شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

والباء الزائدتان الاسم ، وجعل منه : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) [إبراهيم : ١٢] ، (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦] ، وقال غيره : هي في ذلك مصدريّة ، ثم قيل : ضمّن «ما لنا» معنى «ما منعنا» ، وفيه نظر ؛ لأنه لم يثبت إعمال الجارّ والمجرور في المفعول به ، ولأن الأصل أن لا تكون «لا» زائدة ، والصواب قول بعضهم : إن الأصل : «وما لنا في أن لا نفعل كذا» ، وإنما لم يجز للزائدة أن تعمل لعدم اختصاصها بالأفعال ، بدليل دخولها على الحرف وهو «لو» و «كأنّ» في البيتين ،

______________________________________________________

والباء الزائدتان الاسم ، وجعل منه (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) [إبراهيم : ١٢]) (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) [البقرة : ٢٤٦] والمعنى عنده : أي شيء ثبت لنا في حالة كوننا لا نتوكل على الله ، وقد فعل الله تعالى بنا ما يوجب توكلنا عليه وهو التوفيق لهداية السبيل الذي يحب سلوكه في الدين ، وأي شيء ثبت لنا في حالة تركنا للقتال في سبيل الله وقد وقع ما يقتضيه ، فما بعد أن عنده جملة خالية ، فإن قلت : المضارع يتعين للاستقبال بمصاحبة ناصب ، وجملة الحال لا تصدر بدليل استقبال ، فكيف هذا؟ قلت : إنما يكون الناصب معينا للاستقبال إذا لم يكن زائدا فلا يرد حينئذ مثل هذا.

(وقال غيره : هي في ذلك) الذي استشهد به (مصدرية ، ثم قيل ضمن ما لنا معنى ما منعنا) ومنع يتعدى إلى مفعولين تقول : منعت زيدا أثاثه فتكون أن وصلتها في محل نصب على أنه المفعول الثاني ، (وفيه نظر ؛ لأنه لم يثبت إعمال الجار والمجرور في المفعول) المصرح حتى يصح هذا التخريج ، (ولأن الأصل أن لا تكون لا زائدة) ، وإذا قيل : إن ما لنا ضمن معنى ما منعنا لزم زيادة لا إذ المعنى أي شيء منعنا التوكل ومنعنا القتال ، وقد يقال : على الأول : إنما يرد ذلك أن لو كان المصدر المسبوك عند القائل مفعولا مصرحا كما سبق تقريره ، وليس في كلامه ما يقتضيه ، وقد قال الجوهري يقال : منعته عن كذا فامتنع ، فيحتمل أن يكون هذا القائل يرى أن «أنّ» وصلتها معمولان للجار والمجرور المتضمنين معنى منعنا على تقدير نزع الخافض ، أي ما منعنا عن كذا فلا يكون مفعولا به مصرحا فلا يمتنع عمل الجار والمجرور على التضمين ، والمحل حينئذ إما نصب أو خفض على الخلاف.

(والصواب قول بعضهم إن الأصل) بفتح الهمزة أو كسرها على ما مر (وما لنا في أن لا نفعل كذا) ثم حذف الجار وهو في مثله قياس ، ثم شرع المصنف في رد قياس الأخفش عمل أن الزائدة على عمل حرف الجر الزائد بإبداء الفارق فقال : (وإنما لم يجز للزائدة أن تعمل لعدم اختصاصها بالأفعال بدليل دخولها على الحرف ، وهو لو وكان في البيتين) بل الأبيات الثلاثة فإنها دخلت على لو في قوله : فأقسم أن لو التقينا ، وقوله : أما والله أن لو كنت حرا البيت ،

١٤١

وعلى الاسم وهو «ظبية» في البيت السابق بخلاف حرف الجرّ الزائد ، فإنه كالحرف المعدّى في الاختصاص بالاسم ، فلذلك عمل فيه.

مسألة ـ ولا معنى لـ «أن» الزّائدة غير التوكيد كسائر الزوائد ، قال أبو حيان : وزعم الزمخشريّ أنه ينجرّ مع التوكيد معنى آخر ، فقال في قوله تعالى : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) [العنكبوت : ٣٣] : دخلت «أن» في هذه القصّة ولم تدخل في قصّة إبراهيم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً) [هود : ٦٩] تنبيها وتأكيدا ، على أن الإساءة كانت تعقب المجيء ، فهي مؤكّدة في قصّة لوط للاتّصال واللّزوم ، ولا كذلك في قصّة إبراهيم ، إذ ليس الجواب فيها كالأوّل ؛ وقال الشّلوبين :

______________________________________________________

وعلى كان في قوله : حتى إذا أن كأنه البيت. (وعلى الاسم وهو ظبية) بالكسر والتنوين على الحكاية ، وبالرفع مع ترك التنوين ؛ لأنه اسم علم على نفس هذا اللفظ ، ففيه العلمية وتاء التأنيث فيمتنع من الصرف والمراد به اللفظ الواقع (في البيت) ، وهو قوله ويوما توافينا إلى آخره ، (بخلاف حرف الجر الزائد ؛ فإنه كالحرف المعدى) أي الذي يعدي الفعل ، أو ما في معناه إلى المفعول (في الاختصاص بالاسم فذلك عمل) ولم يلتفت إلى كونه زائدا.

(مسألة ولا معنى لأن الزائدة غير التوكيد كسائر الزوائد) قال الرضي : فإن قيل فيجب أن لا تكون زائدة إذا أفادت فائدة معنوية ، قيل : إنما سميت زائدة ؛ لأنه لا يتغير بها أصل المعنى بل لا يزيد بسببها إلا تأكيد المعنى الثابت وتقويته ، فكأنها لم تفد شيئا لما لم تغاير فائدته العارضة الفائدة الحاصلة قبلها ، ويلزمهم على هذا أن يعدوا أن ولام الابتداء وألفاظ التوكيد اسما كانت أو لا زوائد ، ولا يقولوا به ، إلى هنا كلامه.

(قال أبو حيان وزعم الزمخشري أنه ينجر مع التوكيد معنى آخر ، فقال في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) [هود : ٧٧] دخلت أن في هذه القصة ولم تدخل في قصة إبراهيم في قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً) [هود : ٦٩] تنبيها وتأكيدا في أن الإساءة كانت تعقب المجيء) على أن تعقب فعل مضارع ، والمجيء منصوب به أو على أنه بباء ظرفية داخلة على المضاف إلى المجيء ، أي : كانت في أثر المجيء (فهي مؤكدة للاتصال واللزوم ، ولا كذلك في قصة الخليل ، إذ ليس الجواب فيه كالأول ، وقال الشلوبين) هو الأستاذ أبو علي عمر بن محمد بن عمر الأزدي ، والشلوبين بفتح الشين المعجمة واللام وسكون الواو بعدها موحدة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فنون ، وهي بلغة الأندلسيين الأبيض الأشقر ، مات سنة خمس وأربعين وستمائة ، كذا من ابن خلكان.

١٤٢

«لما كانت «أن» للسبب في «جئت أن أعطي» أي : للإعطاء ، أفادت هنا أن الإساءة كانت لأجل المجيء وتعقيبه ، وكذلك في قولهم : «أما والله أن لو فعلت لفعلت» ، أكّدت أن ما بعد «لو» وهو السبب في الجواب ، وهذا الذي ذكراه لا يعرفه كبراء النحويّين». انتهى.

والذي رأيته في كلام الزمخشري في تفسير سورة العنكبوت ما نصّه : «أن» صلة أكّدت وجود الفعلين مرتّبا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان ، كأنّه قيل : لما أحسّ بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث ، انتهى.

