إشكال (وجوز الزمخشري وجماعة كونها) أي : كون أي في تلك الآية (موصولة مع أن الضمة إعراب فقدروا متعلق النزع من كل شيعة ، وكأنه قيل : لننزعن بعض كل شيعة ، ثم قدر أنه سئل من هذا البعض فقيل : هو الذي هو أشد ثم حذف المبتدآن المكتنفان للموصول) أي : المحيطان به أو الكائنات بكنفيه أي ناحيتيه (وفيه تعسف ظاهر) من جهة اجتماع أمور هي حذف مفعول لننزعن فإن من كل شيعة ليس مفعوله حقيقة ، وتقدير سؤال محذوف وحذف مبتدأين والظاهر أن لا تعسف ؛ لأن هذه الأمور التي اجتمعت كل منها جار على القواعد ، إذ لا نزاع في صحة قولك أخذت من الدراهم ولا في حسنه ولا في أن الاستئناف على تقدير سؤال سائغ شائع في تراكيب البلغاء ، وفي الكتاب العزيز منه شيء كثير ، ولا في جواز حذف المبتدأ لقرينة ، ثم لا أعرف المحل الذي وقف فيه المصنف على أن الزمخشري يجعل ضمة أي في هذه الآية إعرابية على التقدير المذكور ، والذي في «الكشاف» نصه : واختلف في إعراب (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية تقديره لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد ، وسيبويه على أنه مبني لسقوط صدر الجملة التي هي صلته ، حتى لو جيء به لأعرب وقيل : أيهم هو أشد ، ويجوز أن يكون النزع واقعا على من كل شيعة ، كقوله : وهبنا له من رحمتنا ، أي : لننزعن بعض كل شيعة ، فكأن قائلا قال : من هم فقيل : أيهم أشد عتيا هذا كلامه وليس فيه تعرض إلى ضمة أيهم هل هي ضمة إعراب أو بناء ، ولا يخفى أنه يلزم على

٣٠٢

ولا أعلمهم استعملوا «أيّا» الموصولة مبتدأ ، وسيأتي ذلك عن ثعلب.

وزعم ابن الطّراوة أن «أيّا» مقطوعة عن الإضافة ، فلذلك بنيت ، وأن هم (أَشَدُّ) [مريم : ٦٩] مبتدأ وخبر ؛ وهذا باطل برسم الضمير متّصلا بـ «أيّ» ، والإجماع على أنها إذا لم تضف كانت معربة.

وزعم ثعلب أن «أيّا» لا تكون موصولة أصلا ، وقال : لم يسمع «أيّهم هو فاضل جاءني»

______________________________________________________

جعلها إعرابية الحكم بأن أيا معربة مع حذف صدر صلتها ، وهو باطل على القول المختار (ولا أعلمهم استعملوا أيا الموصولة مبتدأ ، وسيأتي ذلك عن ثعلب) وهذا الكلام من المصنف إن كان من تمام التعقب على الزمخشري فمشكل ؛ لأن أيهم على رأيه خبر لا مبتدأ ، وإن كان هذا إخبارا عن حكم من أحكام أي الموصولة لا ردا على الزمخشري فهو غير مناسب ؛ لأنه لا تعلق له بها.

(وزعم) أبو الحسين (ابن الطراوة أن أيا مقطوعة عن الإضافة ، فلذلك بنيت وأن هم أشد مبتدأ وخبر وهذا باطل برسم الضمير متصلا بأي) فدل على أنه ضمير جر أضيفت إليه أي ، ولو كان مبتدأ لكان ضمير رفع منفصلا فلم ترسم أي متصلة به ، وفيه نظر ففي الكشاف في تفسير سورة الشعراء عند الكلام على قوله تعالى : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) [الشعراء : ١٧٦] ما نصه : قرىء (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) بالهمزة وبتخفيفها ، وبالجر على الإضافة وهو الوجه ، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاده إليه خط المصحف ، حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة ، وفي سورة (ص) بغير ألف ، وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه ، وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ قط ، كما يكتب أصحاب النحو ؛ لأن ولولى على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف ، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل ، والقصة واحدة على أن ليكة اسم لا يعرف إلى هنا كلامه ، ومراده بالنصب الفتح وسيأتي للمصنف في الكلام على لات أن ثم من ذهب إلى أن لا هي النافية ، وأن التاء مزيدة في أول الحين لرسمها متصلة بها في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه ، ورده المصنف بأن قال : ولا دليل فيه فكم في خط المصحف من أشياء خارجة عن القياس ، فكيف يتم له الرد على ابن الطراوة بما ذكره؟! مع أنه بسبيل من أن يقول : لا دليل فيما ذكرت فكم من خط المصحف من أشياء خارجة عن القياس (وبالإجماع على أنها إذا لم تضف كانت معربة) وهذا رد منقدح لا إشكال في صحته.

(وزعم ثعلب أن أيا لا تكون موصولة) وفي بعض النسخ موصولا (أصلا وقال) في الاحتجاج لما زعمه من ذلك : (لم يسمع) يعني : من كلام العرب (أيهم هو فاضل جاءني

٣٠٣

بتقدير : الذي هو فاضل جاءني.

(٤) والرابع : أن تكون دالّة على معنى الكمال ، فتقع صفة للنكرة نحو : «زيد رجل أيّ رجل» ، أي : كامل في صفات الرجال ، وحالا للمعرفة ، كـ «مررت بعبد الله أيّ رجل».

(٥) والخامس : أن تكون وصلة إلى نداء ما فيه «أل» ، نحو : «يا أيّها الرجل».

______________________________________________________

بتقدير : الذي هو فاضل جاءني) ولو كانت أي موصولة لسمع ذلك ، وفي صحة هذه الملازمة نظر.

(والرابع) من أوجه أي (أن تكون دالة على معنى الكمال فتقع صفة للنكرة نحو زيد رجل أي رجل أي : كامل في صفات الرجال) ونحو قول الشاعر :

دعوت امرأ أي امرىء فأجابني

فكنت وإياه ملاذا وموئلا (١)

(وحالا للمعرفة كمررت بعبد الله أي رجل) وكقول الشاعر :

فأومأت إيماء خفيا لحبتر

فلله عينا حبتر أيما فتى (٢)

قال في التسهيل : ويلزمها في هذين الوجهين الإضافة لفظا ومعنى إلى ما يماثل الموصوف لفظا ومعنى ، أو معنى لا لفظا ، ومراده بالوصف ما تعلق به وصف في الجملة ، أعم من أن يكون تابعا أو غيره يشمل الموصوف الاصطلاحي وذا الحال ، ومثال الإضافة إلى ما يماثل معنى فقط في الموصول قولك : مررت برجل أي إنسان ، وإلى ما يماثل لفظا ومعنى في ذي الحال ومعنى ولفظا في الموصوف ، فقد مر التمثيل له ، فإن قلت : لم غير المصنف الأسلوب المتقدم في هذا الوجه وما بعده حيث قال : والرابع والخامس ولم يقل ودالة على معنى الكمال ، وصلة إلى نداء ما فيه أل كما قال أولا شرطا واستفهاما وموصولا ، قلت : لوقوع الفصل الطويل ، فلو عطف مع ذلك لأوشك أن يقع تشويش على الناظر ففعل ما فعل.

