ثمرات الأعواد - ج ٢

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٩
الجزء ١ الجزء ٢

المطلب الثاني والعشرون

في مكاتبة ابن عباس ويزيد لعنه الله

ذكر السبط بن الجوزي في كتابه التذكرة (١) ، قال : لمّا وصل خبر قتل الحسين عليه‌السلام إلى مكة ، وبلغ عبدالله بن الزبير ، خطب بمكة وقال : أمّا بعد ، ألا إنّ أهل العراق قوم غدر وفجر ، ألا وإنّ أهل الكوفة شرارهم ، أنّهم دعوا الحسين ليولّوه عليهم وليقيم أُمورهم ، وينصرهم على عدوّهم ويعيد معالم الإسلام ، فلمّا قدم عليهم ثاروا عليه فقتلوه ، وقالوا له : إن لم تضع يدك في يد الفاجر الملعون ابن زياد فيرى فيك رأيه قتلناك ومن معك ، فاختار الوفاة الكريمة على الحياة الذميمة ، فرحم الله حسينا ، وأخزى قاتليه ولعن من أمر بذلك ورضي به ، أفبعد ما جرى على أبي عبدالله يطمئن أحد إلى هؤلاء ، أو يقبل عهود الفجر والغدر ، أما والله لقد كان عليه‌السلام صوّاماً بالنهار ، وقواماً بالليل ، وأولى بنبيّهم من الفاجر بن الفاجر ، والله ما كان يستبدل بالقرآن الغناء ، ولاببكاء من خشية الله الحدآء ، ولا بالصيام شرب الخمور ، ولا بقيام الليل الزمور ، ولا بمجالس الذكر الركض في طلب الصيد واللعب بالقرود ، قتلوه فسوف يلقون غيّاً ، ألا لعنة الله على الظالمين.

قال أرباب التاريخ : ودعا ابن الزبير بعد قتل الحسين عليه‌السلام عبيدالله بن عباس

__________________

(١) انظر ص ٢٦٧.

٨١

ليبايعه ، فامتنع ابن عباس أشدّ الامتناع ، فبلغ امتناعه يزيد بن معاوية ، فكتب إليه كتاباً يشكره فيه على امتناعه من البيعة لابن الزبير ، ويقول فيه : أمّا بعد فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك الى بيعته والدخول في طاعته لتكون له على الباطل ظهيراً ، وفي المآثم شريكا ، وإنّك اعتصمت ببيعتنا وفاءاً منك لنا ، وطاعة لله لما عرّفك من حقّنا ، فجزاك الله عن ذي رحم ما يجزي الواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم ، وإن أنس شيئاً من الأشياء فلست بناس برّك وتعجيل صلتك بالذي أنت له أهل من القرابة من الرسول ، فانظر من طلع عليك من الآفاق ممّن سحرهم ابن الزبير بلسانه ، وزخارف قوله فأعلمهم برأيك فإنّهم منك أسمع ولك أطوع ، من المحلّ للحرم المارق.

ولما ورد على ابن عباس كتاب يزيد ، كتب إليه : أمّا بعد ، فقد جاءني كتابك ، تذكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى بيعته ، والدخول في طاعته ، فإن يكن ذلك كذلك فإنّي والله لا أرجوا بذلك برّك ولا حمدك ، ولكن الله بالذي أنوي به عليم ، وزعمت أنّك غير ناس برّي وتعجيل صلتي ، فاحبس أيها الإنسان برّك وتعجيل صلتك ، فإنّني حابس عنك ودّي ، فلعمري ما تؤتينا مالنا قبلك من حقّنا إلّا اليسير ، وإنّك لتحبس عنا منه العرض الطويل ، وسألت أن أحثّ الناس إليك ، وأن آخذ لهم من ابن الزبير ، فلا ولاء ولا سرور ، ولا حباء ، إنّك تسئلني نصرتك وتحثّني على ودّك وقد قتلت حسيناً عليه‌السلام وفتيان عبدالمطلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام ، وغادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد ، مرمّلين بالدماء مسلوبين بالعراء ، لا مكفّنين ولا موسّدين ، تسفي عليهم الرياح وتنتابهم عرج الضباع ، حتى أتاح الله بقوم لم يشركوا في دمائهم ، واروهم بالتراب ، وجلست مجلسك الذي جلست ، فإن أنس من الأشياء فلست بناس طردك حسيناً عن حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حرم الله ، وتسييرك إليه الرجال لتقتله في الحرم ، فما زلت بذلك وعلى ذلك حتى