والرّيث : البطء ، وليس في كلامه تعرّض للفرق بين القصتين كما نقل عنه ، ولا كلامه مخالف لكلام النّحويّين ، لإطباقهم على أنّ الزائد يؤكّد معنى ما جيء به لتوكيده.

و «لمّا» تفيد وقوع الفعل الثاني عقب الأول وترتّبه عليه ، فالحرف الزائد يؤكّد ذلك ،

______________________________________________________

(لما كانت أن للسبب في جئت أن تعطي أي للإعطاء أفادت هنا أن الإساءة كانت لأجل المجيء وتعقبه) على الضبطين المتقدمين ، أي : وتقع عقبه أو لأجل المجيء وفي عقبه (وكذلك في قولهم : أما والله إن فعلت لفعلت ، أكدت أن ما بعد لو وهو السبب في الجواب ، وهذا الذي ذكراه) أي الزمخشري والشلوبين (لا يعرفه كبراء النحويين انتهى) كلام أبي حيان (والذي رأيته في كلام الزمخشري في تفسير سورة العنكبوت ما نصه : إن صلة أكدت وجود الفعلين مرتبا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل : لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث انتهى) كلام الزمخشري (والريث البطء ، وليس في كلامه تعرض للفرق بين القصتين كما نقل عنه) أبو حيان (ولا كلامه مخالف لكلام النحويين) كما ادعاه أبو حيان أيضا ، (لإطباقهم على أن الزائد يؤكد معنى ما جيء به) وهذا الضمير للزائد (لتأكيده) وهذا الضمير راجع إلى ما ، (ولما تفيد وقوع الفعل الثاني عقب الأول وترتبه عليه ، فالحرف الزائد يؤكد ذلك) فإن قلت : هبك أن الزمخشري لم يتعرض للفرق بين القصتين لكن وقع في سورة هود (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) [هود : ٧٧] ، ووقع في سورة العنكبوت (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) [العنكبوت : ٣٣] فذكرت أن في الثانية دون الأول ، والقصة واحدة فما السر في التفريق بين المحلين؟ قلت : لما رتب في آية هود على مجيء الرسل لوطا عليهم‌السلام أمور هي مساءته وضيق ذرعه بهم ، وقوله : هذا يوم عصيب ، ومجيء قومه يهرعون إليه لم يؤت بأن لمنافاة معناها لهذا المقام ، وذلك أن

١٤٣

ثم إن قصّة الخليل التي فيها : (قالُوا سَلاماً) [هود : ٦٩] ليست في السورة التي فيها (سِيءَ بِهِمْ) [العنكبوت : ٣٣] ، بل في سورة هود ، وليس فيها «لمّا» ثم كيف يتخيّل أن التحية تقع بعد المجيء ببطء؟ وإنما يحسن اعتقاد تأخّر الجواب في سورة العنكبوت إذ الجواب فيها : (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) [العنكبوت : ٣١] ، ثم إن التعبير بالإساءة لحن ، لأن الفعل ثلاثي كما نطق به التنزيل ، والصواب المساءة ، وهي عبارة الزمخشريّ.

______________________________________________________

مجموع هذه الأمور المرتبة في هذه الآية من حيث هو مجموع ، ليس شديد الاتصال لمجيء الرسل حتى يعد المجموع كأنه واقع في جزء واحد من الزمان ، دخلت أن في آية العنكبوت ؛ لأنه لم يرتب فيها على مجيء الرسل غير مساءة لوط وضيق ذرعه ، وهما شديدا الاتصال بذلك المجيء ، فأتى بها إشعارا بهذا المعنى كما قال الزمخشري فتأمله ، والذرع مصدر مأخوذ من الذراع ، ولما كان الذراع موضع شدة الإنسان قيل في الأمر : الذي لا طاقة للإنسان به ضاق بهذا الأمر : ذراع فلان ، وذرعه أيضا أي : حيلته بذراعه وتوسعوا في هذا حتى قلبوه فقالوا : فلان رحب الذراع إذا وصفوه باتساع القدرة ، ومنه قول القائل :

يا سيدا ما أنت من سيد

موطأ الأكناف رحب الذراع (١)

(ثم إن قصة الخليل التي فيها قالوا : سلاما ليست في السورة التي فيها سيىء بهم) وهي سورة العنكبوت (بل هي في سورة هود ، وليس فيها لما) ونص التلاوة فيها أعني : في سورة هود (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود : ٦٩] فإن قلت : قصة الخليل التي فيها قالوا سلاما وقعت في سورة هود كما تلوناه ، وفيها (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) [هود : ٧٧] فإن لم يصدق قول : المصنف ليست في السورة التي فيها سيىء بهم ، قلت : المراد بسيىء بهم ما وقع جوابا للما المزيد بعدها أن ، وهي التي تلاها أبو حيان وهذه في سورة العنكبوت فقط ، وهذه السورة لم يقع فيها قصة الخليل التي فيها قالوا سلاما ، وإنما وقعت في سورة هود فكلام المصنف مستقيم.

(ثم كيف يتخيل أن التحية تقع بعد المجيء ببطء؟! وإنما يحسن اعتقاد تأخر الجواب) عن المجيء (في سورة العنكبوت إذ الجواب فيها (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) [العنكبوت : ٣١]) لا قولهم قالوا سلاما كما في سورة هود (ثم التعبير) أي : تعبير أبي حيان (بالإساءة لحن ؛ لأن الفعل ثلاثي كما نطق به التنزيل) في قوله : سيىء بهم (والصواب المساءة وهي عبارة الزمخشري)

__________________

(١) البيت من البحر السريع ، وهو للسفاح بن بكير في خزانة الأدب ٦ / ٩٥ ، والدرر ٣ / ٢٣.

١٤٤

وأما ما نقله عن الشلوبين فمعترض من وجهين :

أحدهما : أن المفيد للتعليل في مثاله إنما هو لام العلّة المقدّرة ، لا «أن».

والثاني : أنّ «أن» في المثال مصدريّة ، والبحث في الزائدة.

تنبيه ـ وقد ذكر لـ «أن» معان أربعة أخر :

أحدها : الشرطيّة كـ «إن» المكسورة ، وإليه ذهب الكوفيّون ، ويرجّحه عندي أمور:

أحدها : توارد المفتوحة والمكسورة على المحلّ الواحد ، والأصل التوافق ، فقرىء بالوجهين قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) [البقرة : ٢٨٢] ،

______________________________________________________

وأما الإساءة فمصدر أساء اللازم ، لا أساء المتعدي تقول : أساء إلى زيد وساءني ما صدر منه من الإساءة ، والذي في الآية متعد لا لازم.

(وأما ما نقله) أبو حيان (عن الشلوبين فمعترض من وجهين :

أحدهما : أن المفيد للتعليل في مثاله) وهو قولك : جئت أن تعطي (إنما هو لام العلة المقدرة) إذ التقدير جئت لأن تعطي (لا أن) نفسها.

(والثاني أن أن) نفسها (في المثال) المذكور (مصدرية) لا زائدة (والبحث في الزائدة) لا في المصدرية ، فلا معنى لإيراد هذا المثال فيما نحن فيه.

(تنبيه : وقد ذكر لأن) المفتوحة المخففة وهي التي الكلام فيها (معان أربعة أخر) جمع أخرى وإن كان واحد الموصوف معنى ، وإنما يقال فيه آخر لا أخرى ، وهذا على حد قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤] والوجه فيه أن الموصوف إذا كان جمع مذكر مما لا يعقل فأنت بالخيار في صفته ، إن شئت عاملتها معاملة الجمع المؤنث كما في الآية وعبارة المصنف ، وإن شئت عاملتها معاملة المفرد المؤنث تقول : صمت أياما أخرى ، وذكرت معاني أخرى وهذا جار في الصفات والأخبار والأحوال.