(والخامس أن تكون وصلة إلى نداء ما فيه أل نحو يا أيها الرجل) وذلك ؛ لأنهم استكرهوا اجتماع آلتي تعريف ، فحاولوا أن يفصلوا بينهما باسم مبهم يحتاج إلى ما يزيل إبهامه ، فيصير المنادى في الظاهر ذلك المبهم في الحقيقة ذلك المخصص الذي يزيل الإبهام ، ويعين الماهية

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في الدرر ١ / ٣٠٥ وهمع الهوامع ١ / ٩٢.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ٣ ، وتذكرة النحاة ص ٦١٧ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٧٠.

٣٠٤

وزعم الأخفش أن «أيّا» لا تكون وصلة ، وأن «أيّا» هذه هي الموصولة حذف صدر صلتها وهو العائد ، والمعنى : يا من هو الرجل ، وردّ بأنه ليس لنا عائد يجب حذفه ، ولا موصول التزم كون صلته جملة اسميّة ، وله أن يجيب عنهما بأن «ما» في قولهم : «لا سيّما زيد» بالرفع كذلك.

______________________________________________________

فيصير المنادى مميزا لماهية معلوم الذات ، فوجدوا ذلك الاسم أيا إذا اقتطع عن الإضافة واسم الإشارة حيث وضعا مبهمين ، مشروطا إزالة إبهامهما إلا أن اسم الإشارة قد يزال إبهامه بالإشارة الحسية ، فلا يحتاج إلى الوصف بخلاف أي فكان أدخل في الإبهام فلذا جاز يا هذا ، ولم يجز يا أي بل لزم أن يردفه ما يزيل إبهامه ، وذلك اسم الجنس ؛ لأنه الدال على تعيين الماهية ، ويجري مجراه الذي ومثناه ومجموعه ومؤنثها ، وقد يجري مجراه اسم الإشارة الموصوف بذي اللام.

(وزعم الأخفش أن أيا هذه) وهي الواقعة بعد حرف النداء (هي الموصولة حذف صدر صلتها وهو العائد ، والمعنى يا من هو الرجل) ، قال الرضي : ويصح تقوية مذهبه بكثرة وقوع أي موصولة في غير هذا الموضع ، وندور كونها موصوفة ، ثم نقل أنه أورد عليه أنها لو كانت موصولة لكانت مضارعة للمضاف ، فوجب نصبها ، وأجاب بأنه إذا حذف صدر صلتها فالأغلب بناؤها على الضم ، فحرف النداء على هذا يكون داخلا على اسم مبني على الضم ، فلم يغيره وإن كان مضارعا للمضاف كما في قولك : يا من قال كذا. إلى هنا كلامه ، قلت : إنما تبنى عند حذف صدر صلتها إذا كانت مضافة ، وأما إذا لم تضف فهي معربة بالإجماع ولا شك أن الواقعة في النداء غير مضافة ، فكيف يتم ما ذكره الرضي من هذا الجواب؟! (ورد) أي قول الأخفش (بأنه ليس لنا عائد يجب حذفه) والعائد على رأيه في يا أيها واجب الحذف ، قال الرضي : وإنما وجب حذف هذا المبتدأ لمناسبة التخفيف للمنادي ، (ولا موصول التزم كون صلته) جملة (اسمية) وأي المذكورة على دعواه موصول يلزم كون صلته جملة اسمية ، فخرج عن النظير في الأمرين (وله) أي : للأخفش (أن يجيب عنهما) أي : عن وجهي هذا الرد (بأن ما في قولهم : لا سيما زيد بالرفع كذلك) أي : موصول وجب حذف عائده ، والتزم كون صلته جملة اسمية ، والأصل لا مثل الذي هو زيد ، وإنما ذكر قيد الرفع لزيد ليتحقق كون ما موصولة ، إذ لو جر لكانت زائدة ولو نصب في القول بجوازه لكانت ما كافة ، ولقائل أن يقول : لا نسلم وجوب وصل ما الموصولة في قولهم لا سيما بالجملة الاسمية ؛ فقد نص في «التسهيل» على أنها قد توصل بظرف أو جملة فعلية فالأول كقوله :

٣٠٥

وزاد قسما ، وهو : أن تكون نكرة موصوفة نحو : «مررت بأيّ معجب لك» كما يقال : بمن معجب لك ، وهذا غير مسموع.

ولا تكون «أيّ» غير مذكور معها مضاف إليه ألبتّة إلا في النّداء والحكاية ، يقال : «جاءني رجل» ، فتقول : «أيّ يا هذا» ، و «جاءني رجلان» ، فتقول : «أيّان» ، و «جاءني رجال» ، فتقول : «أيّون».

تنبيه ـ قول أبي الطيب [من الخفيف] :

______________________________________________________

يسر الكريم الحمد لا سيما لدى

شهادة من في خيره يتقلب (١)

والثاني كقوله :

فق الناس في الخير لا سيما

بنيلك من ذي الجلال الرضا (٢)

(وزاد) الأخفش (قسما) سادسا (وهو أن تكون نكرة موصوفة نحو مررت بأي معجب لك كما يقال بمن معجب لك ، وهذا غير مسموع) ، إنما المسموع عند وصفها كونها معرفة على قول الجمهور في نحو : يا أيها الرجل ، (ولا تكون أي غير مذكور معها مضاف إليه البتة إلا في النداء والحكاية) يعني : أن أيا لا تستعمل مقطوعة عن الإضافة لفظا ومعنى إلا في النداء والحكاية ، وقطعها في غير هذين البابين عن الإضافة إنما هو بحسب اللّفظ لا بحسب المعنى ، وإليه أشار بقوله : البتة أي : لا يذكر المضاف إليه معها لا لفظا ولا تقديرا ، وهو مفعول مطلق وعامله محذوف يدل عليه ما تقدم ، والتقدير : بت القول بترك المضاف البتة ، أي : يقطع القول بتركه القطعة المعلومة المجزوم بها على كل حال بحيث لا يترك لفظا وينوى تقديرا ، (يقال : جاءني رجل فتقول) في الحكاية بأي (أي : يا هذا ، و) يقال : (جاءني رجلان فتقول : أيان ، و) يقال : (جاءني رجال فتقول : أيون) فتحكي بأي ما يستحقه ذلك الاسم المنكر من إعراب وتذكير وتأنيث ، أو جمع تصحيح يصلح له فرجال وإن لم يكن جمع تصحيح ، لكنه صالح لأن يوصف بالجمع السالم فيقال : رجال صالحون ، فمن ثم قلت في حكايته أيون وأي في الجميع مقطوعة عن الإضافة لفظا ومعنى ، ولم يمثل المصنف للنداء لأنه قدمه قريبا.

(تنبيه قول أبي الطيب) المتنبي :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ٣ / ٤٤٧ ، والدرر ٣ / ١٨٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٣٤.

(٢) البيت من البحر المتقارب ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ٣ / ٤٤٧ ، والدرر ٣ / ١٨٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٣٥.

