ثمرات الأعواد - ج ٢

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٩
الجزء ١ الجزء ٢

ورجليه ، ثم قال : النار النار ، فاتي بنار وقصب فأحرق ، قال : فقلت : سبحان الله فالتفت إليّ المختار وقال : التسبيح حسن لم سبّحت؟ قال : فأخبرته بدخولي على زين العابدين ودعا ، فنزل من دابته وصلى ركعتين وأطال السجود ، ثم رفع رأسه وهو يقول : الحمدلله الذي استجاب دعاء سيدي على يدي ، فقال : إنّ علي بن الحسين دعا بدعوات فأجابها الله على يدي ثم تدعوني إلى الطعام ، هذا يوم صوم شكراً لله تعالى ، فقلت له : أحسن الله توفيقك.

وليس يشفي غليلنا من هذا الرجس بعد ما رمى رضيع الحسين عليه‌السلام بسهم وذبحه من الوريد إلى الوريد.

هبوا أنّكم قاتلتم فقتلتم

فما ذنب أطفال تقاسي نبالها

ومذ رأته اُمّه أنشأت

تدعو بصوت يصدع الجلمدا

تقول عبدالله ما ذنبه

منفطماً آب بسهم الردى

لم يمنحوه الورد بل صيّروا

فيض وريديه له موردا

١٤١

المطلب السادس والثلاثون

في مقتل عمر بن سعد عليه اللعنة

ذكر المؤرخون أنّ المختار ابن أبي عبيدة الثقفي لمّا أمكنه الله عزّ وجلّ من أهل الكوفة وأخذ بثار الحسين عليه‌السلام فقتل قاتليه والمتألبين عليه ، فكان يقتل كلّ من حضر الطف وما نجا منه إلّا الذي هرب إلى البادية أو إلى البصرة ولاذ بابن الزبير ، حتى ذكروا أنّ أسماء بن خارجة الفزاري كان ممّن سعى في قتل مسلم بن عقيل ، فقال المختار : أما ورب الضياء والظلماء لتنزلنّ نار من السماء دهماء حمراء سخماء تحرق دار أسماء ، فبلغ كلامه أسماء بن خارجة فقال : سجع أبو إسحاق ، وليس ههنا مقام بعد هذا ، وخرج من داره هارباً الى البادية ، فبلغ المختار ذلك فهدم داره ودور بني عمه.

ويروى أنّه كان الشمر بن ذي الجوشن قد أخذ من الإبل التي كانت في رحل الحسين عليه‌السلام فنحرها وقسم لحمها على قوم من أهل الكوفة فأمر المختار فأحصوا كلّ دار دخلها من ذلك اللحم فقتل أهلها وهدمها ، ولم يزل يتتبع قتلة الحسين عليه‌السلام حتى قتل خلقاً كثيراً وهدم الدور ، وأنزلهم من المعاقل والحصون إلى المفاوز والصحون ، حتى قتلت العبيد مواليها ، وكان يسعى بمولاه فيقتله المختار.

قال الراوي : فلمّا خلا خاطره وانجلى ناضره اهتمّ بعمر بن سعد وابنه حفص ، حدّث عمرو بن الهيثم قال : كنت جالساً عن يمين المختار والهيثم بن

١٤٢

الأسود عن يساره ، فقال : والله لأقتلنّ رجلاً عظيم القدمين ، غاير العينين ، مشرف الحاجبين ، يهمز الأرض برجليه ، يرضى قتله أهل السماء والأرض ، فسمع الهيثم قوله ووقع في نفسه أنّه اراد عمر بن سعد ، فبعث ولده العريان فعرّفه قول المختار ، وكان عبدالله بن جعدة بن هبيرة أعز الناس على المختار وقد أخذ لعمر أماناً من المختار حيث اختفى فيه وصورة الأمان هكذا : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمان المختار بن أبي عبيدة الثقفي لعمر بن سعد بن أبي وقاص ، إنك آمن بآمان الله على نفسك وأهلك ومالك وولدك لا تؤاخذ بحدث كان منك قديماً ما سمعت وأطعت ولزمت منزلك إلّا أن تحدث حدثاً ، فمن لقى عمراً من شرطة الله وشيعة آل محمد فلا يعترّضها له بسبيل خير والسلام ثم شهد فيه جماعة.

قال الباقر عليه‌السلام : إنّما قصد المختار أن يحدث حدثاً هو أن يدخل بيت الخلاء ويحدث.

فظهر عمر إلى المختار فكان يدينه ويكرمه ويجلسه معه على سريره ، ولمّا تكلّم المختار بتلك الكلمات ـ الآنفة الذكر ـ علم اللعين أن قول المختار كناية عنه ، فعزم على الخروج من الكوفة فأحضر رجلاً من بني تيم اللات اسمه مالك وكان شجاعاً وأعطاه أربعمائة دينار ، وقال : هذه معك لحوائجنا وخرجا ، فلمّا كان عند حمام عمر أو نهر عبدالرحمن وقف وقال : أتدري لم خرجت؟ قال : لا ، قال : خفت المختار ، فقال : ابن دومة ـ يعني اُم المختار ـ أضيق إستاً من أن يقتلك ، وإن هربت هدم دارك وانتهب عيالك ، وخرب ضياعك وأنت اعزّ العرب.