(أحدها الشرطية كإن المكسورة وإليه ذهب الكوفيون ، ويرجحه عندي أمور :

أحدها توارد المكسورة والمفتوحة على المحل الواحد ، والأصل التوافق) وفيه نظر بل الأصل عدم الترادف (وقرىء بالوجهين) فتح الهمزة وكسرها (قوله تعالى) : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) [البقرة : ٢٨٢] قرأ حمزة إن تضل بكسر الهمزة فتذكر بالتثقيل والرفع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أن تضل بفتح الهمزة فتذكر بالتخفيف والنصب ، والباقون بفتح الهمزة أيضا وتثقيل تذكر ونصبه ، وعلى الجملة فمن قرأ بفتح همزة أن قرأ بنصب تذكر ، وقد يقال : إن نصبه يوجب أن يكون المعطوف عليه وهو تضل منصوبا لا

١٤٥

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ) [المائدة : ٢] ، (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ

______________________________________________________

مجزوما ، فيتعين أن تكون غير شرطية ، فيرد على المصنف ، ويمكن أن يجاب بأنا لا نسلم أن نصب هذا الفعل بالعطف على تضل بل منصوب بأن مضمرة بعد الفاء الواقعة بعد الشرط ، كما في قولك : إن جئتني فتكرمني أجئك بنصب تكرم ، فهو عطف مصدر على اسم متصيد من الفعل المتقدم ، والمعنى إن يكن منك مجيء إلي فإكرام منك لي أجئك ، أجروا المضارع بعد الفاء في سياق الشرط مجراه بعدها في سياق الأمر والنهي وأخواتهما ، مما هو مقرر في محله لكن ذاك قليل ، والمشهور في توجيه هذه القراءة أن تذكر منصوب معطوف على تضل المنصوب بأن واللام مقدرة على ما صرح به سيبويه ، وجمع من المحققين ، حيث قالوا : إن المعنى استشهدوا امرأتين لأن تذكر إحداهما الأخرى ، وإنما ذكر أن تضل ؛ لأن الضلال هو السبب الذي به وجب الإذكار ، ومثله أعددت الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه وإنما أعددتها للدعم لا للميل ، لكن ذكر الميل إنما هو سبب الدعم كما ذكر الإضلال ؛ لأنه سبب الإذكار ، وأما قراءة حمزة بكسر الهمزة فتضل مجزوم ؛ والفتح لالتقاء الساكنين والفاء في الجواب لتقدير المبتدأ ، وهو ضمير القصة أو الشهادة ، قال التفتازاني : ولا يخلو عن تكلف بخلاف قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] أي : فهو ومما كان ينبغي أن يتعرض له وجه تكرار إحداهما ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر ؛ إذ ليست المذكرة هي الناسية إلا أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول ، ولا يجوز تقدم المفعول على الفاعل في موضع الإلباس ، نعم يصح أن يقال : فتذكرها الأخرى فلا بدّ للعدول من نكتة ، إلى هنا كلامه.

وفي «أمالي» ابن الحاجب رحمه‌الله تعالى : أن المقصود هو إفادة كون التذكير من إحداهما للأخرى كيف ما قدر ، ولا يستقيم إلا كذلك ، ألا ترى أنه لو قيل أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى وجب أن يكون ضميرا لمفعول عائدا على الضالة ، فيتعين لها وذلك يخل بالمعنى المقصود ؛ لأن الضالة الآن في الشهادة قد تكون هي الذاكرة لها في زمان آخر ، فالمذكرة حينئذ هي الضالة ، فإذا قيل فتذكرها الأخرى لم يفد ذلك لتعين عود الضمير إلى الضالة ، وإذا قيل فتذكر إحداهما الأخرى كان مبهما في كل واحدة منهما ، فلو ضلت إحداهما وذكرتها الأخرى فذكرت كان داخلا ، ثم لو انعكس الأمر والشهادة بعينها في وقت آخر اندرج أيضا تحته لوقوع قوله فتذكر إحداهما الأخرى على غير معين ، فظهر الوجه الذي لأجله عدل عن فتذكرها إلى فتذكر إحداهما ، هكذا قيل وفيه بحث ، وقرىء أيضا بالوجهين قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [المائدة : ٢] فابن كثير وأبو عمرو على كسر الهمزة ، والباقون على الفتح ، وكذا قرىء بهما في قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ

١٤٦

كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (٥) [الزخرف : ٥] ، وقد مضى أنه روي بالوجهين قوله [من الطويل] :

أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا

الثاني : مجيء الفاء بعدها كثيرا ، كقوله [من البسيط] :

٤٤- أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

______________________________________________________

(كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] فقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر همزة إن والباقون بفتحها ، وفي كلام المصنف حذف العاطف في موضعين والواجب إثباته (وقد مضى أنه روي بالوجهين قوله :

أتغضب أن إذنا قتيبة حزتا)

جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم (١)

والاستدلال بهذا كله مبني على ما ذكره من أن الأصل التوافق ، إما بمعنى الترادف وفيه ما علمت ، وإما بمعنى أن التركيب المعين إذا وجد تركيب آخر لم يخالفه إلا في بعض مفرداته ، فالأصل أن يكون معنياهما متفقين لا مختلفين وهذا أيضا ممنوع.

(والثاني مجيء الفاء بعدها كثيرا كقوله) أي : قول العباس بن مرداس السلمي :

(أبا خراشة أما أنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبع) (٢)

واستظهر الرضي كون أن في هذا البيت شرطية لمساعدة اللفظ والمعنى إياه ، أما المعنى فلأن معنى قوله : أما أنت ذا نفر البيت إن كنت ذا عدد فلست بمفرد ، وأما اللفظ فلمجيء الفاء كما قاله المصنف ، ويحتمل أن يكون ما بعد الفاء في البيت جواب شرط مقدر ، وأن مصدرية كما يقول الجماعة لا شرطية ، والمعنى : لا تتعزز علي ؛ لأن كنت ذا نفر فإن فخرت بذلك فخرت أنا بمثله فإن قومي باقون لم تستأصلهم الأزمان ، فحذف المسبب وأقيم السبب مقامه ، وأبو خراشة بخاء معجمة مضمومة ، وراء وشين معجمة ، وقد حكى بعض الكسر في خائه كنية شاعر مشهور اسمه خفاف بخاء معجمة مضمومة وفاءين خفيفتين بينهما ألف ابن ندبة بنون مفتوحة ، وهي أمه والنفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة ، والنفر أيضا الرهط وهو المراد في البيت ، والضبع على زنة الرجل السنة المجدبة ، وفيه تورية لأنه أوهم أنه يريد الحيوان المعروف ورشح بقوله تأكلهم وهو مجاز عن الشدة التي تحصل من جدب السنة ، شبهها بالآكل فهو استعارة تبعية.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو لعباس بن مرداس في ديوانه ص ١٢٨ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٣.

١٤٧

الثالث : عطفها على «إن» المكسورة في قوله [من البسيط] :

٤٥ ـ إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلا

فالله يكلأ ما تأتي وما تذر

الرواية بكسر «إن» الأولى وفتح الثانية ، فلو كانت المفتوحة مصدريّة لزم عطف المفرد على الجملة ، وتعسّف ابن الحاجب في توجيه ذلك ، فقال : «لمّا كان معنى قولك : «إن جئتني أكرمتك» ، وقولك : «أكرمك لإتيانك إيّاي» واحدا صحّ عطف التّعليل على الشرط في البيت ، ولذلك تقول : «إن جئتني وأحسنت إليّ أكرمتك» ، ثم تقول : «إن جئتني ولإحسانك إليّ أكرمتك» فتجعل الجواب لهما» انتهى.

وما أظنّ أن العرب فاهت بذلك يوما ما.