٨٢

أشخصته من مكة إلى العراق ، فخرج خائفاً يترقب ، فزلزلت به خيلك عداوة منك لله ولرسوله وأهل بيته ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، ونحن اُولئك لا آباؤك الأجلاف الجفاة الطغاة الكفرة الفجرة أكباد الإبل والحمير ، أعداء الله ورسوله الذين قاتلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ موطن ، ثم إنّه بعد ما نزل بالعراق طلب إليكم الموادعة وسئلكم الرجعة فاغتنمتم قلّة أنصاره ، واستيصار أهل بيته ، وتعاونتم عليه كأنّكم قتلتم أهل بيت من الترك والديلم ، فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودّي ، وقد قتلت ولد أبي وسيفك يقطر من دمي ، وأنت أحد ثاري فإنشاء الله لا يبطل لديك دمي ، ولا تسبقني بثاري ، وإن سبقتني في الدنيا فقبل ذلك قد قُتل النبيون وآل النبيين ، فيطلب الله بدمائهم فكفى بالله للمظلومين ناصراً ومن الظالمين منتقما ، فلا يعجبك إن ظفرت بنا اليوم فلنظفرنّ بك يوماً ، وذكرت وفائي وما عرّفتني من حقّك فإن يك ذلك كذلك ، فقد والله بايعتك ومَن قبلك وإنّك لتعلم أنّي وولد أبي أحق بهذا الأمر منك ، ولكنّكم معشر قريش كابرتمونا عن حقّنا ، وولّيتم الأمر دوننا فبعداً لمن تحرّى ظلمنا واستغوى السفهاء علينا ، كما بعدت ثمود وقوم لوط وأصحاب مدين ، ألا وإنّ من أعجب الأعاجيب وما عسى أن أعجب حملك بنات عبدالمطلب وأطفالا صغاراً من ولده إليك بالشام ، كالسبي المجلوبين ، ترى الناس أنّك قهرتنا وأنت تمنّ علينا ، وفي ظنّك أنّك أخذت بثار أهلك الكفرة الفجرة يوم بدر ، وأظهرت الأنتقام الذي كنت تخفيه والأضغان التي تكمنها في قلبك ، كمون النار في الزناد ، وجعلت أنت وأبوك دم عثمان وسيلة إلى ظهارها ، فالويل لك من ديّان يوم الدين ، ولعمري والله فلا كنت تصبح آمناً من جراحة يدي ، إنّي لأرجو أن يعظُم الله جرحك من لساني ونقضي وإبرامي وبغيّك ولكثكث ، وأنت المفنّد المثبور ، ولك الأثلب ، وأنت المذموم ، والله ما أنا بآيس من بعد قتلك ولد رسول الله أن يأخذك الله أخذاً أليما ويخرجك من الدنيا مذموماً

٨٣

مدحورا ، فعش لا أباً لك ما استطعت ، فقد والله ازددت عند الله أضعافاً واقترفت مأثماً والسلام على من اتبع الهدى.

يقول ابن عباس في كتابه هذا : يا يزيد ، وإن أنس من الأشياء فلست بناس طردك حسيناً عن حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قوله : ومن أعجب الأعاجيب وما عسى أن أعجب حملك بنات عبدالمطلب وأطفالاً صغاراً من ولده إليك ، بلى والله لقد حملوهنّ على أعجاف الإبل اسارى بلا محام ولا كفيل.

حملت على الأكوار بعد خدورها

الله ماذا تحمل الأكوار (١)

__________________

(١) من قصيدة عامرة لأمير شعراء الرثاء السيد حيدر الحلي رحمه‌الله مطلعها :

لا تحذرن فما يقيك حذارُ

إن كان حتفك ساقَهُ المِقدارُ

٨٤

المطلب الثالث والعشرون

في ثورة العراقيين على ابن زياد لعنه الله

قال ابن قتيبة (١) : كان ابن زياد أول من ضم إليه الكوفة والبصرة ، وكان أبوه زياد كذلك قبله ، ولما هلك يزيد بن معاوية وأظهر ابن الزبير أمره وخلع أهل البصرة طاعة بني أمية وبايعوا ابن الزبير ، خرج عبيد الله بن زياد إلى المسجد ، وقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها الناس إن الذي كنا نقاتل على طاعته قد مات ، واختلف أمر الناس وتشتّت كلمتهم وانشقّت عصاهم ، فإن أمّرتموني عليكم حبّبت فيكم وقاتلت عدوّكم وحكمت بينكم وأنصفت مظلومكم ، وأخذت على يد ظالمكم ، حتى يجتمع الناس على خليفة.

فقام يزيد بن الحارث ، بن رويم اليشكري ، وقال : الحمد لله الذي أراحنا من بني أمية واُخرى من ابن سمية ، لا والله ولا كرامة. قال : فأمر عبيدالله فلبّب ثم انطلق به إلى السجن ، فقام بكر بن وائل فحال بينه وبين ذلك ، ثم خرج الثانية عبيدالله بن زياد الى المنبر فخطب الناس فحصبه الناس ورموه بالحجارة وسبّوه وقام قوم فدنوا منه فنزل ، واجتمع الناس في المسجد فقالوا : نؤمّر رجلاً حتى تجتمع الناس على خليفة ، وكان الذين قاموا بأمره هذا الحي الذي من كندة فبينما

__________________

(١) في ج ٢ ص ١٩ من كتابه الأمامة السياسة.