٣٠٦

١١٨ ـ أيّ يوم سررتني بوصال

لم ترعني ثلاثة بصدود؟

ليست فيه «أيّ» موصولة ، لأن الموصولة لا تضاف إلّا إلى المعرفة ، قال أبو علي في التّذكرة في قوله [من الكامل] :

١١٩ ـ أرأيت أيّ سوالف وخدود

برزت لنا بين اللّوى فزرود؟

لا تكون «أي» فيه موصولة ، لإضافتها إلى نكرة ، انتهى.

ولا شرطية ، لأن المعنى حينئذ : إن سررتني يوما بوصالك آمنتني ثلاثة أيام من صدودك ، وهذا عكس المعنى المراد ، وإنما هي للاستفهام الذي يراد به النفي ،

______________________________________________________

(أي يوم سررتني بوصال

لم ترعني ثلاثة بصدود (١))

ترعني مضارع راعه أي : أخافه والصدود المنع ، والمراد منه ما منع الوصال ، (ليست في أي موصول ؛ لأن الموصولة لا تضاف إلا إلى المعرفة ، قال أبو علي) الفارسي (في) كتاب (التذكرة في قوله :

أرأيت أي سوالف وخدود

برزت لنا بين اللوى فزرود) (٢)

السوالف جمع سالف ، وهي ناحية مقدم العنق من لدن معلق القرط إلى قلت الترقوة أي : النقرة التي فيها ، واللوى بكسر اللام والقصر منقطع الرمل ، وزرود بفتح الزاي موضع ، (لا تكون أي موصول لإضافتها إلى نكرة انتهى) كلامه ، والمسألة منصوصة في التسهيل وغيره ، قال بعض المتأخرين : القياس يقتضي جواز إضافة أي الموصولة إلى نكرة ، إذ ليس المراد بالإضافة تعريفها ، فإن تعريفها بالصلة كغيرها من الموصولات على القول المختار ، وإنما المقصود من إضافتها بيان الجنس الذي هي بعض منه ، وذلك حاصل بالنكرة ، قال : وإذ قد منعوا من ذلك فكأنهم أرادوا بالتزام كون المضاف إليه نكرة فيحصل تدافع في الظاهر ، (ولا شرطية) هذا معطوف على موصولة من قوله أولا في بيت أبي الطيب : ليست فيه أي موصولة ؛ (لأن المعنى) تعليل لانتفاء كونها في ذلك البيت شرطية ، أي : لا يصح القول بشرطيتها فيه ؛ لأن المعنى (حينئذ) أي حين إذ تكون شرطية ، (إن سررتني يوما بوصالك أمنتني ثلاثة أيام من صدودك ، وذلك عكس المعنى المراد) الذي سيذكر ، (وإنما هي للاستفهام) الإنكاري (الذي يراد به النفي

__________________

(١) البيت من البحر الخفيف ، وهو للمتنبي في خزانة الأدب ١ / ١٩٧.

(٢) البيت من البحر الكامل ، وهو لأبي تمام ، انظر : وفيات الأعيان ١ / ٨٦.

٣٠٧

كقولك لمن ادعى أنه أكرمك : «أيّ يوم أكرمتني؟» والمعنى ما سررتني يوما بوصالك إلا روّعتني ثلاثة بصدودك ، والجملة الأولى مستأنفة قدّم ظرفها ؛ لأن له الصّدر ، والثانية إما في موضع جرّ صفة لـ «وصال» على حذف العائد : أي لم ترعني بعده ، كما حذف في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) الآية [البقرة : ٤٨] ؛ أو نصب حالا من فاعل «سررتني» أو مفعوله ، والمعنى : أي يوم سررتني غير رائع لي ، أو غير مروع منك ، وهي حال مقدّرة مثلها في (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] ، أو لا محلّ لها على أن تكون معطوفة على الأولى بفاء محذوفة

______________________________________________________

كقولك : لمن ادعى أنه أكرمك : أي يوم أكرمتني؟) تريد ما أكرمتني يوما من الدهر ، وليس المراد حقيقة الاستفهام عن تعيين اليوم الذي وقع فيه الإكرام ، (والمعنى) في بيت المتنبي : (ما سررتني يوما بوصالك إلا روعتني ثلاثة بصدودك ، والجملة الأولى) ، وهي أي يوم سررتني بوصالك (مستأنفة قدم ظرفها) وهو أي يوم ؛ (لأن له الصدر) بسبب اشتماله على الاستفهام ، (والجملة الثانية) وهي لم ترعني ثلاثة بصدود (إما في موضع جر) حالة كونها (صفة لوصال على حذف العائد أي لم ترعني بعده كما حذف) العائد على الموصول (في قوله تعالى : (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) الآية) ، يريد قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ٤٨] فقد حذف العائد منها في مواضع ، أي لا تجزى فيه ولا يقبل فيه ولا يؤخذ فيه ولا هم ينصرون فيه ، ولذلك قال الآية : يشير إلى أن التمثيل بها ليس مقصورا على ما تلاه منها بل هو في بقيتها أيضا ، (أو) في موضع (نصب) حالة كونها (حالا من فاعل سررتني) وهو ضمير المخاطب ، (أو مفعوله) وهو ضمير المتكلم ، (والمعنى : أي يوم سررتني) حالة كونك أيها الحبيب (غير رائع لي) ، وهذا على كون الجملة حالا من الفاعل ، (أو) حالة كوني أيها المحب (غير مروع منك) وهذا على كون الجملة حالا من المفعول (وهي حال مقدرة) ؛ لأن عدم الروع بالصدود ليس مقارنا للعامل ، ضرورة أنه قدر ذلك بقوله : لم ترعني بعده فهي على هذا التقدير حال مقدرة ، (مثلها في قوله تعالى : (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣]) فإن الخلود ليس مقارنا للدخول وإنما هو مقدر ، قلت : ويمكن أن يجعل من قبيل الحال المقارنة ، على أن يكون التقدير : لم ترعني بصدود يقع في ثلاثة أيام بعده ، أي : بعد الوصال والمعنى على هذا : ما سررتني يوما بوصال إلا في حالة كونك تخيفني بصدود يقع في ثلاثة أيام بعد ذلك اليوم ، فالإخافة مقارنة لمضمون العامل ، وهو السرور وكذا الخوف إن قدرت الحال من المفعول فتأمله.

(أو لا محل لها على أن تكون معطوفة على الأولى بفاء محذوفة) والتقدير : أي يوم

٣٠٨

كما قيل في : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ) [البقرة : ٦٧] ، وكذا في بقية الآية ، وفيه بعد. والمحقّقون في الآية على أنّ الجمل مستأنفة بتقدير : فما قالوا له؟ فما قال لهم؟ ومن روى «ثلاثة» بالرفع لم يجز عنده كون الحال من فاعل «سررتني» ، لخلو «ترعني» من ضمير ذي الحال.

* * *

* (إذ) على أربعة أوجه :

أحدها : أن تكون اسما للزمن الماضي ، ولها أربعة استعمالات :

______________________________________________________

سررتني فلم ترعني ، (كما قيل في قوله) تعالى : ((وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ) [البقرة : ٦٧] ، وكذا في بقية الآية ، وفيه بعد) في الآية والبيت.