المعنى الثاني : النفي كـ «إن» المكسورة أيضا ، قاله بعضهم في قوله تعالى : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) [آل عمران : ٧١]

______________________________________________________

(الثالث عطفها على المكسورة كقوله :

إما أقمت وأما أنت مرتحلا

فالله يكلأ ما تأتي وما تذر (١)

الرواية بكسر الأولى وفتح الثانية فلو كانت المفتوحة مصدرية لزم عطف المفرد على الجملة) واللازم باطل ، وبيان الملازمة أن المفتوحة المصدرية تؤول مع صلتها بمصدر ، وهو من قبيل المفردات ، والمكسورة شرطية فإنما تدخل على الجملة ، وهذه الملازمة التي ذكرها مبنية على ما ذكره من عطف المصدر على الجملة السابقة ، وهو ممنوع ، لجواز أن يكون المصدر المسبوك فاعلا بفعل محذوف أي : إن أقمت ووقع ارتحالك ، فإنما عطف جملة على جملة.

(وتعسف ابن الحاجب في توجيه ذلك فقال : لما كان معنى قولك إن جئتني أكرمتك ، وقولك أكرمك لإتيانك إياي واحدا صح عطف التعليل على الشرط في البيت ، ولذلك) أي : ولأجل كون التعليل في معنى الشرط (تقول) وفي بعض النسخ كذلك بكاف التشبيه تقول : (إن جئتني وأحسنت إلي أكرمتك ثم تقول إن جئتني ولإحسانك إلي أكرمتك ، وتجعل الجواب لهما انتهى) كلام ابن الحاجب ، (وما أظن العرب فاهت بذلك يوما) يعني الظاهر كون هذا المثال تركيب مخترع لا يوجد له نظير في كلام العرب.

(والمعنى الثاني) من المعاني الأربعة المزيدة (النفي كإن قاله بعضهم في) قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) [آل عمران : ٧٣] أي

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، هو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٤١٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٩.

١٤٨

وقيل : إنّ المعنى : ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب إلّا لمن تبع دينكم ، وجملة القول اعتراض.

والثالث : معنى «إذ» كما تقدّم عن بعضهم في «إن» المكسورة ، وهذا قاله بعضهم في : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ق : ٢] ، (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا) [الممتحنة : ١] ، وقوله [من الطويل] :

أتغضب أن أذنا قتيبة حزّتا

والصّواب لها أنها في ذلك كلّه مصدريّة : وقبلها لام العلة مقدّرة.

______________________________________________________

لا يؤتى أحد ، (وقيل : إنما المعنى ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب ، إلا لمن تبع دينكم وجملة القول اعتراض) ، وهذا كلام الزمخشري قال : ولا تؤمنوا متعلق بقوله أن يؤتى وما بينهما اعتراض ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين انتهى ، ولم يتعقبه المصنف ، وقد يقال عليه : إنما يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان مستثنى نحو ما قام إلا زيد ، أو مستثنى منه نحو ما قام إلا زيدا أحد ، أو تابعا نحو ما قام أحد إلا زيد الفاضل ، وما بعد إلا في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري ليس شيئا من الثلاثة ، وقيل : إن الكلام ثم عند قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) [آل عمران : ٧٣] ، ومعنى قوله أن يؤتى لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، قلتم ذلك ودبرتموه لا لشيء آخر ، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ، آن بالمد والاستفهام يعني ألآن يؤتى أحد منكم مثل ما أوتيتم من الكتاب فعلتم ذلك ، كذا في «الكشاف» وجوز غير ذلك أيضا فقف عليه.

(الثالث) من المعاني الأربعة المزيدة (معنى إذ) وهي المفيدة للتعليل (كما تقدم عن بعضهم في إن المكسورة ، وهذا المعنى في المفتوحة قاله بعضهم في) قوله تعالى : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ق : ٢] وقوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا) [الممتحنة : ١] وفي كلام المصنف حذف العاطف أي في بل عجبوا ويخرجون (و) في (قوله: أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا) في رواية من رواه بفتح الهمزة من أن (والصواب أنها في ذلك كله مصدرية ، وقبلها لام العلة مقدرة) بالنصب على الحال من الضمير المستكن في قبلها ، أو من لام العلة على أنه فاعل بالظرف المتقدم ، وبالرفع على الخبر ، وقبلها حينئذ لغو متعلق به ، قلت : ومن جملة ذلك كله قوله :

١٤٩

والرابع : أن تكون بمعنى «لئلّا» ، قيل به في : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، وقوله [من الوافر] :

٤٦ ـ نزلتم منزل الأضياف منّا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

والصواب أنها مصدرية ، والأصل : كراهية أن تضلّوا ، ومخافة أن تشتمونا ، وهو قول البصريّين. وقيل : هو على إضمار لام قبل «أن» و «لا» بعدها ، وفيه تعسّف.

* (إنّ) ـ المكسورة المشدّدة ، على وجهين :

أحدهما : أن تكون حرف توكيد ، تنصب الاسم وترفع الخبر ،

______________________________________________________

أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا (١)

فهذا اعتراف منه بأن القول بأنها في هذا البيت شرطية خطأ ، وقد أشار فيما سبق إلى أن الراجح عنده فيه كونها شرطية وهو تناقض.

(والرابع) من المعاني الأربعة المزيدة (أن تكون بمعنى لئلا قيل به في (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] و) في (قوله :

نزلتم منزل الأضياف منا

فعجلنا القرى أن تشتمونا) (٢)

القرى مقصور بكسر القاف ما يقدم للضيف والشتم السب ، يقال : شتمه يشتمه بفتح العين في الماضي وكسرها وضمها في المضارع (والصواب أنها مصدرية ، والأصل) في الآية (كراهية أن تضلوا) بتخفيف ياء كراهية ، (و) في البيت (مخافة أن تشتمونا) ، أو كراهة أن تشتمونا فحذف المضاف المنصوب على أنه مفعول لأجله وأقيم المضاف إليه مقامه ، (وقيل : هو على إضمار لام قبل أن ولا بعدها ، وفيه تعسف) من جهة ارتكاب حذف شيئين مع إمكان حذف شيء واحد ، وقد يقال : حذف الجار قبل أن مطرد وحذف الثاني للقرينة جائز في سعة الكلام ، وليس تعدد المحذوف بمفرده موجبا للتعسف.

(«إن» المكسورة) الهمزة (المشددة) النون (على وجهين :

أحدهما أن تكون حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر) كأخواتها ، والسر في عملها على هذا الوجه أن هذه الحروف شابهت الأفعال المتعدية معنى لطلبها الجزئين مثلا ، وشابهت

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص ٧٣ ، والأزهية ص ٧١.

١٥٠

قيل : وقد تنصبهما في لغة ، كقوله [من الطويل] :

٤٧ ـ إذا اسودّ جنح اللّيل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا ، إنّ حرّاسنا أسدا

وفي الحديث «إنّ قعر جهنّم سبعين خريفا» ، وقد خرّج البيت على الحاليّة وأنّ الخبر محذوف ، أي تلقاهم أسدا ، والحديث على أن القعر مصدر «قعرت البئر» إذا بلغت قعرها ، و «سبعين» ظرف ، أي : إن بلوغ قعرها يكون في سبعين عاما.

