موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

إليهم. فلما وصل إليه أظهر الحزن وقعد للتعزية. وبعد ذلك توجه إلى البصرة. وكان دخوله سنة ١٠٦٥ ه‍ وحكم فيها إلى سنة ١٠٧٧ ه‍. وهنأه بعض أهل المعارف بقصيدة ختمها بهذا التاريخ : (خاب من عادى حسين ابن علي) ه (١).

ولا شك أن الواقعة توضحت من هذه النصوص فلم يبق غموض أو إبهام.

حوادث سنة ١٠٦٥ ه‍ ـ ١٦٥٤ م

حالة بغداد :

وفي هذه الأيام حصلت الاراجيف في بغداد وقامت الثورات فيها من كل صوب. وحينئذ ظهر سرّاق الليل نهارا فصاروا لا يخشون سطوة واستولى على الناس الخوف والرعب بحيث عادوا لا يقدرون أن يناموا ليلهم ولم تذق أعينهم طعم الراحة. فاقتنى الأهلون الأسلحة وصار يحملها من لم يعتد بذلك من قبل توقعا من ظهور الشرور وأعدوا العدة ليحرسوا أنفسهم بأنفسهم.

الوزير في بغداد :

أما الوزير فإنه منذ ورد بغداد كان متألما من مغلوبيته هذه وكتب إلى دولته لإعلامها بلزوم إعادة الكرة فلم يجد له سامعا ، مجيبا. لينتقم. والملحوظ أنها كانت متفقة معه في الغرض إلا أنه أعماه الطمع ولم يستعمل الحكمة ... وبقي على هذا مدة في محنة من أمره. وجاء في تاريخ السلحدار (٢) أنه وأتباعه فروا بأرواحهم إلى بغداد. ولما وصلوا إليها لم يوافق الجيش أن يدخلها ، فاضطر أن يلتجىء إلى جانب الكرخ

__________________

(١) تاريخ الغرابي ج ٢ ص ٣٠٠ ـ ٢.

(٢) تاريخ السلحدار ج ١ ص ١٧ وكلشن خلفا ص ٨٦ ـ ١.

٦١

(قلعة الطيور) ويحارب هذا الجيش فعلمت الدولة بتلك الأخبار الموحشة.

ومن ثم أسدل الستار ، ولم يوضح في بغداد ، وما جرى بينه وبين الجيش إلى أن ورد الوالي الجديد.

ابتدأت حكومته في ١٤ شوال سنة ١٠٦٣ ه‍ ودامت إلى ١٤ شهر رمضان سنة ١٠٦٥ ه‍.

الوزير محمد باشا :

ويعرف ب (آق محمد باشا) أي محمد باشا الأبيض. نشأ في البلاط وحصل على ولاية بغداد وفيها قضى نحو نصف أيامه بالامراض والعلل مرتبك الحالة مضطربا من جراء الآلام ونغص العيش ...

اسطورة :

ومما حكى كاتب ديوانه (عبد الباقي وجدي) المنشىء البليغ ، والشاعر العندليب أن هذا الوزير استولى عليه المرض لدرجة أنه صار يخشى أن يعطى دواء لما أنهكه الضعف.

وبينا هو في هذه الحالة إذ جاءه لعيادته بعض دراويش المولوية وهو (مصطفى دده الخراباتي) من المتصوفة. جسّه خفيفا وبادر بالدعاء له بالشفاء القريب وفي ساعته عجل بالخروج ومضى في طريقه.

وعند خروجه رافقه عبد الباقي وجدي ورجا منه حسن الدعاء. أبدى أن القلب لا يقطع مأموله من الله تعالى ، وعسى أن يأتى المدد السريع من رجال الله. أما الدرويش فإنه قال نعم! إننا والله أخذنا على عاتقنا مثل هذا الأمر وأومأ إلى أنه يشير بقوله : إننا فديناه بأنفسنا وعهدنا له بذلك (١) ...

__________________

(١) كلشن خلفا ص ٨٦ ـ ٢.

٦٢

وأقول كانت للطريقة المولوية تكية المولا خانة وهي جامع الآصفية المعروف اليوم وقد مرّ الكلام عليها (١). فعرفنا من شيوخ هذه الطريقة (مصطفى دده الخراباتي) ، ومنهم يوسف الملقب بعزيز المولوي. وبينهم خطاطون أفاضل.

ويروى أن ذلك الدرويش عمل في تلك الأيام ضيافة جعل فيها حلوى وأنواع المأكولات للفقراء (الدراويش) وقام بخدمتهم فلما أتموا أكلهم قام هذا الدرويش بمقام الرجاء والالتماس من أستاذه الذي كان جالسا في صف متأخر فانتصب قائلا :

الإرادة أن يأتي المحبون ، والاجازة أن يؤذن لهم بالانصراف.

وحينئذ أبان أن من لوازم السفر إلى الآخرة دعاء الاحباب ...

فتصدى لجوابه الدرويش الجالس بمقام المشيخة قائلا :

أيها الدرويش ما هذا الهذيان أو القول الهراء!؟ ، وما تلك الدعوى الباطلة!؟ عنفه على ما صدر منه وأنبه تأنيبا مرا وقال ـ إن عالم الأرواح صار يدعونا ، يحاول تحقيق هذه المعضلة وتوضيح المدعى!