أما في الآية فلما في ذلك من تكرير حذف العاطف ، مع أن حذفه لم يثبت في السعة بيقين ، وأما في البيت فلأن فيه مع حذف العاطف ارتكابا لما لا يؤدي المعنى المقصود ، وذلك لأن عطف جملة على أخرى لا يقتضي مشاركة الثانية للأولى فيما اشتملت عليه من القيود ، فإذن لا يلزم تسلط النفي على المعطوف ويؤول الأمر إلى الإخبار بجملتين ، إحداهما فيها نفي معنوي وهي الأولى ، والثانية فيها نفي صريح باق على حاله ؛ لعدم تسلط النفي الأول عليه ، والمعنى لم تسرني يوما بوصال فلم ترعني ثلاثة أيام بصدود ، وليس هذا هو المعنى المراد ، فإن قلت : لا مانع من تسليط النفي عليه فيسلط ويستقيم المعنى ، قلت : هذا وإن كان ممكنا لكن فيه احتمال غير المقصود مع ارتكاب حذف العاطف ففيه بعد ، (والمحققون في الآية على أن الجمل مستأنفة بتقدير : فما قالوا فما قال لهم) لا على أن ثم فاء عاطفة محذوفة ، (ومن روى ثلاثة) في بيت المتنبي (بالرفع لم يجز عنده كون الحال من فاعل سررتني ؛ لخلو ترعني من ضمير ذي الحال) وهو ضمير المخاطب ، قلت : ويجوز أن يكون التقدير عند هذا القائل : لم ترعني منك ثلاثة بصدود ، فيحصل الربط باعتبار المحذوف ، والله أعلم بالصواب وإليه المآب.

(إذ)

(على أربعة أوجه :

أحدهما أن تكون اسما للزمن الماضي ، ولها أربع استعمالات) وفي بعض النسخ أربعة بالتاء ووجهها أن مفرد استعمالات استعمال وهو مذكر فلا إشكال ، ووجه الأربع أن يقال : إما أن يكون أنث باعتبار أنه أراد بالاستعمال الحالة ، أو جعله جمعا لاستعمالة لا لاستعمال ،

٣٠٩

أحدها : أن تكون ظرفا ، وهو الغالب ، نحو : (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [التوبة : ٤٠].

والثاني : أن تكون مفعولا به ، نحو : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف : ٨٦].

والغالب على المذكورة في أوائل القصص في التنزيل أن تكون مفعولا به ، بتقدير «اذكر» ، نحو : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) [البقرة : ٣٠] وغيرها ، (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) [البقرة : ٣٤] وغيرها ، (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠]. وبعض المعربين يقول في ذلك : إنه ظرف لـ «اذكر» محذوفا ، وهذا وهم فاحش ، لاقتضائه حينئذ الأمر بالذكر في ذلك الوقت ، مع أن الأمر للاستقبال ، وذلك الوقت قد مضى قبل تعلّق الخطاب بالمكلّفين منّا ، وإنما المراد ذكر الوقت نفسه لا الذكر فيه.

______________________________________________________

ويرجح نسخة الأربعة بالتاء قوله في التفصيل أحدها والثاني والثالث والرابع ، فذكر الكل ويحتمل أن يكون أنث وذكر باعتبارين.

(أحدها أن تكون ظرفا نحو) (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [التوبة : ٤٠] وأسند الإخراج إلى الكفار ؛ لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه.

(والثاني) من الاستعمالات الأربعة (أن تكون مفعولا به نحو : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف : ٨٦]) أي : واذكروا نفس هذا الوقت (والغالب على المذكور في أوائل القصص) بكسر القاف جمع قصة (في التنزيل أن تكون مفعولا به بتقدير اذكر نحو : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠]) ، وجوز الزمخشري هذا الوجه ، وهو أن تكون منصوبة باذكر ووجها آخر ، وهو أن تكون منصوبة بقالوا وعليه فتكون ظرفا ، فيكون التقدير : وقالت الملائكة : إذ قال ربك لهم : إني جاعل في الأرض خليفة : أتجعل فيها ، وأورد على الوجه الأول أن فيه حذف فعل من غير قرينة ، فلا يجوز ، وأجيب بأن كثرة وروده في القرآن منصوبا به يكفى قرينة ، لا سيما والظرف محل التوسع ، واستئناف القصة قرينة بينة لتقدير مضمر مناسب ، قلت : إذا لم يكن منصوبا باذكر لم يكن ظرفا كما عرفت ، فلا معنى لقول المجيب هنا لا سيما والظرف محل التوسع ، (نحو (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] وبعض المعربين يقول في ذلك : إنه ظرف لاذكر محذوفا وهذا وهم) بفتح الهاء أي غلط (فاحش ؛ لاقتضائه حينئذ) أي حين إذ جعل ظرفا لاذكر ، (الأمر بالذكر في ذلك الوقت مع أن الأمر للاستقبال ، وذلك الوقت قد مضى قبل تعلق الخطاب بالمكلفين منا) فكيف يكون المستقبل واقعا في الزمن الماضي ، (وإنما المراد ذكر الوقت نفسه لا الذكر فيه) فتكون إذ

٣١٠

والثالث : أن تكون بدلا من المفعول ، نحو : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) [مريم : ١٦] ، فـ «إذ» : بدل اشتمال من «مريم» على حدّ البدل في : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧].

وقوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) [المائدة : ٢٠] يحتمل كون «إذ» فيه ظرفا للنعمة وكونها بدلا منها.

والرابع : أن يكون مضافا إليها اسم زمان صالح للاستغناء عنه ، نحو : «يومئذ» ، و «حينئذ» ، أو غير صالح له ، نحو قوله تعالى : (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨].

______________________________________________________

حينئذ مفعولا به لا مفعولا فيه ، واعلم أن الهمزة من قول المصنف بتقدير اذكر ، وقوله ظرف لاذكر همزة قطع ؛ لأنه اسم علم مسماه هذا اللفظ ، وقد عرفت في محله أنه متى سمي بفعل فيه همزة وصل كانطلق ، فإنها تقطع في حال العلمية فتنبه لمثله مما يرد عليك.

(والثالث) من استعمالات إذ (أن تكون مبدلا من المفعول نحو (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) [مريم : ١٦] ، فإذا بدل اشتمال من مريم) والرابط الضمير العائد إليها المستتر في الفعل ، أي : واذكر وقت انتباذ مريم ، (على حد البدل في : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧] وقوله تعالى) برفع القول على أنه مبتدأ : ((اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) [المائدة : ٢٠]) ، وخبر ذلك المبتدأ قول المصنف : (يحتمل كون إذ فيه ظرفا للنعمة) فيكون من الاستعمال الأول ، (وكونها بدلا منها) أي من النعمة فيكون من الاستعمال الثالث الذي نحن فيه.