______________________________________________________

مطلق الأفعال الماضية من حيث كونها على ثلاثة أحرف فصاعدا ، ومن فتح أواخرها كما أسلفناه فكانت مشابهتها للأفعال أقوى من مشابهة ما الحجازية ، فجعل عملها أقوى بأن قدم منصوبها على مرفوعها ؛ وذلك لأن العمل الطبيعي عندهم أن يرفع ثم ينصب فعكسه عمل غير طبيعي ، فهو تصرف في العمل ، وقيل قدم المنصوب على المرفوع قصدا إلى الفرق بينها وبين الأفعال التي هي أصلها من أول الأمر ، أو تنبيها بجعل عملها فرعيا على كونها فروعا للفعل ، وهاتان العلتان ثابتتان في ما الحجازية ، ولم يقدم منصوبها فالعلة هي الأولى ، كذا قاله الرضي ، (قيل : وقد تنصبهما) أي الاسم والخبر (في لغة) لبعض العرب (كقوله :

إذا السود جنح الليل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا إن حراسنا أسدا) (١)

بنصب الجزءين والجنح بضم الجيم وكسرها طائفة من الليل ، والخطا جمع خطوة بالضم ، وهي ما بين القدمين ، وخفافا جمع خفيفة والحراس جمع حارس ، وأسدا بإسكان السين جمع أسد ، قال الجوهري : هو مخفف من أسد بضمتين ، لكنه قال : أسد هذا مقصور من أسود وهو منتقد ، (وفي الحديث «إن قعر جهنم سبعين خريفا») (٢) ووجه الاستدلال به أنه قد ورد إن قعر جهنم لسبعون خريفا على ما حكاه الرضي ، فأخبر بقوله سبعون على القعر ، والظاهر أن المراد أن مسافة قعر جهنم أي : مسافة السير إليه سبعون خريفا فيكن النصب كذلك ، (وخرج البيت على الحالية وأن الخبر محذوف ، أي : تلقاهم أسدا) وخرج أيضا على أن يكون المنصوب مفعولا به لا حالا والتقدير يشبهون أسدا ، (و) خرج (الحديث على أن القعر مصدر قعرت البئر إذا بلغت) بالخطاب (قعرها ، وسبعين ظرف) متعلق بالخبر المحذوف لا خبر (أي : إن بلوغ قعرها يكون سبعين عاما) أي : يوجد في سبعين عاما ، وقد يستشكل تخريج الحديث على هذا برواية الرفع ؛ لأنه قد ظهر بها أن القعر اسم عين لا مصدر ، ويجاب بأن كونه اسم عين على رواية الرفع لا

__________________

(١) البيت من البحر الوافر هو لعبد اللطيف الأطاسي ، انظر : خزانة الأدب للبغدادي ، الشاهد ٨٤٢.

(٢) أخرجه البزار في مسنده ٧ / ٢٦١.

١٥١

وقد يرتفع بعدها المبتدأ فيكون اسمها ضمير شأن محذوفا ، كقوله عليه الصلاة والسّلام : «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون» ، الأصل : إنه أي الشأن ، كما قال [من الخفيف] :

٤٨ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء

وإنما لم تجعل «من» اسمها لأنّها شرطيّة ، بدليل جزمها الفعلين ، والشرط له الصّدر ، فلا يعمل فيه ما قبله.

______________________________________________________

يمنع من جعله مصدرا على رواية النصب ، قلت : وعلى كل تقدير فلا يقدح التخريج المذكور في نقل صاحب هذا القول إن نصب الجزءين بها لغة لبعض العرب ، (وقد يرتفع بعدها المبتدأ فيكون اسمها ضمير شأن محذوفا ، كقوله عليه الصلاة والسّلام : «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» (١) الأصل إنه أي الشأن) وصرح ابن الحاجب وجماعة بأن حذف هذا الضمير ضعيف ، قال الرضي : ومجوز حذفه منصوبا مع ضعفه صيرورته بالنصب (٢) في صورة الفضلات مع دلالة الكلام عليه (كما قال) الشاعر :

(إن من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء) (٣)

الجآذر بالذال المعجمة جمع جؤذر بضم الجيم مع ضم الذال وفتحها ولد البقرة الوحشية (وإنما لم تجعل «من» اسمها ؛ لأنها شرطية بدليل جزمها للفعلين) ؛ إذ لام الأول مكسورة لالتقاء الساكنين ، ولام الثاني محذوفة للجزم ، (والشرط له المصدر ، فلا يعمل فيه ما قبله) من رافع أو ناصب ، وأما الجار فلا يمتنع عمله فيه لشدة اتصاله ، تقول : بمن تمرر أمرر وغلام من تضرب أضرب ، وكذا قول الآخر :

إن من لام في بني بنت حسا

ن ألمه وأعصه في الخطوب

وفي «شرح المفصل» للسخاوي أن حذف هذا الضمير مختص بالشعر ، وقال ابن مالك : وليس كذلك بل يجوز حذف الاسم المفهوم معناه نثرا ونظما ، سواء كان ضمير شأن أو غيره ، فمثال حذف ضمير الشأن في النظم ما مر ، ومثاله في النثر قولهم : إن يك زيد مأخوذ ، ومثال حذف غيره في النظم قوله :

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب اللباس ، باب عذاب المصورين يوم القيامة (٥٩٥٠) ، ومسلم ، كتاب اللباس والزينة ، باب تحريم تصوير صورة الحيوان (٢١٠٩) ، والنسائي ، كتاب الزينة ، باب ذكر أشد الناس عذابا (٥٣٦٤).

(٢) هكذا العبارة في الأصل فليحرر.

(٣) البيت من البحر الخفيف ، وهو للأخطل في خزانة الأدب ١ / ٤٥٧ ، والدرر ٢ / ١٧٩ ، وهو ليس في ديوانه.

١٥٢

وتخريج الكسائي الحديث على زيادة «من» في اسم «إنّ» يأباه غير الأخفش من البصريين ، لأن الكلام إيجاب ، والمجرور معرفة على الأصحّ ، والمعنى أيضا يأباه ، لأنهم ليسوا أشدّ عذابا من سائر الناس.

وتخفّف فتعمل قليلا ، وتهمل كثيرا ، وعن الكوفيّين أنها لا تخفّف ، وأنه إذا قيل «إن زيد لمنطلق» فـ «إن» نافية ، واللام بمعنى «إلّا» ، ويردّه أنّ منهم من يعملها مع التّخفيف ، حكى سيبويه «إن عمرا لمنطلق» ، وقرأ الحرميان وأبو بكر : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١١].

الثاني : أن تكون حرف جواب بمعنى «نعم» ،

______________________________________________________

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكن زنجي عظيم المشافر (١)

ومثاله في النثر قولهم إن يك مأخوذ أخواك ، ولا يجوز أن يقدر المحذوف ضمير شأن ؛ لأنه لا يفسر إلا بجملة ، ولا جملة في البيت ولا في المثال ، والتقدير : ولكنك زنجي وإنك يك مأخوذا خواك ، (وتخريج الكسائي الحديث على زيادة من في اسم إن يأباه غير الأخفش من البصريين ؛ لأن الكلام إيجاب والمجرور معرفة على الأصح) وهم يخالفون في الشقين فيشترطون كون المجرور نكرة ، وكونه بعد نفي أو شبهه (والمعنى) المراد من الحديث (أيضا يأباه ؛ لأنهم) أي المصورين (ليسوا أشد عذابا من سائر الناس) وفيه نظر ؛ فقد قيل إن الحديث وارد فيمن يصدر الصور لتعبد من دون الله تعالى ، وفاعل هذا كافر بلا شك ولا بدع حينئذ في أن يكون أهل هذه الحرفة الشنعاء أشد الناس عذابا ، ويؤيده أن الحديث قد روي في الصحيحين بطريق ليس فيها لفظ من ، وبه يقوى تأويل الكسائي لفظا ومعنى.

(وتخفف) إن المشددة (فتعمل) من الإعمال (قليلا وتهمل كثيرا وعن الكوفيين أنها لا تخفف وأنه إذا قيل إن زيد لمنطلق فإن نافية واللام بمعنى إلا ، ويرده أن منهم من يعملها مع التخفيف ، حكى سيبويه إن عمرا لمنطلق ، وقرأ الحرميان وأبو بكر (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)) وقد تقدم هذا الفصل برمته في الكلام على إن المكسورة الخفيفة ، ومر البحث فيه وما عليه من المناقشة.