٨٥

هم على ذلك إذ أقبل النساء يبكين وينعين الحسين عليه‌السلام وأقبلت همدان حتى ملؤا المسجد فأطافوا بالمنبر متقلّدين بالسيوف ، وأجمع رأي أهل الكوفة والبصرة على عامر بن مسعود بن أُمية ، فأمروه عليهم حتى يجتمع الناس ، وكتبوا إلى عبدالله بن الزبير يبايعونه بالخلافة ، فوجّه لهم عاملاً مكث عندهم سنة كاملة ، فبلغ أهل البصرة ما صنع أهل الكوفة فاجتمعوا وأخرجوا الرايات ، فلم يبق أحد إلّا وخرج وذلك لسوء آثار عيبدالله ابن زياد فيهم ، يطلبون قتله ، فلمّا رأى عبيدالله ابن زياد ذلك لم يدر كيف يصنع وخاف تميما وبكر بن وائل أن يستجير بهم ، ولم يأمن غدرهم ، فأرسل إلى الحارث بن قيس الجهمي من الأزد ، فدخل عليه الحارث ، فقال له يا حارث قد أكرمتم زياداً وحفظتم منه ما كنتم أهله ، وقد استجرت بكم فأنشكم الله فيَّ ، فقال الحارث : أخاف أن لا تقدر على الخروج إلينا لما أرى من سوء رأي العامة فيك مع سوء آثارك من الأزد.

قال : فتهيّأ عبيدالله ولبس لباس امرأة في خمرتها وعقيصتها أردفه الحارث خلفه فخرج به على الناس ، فقالوا : يا حارث ما هذه؟ قال : تنحّوا رحمكم الله هذه امرأة من أهلي كانت زائرة لأهل ابن زياد أتيت أذهب بها ، فقال عبيدالله للحارث : أين نحن؟ قال : في بني سليم ، فقال : سلمنا الله ، قال : ثم سار قليلاً ثم قال : أين نحن؟ قال : في بني ناجية من الأزد ، وجاء به إلى دار مسعود بن عمرو الأزدي ، فقال له : يا أبا قيس ، قد جئتك بعبيدالله مستجيراً ، قال : ولم جئتني بالعبد؟ قال : اشهد الله لقد اختارك على غيرك ، فلمّا رآهم عبيدالله يتراضون ويتناشدون ، قال قد بلغني الجهد والجوع ، فقال مسعود : يا غلام أنت البقال ، فآتنا من خبزة وتمره.

قال الراوي : فجاء به الغلام فوضع وأكل ، وإنّما أراد ابن زياد أن يتحرّم بطعامه ، ثم قال : ادخل فدخل ومنارات الناس يومئذ من القصب وكان منزل مسعود يومئذ قاصية ، قال : فكأن عبيدالله خاف على نفسه ، فقال : يا غلام اصعد

٨٦

إلى السطح بحزمة من قصب فاشعل أعلاه ناراً ، ففعل ذلك في جوف الليل ، فأقبلت الأزد على الخيل ، وعلى أرجلها ، حتى شحنوا السكك وملئوها ، فقال : ما لسيّدنا؟ قال : شيء حدث في الدار ، قال : فعرف عبيدالله عزته وما هو عليه ، هذا والله العز والشرف ، فأقام عنده أياماً وعنده امرأتان من الأزد وامرأة من عند عبد قيس ، فكانت العبدية تقول : أخرجوا العبد ، وكانت الأزدية تقول : استجار بك على بغضه إيّاك وجفوته لك ، وتحدّث الناس أنّه لجأ ابن زياد إلى مسعود بن عمرو ، فاجتمعت القبائل في المسجد وتكلّموا في أمر مسعود ، وأنّه أجار ابن زياد ، فلمّا سمع مسعود ، قال : ما ظنّي إلّا خارجاً إلى البصرة معتذراً إليهم من أمر عبيدالله ، ثم قال : وكيف آمن عليه وهو في منزله ، ولكنّي أبلغه أمنه ثم أمضي وأعتذر اليهم ، وكان قد أجار ابن زياد أربعين ليلة ، وخرج ابن زياد من عنده متجهاً إلى الشام على طريق السماوة ، متخفياً فكان لا يمر على ماء ولا على اناس قط.

قال الراوي : وأقبل مسعود على برذون له وحوله عدة من الأزد عليهم السيوف ، وقد عصب رأسه بسير أحمر ـ وكانت العرب تصنعه إذا أراد الرجل الاعتذار من الذنب عصب رأسه بالسير ليعلموا أنه معتذر ـ. قال : فأقل مسعود حتى انتهى إلى باب المسجد ومعه أصحابه ، وكان لم يستطع النزول لكبره ، ودخل المسجد بدابته ، فبصرت به القبائل فظنوا أنه عبيدالله فأقبلوا نحوه وجال الناس عليه جولة فضربوه بأسيافهم حتى مات ووقعت الوقعة بين قبيلته الأزد وبين مضر ، فهذا مسعود كان سبب قتله ، أن أجار ابن زياد الفاسق ، وإن كان قتلهم له خطأ ولا يلام هو على ذلك ، إذ أن العرب هذا دينهم وهذه سجيّتهم ، يجيرون من استجار بهم إلّا اللعين ابن زياد خرم هذه القاعدة ، استجار مسلم ابن عقيل بالكوفة فلم يحفظ جواره ، لا هو ولا أهل الكوفة بل قاتلوه وقتلوه ورموه من أعلى القصر إلى الأرض.