(والرابع : أن تكون مضافا إليها اسم زمان) إما (صالح للاستغناء عنه ، نحو حينئذ ويومئذ) تقول : أكرمتني فأثنيت عليك يومئذ وحينئذ ؛ فاليوم والحين صالحان للاستغناء عنهما ؛ إذ يجوز أن تقول : فأثنيت عليك إذ أكرمتني ، والمعنى بحاله فإن قلت : ما هذه الإضافة الواقعة في مثل هذا التركيب ، قلت : قال ابن مالك : هو من إضافة المؤكد إلى التأكيد والذي يظهر أن هذا من إضافة الأعم إلى الأخص كشجر أراك ؛ وذلك لأن إذ مضاف إلى جملة محذوفة ، فإذا قلت : جاء زيد وأكرمته حينئذ فالمعنى حين إذ جاء ، فالثاني مخصص بالإضافة إلى المجيء والأول عار من ذلك فهو أعم منه ، فلا يكون الثاني مؤكدا له ، نعم يكون مفسرا له ومبينا للمراد به كما يبين الأعم بالأخص فالإضافة فيه بيانية ، أي : وأكرمته حينا هو حين مجيئه فتأمله.

(أو غير صالح) للاستغناء عنه ، (نحو قوله تعالى) : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨] فإن الظرف المضاف هنا وهو بعد لا يصلح للاستغناء عنه ، فيحذف ؛ لعدم ما يدل عليه

٣١١

وزعم الجمهور أن «إذ» لا تقع إلا ظرفا أو مضافا إليها ، وأنها في نحو : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) [الأعراف : ٨٦] ظرف لمفعول محذوف ، أي : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم قليلا ، وفي نحو : (إِذِ انْتَبَذَتْ) [مريم : ١٦] ظرف لمضاف إلى مفعول محذوف ، أي : واذكر قصة مريم ، ويؤيد هذا القول التّصريح بالمفعول في : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) [آل عمران : ١٠٣].

ومن الغريب أن الزمخشري قال في قراءة بعضهم : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) [آل عمران : ١٦٤] : إنه يجوز أن يكون التقدير منّه إذ بعث ، وأن تكون «إذ» في محل رفع كـ «إذا» في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما ، أي لمن منّ الله على المؤمنين وقت بعثه ، انتهى ؛

______________________________________________________

لو ترك مع أنه مقصود ، (وزعم الجمهور أن إذ لا تقع إلا ظرفا) وهو الاستعمال الأول ، (أو مضافا إليها) وهو الاستعمال الرابع وأنكروا الثاني والثالث ، (و) زعموا (أنها في نحو (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف : ٨٦]) ليست مفعولا به كما ادعاه المخالفون ، وإنما هي (ظرف لمفعول محذوف أي : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم) قليلا ، (و) أنها (في نحو : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) [مريم : ١٦] ظرف لمضاف إلى مفعول محذوف ، أي واذكر قصة مريم) ، والظرف يتعلق بالقصة والحديث والشأن ونحوها كما أسلفناه ، وسيجيء في الكلام على إذ في المتن إن شاء الله تعالى.

واعلم أنه ثبت فيما رأيته من نسخ هذا الكتاب كلمة إلى من قوله : ظرف لمضاف إلى مفعول محذوف ، ولو حذفت هذه الكلمة ، وقيل : لمضاف مفعول محذوف لكان حسنا فإن القصة المقدرة هي لفظ مضاف إلى مريم ، وهو مفعول محذوف ، وما ثبت في النسخ يمكن تصحيحه بأن يكون قوله : محذوف صفة لمضاف ، والمراد بالمفعول ما هو مفعول بعد الحذف ، وهو لفظ مريم ، ولكن لو عرف فقيل إلى المفعول لكان أحسن.

(ويؤيد هذا القول التصريح بالمفعول في (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) [آل عمران : ١٠٣]) فيحمل المحل الذي لم يصرح فيه بالمفعول على ما صرح به ، لتجري المحال على سنن واحد ، وفيه بحث ، (ومن الغريب أن الزمخشري قال في قراءة بعضهم (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ) [آل عمران : ١٦٤] ، أنه يجوز أن يكون التقدير منه إذ بعث ، ويجوز كون إذ في محل رفع كإذا في قولك أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما أي لقد من الله على المؤمنين وقت بعثه ، اه) كلامه ، وهو نقل بالمعنى وغالب اللفظ ، وهمزة إن من قوله : أنه يجوز مفتوحة ليس إلا فإن هذا اللفظ لم يقع بعينه في كلام الزمخشري حتى يحكى ، وإنما قال : وقرىء (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى

٣١٢

فمقتضى هذا الوجه أن «إذ» مبتدأ ، ولا نعلم بذلك قائلا ، ثم تنظيره بالمثال غير مناسب ، لأن الكلام في «إذ» لا في «إذا» ، وكان حقه أن يقول : «إذ كان» ، لأنهم يقدرون في هذا المثال ونحوه «إذ» تارة و «إذا» أخرى ، بحسب المعنى المراد ؛ ثم ظاهره أن المثال يتكلّم به هكذا. والمشهور أن حذف الخبر في ذلك واجب ، وكذلك المشهور أن «إذا» المقدّرة في المثال في موضع نصب ، ولكن جوّز عبد القاهر كونها في موضع رفع ، تمسّكا بقول بعضهم:

______________________________________________________

الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) ، وفيه وجهان أن يراد لقد من الله المؤمنين منه أو بعثه إذ بعث فيهم ، فحذف لقيام الدلالة ، أو تكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما ، بمعنى : لقد من الله على المؤمنين وقت بعثه ، هذه عبارته بحروفها ، وعلى الثاني فلا حذف وإنما الحذف على الأول ، وهو جعل إذ ظرفية فحذف المبتدأ ، وهو منه أو بعثه والظرف متعلق به وقد من الله خبره ، والدال على المحذوف هو الخبر إن قدر منه والظرف إن قدر بعثه ، واعترض المصنف الوجه الثاني بقوله : (فمقتضى هذا التوجيه أن إذ مبتدأ ولا نعلم بذلك قائلا) ، وأقول : إذا كان الجمهور يجوّزون خروجها عن الظرفية عند إضافتها ، وغيرهم عند الإتيان بها مفعولا به ، أو بدلا منه صدق حينئذ أنها ظرف متصرف ، فلا يمتنع جعلها مبتدأ ولا يحتاج فيه إلى سماع خاص من العرب ، (ثم تنظيره بالمثال) ، وهو قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما (غير مناسب ؛ لأن الكلام في إذ لا في إذا وكان حقه) بالنصب على أنه خبر كان نحو : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الجاثية : ٢٥] ، واسم كان هو قوله : (أن يقول : إذ كان ؛ لأنهم يقدرون في هذا المثال ، ونحوه إذ تارة وإذا أخرى بحسب المعنى المراد) ولكنه عدل عن ذلك ؛ ليفيد أن كلا من إذ وإذا يستعمل اسما غير ظرف (ثم ظاهره أن المثال يتكلم به كذا) على الصورة التي تلفظ بها ، وهي أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما ، (والمشهور أن حذف الخبر في ذلك واجب) فإنما يقال : أخطب ما يكون الأمير قائما ، ويظهر لي أن في كلام الزمخشري إشارة إلى أن العرب لا تنطق به هكذا ، أو ذلك ؛ لأنه قال : في قولك ولم يقل في قولهم ، فأشار إلى أن هذا هو التقدير الذي ينطق به عند إرادة التفسير ، أي : في قولك عند القصد إلى إبراز ما يقدر في هذا المثال ، وقد يشعر قول المصنف والمشهور بأن ثم قولا غير مشهور بأن حذف هذا الخبر جائز لا واجب ، والظاهر أن وجوب الحذف في مثله عار عن الخلاف ، اللهم إلا أن يكون مراده بالمشهور ما اشتهر من استعمال العرب ، وعرف من كلامهم لا المشهور الذي يشير به المصنفون إلى وجود قول آخر غير مشهور ، (وكذلك المشهور أن إذا المقدرة في المثال في موضع نصب ، ولكن جوّز عبد القاهر) الجرجاني (كونها في موضع رفع تمسكا بقول بعضهم)

٣١٣

أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة ، بالرفع. فقاس الزمخشري «إذ» على «إذا» والمبتدأ على الخبر.