قال الراوي : فاغترّ عمر بن سعد بكلامه فرجعا على راحلتيهما ودخلا الكوفة مع الغداة ، هذا قول المرزباني ، وقال غيره : إنّ المختار علم بخروجه من الكوفة فقال : وفينا وغدر وفي عنقه سلسلة لو جهد أن ينطلق ما استطاع ، فنام عمر على الناقة فرجعت به إلى الكوفة ، وهو لا يدري حتى ردته إلى منزله ، قال :

١٤٣

وأرسل عمر بن سعد ابنه حفص إلى المختار فقال له المختار : أين أبوك؟ قال : في المنزل ، كان لا يجتمعان عند المختار خوفاً من فتكه ، وإذا حضر أحدهما عند المختار غاب الآخر ، فالتفت حفص إلى المختار وقال له : أبي يقول تفي لنا بالأمان. فقال : اجلس ، فجلس عنده حفص ، وطلب المختار أبا عمرة ، وهو كيسان التمار ، وأسرّه أن يمضي إلى عمر بن سعد ويقتله ، وقال له : إذا دخلت عليه وسمعته يقول : يا غلام عليّ بطيلساني فاعلم أنه يريد السيف ، فبادره واقتله ، فمضى أبو عمرة ، وما لبث أن جاء ومعه رأس عمر بن سعد ، فقال حفص : إنّا لله وأنّا إليه راجعون ، فقال له : أتعرف هذا الرأس؟ قال : نعم ولا خير في العيش بعده ، فقال : لا تعيش بعده ، ثم أمر بقتله فقتل واحتزّوا رأسه وجاءوا به إلى المختار فوضعه إلى جنب رأس أبيه عمر بن سعد ، ثم قال المختار : رأس عمر برأس الحسين ورأس حفص برأس علي بن الحسين ، لا والله لأقتلن سبعين ألفاً ، كما قتل يحيى بن زكريا ، ثم التفت إلى من حضر وقال : لو قتلت ثلاثة أرباع أهل الأرض لما وفوا بأنملة من أنامل الحسين عليه‌السلام.

قال أرباب السير : وجيء إليه بالعشرة الذين داسوا صدر الحسين عليه‌السلام وفي مقدمتهم الأخنس عليه اللعنة ، فقالوا له : يا أمير هؤلاء رضوا جسد الحسين عليه‌السلام ، فصاح : اطرحوهم على الأرض واضربوا السكك الحديدية في ايديهم وفي أرجلهم ، ففعلوا ذلك ثم أمروا جماعة من شرطته وركبوا خيولهم وجعلوا يدوسونهم بأرجلها حتى هلكوا جميعاً وقطعت أشلائهم (١).

__________________

(١) (فائدة) روى المرزباني عن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ما اكتحلت هاشمية ولا اختصبت ولا أدهنت ولا رؤي في دار هاشمي دخان حتى قتل عبيدالله بن زياد.=

١٤٤

أقول : هل يشفي قلوبنا هذا ، لا والله بعد أن رضوا جسد أبي عبدالله بحوافر خيولهم ، قال الأخنس : والله لقد جدّدنا نعالات خيولنا ورضضنا صدر الحسين وظهره :

يا عقّر الله تلك الخيول إذ جعلت

أعضاءه لعواديها مضاميراً

__________________

= (فائدة) : عن يحيى ابن أبي راشد قال : قالت فاطمة بنت علي عليهما‌السلام : ما تحنّت امرأة منّا ولا أجالت في عينيها مروداً ولا امتشطت حتى بعث المختار إلينا برأس عبيدالله بن زياد لعنه الله.

(فائدة) : كانت مدة ولاية المختار ثمانية عشر شهراً أولها أربع عشر ليلة خلت من ربيع الأول ، سنة ست وستّين ، وآخرها النصف من شهر رمضان من سنة سبع وستّين.

١٤٥

المطلب السابع والثلاثون

في مقتل عبيدالله بن زياد عليه اللعنة

قال أرباب التاريخ والسير : بعث المختار بن أبي عبيدة الثقفي إبراهيم بن الأشتر للكوفة لقتال عبيدالله بن زياد لعنه الله وأخرج معه فرسان أصحابه وأهل البصائر والتجربة ، منهم ، وشخص إبراهيم بن الأشتر لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستّين ، واستهلّت سنة سبع وستين وهو سائر لقصد بن زياد ، وكان ابن زياد قد سار في معسكر عظيم من الشام ، فبلغ الموصل وملكها ، فالتقيا بمكان يقال له الخازر (١) بينه وبين الموصل خمس فراسخ ، فبات ابن الأشتر ساهراً ، فلمّا كان الفجر نهض فصلّى بأصحابه وعبّئ جيشه ، وصار يحثّهم ويذكر لهم فعل ابن زياد بالحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، ثم زحف بجيشه وهو ماش في الرجالة حتى أشرف من فوق تل على جيش ابن زياد ، فإذا هم لم يتحرّك منه أحد ، فلمّا رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين ، فركب إبراهيم بن الأشتر وجعل يقف على رايات القبائل فيحرضهم على القتال.