فعجب الدراويش وأصابتهم الحيرة من أمرهم هذا لما شاهدوه من الحالة ...!

ثم قال : ليكن قدومكم خيرا ، وأن لا ينالكم فشل لدى الحق عزّ وجل.

وبعد تلاوة الفاتحة صدر من الدراويش كلامهم المعهود فيما بينهم (ذكرهم) ومرت على ذلك ثلاثة أيام زال خلالها الضعف من الوزير المريض فحصل على العافية بإلهام غيبي من ذلك الدرويش الصالح ...!

__________________

(١) تاريخ العراق بين احتلالين ج ٤.

٦٣

وهذا الدرويش كان من الملامتية. لم يخل من ابداء بعض ما يعنف عليه. ولكنه كان فذا في تسخير قلوب الناس وجذبها إليه. وحالة كونه لابسا خرقة الدروشة كان يبذل للفقراء الدراهم والدنانير بسخاء حاتمي. أكثر الناس من التقول عليه بأنه لا يبالي (خراباتي) والله أعلم بحقيقة الحال (١).

ويلاحظ هنا أن أمثال هذه الخزعبلات لا تروّج سوق هؤلاء المتصوفة ، ودعاة الباطل ممن يرتكب المنكرات بداعي أنه ملامتي ويتظاهر بالقبائح زاعما أنه يتستر فيما بينه وبين الله تعالى ... وفي هذا مخالفة ظاهرة للكتاب والأحاديث الصحيحة ، ومعاكسة بوقاحة للمأمورات والمنهيات. فالمجاهرة بسوء الأعمال مما يشجع أصحاب القلوب الضعيفة وذوي النفوس الشريرة فيكونون قدوة الباطل ، وسوء الأمثولة ...

والملامتية طريقة معروفة من زمن بعيد جدا يتظاهر الواحد منهم بما يلام عليه من أعمال مخالفة للشرع. وفي الباطن يعمل ... الصلاح ، (كذا) قالوا ... ولم تؤسس طريقة عندنا بهذا الاسم في هذا العهد بل ظهر مثل هذا الدرويش من المولوية وزعم مزاعم لا يقرها الشرع ...! فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مهمات الإسلام.

صفات الوزير :

وهذا الوزير مشهور بالفروسية والشجاعة وله رغبة في الصيد. يقضي أكثر أوقاته في الصحارى والفلوات متجولا فلا يرى وحشة.

__________________

(١) كلشن خلفا ص ٨٦ ـ ٢.

٦٤

حوادث سنة ١٠٦٦ ه‍ ـ ١٦٥٥ م

أيام حكومته :

وفي أيام حكومته ظهرت بعض المفاسد والفتن من رجال الجيش البغدادي ممن لم تؤدبهم الحوادث فلا يزالون في غرورهم وفي مقدمة هؤلاء امرؤ يقال له (عبدي) وهو شيخ جاهل وان كان طاعنا في السن. فصار قدوتهم في العصيان وفي تشويش الحالة.

أوليا جلبي :

سيّاح معروف يعدّ (ابن بطوطة الترك) ولد سنة ١٠٢٠ ه‍ ، ويهمنا أنه ورد العراق. دخل بغداد في يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ١٠٦٦ ه‍ وكان آنئذ واليها قره مرتضى باشا دخل عليه ، وقدم له هدية مرسلة من ملك أحمد باشا ، وقص الكثير من أحوال بغداد التي شاهدها وبينها ما أزال الابهام عن شؤوننا. اعتمدنا على حوادثه فيما شاهده ، وذكرنا الكثير مما أشار إليه ...

والحق أنه مؤرخ عظيم ، وسيّاح شهير. اسمه محمد ظلي بن قره أحمد بن قره مصطفى من سلالة أحمد يسوي المتصوف المعروف ، ساح بلادا عديدة وممالك كثيرة منها العراق وايران وسورية ومصر وبلاد المجر ، ولهستان (بولونيا) والمانيا ، وهولاندة ، والدانمارك ، والسويد وروسيا ...

وفي سياحته قصص خرافية إلا أن مشاهدته قطعية وصحيحة ، كان عارفا باليونانية واللاتينية ، وبالتواريخ الرومية. أدرج حوادث وقصصا تاريخية لما يتعلق بالآثار التي عاينها ، وغالب الخرافات وصلت إليه من تلك الكتب القديمة. وسياحته في عشرة مجلدات ، وفي رباط سليمية باسكدار نسخة كاملة من سياحته. دفن في مقبرة قاسم باشا من شيشخانه

٦٥

قرب بلدية (بك أوغلي). وقد اندرس قبره.

طبعت سياحته قسما بالحروف العربية ، وقسما بالحروف اللاتينية. اختصر هذه السياحة الحافظ (فيض الله بلبل) مصاحب السلطان في مجلد واحد ضخم. فكان لهذا التلخيص مكانته كما طبعت منتخبات منها. ويهمنا ما فصله في أصل السياحة عن العراق. أبدى أمورا لم يعد فيها شاكلة الصواب في غالب ما ذكر (١).