لو كان في الكوفة غير مسلم

من مسلم ما قطعوه إربا

٨٧

المطلب الرابع والعشرون

في ذكر التوابين

قال ابن جرير الطبري (١) ، وابن الأثير ، وابن كثير في البداية والنهاية : لمّا قتل الحسين عليه‌السلام رأى الشيعة بالكوفة أنّهم أخطأوا خطأ كبيراً ، وارتكبوا ذنباً عظيماً بعدائهم الحسين عليه‌السلام وتركهم نصرته ، وأن لا كفّارة في ذلك إلّا الاستماتة دون ثاره ، وسموا أنفسهم التوابين لتوبتهم من عظيم ذنبهم ، فكانوا أول ما ابتدأوا به أمرهم سنة إحدى وستين جمع آلة الحرب والإستعداد ، ودعاء الناس في السرّ إلى الطلب بدم الحسين عليه‌السلام ، ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأوّل سنة أربع وستّين ، وكان بين قتل الحسين عليه‌السلام وهلاك يزيد ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام ، وأمير العراق يومئذ عبيدالله بن زياد ، وهو بالبصرة ، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث المخزومي.

وكان من عيون الشيعة فيها سليمان بن صرد الخزاعي (٢) والمسيب بن نجبة

__________________

(١) في ج ٤ ص ٤٢٦ من كتابه تأريخ الأمم والملوك.

(٢) كان سليمان بن صرد الخزاعي صحابياً كبيراً جليلاً عابداً روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث في الصحيحين وغيرهما ، وشهد مع علي عليه‌السلام صفين ، وكان أحد من يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين عليه‌السلام وكتب إليه في من كتب للقدوم إلى العراق.

٨٨

الفزاري ، وعبدالله بن سعد بن نفيل الأزدي ، ورفاعة بن شداد البجلي ، وعبدالله بن وال تميمي ، فاجتمع هؤلاء في دار سليمان بن صرد الخزاعي ومعهم اُناس كثير ، فبدأ سليمان بالكلام ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد فقد ابتلينا بطول العمر والتعرّض للفتن ، وقد قال علي عليه‌السلام : العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستّون سنة ، وليس فينا إلّا من بلغها ، وكنّا مغرمين بتذكية أنفسنا ومدح شيعتنا ، حتى أبلى الله خيارنا فوجدنا كذّابين في نصرة ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا عذر دون أن تقتلوا قاتليه ، فعسى ربنا أن يعفوا عنّا.

فقام رفاعة بن شداد وقال : قد هداك الله إلى صواب القول ، ودعوت إلى رشد الأمور جهاد الفاسقين ، وإلى التوبة من الذنب ، فمسموع منك مستجاب لك مقبول منك ، ثم التفت إلى الحاضرين وقال : فإن رأيتم وليّنا هذا شيخ الشيعة وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سليمان بن صرد. فقال المسيب : أصبتم ووفّقتم ، وأنا أرى الذي رأيتم ، فاستعدّوا للحرب ، فقاموا وبايعوا سليمان بن صرد.

قال الراوي : وكتب سليمان كتاباً إلى من كان بالمدائن من الشيعة من أهل الكوفة ، وبعثه مع عبدالله بن مالك الطائي ، الى سعد بن حذيفة بن اليمان ، يدعوهم إلى أخذ الثار ، فلمّا وقفوا على الكتاب قالوا : رأينا مثل رأيهم ، فكتب سعد بن حذيفة الجواب بذلك ، وكتب سليمان أيضاً إلى المثنى بن محزمة العبدي كتاباً ، فكتب المثنى الجواب ، أمّا بعد فقد قرأت كتابك وأقرأته إخونك فحمدوا رأيك واستجابوا لك ، فنحن موافوك للأجل الذي ضربت والسلام عليك ، وكتب في أسفل كتابه :

تبصر كأنّي قد أتيتك معلما

على أبلغ الهادي أجش هزيم

٨٩

طويل القرا نهداً أشق مقلص

ملحّ على قاري اللجام رؤم

بكل فتى لا يملأ الدرع نحره

محثّ لنار الحرب غير سؤم

أخي ثقة يتغي الإله بسعيه

ضروب بنعل السيف غير أثيم

وكتب أيضاً كتاباً إلى البصرة.

قال الراوي : وقوي أمرهم واشتدّت شوكتهم ، وصادف أن دخل المختار إلى الكوفة في تلك الأيام راجعاً من مكة ، فجعل الناس يقولون : هذا المختار ما قدم إلّا لأمر ، ونرجوا به الفرج ، ثم إنّه جعل يبعث إلى وجوه الشيعة ويدعوهم لنفسه ، فقالوا له : أنت أهل لذلك غير الناس قد بايعوا سليمان بن صرد الخزاعي ، فهو شيخ الشيعة اليوم فلا تعجل في أمرك ، فسكت المختار وأقام ينتظر ما يكون من أمر سليمان والشيعة حينئذ يريدون أمرهم خوفاً من عبدالملك بن مروان وعبدالله بن الزبير ، وكان خوف الشيعة من أهل الكوفة أكثر ، لأنّ أكثرهم قتلة الحسين عليه‌السلام.

وصار المختار يخذل الناس عن سليمان ويدعوهم إلى نفسه حتى بايعه جماعة ، وكان عبدالله بن الزبير قد جعل من قبله عبدالله بن يزيد وإبراهيم بن محمّد بن طلحة ، فقال لهما عمر بن سعد وشبث بن ربعي : إنّ المختار أشدّ عليكما ، لأنّ سليمان إنّما خرج يقاتل عدوّكما ، والمختار إنّما يريد أن يثبت عليكما ، فسيروا إليه وأوثقوه بالحديد وخلّدوه في السجن ، فما شعر المختار إلّا وقد أحاطوه بداره واستخرجوه ، فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة لعبدالله بن يزيد : أوثقه كتافاً ومشّه حافياً ، فقال له : لم أفعل هذا برجل لم يظهر لنا عداوة ولا حرباً ، إنّما أخذناه على الظنّ ، فأتى ببلغة له دهماء فركبها وادخلوه السجن.