وأقبل ابن زياد في جيش كثيف وعلى ميمنته الحصين بن نمير وعلى

__________________

(١) قال البكري في معجم ما استعجم : خازر بفتح الزاي نهر الموصل عليه التقى إبراهيم بن مالك الأشتر من قبل المختار وعبيدالله بن زياد فقتله إبراهيم.

١٤٦

الميسرة عمير بن الحباب السلمي ، وعلى خيل بن زياد شرجيل بن ذي الكلاع ، وابن زياد في الرجّالة فما كان إلّا أن تواقف الفريقان حتى حمل الحصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل الكوفة فهزمها وقتل أميرها علي بن مالك ، فأخذ رايته بعده ولده محمد بن علي فقتل أيضاً ، واستمرَّ ـ الميسرة ذاهبة فجعل ابن الاشتر يناديهم : إليّ إليّ يا شرطة الله ، أنا ابن الأشتر ، وكشف عن رأسه ليعرفوه ، فاجتمعوا إليه ثم حملت ميمنة الكوفة على ميسرة أهل الشام فثبتوا لهم وقاتلوا بالرماح ثم بالسيوف وبالعمد ثم حمل إبراهيم بن الأشتر وحمل أصحابه حملة رجل واحد فانهزم بين يديه أصحاب ابن زياد ، وهو يقتلهم كما يقتل الحملان وأتبعهم بنفسه ومن معه من الشجعان وثبت عبيدالله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الأشتر فقتله وهو لا يعرفه.

ولمّا انهزم جيش ابن زياد عليه اللعنة قال أبراهيم ابن الأشتر لأصحابه : التمسوا في القتلى رجلاً ضربته بالسيف فنفحتني منه ريح المسك ، شرقت يداه وغربت رجلاه ، وهو واقف عند راية منفردة على شاطئ نهر خازر ، فالتمسوه فإذا هو عبيدالله بن زياد وقد ضربه ابراهيم ابن الأشتر فقطّعه نصفين ، فاحتزّوا رأسه وبعثوه إلى المختار بن أبي عبيدة إلى الكوفة ، وبعث معه رؤوس قواده مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام ، وأحرقت جثّته وقتل من الرؤوس أيضاً شرجيل بن ذي الكلاغ والحصين بن نمير ، عليهم لعائن الله.

وقال المختار رحمه‌الله فوطئ وجه ابن زياد بنعله ، ثم رمى بها إلى غلامه ، وقال اغسلها فإنّي وضعتها على وجه نجس كافر.

قال الراوي : وتبع أصحاب بن الأشتر المنهزمين من أهل الشام ، فكان من غرق منهم في نهر الخازر أكثر ممّن قتل ، وقالت الشعراء في ذلك اليوم تهجّوا ابن زياد وتذكّر الواقعة فمن قال شعراً سراقة البارقي يمدح ابن الأشتر :

١٤٧

أتاكم غلام من عرانين مذحج

جريء على الأعداء غير نكول

فيا ابن زياد بوء بأعظم هالك

وذق حد ماضي الشفرتين صقيل

جزى الله خيراً شرطة الله إنّهم

شفوا من عبيدالله أمس غليلي

وقال عمر بن الحباب يذم جيش ابن زياد :

ما كان جيش يجمع الخمر والزنا

محلّاً إذا لاقى العدوّ لينصرا

وقال ابن مفرغ حين قتل ابن زياد لعنه الله :

إنّ المنايا إذا ما زرن طاغية

هتكن أستار حجاب وأبواب

أقول بعداً وسحقاً عند مصرعه

لابن الخبيثة ابن الكودن (١) الكابي

لا أنت زوحمت عن ملك فتمنعه

ولا مننت إلى قوم بأسباب

قال أرباب التاريخ وأهل السير : منهم ابن سعد في الطبقات ، قال : لما وصل رأس ابن زياد إلى المختار بالكوفة فجعله المختار في جونة (٢) ثم بعث به إلى محمد بن الحنفية وعلي بن الحسين عليه‌السلام وسائر بني هاشم ، فلما رأى عليّ بن الحسين عليه‌السلام رأس عبيدالله بن زياد ترحّم على الحسين عليه‌السلام وقال : اُتي عبيدالله بن زياد برأس الحسين عليه‌السلام وهو يتغذّى ، وأتينا برأس عبيدالله ونحن نتغذّى (٣).

__________________

(١) الكودن الفرس الهجين.

(٢) الجونة مغشاة أدماً ، والأدم ـ الجلد ـ.