والوجه الثاني : أن تكون اسما للزمن المستقبل ، نحو : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) [الزلزلة : ٤] ، والجمهور لا يثبتون هذا القسم ، ويجعلون الآية من باب : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الكهف : ٩٩] وغيرها أعني من تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة ما قد وقع ، وقد يحتج لغيرهم بقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٧٠ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر : ٧٠ ـ ٧١] فإنّ (يَعْلَمُونَ) مستقبل لفظا ومعنى ؛ لدخول حرف التنفيس عليه ، وقد أعمل في «إذ» ؛ فيلزم أن يكون بمنزلة «إذا».

والثالث : أن تكون للتعليل ، نحو : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩) [الزخرف : ٣٩] ، أي : ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب ؛ لأجل

______________________________________________________

أي : بعض العرب : (أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة بالرفع) فتكون إذا الواقعة في موضعه كذلك ، وهي مما يقوي أن المصنف أراد بالمشهور أولا ما أراد به ثانيا من الإشارة إلى الخلاف فحرره ، (فقاس الزمخشري إذ على إذا والمبتدأ على الخبر) وهذا تشنيع ، ولعل الزمخشري لم يستند إلى هذا القياس وإنما بنى على ما ذكرناه قبل.

(الوجه الثاني) من أوجه إذ (أن تكون اسما للزمن المستقبل نحو : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) [الزلزلة : ٤]) فإن تحديثها بأخبارها هو عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ أمواتها أحياء ، وقد جعل يومئذ ظرفا لذلك التحديث الواقع في الزمان المستقبل ، فيلزم كون الظرف مستقبلا وقد تقدم أن الإضافة في نحو يومئذ من إضافة المؤكد إلى تأكيده ، أو هي بيانية فلزم المطلوب (والجمهور لا يثبتون هذا القسم ، ويجعلون الآية من باب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [يس : ٥١] أعني : من تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة ما قد وقع) ، فنزّل التحديث المستقبل منزلة الماضي ، فمن هذه الحيثية ساغ جعل إذ ظرفا له ، (وقد يحتج لغيرهم بقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٧٠ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر : ٧٠ ـ ٧١] ، فإن يعملون مستقبل لفظا ومعنى لدخول حرف التنفيس عليه ، وقد عمل في إذ فيلزم أن تكون بمنزلة إذا) وفيه نظر ؛ إذ لا مانع من أن يتأول هذا بما تأول به الجمهور (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) [الزلزلة : ٤] فيقال : هذا من باب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي : من تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة ما وقع ، وحرف التنفيس ليس بصاد عن ذلك.

(و) الوجه (الثالث) من أوجه إذ (أن تكون للتعليل نحو : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف : ٣٩] ، أي : وإن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب ؛ لأجل

٣١٤

ظلمكم في الدنيا ، وهل هذه حرف بمنزلة لام العلّة أو ظرف والتعليل مستفاد من قوّة الكلام لا من اللفظ ؛ فإنه إذا قيل : ضربته إذ أساء ، وأريد بـ «إذ» الوقت ، اقتضى ظاهر الحال أن الإساءة سبب الضرب؟ قولان ، وإنما يرتفع السؤال على القول الأوّل ؛ فإنه لو قيل : «لن ينفعكم اليوم وقت ظلمكم الاشتراك في العذاب» لم يكن التّعليل مستفادا ، لاختلاف زمني الفعلين ؛ ويبقى إشكال في الآية ، وهو أن «إذ» لا تبدل من اليوم لاختلاف الزمانين ، ولا تكون ظرفا لـ «ينفع» ؛ لأنه لا يعمل في ظرفين ،

______________________________________________________

ظلمكم في الدنيا) ، وإنكم مشتركون في محل رفع على أنه فاعل ينفع ، والتقدير كما قال ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب ، أي : كما كان عموم البلوى يطيب القلب في الدنيا ، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا :

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي (١)

ولا يبكون مثل أخي ولكن

أسلي القلب عنه بالتأسي

أما هؤلاء المشتركون في العذاب فلا ينفعهم اشتراكهم ، ولا يروحهم لعظم ما هم فيه ، واليوم وإذ كلاهما متعلق بالفعل.

(وهل) إذ (هذه) التي للتعليل (حرف بمنزلة لام العلة أو ظرف ، والتعليل مستفاد من قوة الكلام لا من اللفظ ؛ فإنه إذا قيل : ضربته إذ أساء وأريد الوقت اقتضى ظاهر الحال أن الإساءة سبب الضرب) من جهة أن تعليق الحكم بوصف مشعر بعلية الوصف لذلك الحكم ، هذان الاحتمالان (قولان) ذهب إلى كل منهما بعض النحاة ، وانظر القول الثاني ؛ فإنه يلزم عليه أن تكون إذا للتعليل في نحو قولك سأضرب زيدا إذا أساء ولا قائل به.

(وإنما يرتفع السؤال) الذي سيورده قريبا (على القول الأول) وهو جعل إذ حرف علة ، وأما على القول الثاني وهو جعلها ظرفا والتعليل مستفاد من قوّة الكلام فلا يرتفع ذلك السؤال ؛ (فإنه لو قيل لن ينفعكم اليوم وقت ظلمكم الاشتراك في العذاب لم يكن التعليل مستفادا ؛ لاختلاف زمني الفعلين) النفع المنفي والظلم فإن زمن الأول زمن الآخرة ، وزمن الثاني زمن الدنيا ، (ويبقى إشكال الآية) وهو المراد بالسؤال المذكور أولا ، (وهو أن إذ لا يبدل من اليوم لاختلاف الزمانين) وهما زمان الآخرة وزمان الدنيا كما عرفت ، ولا إبدال مع الاختلاف (ولا تكون ظرفا لينفع) لا بطريق الاستقلال ولا بطريق التبعية ؛ (لأنه) ، أي : لأن الفعل (لا يعمل في ظرفين)

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو للخنساء في المستطرف ٢ / ٥٨٨.

٣١٥

ولا لـ «مشتركون» ، لأن معمول خبر الأحرف الخمسة لا يتقدّم عليها ، ولأن معمول الصلة لا يتقدّم على الموصول ، ولأن اشتراكهم في الآخرة لا في زمن ظلمهم.