ورد بغداد وكان واليها مرتضى باشا وهذا لا يأتلف والمدونات الأخرى فأوليا چلبي قد عين تاريخ وروده بغداد ، وتقديم الهدية للوالي مرتضى باشا ...! فهل الغلط من گلشن خلفا أو أن السهو جاء من أوليا چلبي في التاريخ ، أو في الاسم إلى آخر ما هنالك ما يجب أن يتبين منه حقيقة الوضع ولعل تعيين الوالي الجديد وتاريخ توجيه الولاية إليه لا تعني وروده وإن عزل مرتضى باشا لا يعني خروجه في الحال ، وإنما يأتي المتسلم ، ويخبر بالوصول وأخذ الولاية من يد سلفه وهكذا بعد المسافة يدعو إلى مثل ذلك. ولعله اعتمد على الحافظة فتولد السهو. وهذا مما يقع كثيرا. وفيه أن عمر النخلة يبلغ ثلاثة آلاف سنة مما لا محل لاستقصائه ...

حوادث سنة ١٠٦٧ ه‍ ـ ١٦٥٦ م

قتل الوالي :

عزم هذا الوالي أن يقضى على جميع العصاة ، فدعا القوم في يوم جمعة وأمر بقتل (عبدي) المذكور. دعا الجلاد فقتله. وحينئذ اجتمع أعوانه في الميدان وسارعوا للانتقام فلما سمع بهم الوزير شتت شملهم ،

__________________

(١) عثمانلي مؤلفلري ج ٣ ص ١٥.

٦٦

وألقى الرعب في قلوبهم فتفرقوا. وظن الوزير أنهم ذهبوا ولم يلتئم لهم جمع.

ثم ذهب لصلاة الجمعة في جامع الإمام الأعظم. سار بلا خوف ولا خشية ظانا أن قد زال الخطر. ولم يدر أن الاحتراس من كيد الاعداء أمر ملتزم. مضى في طريقه إلى الإمام الأعظم من جهة الميدان وكان قد كمن له بعضهم. كانوا جلوسا في القهاوي. فصار بعض القوم من أعوانهم يسبون الوالي وتقدم اثنان بسيوفهم وهجموا عليه بقصد الوقيعة به والانتقام منه فقتلا فلما رأى ذلك بادر في الرجوع لاتخاذ التدابير لتسكين الفتنة واسرع في امالة عنان فرسه إلى جهة داره. سكنت الفتنة نوعا ولكن هذه الحالة لم ترق للأهلين. بدأوا يعيبون الوالي على هزيمته. وفي هذه الأثناء ورد من استنبول حسين آغا الخاصكي بصفة (آغا بغداد) ليتدخل في حل بعض العقد العويصة والأمور الطارئة. بذل المجهود لتهدئة الحالة ، فخول قتل هذا الوالي. وحين وصوله إليه قتله وصار (آغا بغداد)

وكان هذا الوالي قد ابتدأ حكمه في ١٥ شهر رمضان سنة ١٠٦٥ ه‍ ودام إلى سلخ المحرم سنة ١٠٦٧ ه‍ (١).

الوزير محمد باشا الخاصكي :

هذا الوزير منظره جميل. تربى في البلاط. ثم نال إمارة مصر والشام. وبعدها ولي بغداد. وهو يميل إلى الابهة والحشمة. يجلس في الديوان وأمامه ستار مما لم يكن معهودا في بغداد. رتب ديوانه وألزم أهل هذا الديوان بلباس خاص من فرجية (٢) وغيرها. وكان كل يوم يجلس فيه يبذل للمستحقين بسخاء. وله عطايا وإنعامات كبيرة لأهل

__________________

(١) كلشن خلفا ص ٨٧ ـ ١.

(٢) الفرجية لباس خاص. ويقول الترك (فراجه).

٦٧

الفن. إلا أنه كان في غفلة عما تضمره الليالي وأن التجملات وأثواب الحشمة والأبهة لا تكفي لتوليد حسن الادارة. ذهل عن أن الاقبال معرّض للزوال ... فلم يكن مطلعا على الشؤون ولا عارفا بالبلاد ولا بأحوال الناس ، تساهل في ضبط الجيوش وربطها وأبدى عدم مبالاة ونام عن التدبير ، بل إن الجيش تغلب ...

اتصل به بعض رجال الجيش في بغداد والتفوا حوله فولّدوا فيه غرورا من جهة وفتورا عن العمل من جهة أخرى. فكان يقضي ليله مع الغواني بالطرب والملاهي ونهاره بالشرب مع المغنين ... ومن ثم حدثت الفتن في زمنه. وأمور العالم لا تتم بمثل هذه الأعمال بل هي داعية للفتن (١).

ما جرى في أيامه

الجوازر وجيش بغداد :

في أواخر هذه السنة قام بعض العربان في أنحاء الجوازر فشقّوا عصا الطاعة ، وتمادوا في الطغيان فاقتضى تأديبهم ، فأرسل الوزير جيشا قويا من جهة البر ومن طريق النهر مشاة وفرسانا. جعل عليهم قائدا. ولما وصل الجند إلى هناك حدث فيما بين أفراد الجيش خلاف تناوشوا في خلاله الكلام. أوقد نيران الفتنة كل من كتخدا اليسار ورئيس العرفاء من جيش بغداد وثلّة من الخيالة فمال هؤلاء إلى ما لا يليق من الأعمال ، فقتل جمّ غفير من الأبرياء وجرح آخرون واختفى قسم عن الانظار. ثم رجع الجيش إلى بغداد.