(٣) (فائدة) : عبيدالله بن زياد ولد سنة تسع وثلاثين ، واُمّه كانت مرجانة مجوسية وأبوه زياد ابن أبيه ، ويقال له زياد بن أبي سفيان ، لأنّ معاوية أدناه إليه وقال له : أنت أخي وشهد من شهد بمحضر من معاوية أنهم رأوا أبا سفيان اجتمع بسميّة ، وكان والياً على العراقين البصرة والكوفة ، وكانت به جرأة وإقدام ومبادرة شأن ابن الزنا قتل الحسين عليه‌السلام وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، قال ابن قتيبة في المعارف في ترجمة زياد بن أبي سفيان أنه ابنه عبيدالله كان أرقط (يعني : فيه سواد وبياض يعني آثاراً في وجهه) أرقط جميلاً وكان زياد زوّج اُمّه مرجانة =

١٤٨

وروى الكشّي قال : لمّا أتى برأس عبيدالله بن زياد ورأس عمر بن سعد إلى السجاد خر ساجداً وقال : الحمدلله الذي أدرك لي ثاري من أعدائي وجزى الله المختار خيراً.

نعم أدخلوا الرأسين على السجاد وهو يتغذّى ، وقال هذه المقالة ، ولكن لمّا أدخلوا رأس الحسين على ابن زياد ، كانت معه الاُسارى ، والسجاد آنذاك مقيّد بالحديد ، ومن خلفه عمّاته وأخواته مربّقات بالحبال وهنّ كما قال السيّد جعفر الحلي رحمه‌الله :

تمسّك باليسرى حشا قلبها

وتعقد باليمنى مكان الخمار

ولهانة تهتف في قومها

من شيبة الحمد وعليا نزار (١)

__________________

= من شيرويه الأسواري ، ودفع إليها عبيدالله ، ونشأ بالأساورة ، وكانت فيه لكنة ، ولى لمعاوية خراسان ، ثم ولّى العراقين بعد أبيه ثمان سنين خمسة منها على البصرة فاستجار بمسعود بن عمرو الأزدي ، ثم سار الى الشام فكان مع مروان بن الحكم ، فلمّا ظفر مروان ردّه على العراق فلمّا قرب من الكوفة وجّه إليه المختار إبراهيم الأشتر فالتقوا بقرب الزاب ، فقتل عبيدالله ولا عقب له ، قال البياسي :

أقول وذاك من جزع اُوجد

أزال الله ملك بني زياد

وأبعدهم بما غدروا وخانوا

كما بعدت ثمود وقوم عاد

(١) (فائدة) : روى عن الشعبي قال : لم يقتل قط من أهل الشام بعد صفين مثل هذه الوقعة.

(فائدة) اتفق أرباب التاريخ على أنّ هذه الوقعة التي وقعت بالخازر وأسفرت عن قتل ابن زياد كانت يوم العاشر من المحرم.

(فائدة) عن أبي طفيل عامر بن واثلة الكناني قال : وضعت الرؤوس عند السدة بالكوفة وعليها ثوب أبيض فكشفنا عنها الثوب فرأينا حيّة تغلغل في رأس عبيدالله بن زياد ، ونصبت الرؤوس في الرحبة قال عامر : ورأيت الحية تدخل في منافذ رأسه وهو مصلوب مراراً.

١٤٩

المطلب الثامن والثلاثون

في تنزيه المختار عليه‌السلام

لفّق أشياع بني اُميّة وأرباب التاريخ الأقلام المأجورة وأهل الجهل والعصبية أخباراً كثيرة في ذمّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه‌الله ، وافترى عليه من افترى منهم ، ودسّوا فيه أخباراً كاذبة وقضايا مختلفة هو منها بريء وكلّما لفّقوه واختلقوه هو إزاء نضاله وبلائه دون عقيدته والأخذ بثار سيّد الشهداء ومقاومته للحكومة الأُموية لا أكثر ، وكلّما ذكروه في ذمه عار من الحقيقة فما ذكروه :

أنه ادّعى النبوة وأنه يأتي إليه جبرئيل وحاشاه من هذا الإفتراء بل كان يدّعي بإمامة السجاد زين العابدين ويدعو الناس أيضاً الى امامة السجاد ، فلو كان يدعي الوحي لما كان يدعو الناس أولا إذلى إمامة محمد بن الحنفية ، ثم لما ظهر له الحق وانجلى عنه غسق الريب صار يدعوا الى إمامة السجاد ، وهو الذي أرسل للسجاد عليه‌السلام مالاً كثيراً وأرسل أيضاً حورية اُم زيد بن علي بن الحسين عليهما‌السلام.

ومنها : أنهم ذكروا أنه أرسل إلى السجاد عليه‌السلام بمائة ألف درهم ، وكره السجاد أن يقبلها منه ، يجوز أنّ الإمام عليه‌السلام لمّا ورد عليه المال من المختار ولم يقبله كان خوفه من السلطة الجائرة من حكومة عبدالملك بن مروان ، فاتّقى الإمام في ذلك.