الوجه (الثاني) من وجهي إن المشددة (أن تكون حرف جواب بمعنى نعم) فتقع تصديقا

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ٤٨١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٤٤ ، ولسان العرب ٤ / ٤١٩ (شغر).

١٥٣

خلافا لأبي عبيدة ، استدلّ المثبتون بقوله [من مجزوء الكامل] :

٤٩ ـ ويقلن : شيب قد علا

ك ، وقد كبرت ، فقلت : إنّه

وردّ بأنّا لا نسلّم أن الهاء للسكت ، بل هي ضمير منصوب بها ، والخبر محذوف ، أي : إنه كذلك ، والجيّد الاستدلال بقول ابن الزّبير رضي‌الله‌عنه لمن قال له : «لعن الله ناقة حملتني إليك» : «إنّ ، وراكبها» ، أي : نعم ، ولعن راكبها ، إذ لا يجوز حذف الاسم والخبر جميعا.

______________________________________________________

للمخبر وجوابا وإعلاما للمستخبر ووعدا للطالب ، فتقول : إن في جواب من قال : قام زيد ، ومن قال : أذهب عمرو ، ومن قال : أكرم خالدا ، (خلافا لأبي عبيدة) بالتصغير وتاء التأنيث ، فإنه أنكر وقوعها في الكلام كذلك ، وحكى الأندلسي عنه أنه قال : قولهم إن بمعنى نعم إنما يريدون به التأويل لا أنه في اللغة موضوع لذلك (استدل المثبتون بقوله) :

بكر العواذل في الصبو

ح يلمنني وألومهنه (١)

(ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنه) (٢)

العواذل عاذلة ، والصبوح بفتح الصاد الشرب في أول النهار والظاهر أنه أريد به شرب الخمر ، والشيب : الشعر الأبيض ويطلق أيضا على بياضه كما أن المشيب يطلق على المعنيين ، وكبرت بكسر الباء وضمها ، أي : علا سنك وامتد عمرك ، وهذا الاستدلال مبني على أن الهاء من أنه للسكت ، (ورد بأنا لا نسلم أن الهاء للسكت) بحيث تكون حرفا لا حقا للحرف (بل هي ضمير منصوب بها) أي بأن فهي اسمها ، (والخبر محذوف أي إنه كذلك) والمعنى إنه الأمر كما قلتن ، (و) الاستدلال (الجيد) هو (الاستدلال بقول) عبد الله (ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما لمن قال له : لعن الله ناقة حملتني إليك إن ، وراكبها) فقوله : إن وراكبها هو مقول ابن الزبير المستدل به ؛ ويقال إن المقول له ذلك شخص يقال له : فضالة بن شريك ، حكي أنه أتى ابن الزبير في حاجة فأقبل عليه فقال : إن ناقتي تعبت ، فقال : أرحها فقال : وأعطشها الطريق فقال : اسقها فقال فضالة : ما جئتك مستطبا وإنما جئتك مستمنحا لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير : إن وراكبها فالاستدلال بها أحسن ، (إذ لا يجوز حذف الاسم والخبر جميعا) فلا يكون في كلام ابن الزبير إن التي تنصب الاسم وترفع الخبر ، إذ لو جعلت كذلك فيه للزم حذف اسمها

__________________

(١) البيت من مجزوء الكامل ، وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص ٦٦ ، والأزهية ص ٢٥٨ ، والأغاني ٤ / ٢٩٦.

(٢) البيت من مجزوء الكامل ، وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات ، في ديوانه ص ٦٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢١٣.

١٥٤

وعن المبرّد أنه حمل على ذلك قراءة من قرأ : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] ، واعترض بأمرين :

أحدهما : أن مجيء «إنّ» بمعنى «نعم» شاذّ ، حتى قيل : إنه لم يثبت.

والثاني : أنّ اللام لا تدخل في خبر المبتدأ ، وأجيب عن هذا بأنّها لام زائدة ، وليست للابتداء ،

______________________________________________________

وخبرها معا ، فإنهما لم يذكرا فيه واللازم باطل فتعين جعلها بمعنى نعم ، لسلامته من هذا المحذور ، لكن قد يقدح في ذلك بأنها ليست في هذا التركيب بمعنى نعم ، ضرورة أنها فيه لتقرير مضمون الدعاء ، وهو ليس من مواقع نعم ، قلت : ولم يجعلها الزمخشري بمعنى نعم ، وإنما قال : وتخرج إن المكسورة إلى معنى أجل ، وصرح في أجل أنها لا تصدق بها إلا في الخبر خاصة ، ويشكل عليه كلام ابن الزبير فإنه ساقه لفصل فيما جاءت فيه بمعنى أجل فتأمله.

(وعن المبرد أنه حمل على ذلك قراءة من قرأ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣]) بتشديد إن وإثبات الألف في هذان ، وهم من عدا ابن كثير وأبا عمرو وحفصا ، وأما ابن كثير فأسكن نون إن مخففة وشدد نون هذان وأثبت الألف فيها ولم يشدد النون المذكورة أحد غيره ، وأما حفص فخفف نون إن وجعل إن هذين بياء على ما هو الظاهر ، وإنما المشكل تلك القراءة المتقدمة ، فخرجها المبرد كما حكاه المصنف : أن إن فيه بمعنى نعم وتبعه على ذلك جماعة ، قلت : ويحكى أن أبا علي الفارسي رده بأن ما قبل إن المذكورة لا يقتضي أن يكون جوابه نعم ؛ إذ لا يصح أن يكون جوابا لقول موسى عليه‌السلام : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١] ولا أن يكون جوابا لقوله : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) [طه : ٦٢] وهذا كلام حسن ولم ينقله المصنف وإنما قال : (واعترض بأمرين:

أحدهما : أن مجيء إن بمعنى نعم شاذ ، حتى قيل : إنه لم يثبت) وهذا أمر لا يلتفت إليه مع نقل سيبويه وغيره له عن العرب الفصحاء وتلقي الأئمة له بالقبول ، فإن قلت : جعل المصنف القول بعدم الثبوت غاية لشذوذ مجيء إن بمعنى نعم ، فكيف يتصور؟ قلت : يمكن أن يقال هو غاية لما يستلزمه قوله شاذ من معنى الخفاء ، فكأنه قيل قد خفي حتى إنه لم يطلع عليه بعض الناس ؛ لما فيه من الخفاء فقال : إنه لم يثبت.