فلمّا علم الوالي بما وقع اضطرب لهذا الحادث ودعا (آغا

__________________

(١) كلشن خلفا ص ٨٧ ـ ١.

٦٨

بغداد) (١) والمتميزين من الينگچرية فألف ديوانا عاما. فاتحهم فيه بما يجب عمله من التدابير ومن ثم استقر الرأي على أن لا يفسح المجال لهؤلاء البغاة أن يدخلوا المدينة وأن لا يعفى عنهم ما لم يسلموا العصاة القائمين بالفتنة والشغب.

كانت هذه الموافقة من أهل الديوان ظاهرية وعلى دخل. حسنوا هذا الرأي إلا أن القلوب الزائغة كانت على خلاف هذا. فاتخذوا هذا المنع وسيلة لإظهار مكنونات سرّهم. ولما طال المنع يومين أو ثلاثة اتخذ ذلك وسيلة للشغب فأغروا بعض الجهال وجمعوا الينگچرية فأشعلوا نيران الفتنة ليلا ، وصاروا يطرقون الأبواب ويتجمهرون في كل منعرج طريق. جمعوا لهم جمعا كبيرا. وفي الصباح فتحوا الأبواب. وظاهروا الممنوعين ، وأدخلوا جيش بغداد إلى المدينة. هاجموا البلدة من كل صوب فأحدثوا ضجة واتفقوا على أن يفعلوا ما عزموا عليه من فضائح.

وحينئذ هاجموا السراي بحجة أنهم يبغون الشيخ بندرا والروزنامة چي ، وأمين المخزن. طلبوا تسليم هؤلاء فهاجموا الوزير ، فلم تبد منه مخالفة. انتهبوا كل ما وجدوه في طريقهم. وبعد رجوعهم ظفروا بأمين المخزن فقتلوه ومثلوا به.

وفي اليوم الآخر انذروا الوالي أن يسلم إليهم الباقين وهددوه فحلف لهم بالأيمان المغلظة بأنه لم يكن لديه واحد منهم وعين إكرامية لمن يظفر بواحد منهم فصاروا يتحرون عن المرقومين فظفروا بالروزنامة چي وحين كان مؤذن الجمعة ينادي للصلاة قتلوه ولم يرعوا حرمة الأذان وعاثوا بالمدينة.

__________________

(١) يطلق على آغا الينگچرية. وباب الآغا المحل الذي كان يتولى الادارة فيه. ولا تزال المحلة معروفة بمحلة باب الآغا.

٦٩

وهذا لم يكن مستحقا لهذا العقاب الصارم ولا ما هو أقل ... ولم يظهر منه ما يستدعي. اتخذوا الفرصة للوقيعة به وبغيره.

وفي هذه الأيام كان (أمير طيىء) قرب بغداد. وفي الليلة الاولى فرّ (الشيخ بندر) (١) إليه ولاذ به فقبل دخالته وذهب به إلى الموصل. شاع هذا الخبر ولم تبق شبهة في صحته.

ومن ثم تفرقت جموعهم وذهب كل لمحلّه وسكنت البلدة.

ولم يقفوا عند هذا الحدّ بل ظهروا في ليلة على حين غرة وبلا موجب. فتجمعوا في الميدان حتى الصباح ولم يعلم غرضهم. اضطرب الناس وحذروا من سوء العاقبة.

أما الوالي فإنه خاف بطشهم فاتخذ طريق الفرار وذهب توا إلى هيت ينتظر ما يتولد من الوقائع ، وما تؤول إليه الحالة.

ولما أحس الثوار بما وقع من ذهاب الوالي خافوا ما ينجم عنه فتلوموا مدة. ومن ثم أرسلوا إليه على وجه السرعة. دعوه إلى الحضور إلى مقرّ حكومته. فوافى ونزل في الجانب الغربي من المدينة. وحينئذ تقدم إليه جماعة من رؤساء الينگچرية وأبدوا له الطاعة والإذعان وأنهم سكنوا الفتنة ونكلوا بالمتجاسرين وعلى هذا تشتت الجيش الأهلي (جند

__________________

(١) الشيخ بندر صوابه الشاهبندر ، كذا قال الدكتور مصطفى جواد. ولدى مراجعة النص وجد في گلشن خلفا (شيخبندر) تكرر كذلك. ومن مراجعة المخطوطة عرفنا أنه شاه بندر ، فجاء نص تاريخ الغرابي مصححا. وهنا يهمنا الإشارة إلى أنه من المحتمل القويّ أن يكون أصل لفظ (شاه بندر) شيخ البندر ولا ينطق الفرس ولا الترك بالخاء بل بالهاء فقالوا شهبندر أو شاه بندر فشاع ... وحيدر جلبي الشاهبندر صاحب الوقف المعروف ببغداد ب (وقف حيدر) وعندي نص وقفيته.

٧٠

بغداد) قسم منه فرّ وجماعة أقاموا في محلة قنبر علي. ركنوا إلى أعوانهم هناك.