وممّا حملوه على التعليل : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ)

______________________________________________________

زمانيين مثلا كالذي نحن فيه بطريق الاستقلال ، بحيث لا يكون الثاني تابعا للأول ، (ولا) يكون ظرفا (لمشتركون ؛ لأن معمول خبر الأحرف الخمسة) ، وهي إن وكأن ولكن وليت ولعل ، (ولا يتقدم عليها) أي : على تلك الأحرف ، وكان الأولى بالمصنف أن لو قال : الأحرف الستة لتدخل أن المفتوحة التي فيها الكلام ؛ إذ هي التي في الآية فيستقيم التعليل ظاهرا ، وتقريره أن يقال : ثبت أن معمول كل من الأحرف الستة المشبهة بالفعل لا يتقدم على ذلك الحرف ، وأن المفتوحة منها فلو جعلت في الآية ظرفا لمشتركون للزم تقديم معمول ما هو من تلك الأحرف الستة عليه وهو باطل.

وأما مع الاقتصار على الخمسة فيرد عليه أن المفتوحة ليست منها والكلام إنما هو في المفتوحة ، فيقال في الاعتذار عن عدم عدها مع الخمسة : إنها تركت كما فعل سيبويه ومتابعوه ؛ لأنها فرع عن المكسورة ، ولم يكن بالمصنف في هذا المقام داع إلى ارتكاب مثل هذا حتى يعتذر عنه ؛ (ولأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول) ، وبيان ذلك أن أن المفتوحة موصول حرفي لتأوّلها مع صلتها بمصدر ، وصلتها معمولاها الاسم والخبر وقد فرض أن إذا المتقدمة على أن ظرف لخبرها الذي هو مشتركون ، فلزم تقديم معمول بعض الصلة على الموصول وهو محذور ، قلت : ويتجه على المصنف أن يقال : كان الصواب أحد الأمرين :

إما أن يسقط العلة الثانية ويقال : الأحرف الستة كما مر.

وإما أن يسقط العلة الأولى ويثبت الثانية ، وأما الجمع بينهما فمشكل ؛ وذلك لأن العلة في امتناع تقديم معمول خبر الأحرف الخمسة عليها أن لها الصدر ، والعلة في ذلك بالنسبة إلى المفتوحة ما تقدم من كونها موصولا لا هذه العلة ؛ فإنها مسلوبة الصدرية بدليل أعجبني أنك محسن وكرهت أنك مسيىء ، إذا تقرر ذلك فنقول : إن أراد خصوص الخمسة فقط فلا معنى لذكرها في هذا المقام ، وإن أراد الخمسة مع ما يتفرع عن بعضها لتدخل المفتوحة فلا معنى للجمع بين الأمرين المذكورين ؛ إذ ليست العلة في الحكم المذكور بالنسبة إلى المفتوحة أمرين كونها من الحروف المشبهة بالفعل وكونها موصولا حرفيا ؛ إذ العلة هي الثانية لا الأولى فتأمله ؛ (ولأن اشتراكهم في الآخرة لا في زمن ظلمهم) الواقع في الدنيا ، فلا يصلح تعلق إذ ظلمتم بمشتركون.

(ومما حملوه على التعليل) قوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ)

٣١٦

[الأحقاف : ١١] ، (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف : ١٦] وقوله [من البسيط] :

١٢٠ ـ فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش ، وإذ ما مثلهم بشر

وقول الأعشى [من المنسرح] :

______________________________________________________

[الأحقاف : ١١] ، فإن علقوا إذ بسيقولون أشكل ؛ لاقترانه بالفاء المانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها ، وقال الزمخشري : العامل في إذ محذوف لدلالة الكلام عليه ، تقديره : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، وقوله : فسيقولون هذا إفك قديم مسبب عنه.

وقال ابن الحاجب : يجوز أن تكون إذ متضمنة معنى الشرط ؛ لدلالة الفاء بعدها فتكون بمعنى إذا ، وحسن التعبير بها لدلالتها على تحقق ذلك لكونها للماضي ، ومما حملوه على التعليل أيضا قوله تعالى : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ) [الكهف : ١٦] ، والمعنى : وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم (إِلَّا اللهَ) استثناء متصل ؛ لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه غيره ، كأهل مكة ، أو منقطع أي : وإذا اعتزلتم الكفار والأصنام التي تعبدونها من دون الله ، أو هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف : ١٦] ، ويرد على هذا ما مر ، ويأتي فيه ما ذكره ابن الحاجب من تضمن إذ لمعنى الشرط على نحو ما تقدم ، قال الرضي : ويجوز أن يكون هذا من باب الرجز فاهجر أي : مما أضمر فيه أما ، ومما حملوه على التعليل قوله :

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر (١)

قريش : هم ولد النضر بن كنانة وقيل : بنو فهر بن مالك بن كنانة ، والأصح الذي عليه الجمهور أنهم سموا بذلك لقرشهم ، أي : لتكسبهم يقال : قرش بفتح الراء يقرش بكسر الراء ، وكانوا أصحاب كسب ، وقيل : قريش تصغير قرش وهو حوت سميت به القبيلة أو أبوهم ؛ لقوتهم وقيل : غير ذلك ، والرواية في مثلهم فتح اللام ، وسيأتي الكلام عليه في ما ، والبشر الإنسان ذكرا أو أنثى واحدا أو غيره ، وقد يجمع فيقال أبشار ، (وقول الأعشى :

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ١٨٥ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٠٩ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٢٨٠.

٣١٧

١٢١ ـ إنّ محلّا وإنّ مرتحلا

وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا

أي : إنّ لنا حلولا في الدنيا ، وإن لنا ارتحالا عنها إلى الآخرة ، وإنّ في الجماعة الذين ماتوا قبلنا إمهالا لنا ، لأنهم مضوا قبلنا وبقينا بعدهم. وإنما يصح ذلك كلّه على القول بأن «إذ» التعليلية حرف كما قدّمنا.

والجمهور لا يثبتون هذا القسم ، وقال أبو الفتح : راجعت أبا علي مرارا في قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) [الزخرف : ٣٩] الآية ، مستشكلا إبدال «إذ» من «اليوم» ، فآخر ما تحصّل منه أن الدنيا والآخرة متّصلتان ، وأنهما في حكم الله تعالى سواء ، فكأن اليوم ماض أو كأن «إذ» مستقبلة ، انتهى.

وقيل : المعنى إذ ثبت ظلمكم ،

______________________________________________________

إن محلا وإن مرتحلا

وإن في السفر إذ مضوا مهلا) (١)

السفر جماعة المسافرين وسافر وسفر كصاحب وصحب وراكب وركب ، والسافر هو الذي خرج للسفر ، والمهل بفتح الهاء التؤدة وعدم العجلة (أي : إن لنا حلولا في الدنيا وإن لنا ارتحالا عنها) فجعل كلا من المحل والمرتحل مصدرا ميميا ، (وإن في الجماعة الذين ماتوا قبلنا إمهالا لنا ؛ لأنهم مضوا قبلنا وبقينا بعدهم) فتحقق الإمهال إذ لم نمض معهم ، (وإنما يصح ذلك كله على القول بأن إذ التعليلية حرف كما قدمنا ، والجمهور لا يثبتون هذا القسم) ، وعدم الصحة في تينك الآيتين آية الأحقاق وآية الكهف قد يظهر للتنافي بين المضي والاستقبال.

وأما في البيتين فكون التعليلية هما ليست بظرف محل نظر.