٩٠

قال : وخرج سليمان بن صرد ليرحل ، فرأى عسكره ، فاستقبله فبعث إلى حكيم بن منقذ الكندي ، والوليد بن حصين الكناني ، في جماعة وأمرهما بالنداء في الكوفة وفي الجامع الكبير : يا لثارات الحسين عليه‌السلام ، فخرج جمع كثير إلى سليمان ، وكان معه ستة عشر ألف مثبتة أسماؤهم في ديوانه ، فلم يحضر منهم سوى أربعة آلاف ، فخرج بهم وسار لمحاربة عبيدالله بن زياد (لعنه الله) ، فقال له عبدالله بن سعد : إنّ قتلة الحسين كلّهم بالكوفة ، منهم عمر بن سعد ورؤوس الأرباع والأشراف والقبائل ، وليس بالشام سوى عبيدالله بن زياد ، فلم يعبأ برأيه دون أن سار بالرجال عشية الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الثاني ، فباتوا ليلتهم بدير الأعور ، ثم ساروا فنزلوا على أقساس مالك على شاطئ الفرات وأصبحوا عند قبر الحسين عليه‌السلام ، فأقاموا يوماً وليلة يصلّون ، ويستغفرون ، وينوحون ، ويضجّون ضجّة واحدة بالبكاء والعويل ، فلم ير يوماً أكثر بكاء ، وازدحموا عند الوداع على قبره كازدحام الناس على الحجر الأسود ، وقام وهب ابن زمعة الجعفي باكياً على القبر وأنشد أبيات عبدالله بن الحر الجعفي حيث يقول :

يبيت النشاوي من أمية نوماً

وبالطف قتلى لا ينام حميمها

وأضحت قناة الدين في كف ظالم

وإذا أعوج منها جانب لا يقيمها

فأقسمت لا تنفكّ نفسي حزينة

وعيني تبكي لا يجفّ سجومها

حياتي أو تلقى أمية خزية

يذلّ بها حتى الممات قرومها

أقول : فليت هؤلاء الصفوة حضروا إمامهم يوم عاشوراء وقد أحاطت به أعداؤه وهم سبعون ألف ، وهو وحيد فريد بلا ناصر ولا معين ، قال الشاعر :

٩١

يرى قومه صرعى وينظر نسوة

تجلببن جلباب البكاء والمآتم

وقال الآخر :

وأضحى يدير السبط عينيه لا يرى

سوى جثث منهم على الترب ركد (١)

__________________

(١) (فائدة) : قال ابن جرير الطبري : لما انتهى سليمان بن صرد وأصحابه الى قبر الحسين عليه‌السلام نادوا صيحة واحدة : يا رب إنّا قد خذلنا ابن بنت نبيّنا فاغفر لنا ما مضى ، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم ، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء والصدّيقين ، وإنّا نشهدك يا رب أنّا على مثل ما قتلوه عليه فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.

(فائدة) : كان دخول المختار بن أبي عبيدة الثقفي الكوفة في النصف من شهر رمضان ، وقدم عبدالله بن يزيد الأنصاري أميراً على الكوفة من قبل ابن الزبير لثمان بقين من شهر رمضان ، وقدم ابراهيم بن محمّد بن طلحة ومعه على خراج الكوفة الكوفة فأخذ المختار يبكي الحسين عليه‌السلام ويذكر مصابه فأحبّه الناس وصار يدعوهم الى قتال قتلة الحسين عليه‌السلام ويقول : جئتكم من عند المهدي محمّد بن الحنفية ، فرجع إليه طائفة من الشيعة ثم حبسه عبدالله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة.

٩٢

المطلب الخامس والعشرون

في تتمة قضية التوّابين

لمّا خرج سليمان بن صرد الخزاعي من الكوفة بالرجال والعدّة قاصدين الشام ، كان مع الناس عبدالله بن عوف الأحمر على فرس كميت يتأكّل تأكّلا وهو يقول :

خرجن يلمعن بنا إرسالا

عوابسا وتحمل الأبطالا

نريد أن نلقى بها الإقبالا

الفاسقين الغدر الضلّال

وقد رفضنا الأهل والأموالا

والخفرات البيض والحجالا

نرجوا به التحفة والنوالا

لنرضي المهيمن المفضالا

قال : فساروا حتى أتو هيت ثم خرجوا منها حتى أتوا قرقيسيا ، وبلغهم أنّ أهل الشام في عدد كثير ، فساروا سيراً مغذا حتى وردوا عين الوردة عن يوم وليلة ، ثم قام سليمان بن صرد فوعظهم وذكّرهم دار الآخرة ، وقال : إن قتلت فأميركم المسيب بن نجبة ، فإن اُصيب فالأمير عبدالله بن سعد بن نفيل ، فإن اصيب فأخوه خالد بن سعد ، فإن قتل فالأمير عبدالله بن وال ، فإن قتل فأميركم رفاعة بن شدّاد ، ثم بعث سليمان المسيب بن نجبة في اربعة آلاف فارس وأمره أن يشن عليهم الغارة.