وفي هذه الحالة لم يتسرع الوزير في الأمر. وإنما راعى التؤدة لاستطلاع الأخبار على وجه الصحة فنزل (المنطقة) (١) بخيامه. اتفق رؤساء الينگچرية فأصدروا الأمر القطعي بلزوم التنكيل بالجيش البغدادي. وكان منشأ هذا الشغب من الرئيس الأول ومن كتخدا الجيش الأهلي رئيس الخيالة وعدة أفراد. طلبت الينگچرية كل هؤلاء وحذروهم من التهاون في الحضور أو التخلّف. وحينئذ استولى عليهم الرعب ولم تبق لهم قوة المقاومة فركنوا إلى طريق الصلح وأبدوا أن القتال سيؤدي إلى أن يتمكن العداء فأذعنوا للينگچرية وسلموا المذكورين إلى الباشا. فأعطى الرئيس الأول آغا اليمين ومن معه إلى (الجورباجي) فأمر بنفيه بناء على الرجاء الواقع إليه وأوعز إلى رجاله بقتل الباقين.

ثم إن الباشا قطع أرزاق نحو ثلاثمائة من الجند وفرّقهم فأصابتهم الحاجة فعاشوا ببؤس وتغرّب منهم آخرون.

دامت هذه الحوادث نحو أربعين يوما فأصابهم جزاء ما اقترفوه.

أما الوزير فإنه أبدى احتياجا إلى الحرس من الجند واضطر أن ينقاد إلى أقوال أتباعه فتغلبوا عليه ومدوا إلى الظلم الأيدي وتجاوزوا حدود الأدب في التطاول (٢).

__________________

(١) المنطقة. فيها (جامع المنطقة). ويعرف قديما ب (مسجد براثا) إلا أنه بتوالي الأيام اندثر. وتدوينات المؤرخين تابعت الشيوع مرة باسم براثا ، ومرة بجامع العتيقة ذلك ما ولّد اشتباها بأنه اسم لموقعين. والحال جاء في كتاب المشتبه للذهبي : «وبراثا محلة عتيقة بالجانب الغربي» اه ص ٢٩. والتفصيل في كتاب (المعاهد الخيرية). وفي سنة ١٩٤٩ م اتخذ مسجدا. ولا يزال تقام فيه الصلوات بعد أن كان مهملا أمدا طويلا.

(٢) كلشن خلفا ص ٨٨ ـ ٢.

٧١

جاء في تاريخ الغرابي :

«أرسل الخاصكي محمد باشا عسكر بغداد إلى البطايح لمحاربة بعض العربان. فثار الجند وقتلوا بعض رؤسائهم. فلما قفلوا وأرادوا الدخول إلى البلد أمر محمد باشا بسدّ الأبواب في وجوههم وقال : لا يدخلوا حتى يسلموا من كان سببا لإثارة الفتنة فما رضوا بذلك وراسلوا الينگچرية في بغداد فقاموا بالليل وفتحوا الأبواب وأدخلوهم فلما أصبح الصباح ذهبوا جميعا إلى دار الإمارة ونهبوها وأرادوا قتل محمد باشا فاختفى فلم يظفروا به. ثم إنهم تحزبوا في الميدان فطلبوا ثلاثة رجال أمين المخزن ذا الفقار والروزنامة جي علي وحيدر جلبي الشابندر فظفروا بذي الفقار وعلي فقتلوهما. وأما حيدر جلبي فإنه علم بالأحوال في الليلة الاولى فعبر بالسفينة إلى الجانب الغربي من بغداد ومنه إلى ديار بكر وبعد ثلاثة أيام انفلّوا وذهب كل إلى عمله ثم بعد أيام اجتمعوا مرة أخرى فانهزم محمد باشا إلى هيت ثم رجع وجلس في الجانب الغربي من بغداد فوقعت المشاجرة بين طائفتي الجند فسلموا من كان سببا لإثارة الفتنة فقتلهم محمد باشا.» اه (١).

وفي گلشن خلفا تفصيلات وكان مرتضى آل نظمي في ديوان بغداد فاطلع على الحادث كما عرفنا بعض الأسماء من الغرابي.

إرسال سفير إلى الهند :

في هذه الأيام ورد السفير العثماني حسين آغا آل معن للذهاب إلى الهند إلى (شاه جهان خرم شاه) وأقام ببغداد بضعة أيام ثم ركب السفينة ومضى في طريقه.

__________________

(١) تاريخ الغرابي ج ٢ ص ٢٠٢.

٧٢

وذلك أنه في سنة ١٠٥٩ ه‍ كان أرسل ملك الاوزبك (محمد نذر خان) إلى السلطان كتابا مؤدّاه أنه يشكو من ابنه عبد العزيز فرغب أن يكتب إليه السلطان كتاب نصيحة يردعه فيه ويطلب منه الرجوع إلى الصواب ، وأن يوعز أن يتدخل بالصلح شاه العجم والهند إصلاحا لذات البين وأن يمده بهذه العناية فضلا من عنده. فقبل السلطان أن يقوم بالأمر إجابة للطلب فأرسلت الكتب مع السيد محيي الدين متفرقة عهد إليه بهذا الأمر فوصل إلى هناك وأدى واجب الخدمة وحينئذ أرسل ملك الهند جوابا مع السيد أحمد ومعه هدايا وتحف باهرة أتى بها إلى السلطان.