(والثاني : أن اللام لا تدخل في خبر المبتدأ) وقد دخلت هنا ؛ لأن قوله : هذان مبتدأ ، وساحران خبره. (وأجيب عن هذا بأنها لام زائدة وليست للابتداء) فلا محذور حينئذ ، وذلك لأن لام الابتداء إنما امتنع دخولها في الخبر ؛ لأن لها الصدر ووقوعها في الخبر المفرد مناف

١٥٥

أو بأنها داخلة على مبتدأ محذوف ، أي : لهما ساحران ، أو بأنها دخلت بعد «إنّ» هذه لشبهها بـ «إنّ» المؤكّدة لفظا ، كما قال [من الطويل] :

ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال يزيد

فزاد «إن» بعد «ما» المصدريّة لشبهها في اللفظ بـ «ما» النّافية ، ويضعف الأول أن زيادة اللام في الخبر خاصّة بالشعر ،

______________________________________________________

لذلك لخروجها حينئذ عن الصدر ، بخلاف اللام الزائدة ، (أو بأنها داخلة على مبتدأ محذوف : أي لهما ساحران) فلا محذور حينئذ ؛ لأنها متصدرة في جملتها ، فلا يضرنا تسليم كونها لام الابتداء على هذا التقدير. (أو بأنها دخلت بعد إن هذه) وهي التي بمعنى نعم ؛ (لشبهها بأن المؤكدة لفظا) وهو منصوب على التمييز عن النسبة في شبه الجملة ، كما في أعجبني طيبه أبا أي : لشبه لفظها بإن المؤكدة (كما قال) الشاعر :

(ورج الفتى للخير ما إن رأيته

على السن خيرا لا يزال يزيد) (١)

وقد تقدم إنشاده (فزاد إن بعد ما المصدرية لشبهها في اللفظ بما النافية) وللعرب مذهب معروف في رعاية المشابهة اللفظية ، اعتبروه في مواضع منها باب التسوية ، فإنه خرج فيه الاستفهام عن حقيقته وبقي كونه صدرا ، ومنها أن خبر المبتدأ يجوز دخول الفاعلية إذا كان المبتدأ شبيها بمن الشرطية أو ما أختها في العموم واستقبال ما يتم به المعنى ، نحو : الذي يأتيني فمكرم إذا لم يقصد آتيا معينا ، وقد تنتفي هذه العلة ويجوز مع ذلك دخول الفاء حملا للشبيه على الشبيه ؛ لأن المبتدأ المقصود به معين مشابه في اللفظ لما قصد به غير معين ، وذلك كقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٦٦] فإن مدلول ما معين ومدلول أصابكم ماض ، وكما في الحديث الذي رأيته يشق رأسه فكذاب إلى غير ذلك من المواضع ، وسيأتي في أواخر الكتاب إن شاء الله تعالى.

(ويضعف) الجواب (الأول) : وهو القول بأن لام لساحران زائدة لا ابتدائية (أن زيادة اللام في الخبر خاصة بالشعر) ولا تكون في غيره ، كما في قول الشاعر :

مروا عجالى فقالوا كيف صاحبكم

قال الذي سألوا أمسى لمجهودا (٢)

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٤٢٩ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٣٢٧.

١٥٦

والثّاني أن الجمع بين لام التوكيد وحذف المبتدأ كالجمع بين متنافيين. وقيل : اسم «إنّ» ضمير الشأن ، وهذا أيضا ضعيف ، لأن الموضوع لتقوية الكلام لا يناسبه الحذف ، والمسموع من حذفه شاذ إلا في باب «أنّ» المفتوحة إذا خفّفت ، فاستسهلوه لوروده في كلام بني على التّخفيف ، فحذف تبعا لحذف النون ، ولأنه لو

______________________________________________________

فإن قلت : هلا مثلت بالبيت المشهور وهو قوله :

أم الحليس لعجوز شهر به

ترضى من الشاة بعظما لرقبة (١)

قلت : لعدم تعينه لذلك ؛ فقد قيل فيه إن اللام داخلة على مبتدأ محذوف أي لهي عجوز ، ومثل ذلك في البيت الأول غير متأت فهو نص في المقصود ، فلا جرم آثره على ما هو محتمل.

(و) يضعف الجواب (الثاني) : وهو القول بأن لام لساحران لام ابتداء داخلة على مبتدأ محذوف (أن الجمع بين لام التوكيد وحذف المبتدأ كالجمع بين متنافيين) من حيث إن التأكيد يقتضي الاهتمام بالمؤكد والاعتناء به ، وحذفه يقتضي عدم الاعتناء بشأنه فيتنافيان ، ولقائل أن يقول : إنما ينافي هذا أن لو كان المؤكد باللام هو المبتدأ المحذوف ، وهو ممنوع وإنما المؤكد نسبة الخبر ، إلى المبتدأ كما سيأتي صريحا من كلام المصنف ، سلمنا أن المؤكد هو المبتدأ لكن لا نسلم التنافي ؛ لأن المحذوف لدليل في حكم الثابت ، وقد صرح الخليل وسيبويه بجواز حذف المؤكد وبقاء التأكيد في نحو : مررت بزيد ، وجاءني أخوه أنفسهما بالرفع على تقدير : هما صاحباي أنفسهما ، وبالنصب على تقدير أعينهما أنفسهما ، وقد يقال : إن مراده أن مقام التأكيد مقام بسط ومقام الحذف مقام إيجاز واختصار ، فالجمع بين التأكيد والحذف جمع بين أمرين متنافيين ، فبنى المصنف التنافي على هذا لا على أن المؤكد هو المبتدأ المحذوف (وقيل : اسم إن ضمير الشأن) وحذف ، والأصل إنه هذان لساحران.

(وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن الموضوع لتقوية الكلام لا يناسبه الحذف) وضمير الشأن كذلك من جهة أنه يتمكن ما يعقبه في ذهن السامع فضل تمكن ، لما فيه من الإبهام ثم التفسير (والمسموع من حذفه شاذ) في كل موضع (إلا في باب أن المفتوحة إذا خففت ، فاستسهلوه لوروده في كلام بني على التخفيف فحذف تبعا) ، أي : لأجل التبعية (لحذف النون) ، ورب شيء يحذف تبعا ولا يحذف استقلالا كالفاعل يحذف مع الفعل ، ولا يحذف وحده ، وحذف هذا الضمير لعلة أخرى أيضا ، وهي أن الضرورة داعية إلى حذفه عند إرادة تخفيف الحرف ؛ (لأنه لو

__________________

(١) البيت من بحر الرجز ، وهو لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٧٠ ، وله أو لعنترة في خزانة الأدب ١٠ / ٣٢٣ ، وبلا نسبة في لسان العرب ١ / ٥١٠ (شهرب).

١٥٧

ذكر لوجب التّشديد ، إذ الضمائر تردّ الأشياء إلى أصولها ، ألا ترى أن من يقول : «لد» ، و «لم يك» ، و «والله» يقول : «لدنك» ، و «لم يكنه» و «بك لأفعلن» ؛ ثم يرد إشكال دخول اللام ، وقيل : «هذان» اسمها ، ثم اختلف ، فقيل : جاءت على لغة بلحارث بن كعب في إجراء المثنّى بالألف دائما ، كقوله [من الرجز] :

٥٠ ـ إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

______________________________________________________

ذكر لوجب التشديد إذ الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها ، ألا ترى أن من يقول لد) بحذف النون تخفيفا. (ولم يك) بحذف النون أيضا (وو الله) بالإتيان بواو القسم التي ليست بأصل لحروف القسم ، (تقول) عند الإتيان بالضمير (لدنه ولم يكنه) بإثبات النون فيهما (وبك لأفعلن) بالإتيان بالباء التي هي أصل حروف القسم ، وقد يورد على هذا نحو قوله :

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني (١)

وقوله :

بأنك ربيع وغيث مريع (٢)

فإن قلت : هو ضرورة فلا يرد ، قلت : فما تصنع بمثل يدك ودمك وفيك؟ (ثم يرد إشكال دخول اللام) على لساحران فإنه على هذا الرأي خبر المبتدأ الذي هو هذان ، وقد مر الكلام فيه ، (وقيل : هذان اسمها ثم اختلف) على ذلك القيل في التوجيه ، (فقيل : جاءت) هذه القراءة (على لغة الحارث بن كعب) أي : بني الحارث ، لكن خفف بحذف ما عدا الباء ، وقد رأيتهم يكتبونه على هذه الصورة بلام تلي الباء ، وهكذا يكتبون مثل قول الفرزدق:

ولكن طغت علماء منزلة خالد (٣)

بعين يليها لام ، ولقد وجد بخط الزمخشري هذا اللفظ مكتوبا بألف فاصلة بين العين واللام قال السخاوي : وهذا القياس ؛ لأن ألف على ولامه قد حذفا فاتصلت العين باللام ، فكتبت بألف بعد العين كما تكتب بالماء ونحوه ، قلت : وعليه فيكتب بالحارث ونحوه بألف بعد الباء وهو ظاهر (في إجراء المثنى بألف دائما) أي : في حال الرفع والنصب والجر (كقوله) :

إن أباها وأبا أباها

(قد بلغا في المجد غايتاها) (٤)

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) لم أجده.