قال حميد بن مسلم : كنت معهم فسرنا يومنا كلّه وليلتنا حتى إذا كان السحر

٩٣

نزلنا وهومنا ، ثم ركبنا وصلّينا الصبح ففرّق العسكر ، وبقي معه مائة فارس ، فلقي اعرابيا فقال له : كم بيننا وبين القوم؟ قال : ميل (١) وهذا عسكر شراحبيل بن ذي الكلاع من قبل عبيدالله بن زياد في أربعة آلاف ، ومن ورائهم الحصين بن نمير السكوني في أربعة آلاف ، ومن ورائهم الصلب بن ناجية الغلابي وأربعة آلاف وجمهور العسكر مع عبيدالله بن زياد بالرقة.

قال : فساروا حتى أشرفوا على عسكر الشام ، فقال المسيب لأصحابه : كرّّوا عليهم ، فحمل عليهم عسكر العراق فانهزموا وقتل منهم خلق كثير وغنموا منهم غنيمة عظيمة.

قال : وأمرهم المسيب بالعودة فرجعوا إلى سليمان ووصل الخبر إلى عبيدالله بن زياد فسرّح إليهم الحصين بن نمير وأتبعه بالعساكر حتى نزل في عشرين ألف ، وعسكر العراق يومئذ ثلاثة آلاف ومائة لا غير ، ثم تهيّأت العساكر للحرب ، فكان على ميمنة أهل الشام عبدالله بن الضحاك بن قيس الفهري ، وعلى ميسرتهم مخارق بن ربيعة الغنوي ، وعلى الجناح شراحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، وفي القلب الحصين بن نمير السكوني ، ثم جعل أهل العراق على ميمنتهم المسيب بن نجبة الفزاري ، وعلى ميسرتهم عبدالله بن سعد بن نفيل الأزدي ، وعلى الجناح رفاعة بن شداد البجلي ، وعلى القلب الأمير سليمان بن صرد الخزاعي ، ووقف العسكر فنادى أهل الشام : ادخلوا في طاعة عبدالملك بن مروان ، ونادى أهل العراق : سلموا لنا عبيدالله بن زياد ، وأن يخرج الناس من طاعة عبدالملك وآل الزبير ، ويسلم الأمر الى أهل بيت نبيّنا ، فأبى الفريقان وحمل بعضهم الى بعض وجعل سليمان بن صرد يحرضهم على القتال ، ويبشّرهم

__________________

(١) الميل أربعة آلاف ذراع وكل ثلاثة أميال فرسخ.

٩٤

بكرامة الله ، ثم كسر جفن سيفه وتقدم نحو أهل الشام وهو يقول :

إليك ربي تبت من ذنوبي

وقد علاني في الورى مشيبي

فارحم عبيدا غرما تكذيب

واغفر ذنوبي سيّدي وحوبي

قال حميد بن مسلم : حملت ميمنتنا على ميسرتهم ، وحملت ميسرتنا على ميمنتهم ، وحمل سليمان في القلب فهزمناهم ، وظفرنا بهم ، وحجز الليل بيننا وبينهم ، ثم قاتلناهم في الغد وبعده حتى مضت ثلاثة أيّام ، ثم أمر الحصين بن نمير أهل الشام برمي النبل ، فأتت السهام كالشرار المتطاير ، فقتل سليمان بن صرد ، ثم أخذ الراية المسيب بن نجبة ، فجعل يقاتل ويقول :

قد علمت ميّالة الذوائب

واضحة الخدّين والترائب

إنّي غداة الروع والتغالب

أشجع من ذي لبدة مواثب

قطّاع أقران مخوف الجوانب

* * *

فلم يزل يقاتل حتى تكاثروا عليه فقتلوه ، ثم أخذ الراية عبدالله بن سعد بن نفيل ، فحمل على القوم وهو يقول :

ارحم الهي عبدالله التوّابا

ولا تؤاخذه فقد أنابا

وفارق الأهلين والأحبابا

يرجو بلك الفوز والثوابا

فلم يزل يقاتل حتى قتل ، ثم تقدم أخوه خالد بن سعيد بالراية ، وحرّض أصحابه على القتال ، وقاتل حتى قتل ، وتقدم عبدالله بن وال ، فأخذ الراية وقاتل حتى قطعت يده اليسرى ، ثم استند إلى أصحابه ويده تشخب دماً ، ثم كرّ عليهم وهو يقول :