ومنها : قالوا : إنّ الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام لعنه وهذا صريح على الإمام غير معقول في مذهبنا هذا وكيف يلعن الإمام شخصاً مسلماً موحّداً يقول بنبوّة

١٥٠

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعترف بالبعث والنشر ، وقد جاءت الرواية عن أبي سدير عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : لا تسبوا المختار ، فإنّه قتل قتلتنا وطلب بثارنا ، وزوّج أراملنا ، وقسّم المال فينا على العسرة ، وروي مثله عن عبدالله بن شريك ، قال : دخلنا على أبي جعفر عليه‌السلام يوم النحر ، وهو متّكئ ، وقد أرسل الى الحلّاق فقعدت بين يديه إذ دخل شيخ من أهل الكوفة فتناول يده ليقبلها فمنعه ، ثم قال : أنا أبو محمّد الحكم ابن المختار بن أبي عبيدة ، وكان متباعداً عن أبي جعفر ، فمدّ يده إلى حتى كاد يقعده في حجره بعد منع يده ، ثم قال : أصلحك الله إنّ الناس قد أكثروا في أبي ، وقالوا والقول والله قولك ، قال : وأي شيء يقولون؟ قال : يقولون كذاب ولا تأمرني بشيء إلا قبلته. فقال عليه‌السلام : سبحان الله ، (أخبرني أبي والله أن مهر امي كان مما بعث به المختار ، أو لم يبن دورنا ، وقتل قاتلنا ، وطلب بدمائنا ، رحم الله أباك رحم الله أباك ، ما ترك لنا حقّاً عند أحد إلّا طلبه ، قتل قتلتنا وطلب بدمائنا).

فهذه الروايات كلّها واردة في حقه والرحمة عليه ، معناه رضى الأئمّة عليه ، ورضى الأئمّة رضى الله تعالى ، أضف إلى ذلك ما رواه الأصبغ بن نباتة ، قال : رأيت المختار على فخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يمسح على رأسه ويقول : «يا كيس يا كيس (١)» ونحن نعتقد بأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يعلم مآل المختار وعاقبة

__________________

(١) ذهب بعض الناس إلى تسمية المختار بكيسان ، حيث إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال له : يا كيس ، هذا قول وقيل : هذه النسبة التي لحقت بالمختار من صاحب شرطته ، حيث كان اسمه كيسان ، سمّي باسم كيسان ، مولى علي بن أبي طالب المكنى بإبي عمرة ، وهو الذي كان يدله على قتلة الحسين عليه‌السلام وكان صاحب سرّه الغالب على أمره ، وكان لا يبلغه شيء عن رجل من أعداء الحسين عليه‌السلام في دار أو موضع إلّا قصده وهدهم داره بأسرها ، وقتل كلّ من فيها من ذي روح ، وكان أهل الكوفة يضربون به المثل ، فإذا افتقد منهم أحد قالوا : دخل بيته أبو عمرة ، يعنون بذلك كيسان صاحب المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه‌الله.

١٥١

أمره ، فلو كان ذلك كما ذكروا لما أجلسه أمير المؤمنين عليه‌السلام في حجره ومسح على رأسه ، ولما قال هذه المقالة وتلطّف معه ، وعلي أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يخفي عليه أمر المختار ، ودعاء ابن الحنفية له أيضاً يوضح لنا حبّه له ، وحبّ محمّد له من حبّ الأئمة عليهم‌السلام ، وذلك لمّا أرسل الرؤوس الى السجاد عليه‌السلام ونظر إليها محمد بن الحنفية خر ساجداً ودعى للمختار وقال : جزاه الله خير الجزاء فقد أدرك ثارنا ووجب حقّه على كلّ من ولده عبدالمطّلب بن هاشم.

نعم شفى قلوب أهل البيت بأخذه الثار من أعدائهم وشفى غليله من أعدائهم وكان يأخذ بثارهم ويقتل أعدائهم فكان يقتلهم وهو يبكي كل ذلك حزناً على أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام.

١٥٢

المطلب التاسع والثلاثون

في فضل الكوفة والأخبار الواردة فيها

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام من خطبة له : (كأنّي يا كوفة تمدّين مدّ الأديم العكاظي (١) وتركبين بالزلازل ، وتعركين بالنوازل ، وإنّي اعلم أنّه ما أراد بك جبار سوءاً إلّا ابتلاه الله بشاغل ، أو رماه بقاتل).

قال ابن أبي الحديد : قد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت عليهم‌السلام شيء كثير نحو قوله عليه‌السلام : (نعمت المدرّة).

وقوله عليه‌السلام : (إنّه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً وجوههم على صورة القمر).

وقوله عليه‌السلام : (هذه مدينتنا ومحلتنا ومقر شيعتنا).

وقول الصادق عليه‌السلام : (اللّهمّ أرم من رماها وعاد من عاداها).

وقوله : (تربة تحبّنا ونحبّها).