(وقال أبو الفتح) ابن جنى : (راجعت أبا علي) الفارسي (مرارا في قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) [الزخرف : ٣٩] الآية مستشكلا إبدال إذ من اليوم فآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وأنهما في حكم الله تعالى سواء فكأن اليوم ماض أو كأن إذ مستقبلة اه) ، فأما كون اليوم المستقبل في حكم الماضي فظاهر ؛ لأنه من تنزيل المستقبل المحقق الوقوع منزلة ما قد وقع تنبيها على تحقق الوقوع ، وأما كون الماضي الذي وقع وانفصل ينزل منزلة المستقبل المنتظر ففيه نظر ، (وقيل : المعنى إذ ثبت ظلمكم) عندكم ، وثبوت ظلمهم عندهم يكون يوم القيامة ، فكأنه قيل : وإن ينفعكم اليوم إذ صح ظلمكم عندكم ، فهو بدل ولا إشكال ؛ لأن إذ

__________________

(١) البيت من البحر المنسرح ، وهو للأعشى في ديوانه ص ٢٨٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٥٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٢٩.

٣١٨

وقيل : التقدير بعد إذ ظلمتم ، وعليها أيضا فـ «إذ» بدل من «اليوم» ، وليس هذا التقدير مخالفا لما قلناه في (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨] ؛ لأن المدّعى هناك أنها لا يستغنى عن معناها كما يجوز الاستغناء عن «يوم» في «يومئذ» ، لأنها لا تحذف لدليل ، وإذا لم تقدر «إذ» تعليلا فيجوز أن تكون «أنّ» وصلتها تعليلا ، والفاعل مستتر راجع إلى قولهم : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف : ٣٨] ، أو إلى «القرين» ، ويشهد لهما قراءة بعضهم (أَنَّكُمْ) [الزخرف : ٣٩] بالكسر على الاستئناف.

والرابع : أن تكون للمفاجأة ، نص على ذلك سيبويه ، وهي الواقعة بعد «بينا» أو «بينما» ، كقوله [من البسيط] :

______________________________________________________

للاستقبال على هذا التقدير ، فلم يختلف الزمنان ، (وقيل : التقدير بعد إذ ظلمتم ، و) إذا بنينا (عليهما أيضا فإذ بدل من اليوم) لما ذكرناه كما أن البدل متأت على ما ذهب إليه أبو علي الفارسي ، ولما كان هنا مظنة سؤال تقديره أن يقال : قد سلف أن بعد المضافة إلى إذ في نحو (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨] اسم زمان لا يصلح للاستغناء عنه ، فلا يحذف ، وهنا على التقدير الماضي قد حذف وهو مناف للكلام السابق ، أجاب عنه المصنف بقوله : (وليس هذا التقدير مخالفا لما قدمناه في بعد إذ هديتنا ؛ لأن المدعى هنالك أنها لا يستغنى عن معناها كما يجوز الاستغناء عن يوم في يومئذ ، لا أنها لا تحذف لدليل) ، وهنا لم نقل استغنى عن معناها حتى ينافي الكلام المتقدم ، وإنما قلنا : بأنها مرادة مقصود معناها لكنها حذفت لدليل ، (وإذا لم نقدر إذ تعليلا فيجوز أن تكون إن وصلتها تعليلا) على حذف لام العلة ، (والفاعل) ضمير (مستتر راجع إلى قولهم : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) أي : ولن ينفعكم اليوم هو ، أي : هذا القول ، أو ولن ينفعكم هذا التمني أو هذا الاعتذار ؛ لأنكم في العذاب مشتركون ، أي : لاشتراككم في سببه وهو الكفر ، (أو) راجع (إلى القرين) ، المذكور في قولهم : فبئس القرين (ويشهد لهما) أي : لهذين الاحتمالين وهما كون الفاعل ضميرا راجعا إلى قولهم يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ، وكونه ضميرا راجعا إلى القرين مع كون أن وصلتها تعليلا (قراءة بعضهم إنكم بالكسر على الاستئناف) ؛ فإنه جواب لسؤال عن العلة مقدر ، كأنه قيل : لم لا ينفعنا ذلك؟ فقيل : إنكم في العذاب مشتركون.

(والرابع) من أوجه إذ (أن تكون للمفاجأة نص على ذلك سيبويه ، وهي الواقعة بعد بينا وبينما) وقد تجيء بعدهما إذا الفجائية (كقوله :

٣١٩

١٢٢ ـ استقدر الله خيرا وارضينّ به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

______________________________________________________

استقدر الله خيرا وارضين به

فبينما العسر إذ دارت مياسير (١)

وبينما المرء في الأحياء مغتبط

إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير)

فوقعت إذ بعد بينما في البيت الأول وإذا بعدها في البيت الثاني ، وقد لا يوجد في بعض النسخ إلا البيت الأول ؛ لأنه المثال المطابق لما هو بصدده ، وكأن الأصمعي لا يستفصح إلا ترك إذ وإذا في جواب بينا وبينما ؛ لكثرة مجيء جوابهما بدونهما قال الرضي : والكثرة لا تدل على أن المكثور غير فصيح ، بل تدل على أن الأكثر أفصح ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين رضي‌الله‌عنه ، وهو من الفصاحة بحيث هو بينا هو يستقبلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته.

قال : ولما قصد إلى إضافة بين اللازم إضافته إلى المفرد إلى الجملة ، والإضافة إلى الجملة كلا إضافة زادوا عليه ما الكافة ؛ لأنها التي تكف المقتضي عن الاقتضاء ، وأشبعوا الفتحة فتولدت ألف لتكون الألف دليل عدم اقتضائه للمضاف إليه ، لأنه كأنه وقف عليه ، والألف قد يؤتى به للوقف كما في (أَنَا) [الأعراف : ١٢] ، و (الظُّنُونَا) [الأحزاب : ١٠] ، وأصل بين أن يكون مصدرا بمعنى الفراق فمعنى جلست بينكما أي : مكان فراقكما وتقدير فقلت : بين خروجك ودخولك أي : زمان فراق خروجك ودخولك ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه فبين كما تبين مستعمل في الزمان والمكان ، وأما إذا كف بما أو الألف وأضيف إلى الجمل فلا يكون إلا للزمان مضاف ، لما تقرر من أنه لا يضاف إلى الجمل من المكان إلا حيث ، وبين في الحقيقة مضاف إلى زمان مضاف إلى الجملة فحذف الزمان المضاف ، والتقدير : بين أوقات زيد قائم أي : بين أوقات قيام زيد ، اه كلامه.

وحكى الحريري في «درة الغواص» أن عبيد الجرهمي عاش ثلاثمائة سنة ، وأدرك الإسلام فأسلم ودخل على معاوية بالشام وهو خليفة فقال له : حدثني بأعجب ما رأيت ، فقال : مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتا لهم فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر :

يا قلب إنك من أسماء مغرور

فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير

قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد

حتى جرت بك إطلاقا محاضير

فلست تدري أفي الأحوال عاجلها

أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو لحريث بن جبلة أو لعثير بن لبيد في الدرر ٣ / ١٠٠ ، ولسان العرب ٤ / ٢٩٣ (دهز) ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٩٤.

٣٢٠