نفسي فداكم اذكروا الميثاقا

وصابروهم واحذرو النفاقا

لا كوفة نبغي ولا عراقا

لا بل نريد الموت والعناقا

٩٥

قاتل حتى قتل ، فبينا هم كذلك إذ جائتهم النجدة مع المثنى بن مخرمة العبدي من البصرة ، ومن المدائن مع كثير بن عمرو الحنفي ، فاشتدت قلوب أهل العراق بهم ، واجتمعوا وكبّروا وأشتد القال حتى بان في أهل العراق الضعف والقلّة وتحدّثوا في ترك القتال ، فبعضهم وافق وبعضهم قال : إن وليّنا ركبنا السيف فلا نمشي فرسخاً حتى لا يبقى منّا واحد ، وإنّما نقاتل حتى يأتي الليل ونمضي ، ثم تقدم عبدالله بن عوف إلى الراية فرفعها واقتتلوا أشد قتال فقتل جماعة من أهل العراق ، وجاء أدهم بن محرز الباهلي في نحو عشرة آلاف مدداً من ابن زياد ، فاقتتلوا يوم الجمعة إلى ارتفاع الضحى ، ثم إنّ أهل الشام كثروا أصحاب سليمان وتعطّفوا عليهم من كل جانب ، وانفلت الجموع وافترق الناس ، وبان الإنكسار بأهل العراق فتراجعوا حتى وصلوا قرقيسا في جانب البر ، وجاء سعد بن حذيفة إلى هيت ، فلقيه الأعراب فأخبروه بما لقي الناس ، ثم عاد أهل المدائن وأهل الكوفة إلى بلادهم ، وقد أدّوا ما عليهم ، فمن استشهد منهم سعد في الدارين ومن لم يقتل منهم فقد أدّى ما عليه (١) لكنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء فإنّهم جاهدوا دونه حتى جزروا على الأرض فوقف عليهم الحسين عليه‌السلام وجعل يناديهم بأسمائهم ولسان حاله يقول :

أحبّاي لو غير الحمام أصابكم

عتبت ولكن ما على الموت معتب

__________________

(١) قتل سليمان بن صرد ومن قتل معه من التوابين بعين الوردة في ربيع الآخر سنة خمس وستّين.

(فائدة) : قال السبط ابن الجوزي في التذكرة : كان سليمان بن صرد له شرف في قومه ، ولمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحوّل فنزل الكوفة وشهد مع علي عليه‌السلام الجمل وصفين ، وكان في الذين كتبوا الى الحسين عليه‌السلام أن يقدم إلى الكوفة غير أنّه لم يقاتل معه حيث سجنه ابن زياد وكان سن سليمان بن صرد يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة.

٩٦

المطلب السادس والعشرون

في تتمة ذكر التوّابين

ذكر الطبري (١) عن عبدالرحمن بن غزية قال : لمّا انتهينا إلى قبر الحسين عليه‌السلام بكى الناس بأجمعهم وسمعت جلّ الناس يتمنون أنّهم كانوا اُصيبوا معه ، فقال سليمان : اللّهمّ ارحم حسيناً الشهيد بن الشهيد ، المهدي بن المهدي ، الصدّيق بن الصدّيق ، اللّهمّ إنّا نشهدك أنّا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم ، وأولياء محبّيهم.

قال : فأقاموا عنده يوم وليلة ، يصلّون عليه ويبكون ويتضرعون ، فما انفكّ الناس من يومهم ذلك يترحّمون عليه وعلى أصحابه حتى صلّو الغداة عنده قبره وزاده ذلك حنقاً ، ثم ركبوا فأمر سليمان الناس بالمسير فجعل الرجل لا يمضي حتى يأتي قبر الحسين عليه‌السلام فيعول عليه ويترحم عليه ، ويستغفر له.

قال الراوي : فوالله لرأيتهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود.

قال : ووقف سليمان عند قبره فكلّما دعا قوم وترحموا عليه قال لهم المسيب بن نجبة وسليمان بن صرد : الحقوا بإخوانكم رحمكم الله ، فما زال

__________________

(١) انظر ج ٤ ص ٤٥٦.

٩٧

كذلك حتى بقي نحو من ثلاثين من أصحابه ، فأحاط سليمان بالقبر ، فقال سليمان : الحمدلله الذي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الحسين عليه‌السلام ، اللّهمَّ إن حرمتناها معه ، فلا تحرمناها فيه بعده.

قال : ثم إنّ سليمان سار من موضع قبر الحسين عليه‌السلام وسرنا معه فأخذنا على الجصاصة ثم على الأنبار ، ثم على الصدود ، ثم على القيارة وجاؤوا يجدّون السير حتى وافوا هيت ، وجاءهم كتاب من عبدالله بن يزيد من الكوفة يحذّرهم المسير ، ويدعوهم إلى اتباع ابن الزبير ، فكتب إليه سليمان :

بسم الله الرحمن الرحيم

للأمير عبدالله بن يزيد من سليمان بن صرد ومن معه من المؤمنين ؛ سلام عليكم

أمّا بعد ... فقد قرأنا كتابك وفهمنا ما نويت ، فنعم والله الوالي ونعم الأمير ، ونعم أخو العشيرة أنت ، والله من نأمنه بالغيب ونستنصحه في المشورة ، ونحمده على كلّ حال إنّا سمعنا الله عزوجل يقول في كتبه : (إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ) إلى قوله : (وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١) إنّ القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوا ، أنّهم قد تابوا من عظيم جرمهم إلى الله وتوكّلوا عليه ، ورضوا بما قضى الله ، (رَبّنَا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢) والسلام عليك.

فلمّا أتاه هذا الكتاب قال : استمات القوم أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم ، وأيم الله ليقتلنّ كراماً مسلمين ، لا والذي هو ربهم ، لا يقتلهم عدوّهم حتى تشتدّ شوكتهم وتكثر القتلى فيما بينهم.

__________________

(١) سورة التوبة : ١١١.

(٢) سورة الممتحنة : ٤.