وبالمقابلة قدم إليه السلطان كتابا مع هدايا أرسلت مع ذي الفقار آغا فأدى الواجب. وعلى هذا قدم ملك الهند أيضا تحفا وهدايا مع كتاب وكان الرسول يقال له قائم بك. وفي هذه المرة قدم إليه السلطان أيضا هدايا مع حسين آغا فوصل إلى الهند وحينئذ رأى في ساحل الهند أنه قام مراد بخش ابن ملك الهند بعصيان. فأعاد الرسول الهدايا فوصل إلى بغداد وفي سنة ١٠٦٩ ه‍ عاد إلى بلاد الروم.

وشاه جهان خرم شاه هو ابن جهانگير سليم شاه بن أكبر شاه بن همايون شاه بن بابر شاه ابن عمر شيخ التيموري. وبابر شاه أسس امبراطورية المغول في الهند. تكونت سنة ٩٣٢ ه‍ ـ ١٥٢٦ م. ومن مشاهير هذه الدولة بعد شاه جهان (أورنك زيب) المعروف ب (عالمگير) وتنسب إليه الفتاوى (العالمگيرية) ولي سنة ١٠٦٩ ه‍ ـ ١٦٥٩ م. وتوفي في ٢٨ ذي العقدة سنة ١١١٨ ه‍ ـ ١٧٠٧ م. ودامت عظمة هذه الدولة من أيام بابر إلى آخر أيام (أورنك زيب). مرّ بنا من ملوكها من له علاقة بأبحاثنا وبعد أورنك زيب طرأ على هذه الدولة ضعف متوال حتى انقرضت سنة ١٢٧٣ ه‍ ـ ١٨٥٧ م. وتوفي آخر ملوكها في رانغون بعد إجلائه إليها من دولة الإنكليز. مات سنة ١٢٧٩ ه‍ ـ ١٨٦٢ م. ثم إن دولة

٧٣

الانكليز أعلنت امبراطوريتها على الهند في سنة ١٢٩٤ ه‍ ـ ١٨٧٧ م. وفي أيامنا تكونت في الهند حكومة باكستان الإسلامية وحكومة الهند.

هذا وإن مراد بخش بن شاه جهان توفي سنة ١٠٦٨ ه‍ قتله أورنك زيب بعد عودة السفير إلى بغداد (١).

عبد العزيز خان :

ابن ملك الازبك الخاقان نذر خان. سيأتي الكلام عليه في حوادث سنة ١٠٩٣ ه‍ كما سبق البحث عن الاوزبك عند ذكر (جامع الاوزبك).

سفير إلى شاه العجم :

وفي هذه السنة (سنة ١٠٦٧ ه‍) أرسلت الدولة العثمانية إسماعيل آغا رسولا إلى شاه العجم عباس الثاني مع الهدايا السنيّة والجواب على كتابه المرسل مع علي خان المتضمن رجاء دوام الصلح ومعه الهدايا المقدمة من الشاه فهذا الرسول إسماعيل آغا ذهب إلى ايران وأدى ما عهد إليه من واجب وعاد عن طريق بغداد. ولكنه وافاه الأجل المحتوم فتوفي ودفن في مقبرة الإمام الأعظم.

حوادث سنة ١٠٦٨ ه‍ ـ ١٦٥٧ م

امطار وفيضان وغرق :

كثرت الأمطار في هذه السنة وفاضت الأنهار وطفحت مياهها. التقى النهران دجلة والفرات بسبب هذه الزيادة واستولت المياه على صحارى بين النهرين. وصارت بغداد محاطة بالمياه من جميع جوانبها

__________________

(١) دول إسلامية ص ٤٩٨ وتاريخ العراق بين احتلالين ج ٢.

٧٤

حتى أن المياه وصلت إلى باب الأعظمية وجرفت المياه (تابية الفتح) فتخربت بسبب ذلك الابراج الكبيرة للمدينة وما جاورها من الابنية المهمة.

وعلى هذا أبدى الوزير ما أبدى من همة عظيمة لإعادة بناء (تابية الفتح) (قرب مقبرة الشيخ عمر السهروردي في غربيها) والأبنية اللازمة فعمرها مجددا وبذل ما في وسعه من قدرة.

ولما رأى أن قد استولت المياه في جانب الكرخ على المنطقة وصارت تصب مياه الفرات في دجلة تحول إلى دار حكومته في الجانب الغربي. وفي هذا الحين فتح الانهار لتصب في دجلة واتخذ لها قناطر وجسورا كما أنه عمل سدتين محكمتين. قام بهذا العمل بنفسه وجمع خلقا كثيرا للعمل تسهيلا للمارة ذهابا وإيابا. وهذه بقيت في حالة ينتفع بها مدة.

ولما سمع كل من والي آمد (ديار بكر) مرتضى باشا وولاة الموصل وكركوك بما جرى على بغداد جاؤوا للخدمة وما يقتضي لها من المحافظة .. فنصبوا خيامهم في صحاريها وقاموا بما لزم.

حوادث سنة ١٠٦٩ ه‍ ـ ١٦٥٨ م

أعمال أخرى :

لم تمض إلا مدة قليلة حتى ورد الفرمان بلزوم ذهاب مرتضى باشا إلى جهة الاناضول للقضاء على حسن باشا أبازه وأعوانه فذهب.