(٤) الرجز ينسب لأبي النجم العجلي وابن الوردي ورؤبة ، انظر : الإنصاف ١ / ١٨ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٠٥.

١٥٨

واختار هذا الوجه ابن مالك ، وقيل : «هذان» مبنيّ لدلالته على معنى الإشارة ؛ وإن قول الأكثرين «هذين» جرّا ونصبا ليس إعرابا أيضا ، واختاره ابن الحاجب ، قلت : وعلى هذا فقراءة (هذانِ) أقيس ، إذ الأصل في المبنيّ أن لا تختلف صيغه ، مع أنّ فيها مناسبة لألف «ساحران» ، وعكسه الياء في (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [القصص : ٢٧] ، فهي هنا أرجح لمناسبة ياء «ابنتيّ» ، وقيل : لمّا اجتمعت ألف «هذا» وألف التثنية في التقدير قدّر بعضهم سقوط ألف التثنية فلم تقبل ألف هذا التغيير.

* * *

______________________________________________________

فأثبت ألف المثنى في حالة النصب كما في الآية ، (واختار هذا الوجه ابن مالك) قال بعضهم : وهذه اللغة هي القياس ؛ إذ كانت لألف إنما اجتلبت للدلالة على الاثنين لا لذلك ، وللرفع إذ كان الإعراب إنما يستحق بالتركيب والألف سابقة عليه.

(وقيل هذان مبني لدلالته على معنى الإشارة) وهي الموجبة هنا للبناء كما في هذا وهؤلاء (وإن قول الأكثرين هذين جرا ونصبا ليس إعرابا) وإنما هي صيغة وضعت للاثنين المشار إليهما في حالتي الجر والنصب ، وليست تثنية لهذا ، (واختاره ابن الحاجب) وذكر الوزير القنمطي في تاريخ النحاة في ترجمة أبي الحسن محمد بن كيسان : أن القاضي إسماعيل كان معتنيا بما يأتي به من مقاييسه الغريبة ، وكان له معه مجلس عقيب صلاة الجمعة في جامع المنصور ، فقال له يوما : يا أبا الحسن ما تقول في قراءة (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ، ما وجهها على ما جرت به عادتك من الإغراب في الإعراب؟ فأطرق ابن كيسان مليا ، ثم قال : نجعلها مبنية لا معربة وقد استقام الأمر ، فقال له القاضي : فما علة بنائها؟ فقال : لأن المفرد هذا وهو مبني والجمع هؤلاء وهو مبني ، فتحمل التثنية على الوجهين ، فعجب القاضي من سرعة إجابته وحدة خاطره وبعيد غوصه ، وقال له : ما أحسنه يا أبا الحسن لو قال به أحد ، فقال : ليقل به القاضي وقد حسن ، وإن من قول المصنف : وإن قول الأكثرين بالكسر على الحكاية لا غير ؛ إذ القول المتقدم من قوله ، وقيل : على بابه ولذلك حكى به الجملة الواقعة بعده ، وهذه الثانية معطوفة عليها ، فلا سبيل إذن إلى الفتح ؛ لأنها إذ ذاك تؤول بالمفرد ، فلا يستقيم العطف ، نعم إن ارتكب تقدير فعل بعد الواو أي : وجزم صاحب هذا القول أو اعتقد أن قول الأكثرين هذين جرا ونصبا ليس إعرابا فالفتح متجه.

(قلت) وإذا بنينا (على هذا فقراءة (هذانِ) أقيس) من قراءة هذين ؛ (إذ الأصل في المبني أن لا تختلف صيغه مع أن فيها) أي : في قراءة (هذانِ) (مناسبة لألف ساحران وعكسه الياء في (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [القصص : ٢٧] ، فهي أرجح لمناسبة ياء ابنتي ، وقيل : لما اجتمعت ألف هذا وألف التثنية في التقدير قدر بعضهم سقوط ألف التثنية ، فلم تقبل ألف هذا التغيير) ، وهذا التقدير

١٥٩

تنبيه ـ تأتي «إنّ» فعلا ماضيا مسندا لجماعة المؤنّث من «الأين» ـ وهو التّعب ـ تقول : «النساء إنّ» ، أي : تعبن ، أو من «آن» بمعنى «قرب» ، أو مسندا لغيرهن على أنه من «الأنين» وعلى أنه مبنيّ للمفعول على لغة

من قال في «ردّ» و «حبّ» : «ردّ» و «حبّ» ، بالكسر تشبيها له بـ «قيل» و «بيع» ، والأصل مثلا : «أنّ زيد يوم الخميس» ، ثم قيل «إنّ يوم الخميس» ، أو فعل أمر للواحد من الأنين ، أو لجماعة الإناث من «الأين» ، أو من «آن» ، بمعنى «قرب» ، أو للواحدة مؤكّدا بالنون من «وأي» بمعنى «وعد» ، كقوله :

إنّ هند المليحة الحسناء

______________________________________________________

عن مظان التوجيه بمعزل ؛ إذ لا مقتضي لتقدير حذف الألف المسوقة لغرض الدلالة على التثنية ، وإبقاء الألف التي هي من سنخ الكلمة ، وليست علامة على شيء ، وقيل : إن ألف هذان تشبه ألف يفعلان ، فلما لم تنقلب هذه لم تنقلب تلك ، وهذا أيضا فاسد ، لأن ألف يفعلان من قبيل الأسماء وألف هذان حيث تجعل للتثنية من قبيل الحروف ، وإنما لم يصح انقلاب ألف يفعلان ؛ لأنها لا يتعاقب عليها ما تختلف به معناها ؛ لأنها لا تكون إلا فاعلا أو نائبا عنه بخلاف ألف هذان.

(تنبيه : تأتي إن فعلا ماضيا مسندا لجماعة المؤنث من الأين وهو التعب ، تقول : النساء إن) والأصل أين فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان فحذف أو لهما وهو الألف ، فبقيت الفاء وهي الهمزة مفتوحة ، فكسرت لبيان أن الكلمة من ذوات الياء على طريقة ابن الحاجب. (أو من آن بمعنى قرب) والعمل كالأول سواء (أو) فعلا ماضيا (مسندا لغيرهن على أنه من الأنين ، وعلى أن يكون مبنيا للمفعول) والأصل أنن على زنة ضرب للمجهول ، أدغمت النون الأولى في الثانية ، وكسرت الهمزة (على لغة من قال في رد وحب) بضم الفاء فيهما (رد وحب بالكسر) فيهما ، (تشبها له) أي : لهذا الفعل المضاعف المدغم (بقيل وبيع ، والأصل مثلا أن زيد يوم الخميس ، ثم قيل إن يوم الخميس) برفع اليوم على أنه نائب الفاعل (أو) تأتي أن (فعل أمر للواحد من الأنين أو) تأتي أن (فعل أمر لجماعة الإناث من الأين ، أو من آن بمعنى قرب) والعمل فيهما واحد ، والأصل أين بتسكين لام الفعل وهي النون لاتصالها بنون الفاعل ، فتدغم ويلتقي ساكنان محذوف أولهما ، وهو الياء التي هي عين الكلمة ، (أو للواحدة) يعني أو فعل أمر للواحدة (مؤكدا بالنون من وأى بمعنى وعد كقوله :

إن هند المليحة الحسناء (١)

__________________

(١) تقدم تخريجه.

١٦٠