وأمّا ما همّ به الملوك وأرباب السلطان والجبابرة فيها من السوء ودفاع الله

__________________

(١) الأديم هو الجلد الذي يعمل جيّداً ويجلب إلى سوق عكاظ ويباع هناك ، وسوق عكاظ : من قديم الأزمان كان يقام سوق بمكة في أيام الموسم مثل ما كان يقام بالبصرة سوق المربد وبالقطيف اليوم سوق الأربعاء وفي البحرين سوق الخميس.

١٥٣

عنها فكثير ، قال المنصور للإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : إنّي هممت أن أبعث إلى الكوفة من ينقض منازلها ويجمر نخلها ويستصفي أموالها ويقتل أهل الربية منها فأشر عَلَيَّ ، فقال : (يا أمير المؤمنين إنّ المرء ليقتدي بسلفه ولك أسلاف ثلاثة ، سليمان اعطى فشكر ، وأيّوب ابتلى فصبر ، ويوسف قهر فغغر ، فاقتد بأيهم شئت) فصمت قليلاً ثم قال قد غفرت.

ويروى : أنّ زياد بن أبيه لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم وهمّ أن يخرب دورهم ويجمر نخيلهم ثم جمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة ليعرض عليهم البراءة من علي بن أبي طالب عليه‌السلام وعلم أنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استأصالهم وإخراب بلدهم ، فقال عبدالرحمن بن السائب الأنصاري : فإنّي مع نفر من قومي والناس يومئذ في أمر عظيم إذ هومت تهويمة ، فرأيت شيئاً أقبل طويل العنق ، له عنق مثل عنق البعير ، أهدر أهدل فقلت : من أنت؟ فقال : أنا النقاد ذوالرقبة بعثت الى صاحب هذا القصر ، قال : فاستيقظت فزعاً فقلت لأصحابي : هل رأيتم مثل ما رأيت؟ قالوا : لا ، فأخبرتهم ، قال : ثم خرج علينا خارج من القصر فقالوا ، انصرفوا فإنّ الأمير يقول لكم إنّي عنكم اليوم مشغول وإذا بالطاعون قد ضربه فكان يقول : إنّي أجد في النصف من جسدي حر النار حتى هلك ، فقال عبدالرحمن بن السائب :

ما كان منتهياً عمّا أراد بنا

حتى تناوله النقّاد ذو الرقبه

فأثبت الشقّ منه ضربة عظمت

كما تناول ظلما حاجب الرحبه (١)

هذا من الجبابرة الذين ابتلاهم الله بشاغل ، ومن الجبابرة هذا الحجاج بن

__________________

(١) يريد بصاحب الرحبة أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما ذكره شيخنا العلامة الشيخ عبدالواحد المظفري أيده الله في كتابه الأمالي المنتخبة.

١٥٤

يوسف الثقفي ، فإنّه تولدت في بطنه الحيات واحترق دبره حتى هلك.

ومنهم عمر بن هبيرة وابنه يوسف رميا بالبرص.

ومنهم خالد القسري ضرب وحبس حتى مات جوعاً.

وممّن رمي بقاتل عبيدالله بن زياد ومصعب بن الزبير ويزيد بن المهلّب.

فالكوفة أفاضت الأخبار في فضلها وأنّ البلاء مدفوع عنها ، وفي البحار عن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام قال : (ذكر علي عليه‌السلام الكوفة فقال : يدفع البلاء عنها كما يدفع عن أخبية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). وعن إبن نباتة قال : بينا نحن ذات يوم حول أميرالمؤمنين عليه‌السلام في مسجد الكوفة إذ قال : (يا أهل الكوفة لقد حباكم الله عزّوجلّ بما لم يحب به أحد ، ففضل ملّاكم وهو بيت آدم وبيت نوح وبيت إدريس ومصلّى إبراهيم الخليل ومصلى أخي الخضر ومصلّاي ، وإن مسجدكم هذا أحد المساجد الأربعة التي اختارها الله عزّوجلّ لأهلها ، وكأنّي به يوم القيامة في ثوبين أبيض شبيه بالمحرم ، يشفع لأهله ولمن صلّى فيه فلا ترد شفاعته ، ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه (١) وليأتينّ زمان يكون مصلّى المهدي من ولدي ومصلّى كلّ مؤمن ولا يبقى مؤمن إلّا كان به أو حنّ قلبه إليه ، فلا تهجروه وتقربوا إلى الله عزّوجلّ بالصلاة فيه

__________________

(١) وهذه من مغيّباته عليه‌السلام أشار إلى القرامطة ورئيسهم أبو طاهر سليمان بن الحسن القرمطي بعد أن أظهروا أمرهم بالبحرين سنة مائتين وثمانية وخمسين هجرية ، ودخلوا مكة يوم الإثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة ثلاثمائة وسبعة عشر ، في سبعمائة رجل فخرج إليهم والي مكة في جماعة من الأشراف فقتلهم القرامطة جميعاً ودخوا المسجد بخيلوهم وسلاحهم ووضعوا السيف في الطائفين والمصلّين والمحرمين إلى أن قتلوا في المسجد وشعاب مكة زهاء ثلاثين ألف إنسان ، ركض ابو طاهر بفرسه في المسجد وسيفه مشهور بيده وأمر بالقتلى ورموهم في بئر زمزم وبقية الآبار وأقام بمكة أحد عشر يوماً ينهب ويقتل ثم اقتلع الحجر وأخذه معه وجاء به إلى الكوفة كما أخبر أمير المؤمنين عليه‌السلام من قبل.