أما هذا الوالي فإنه كان محبا للخير ، مراعيا أعمال البر والأمور النافعة. ومن أعماله أنه عمّر قبّة عثمان ذي النورين (رض) وأرسل من يقوم بذلك لما علم أن بناءها قد تداعى وعمل لها ستارا. وبذلك بذل مبالغ طائلة. ولا تزال مبراته باقية.

٧٥

بناء منارتين :

وهذا الوزير تم في أيامه بناء المنارتين لمسجد الإمام علي (رض) في النجف.

جامع الخاصكي :

في أيام هذا الوزير كان بنى بعض الرهبان كنيسة بقرب مرقد الشيخ محمد الأزهري وهو من الأولياء الكرام والمشايخ العظام (١) في حين أن النصارى لم يبنوا في بغداد من ابتداء عمارتها ديرا (كذا) فلما سمع الوزير بذلك خرب الكنيسة وبنى موضعها جامعا يؤمه المسلمون وأعلى قبّته وبنى له منارة وجعل طيقانه مقرنسة ، واتخذ له جدرانا قويّة وسمي (جامع نور سلحدار محمد باشا) وعرف بجامع محمد باشا السلحدار ثم شاع باسم (جامع الخاصكي) وكان في القاهرة يطلق عليه أبو النور. أراد أن يقف أوقافا لهذا الجامع وقرّر له خدّاما ويعيّن ما يحتاجه. وبينا هو كذلك إذ ورد الأمر بعزله. ومن ثم هجر هذا الجامع ، ولم ينقصه إلا القليل ، فحصل فتور حال دون إكماله.

وجاء في رحلة أوليا چلبي أن جامع محمد باشا الخاصكي جامع جديد في رأس القرية. فيه منارة. ولا شك أن الرحالة بقي إلى ما بعد بنائه. كان ورد أكثر من مرة إلى بغداد (٢).

__________________

(١) في (أولياء بغداد) للسيد عيسى صفاء الدين البندنيجي الذي نقله من كتاب (جامع الأنوار) لمرتضى آل نظمي «أن والده أي والد الشيخ محمد الازهري كان من أصحاب الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني ، فكان هو أيضا من جملة المنسوبين إلى تلك الطريقة السنية ... وتوفي الشيخ محمد في بغداد ودفن بها في الجامع الشهير بجامع الخاصكي الواقع في محلة رأس القرية من محلات بغداد» اه.

(٢) رحلة أوليا جلبي ج ص ٤١٩.

٧٦

ثم جرت عليه تعميرات متوالية منها ما كان في سنة ١٠٧٧ ه‍ أيام وزارة إبراهيم باشا الطويل عمّر بعضا منه واهتم بما يقتضي لترميمه. فشرع فيه بإقامة الجمع والجماعات.

وفي سنة ١٠٧٩ ه‍ توجّه نظر الوزير قره مصطفى باشا إليه فعني بأمره وعيّن لمستخدميه راتبا من مال الدولة.

وفي سنة ١٠٩٤ ه‍ ورد بغداد محمد بك السلحشور لقضاء بعض المصالح التي أودعت إليه. وكان هذا ممن عاش في نعمة باني الجامع محمد باشا فعمره وأكمل بناءه وزوقه بنقوش ذهبية وكتابة ياقوتيّة (١) وزاد في وقفه وفي خدامه.

والتفصيل في كتابنا (المعاهد الخيرية).

مدة حكومته :

إن هذا الوالي بدأ حكمه في بغداد في غرة صفر سنة ١٠٦٧ ه‍ ودام إلى ٧ ذي الحجة سنة ١٠٦٩ ه‍ (٢).

الوزير مرتضى باشا :

إن هذا الوزير موصوف بالشجاعة والبطولة وقبل هذا كان واليا على بغداد. ثم صار واليا على ديار بكر فعهد إليه بالقيادة الممتازة. وفي هذه المرة فوّض إليه منصب بغداد أيضا.

وفي أيامه هذه أحيا (نهر دجيل) وكان اندرس. أراد أن يقوم

__________________

(١) الكتابة الياقوتية منسوبة إلى ياقوت المستعصمي الخطاط العراقي المعروف المتوفى سنة ٦٩٧ ه‍. وردت بلفظ (كتيبة ياقوتية). مع أن المنسوب إليه الكتابة لا الكتيبة المعروفة بنقوش الصنعة.

(٢) سجل عثماني ج ٤ ص ١٧٣ وفيه ترجمته.

٧٧

بالعمل وأن يوفق بين مصاريف بغداد ودخلها ويرفع عنها ما أصابها من اعتلال وأن يؤدي من ضرائب بغداد مائة كيس من الاقجات (١) سنويا يقدمها للدولة تعرف هذه ب (ارسالية) مع ألفي رطل من البارود ترسل إلى استنبول. كان طلب من حكومته أن تمنحه المنصب بهذه الشروط فوافقت.

ولي زمام الإدارة في بغداد. ولم يدخلها في أول وروده وإنما نزل بقرب فيلق الوالي السابق على حين غرة فولّد هيبة ... وحينئذ اتخذ المحاسبة عن خزانة بغداد وسيلة فأبدى أنه تبين للخزانة بذمّة الوالي أكثر من ستمائة كيس من الأقجات فصار يطالب بها وضيّق عليه الخناق من أجلها ومن ثمّ لجأ الوزير السابق إلى طريق الاستشفاع والالتماس منه فإنه كان منفورا من الصدر الأعظم محمد باشا الكوپر يلي فعفا حينئذ عن مائة كيس وحوله بمبالغ مقابل رهان مقبوضة والباقي جعله دينا إلى أجل.