٩٨

قال عبد الرحمن بن غزية : وخرجنا من هيت وانتهينا إلى قرقيسا ، فلمّا دنونا منها وقف سليمان بن صرد فعبأنا تعبئة حسنة حتى مررنا بجانب قرقيسيا فنزلنا قريباً منها وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصّن بها من القوم ، ولم يخرج إليهم فبعث سليمان المسيب بن نجبة ، فقال : أئت ابن عمّك هذا ، فقل له : فليخرج إلينا سوقا فأنّا لسنا إيّاه نريد ، إنّما صمدنا لهؤلاء المحلّين فخرج المسيب ابن نجبة حتى انتهى إلى باب قرقيسيا ، فقال : افتحوا الباب ممّن تحصنون! فقالوا : من أنت؟ قال : أنا المسيب بن نجبة ، فأتى الهذيل بن زفر إياه ، فقال : هذا رجل حسن الهيأة يستأذن عليك وسألناه من هو ، فقال : المسيب بن نجبة ، قال : وأنا إذ ذلك لا علم لي بالناس ولا أعلم أي الناس هو ، فقال لي أبي : أما تدري أي بني من هذا؟ هذا فارس مضر الحمراء كلّها ، وإذا عدّ من أشرافها عشرة كان أحدهم ، وهو بعد رجل ناسك له دين ، إئذن له.

قال : فأذن له ودخل فأجلسه أبي إلى جانبه وسأله ولا طفه في المسألة ، فقال المسيب بن نجبة : ممّن تحصن ، إنّا والله ما إيّاكم نريد ، وما اعترينا إلى شيء إلّا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلّين ، فاخرج لنا سوقاً فإنّا لا نقيم بساحتكم إلّا يوماً أو بعض يوم ، فقال له زفر بن الحارث : إنا لم نغلق هذه الأبواب إلّا لنعلم أيّانا اعتريتم أم غيرنا ، إنّا والله ما بنا عجز من الناس ما لم تدهمنا حيلة ، وما نحبّ أنّا بلينا بقتالكم ، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة حسنة جميلة ، ثم دعى ابنه فأمره أن يصنع لهم سوقاً ، وأمر المسيب بألف درهم وفرس ، فقال له المسيب : أمّا المال فلا حاجة لي فيه ، والله ما له خرجنا ولا إيّاه طلبنا ، وأمّا الفرس فإني أقبله لعليّ أحتاج إليه إن ظلع فرسي أو غمز تحتي ، فخرج به حتى أتى أصحابه ، وأخرجت لهم السوق فتسوّقوا.

وبعث زفر بن الحارث إلى المسيب بن نجبة بعد اخراج السوق والأعلاف

٩٩

والطعام الكثير بعشرين جزوراً ، وبعث إلى سليمان بن صرد مثل ذلك ، وقد كان زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر ، فسمّي له عبدالله بن سعد بن نفيل وعبدالله بن وال ، ورفاعة بن شداد ، وسمّي له امراء الأرباع ، فبعث إلى هؤلاء الرؤوس الثلاثة بعشر جزائر ، وعلف كثير وطعام ، وأخرج للعسكر عيراً عظيمة وشعيراً كثيراً ، فقال غلمان زفر : هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم ، وهذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم ، وهذا دقيق فتزودوا منه ما أطقتم ، فظلّ القوم يومهم ذلك مخصبين ، لن يحتاجوا إلى شراء شيء من هذه الأسواق التي وضعت ، وقد كفّوا اللحم والدقيق والشعير إلّا أن يشتري الرجل ثوباً أو سوطاً.

ثم ارتحلوا من الغد وبعث إليهم زفر أني خارج إليكم مشيعكم ، فأتاهم وقد خرجوا على تعبئة حسنة فسايرهم ، فقال زفر لسلمان : إنّه قد بعث خمسة امراء ، قد فصلوا من الرقة ، فيهم الحصين بن نمير السكوني وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز الباهلي ، وأبو مالك بن أدهم ، وربيعة بن المخارق الغنوي ، وجبلة بن عبدالله الخثعمي ، وقد جاءكم في مثل الشوك والشجر أتاكم عدد كثير وحدّ حديد ، وأيم الله لقلّ ما رأيت رجلاً أحسن هيأة ولا عدّة ولا أخلق لكلّ خير من رجال أراهم معك ، ولكنّه قد بلغني أنّه قد أقبلت إليكم عدّة لا تحصى ، فقال ابن صرد : على الله توكّلنا وعليه يتوكّل المتوكلون.

ثم قال له زفر : فهل لكم في أمر أعرضه عليكم لعل الله أن يجعل لنا ولكم فيه خيراً ، إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها ، فكان أمرنا واحد وأيدينا واحدة ، وإن شئتم نزلتم على باب مدينتنا وأخرجنا معسكرنا إلى جانبكم فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعا ، فقال سليمان لزفر : قد أرادنا أهل مصرنا على ما أردتنا عليه ، وذركوا مثل الذي ذكرت ، وكتبوا إلينا به بعد ما فصلنا ، فلم يوفقنا ذلك فلسنا فاعلين. فقال زفر : فانظروا ما اُشير به عليكم فاقبلوه وخذوا به فإنّي للقوم عدوّ وأحبّ أن يجعل الله عليهم الدائرة وأنا لكم وادّ ، أحبّ أن يحوطكم الله

١٠٠