١٥٥

وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم ، فلو يعلم الناس ما فيه من البركة لأتوه من أقطار الأرض ولو حبوا على الثلج).

وقال المؤلف سامحه الله في فضل مسجد الكوفة :

كوفان ما أسما وأعلى مسجداً

بك من أتاه مؤمّلاً لا يحرم

لله من بيت تعالى رفعة

فله على سمك الضراح تقدّم

بيت أتاه آدم من غابرا

لازمان حيث بفضله هو أعلم

بيت له روح الأمين وأحمد

وجميع رسل الله قد ما يممّوا

وأتاه شيخ المرسلين مصلياً

فيه وكل للإله يعظم

ولكم به كان الامام المرتضى

يقضي بحكم الله لما يحكم

فكأنه فلك لرفعت شأنه

وكأنما هذي المحارب أنجم

وكأن جل الأنبياء برحبه

قاموا الى فرض الصلاة وأحرموا

وعلي في محرابه متقدم

إن الإمام الى الصلاة يقدّم

وروي بحذف الأسناد عن اُسامة عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : سمعته يقول : (الكوفة روضة من رياض الجنة فيها قبر آدم ونوح وإبراهيم وقبور ثلاثمائة وسبعين نبياً وستّمائة وصي ، وقبر سيدالأوصياء علي أمير المؤمنين عليه‌السلام).

وجاء إليه رجل قال له : سيّدي إنّي قد ضربت على كلّ شيء لي ذهباً وفضّة وبعت ضياعي فقلت : أنزل مكة. فقال عليه‌السلام : (لا تفعل فإنّ أهل مكة يكفرون بالله جهرة). قال : أنزل بالمدينة؟ قال : (هم شرّ منهم). قال : فأين أنزل؟ قال : (عليك بالعراق الكوفة فإنّ البركة منها على إثني عشر ميلاً هكذا وهكذا ، والى جنبها قبر ما أتاه مكروب قطّ إلّا وكشف الله كربه ولا ملهوف إلّا وفرج الله عنه وهو قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام).

وقال : (حرمت النار على قدم تغبّرت في زيارة جدي أمير المؤمنين عليه‌السلام) ،

١٥٦

بلى والله قبره حمى لجواره ، قال الشاعر :

بقبرك لذنا والقبور كثيرة

ولكن من يحمي الجوار قليل

وقال الآخر :

إذا مت فادفنّي مجاور حيدر

أبي شبّر ومولى الورى وشبير

فعار على حامي الحمى وهو بالحمى

إذا ظلّ في البيدا عقال بعير

ولست أخاف النار عند جواره

ولا أختشي من منكر ونكير

نعم ، هو حامي الجار يحمي جواره ، ولذا سكينة قالت لحميد بن مسلم ، إنّ لنا قبراً في بالنجف واريد الرواح إلى جدّي أمير المؤمنين عليه‌السلام فأشكوا إليه ما جرى علينا من أهل الكوفة.

١٥٧

المطلب الأربعون

في ما فعله السفّاح ببني أُمية

ذكر أرباب التاريخ وأهل السير : أنّه لمّا انهار كيان الدولة الأُموية وانهدم عرش جورهم على يد أبي مسلم الخراساني والمسوّدة ، تربّع على كرسي الخلافة ابو السفاح (١) ، خافته الملوك والتجأت إليه الأُمم ، وتشتت بنو أمية شرقاً وغرباً خوفاً من سطوته والفتك بهم.

قال أرباب التاريخ : ولمّا استتب له الأمر كتب إليه جماعة من الأمويين يطلبون منه الأمان ويسألونه التعطف والإحسان ، وأنّه لا يؤاخذهم بما كان ، وأن يجعلهم أهل بطانته ، فأجابهم : أنه غير غني عنهم ، وإنّه يحتاج الى خدمتهم ، وضمن لهم الأموال والعطايا والأقطاع ، واجتمع إليه الكبير والصغير من آل أبي سفيان واعقاب يزيد وآل زياد ، فقربهم إليه ، وجعل منهم أمراء وحجّاب وندماء ووكلاء حتى اختلفت فيه الأقوال ، فمن قائل يقول : إنه عمل هذا سياسة منه ،

__________________

(١) هو أبو العباس السفاح عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب ، ولد في مستهلّ رجب سنة أربع ومائة ، وبويع له بالكوفة يوم الجمعة لثلاث عشر ليلة خلت من ربيع الآخر ، سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر ، واُمّه ريطة بنت عبيدالله بن عبدالله بن عبدالمدان ، توفي بالأنبار لثلاث عشر ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة ، وصلى عليه عمّه عيسى بن علي.