وحينئذ دخل الوزير الجديد المدينة. وتطييبا لخاطر هذا الوزير وإزالة ما مضى دعاه إلى الضيافة وأعطاه خمسة عشر كيسا من النقود الكاملة العيار وثلاثة من البغال للركوب من نوع رهوان (رهوار). وأنعم عليه ب (فرجيّة سمّور) وأعطى لكل من أخيه وولده خنجرا مرصعا هدية لهما. ولكن هذا لم يكن الدواء الشافي لما جرحه به.

وهذا الوزير لم ير بدا من قبول هديته وتبرئة ساحته.

نهر دجيل :

ثم إن الوزير مرتضى باشا تولى الحكم بإجلال وعظمة واستقلال ، وأصدر أوامره إلى النواحي والقرى بتوليه الوزارة وجمّع الأهلين في نهر

__________________

(١) تاريخ العراق بين احتلالين ج ٤.

٧٨

دجيل وسكانه القدماء وأحضرهم إليه وأعد ثلاثة آلاف أو أربعة من العمّال والمعمارين ومن يصلح فشرعوا في العمل ولم تمض ثلاثة أشهر أو أربعة حتى أتمه حفرا وتطهيرا وعمر القصبات والجوامع هناك وأرضى الرعايا وأخذ الرسوم العشرية بوجه العدل والانصاف (١)

التبدل في الإدارة والمالية :

ألغى هذا الوزير ما كان يتقاضاه الولاة والدفتريون من المخصصات السنوية البالغة أكثر من مائة كيس ويقال لها (ساليانة) (٢) وتصرف لمعيشتهم وإدارتهم ، وأبطل إمارات بعض الألوية ، وأرسل للدولة المبلغ المقرر والبارود المعين ولا يزال هذا حملا ثقيلا على كاهل خزانة بغداد (٣). وبهذه الطريقة مضى في تدبير المملكة العراقية.

ظلم وقسوة :

ومن ثم اضطر بسبب التغير الحاصل إلى أخذ الرسومات المعينة من الرعايا سلفا وهي (الساليانة). واتخذ اختلاط الشهور العربية بالرومية (٤) وسيلة للغبن الفاحش واستعمل الغلظة على الأهلين فتمكن من جمع الضرائب سلفا ولكنه قضى على إدارة الماضي نهائيا وثبت الوارد والمصروف ودوّنهما بدفاتر خاصة. وعدّل في الادارة بالنظر للوضع الحالي. وهذا عمل مقبول لولا أنه أحدث ضجة بسبب الضرائب. نفع

__________________

(١) كلشن خلفا ص ٩١ ـ ١.

(٢) الساليانة المقرر السنوي ولا يزال أثرها باقيا. والصليان مأخوذ منها. ويطلق على رسوم النخيل المخصصة لهذه الجهة. وكذا المبالغ المخصصة للسلطان.

(٣) كلشن خلفا ص ٩١ ـ ١.

(٤) التاريخ الهجري القمري والشمسي والتوفيق بينهما أمر قديم تعرضت لتفصيله في المجلد السابع للتبدل في التاريخين وما جرى من تعديل مما يسمى ازدلاقا أو ازدلافا. وفي التركية يقال له (سويش).

٧٩

الدولة إلا أنه أضر بالأمة. حملها ما لم تطق. وقدرة الوالي يجب أن تصرف إلى أخذ المقرر من الضرائب دون أن يحدث ضرائب جديدة.

بدعة أخرى :

قرر أيضا على بغداد (معتادا) فيما يرسل من التحف الملوكية لرجال الحل والعقد في مركز الدولة وقرّر الانعامات لمن يأتي ويعود. ولم تزل الولاة مكلفين بهذه التكاليف حتى أواخر عهد المماليك.

إن هذا الوزير أبرز قدرة وأبدى مهارة في الإصلاح إلا أنه بعمله هذا أضرّ كثيرا إذ بلغ الناس من الضعف الغاية بل نرى الضرائب تتزايد وتتجدد متواليا فلم يفكر الولاة إلا في خاصة أنفسهم وإرضاء دولتهم.

سعر النقود :

كان القرش الواحد في خزانة بغداد يعتبر ثمانين آقچة. فأبلغ في هذه السنة بفرمان إلى تسعين وهذا تدبير آخر من هذا الوالي ، زاد على كل قرش بارة فكان ذلك منحة للموظفين ومصيبة على الرعية فيما يجبى منهم.

لهو وسفاهة :

ثم إنه مال إلى أمور لا تليق بشأن الوزارة رغّب في أمور تأباها النفوس. ولم تكفه المجالس الخاصة داخل المدينة. وإنما اتخذ خياما في الصحراء يقيم فيها الضيافات مفتوحة للعام والخاص يتعاطى فيها الرذائل ويزين مجالسه بالمغنّيات وسائر أمور اللهو.

والحاصل أن ما يستحسن منه أقل بقليل مما يسوء. جمع أموالا موفورة وخزائن غير محصورة فصار يضاهي الملوك في خدمه وحشمه وجيشه بحيث بلغ غاية الأبهة.

٨٠