١٥٨

ومنهم من يقول : كيف صار يقرب أعداءه وقتلة آبائه.

قال أبو الحسن : فبينما السفاح ذات يوم جالس وحوله بنو أُمية عليهم الدروع المطرزة والعمائم الملوّنة ، وقد تقلدوا بالسيوف المذهبة المحلّاة بالأحجار الكريمة إذ دخل عليه بعض حجابه وهو مذعور ، فقال له : يا أمير المؤمنين إنّ على الباب رجل ذميم المنظر عظيم المخبر شاحب اللون رثّ الأطمار يريد الدخول عليك ، فقلت له : امض واغسل بدنك وثيابك وتطيّب حتى أستأذن لك منه ، فتدخّل عليه فنظر إلى شزراً ، وقال : إني آليت أن لا أنزع ثوباً ولا أستعمل طيباً ولا ألذّ بعيش حتى أصل إلى أمير المؤمنين وها هو على الباب منتظر ردّ الجواب. قال : ولمّا سمع السفاح ذلك ، قال : صاحبنا وعبدنا سديف (١) وربّ الكعبة أذنا له فليدخل.

قال الراوي : ولمّا دخل سديف وسلم على السفاح وأنشأ يقول :

أصبح الملك ثابت الأساس

بالبهاليل من بني العباس

طلبوا وتر هاشم فشفوها

بعد ميل من الزمان وباس

__________________

(١) سديف كان عبداً لبني هاشم ، وكان فصيح اللسان ، قوي الجنان ، وكان يخرج في موسم الحج الى بيت الله الحرام ، ويصعد على ذروة من الأرض ينادي : أيها الناس ، فيجتمع إليه الناس ، ويبسط لسانه بمدح بني هاشم ويهجو بني اُمية ويصغر ملكهم ويحرّض الناس عليهم ، ليخلعوا الخلافة منهم ويجعلوها في بني هاشم الذي جعلها الله فيهم ، وهم آل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنّه جاء في موسم الحج وصعد زمزم وصاح برفيع صوته : يا أهل الأرض ، ويا أهل الأبطح والصفا وباب مكة والكعبة العليا ، فدونكم فاسمعوا ، والله على ما أقول وكيل ، فتكلّم في بني امية ما استطاع ، فقام إليه جماعة من بني أمية ، وضربوه ضرباً موجعا حتى غشي عليه حتى ظنوا انّه مات ، قال الراوي : فجاءت امرأة فسقته شراباً بعد أن أفاق ، وجعلت تمرضه حتى برئ وخرج من مكّة الى الشعاب ورؤوس الجبال مثله في بحار الأنوار جلد العاشر منه.

١٥٩

قال أرباب السير : ويقال أنّ سديف لمّا دخل على السفاح وأنشأ يقول شعراً :

لا يغرنك ما ترى من رجال

إنّ بين الضلوع داءاً دويّا

فضع السيف وارفع الصوت حتى

لا ترى فوق ظهرها أمويّا

فقال له السفاح : يا سديف أهلاً بطلعتك ومرحباً برؤيتك ، قدمت خير مقدم ، وغنمت خير مغنم ، فلك الإكرام والإنعام ، وأمّا أنت ماله من الأعداء فالصفح أجمل ، فإن أكرم الناس من عفا إذا قدر ، وصفح إذا ظفر ، ثم نادى : يا غلام عليَّ بتخت من الثياب وكيس من الورق (١) فأتاه بذلك ، فقال الصفاح : يا سديف خذ هذه الثياب وغير ثيابك ، واصلح بهذه الدنانير حالك ، وعد إلينا في غد انشاءالله ، فلك عندنا ما تحب وترضى.

قال الراوي : فعند ذلك خرج سديف من عند السفاح وأخذ بنو أُمية يحدّث بعضهم فالتفت إليهم السفاح ، وقال لهم : يا بني امية لا يكبرن عليكم ما سمعتم من هذا العبد ، وليس له رأي سديد ولا ينبغي أن نأخذ بأقواله ، وإنّما قال لهم هذا ليرفع ما وقع في نفوسهم من الهلع والجزع.

قال الراوي : ولمّا كان غداة غد بكر إليه بنو أُمية على عادتهم فدخلوا وسلّموا عليه فردّ عليهم‌السلام ، وقرّب مراتبهم ورفع مجالسهم ففرحوا لذلك فرحاً شديداً وأخذ يحدّثهم ويلاطفهم ، فبينا هو كذلك إذ دخل عليهم سديف ، وقد غيّر ثيابه ، فسلم على السفاح ، فأشار السفاح إليه بيده وقال : نعم صباحك وبان فلاحك وظهر نجاحك ، كشف الله بك رواكد الهموم وفداك أبي لأنّك آخذ بالثار وكاشف عن قومك وخيمة العار ، وحاشاك أن تكون من الغافلين عن ثار قبيلتك فأغضب لعشيرتك يابن الرؤساء من هاشم ، والسراة من بني عبد مناف.

__________________

(١) الورق الدراهم المضروبة جمعها أوراق ووراق.

١٦٠