ثمرات الأعواد - ج ٢

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٩
الجزء ١ الجزء ٢

اللعين على لسان رسول رب العالمين.

قال الراوي : فازداد غضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه ، وقال : عَلَيَّ به ، فتبادرت إليه الجلاوزة من كلّ ناحية ليأخذوه ، فقام الأشراف من الأزد من بني عمّه فخلصوه من أيدي الجلاوزة واخرجوه من باب المسجد وانطلقوا به إلى منزله ، فقال ابن زياد : اذهبوا إلى هذا الأعمى ، أعمى الأزد أعمى الله قلبه كما أعمى عينية فأتوني به.

قال : فانطلقوا إليه فلما بلغ ذلك الأزد اجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم.

قال : وبلغ ذلك ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث وأمره بقتال القوم.

قال الراوي : ووصل أصحاب ابن زياد إلى دار عبدالله بن عفيف فكسروا الباب واقتحموا عليه فصاحت بنته : يا أبه لقد أتاك القوم من حيث تحذر ، فقال : لا عليك ، ناوليني سيفي ، فناولته إيّاه فجعل يذب عن نفسه وهو يقول :

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر

عفيف شيخي وابن اُمّ عامر

كم دارع من جمعكم وحاسر

وبطل قد جدّلته مغادر

قال : وجعلت ابنته تقول : يا أبه ليتني كنت رجلاً اخاصم بين يديك هؤلاء الفجرة ، قاتلي العترة البررة.

قال : وجعل القوم يدورون عليه من كلّ جهه وهو يذب عن نفسه فلم يقدر عليه أحد ، وكلّما جاؤوه من جهة صاحت ابنته يا أبه جاؤوك من جهة كذا ، حتى تكاثروا عليه وأحاطوا به ، فقالت ابنته : وا ذلّاه يحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به ، فجعل يدير سيفه ويقول :

أقسم لو يفتح لي عن بصري

ضاق عليكم موردي مصدري

٢١

قال الراوي : فما زالوا به حتى أخذوه ، وادخل على ابن زياد ، فلمّا رآه قال : الحمدلله الذي أخزاك ، فقال له عبدالله بن عفيف : يا عدو الله وبماذا أخزاني الله ، والله لو فرج لي عن بصري ، ضاق عليكم موردي ومصدري ، فقال ابن زياد : يا عدوّ الله ما تقول في عثمان بن عفان؟فقال : ياعبد بني علاج يابن مرجانة ، ـ وشتمه ـ ماأنت وعثمان بن عفان؟ أساء أو أحسن وأصلح أو أفسد ، والله تبارك وتعالى وليّ خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحق ، ولكن سلني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه. فقال ابن زياد : والله لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت غصّة بعد غصّة. فقال : عبدالله بن عفيف : الحمدلله ربّ العالمين ، أمّا إنّي قد كنت أسأل ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك اُمّك ، وسألت الله أن يجعل ذلك على يد ألعن خلقه وأبغضهم إليه ، فلمّا كفّ بصري يئست من الشهادة والآن فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها ، وعرّفني الإجابة في قديم دعائي ، فقال ابن زياد : اضربوا عنقه ، فضربت عنقه وصلب في السبخة.

أقول : يا لها من سعادة ، لئن لم يرزق الشهادة بين يدي سيّده الحسين فقد رزقها بعده وقتل على محبّة الحسين عليه‌السلام وأبيه ، غير إنّ المصيبة على ابنته كانت نتظر إليه بالدار وقد أحاطوا به يريدون أخذه كما نظرت سكينة أباها الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء وقد أحاط به القوم ضرباً بالسيوف ، وطعناً بالرماح ، رمياً بالسهام ، ورضخاً بالحجارة ، قال الشيبي :

فوجّهوا نحوه في الحرب أربعة

السهم والسيف والخطّي والحجرا

٢٢

المطلب السابع

في إرسال الرؤوس والسبايا الى الشام

قال المفيد رحمه‌الله (١) : بعث عبيدالله ابن زياد برأس الحسين عليه‌السلام فدير في سكك الكوفة وقبائلها ، ولمّا فرغ القوم من الطوائف به في الكوفة ، ردّوه إلى باب القصر فدفعه ابن زياد الى زجر بن القيس (٢) ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد ابن معاوية وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي ، وطارق بن أبي ضبيان في جماعة من أهل الكوفة حتى وردوا بها على يزيد ابن معاوية بدمشق ، ثم إن عبيدالله بن زياد بعد أنفاذه رأس الحسين عليه‌السلام أمر بنسائه وصبيانه فجهزوا وأمر بعلي بن الحسين عليه‌السلام فغلّ بغلّ إلى عنفه ، ثمّ سرح في أثر الرؤوس مع محقر ابن ثعلبة العايد ، وشمر بن ذي الجوشن ، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس الشريف.

قال الراوي : ولمّا ساروا بالسبايا وقد أخذوا جانب الفرات حتى إذا وردوا الى المنزل وكان منزلاً خرباً فوجدوا هناك مكتوباً على الجدار :

أترجوا أُمّة قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فلا والله ليس لهم شفيع

وهو في يوم القيامة في العذاب

__________________

(١) في ج ٢ ص ١١٧ في كتابه الإرشاد.

(٢) ذكر بعضهم زحر بن قيس الحاء المهملة.

٢٣

ففزعوا وارتاعوا ورحلوا من ذلك المنزل ، وجعلوا يجدّون السير إلى أن وافوا ديراً في الطريق ، وفيه راهب ، فنزلوا ليقيلوا به فوجدوا أيضاً مكتوباً على جدرانه أترجوا اُمّة قتلت حسيناً إلى آخره ، فسألوا الراهب عمّن كتب هذا الشعر؟ فقال : هذا ههنا من قبل أن يبعث نبيّكم بخمسمائة عام ، ففزعوا من ذلك ورحلوا على غير الجادة متنكّبين طريق العام خوفاً من قبائل العرب أن يخرجوا عليهم ويأخذوا الرأس منهم.

وكلّما مرّوا على حيّ من الأحياء طلبوا منهم العلوفة ويقولون معنا رأس خارجي ، فلمّا وصلوا إلى تكريت (١) كتبوا الى عامليها بأن يستقبلهم ، فلمّا وصل الكتاب إليه فأمر بالبوقات فضربت والأعلام فنشرت والمدينة فزيّنت ، ودعى الناس من كلّ جانب ومكان من جميع القبائل ، فخرجوا لاستقبالهم ، وكان كل من سألهم يقولون : هذا رأس خارجي خرج علينا بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء ، فقتله الأمير عبيدالله بن زياد (لعنه الله) وأنفذ برأسه معنا الى الشام. ثم رحلوا من تكريت وسارواعلى طريق البر حتى نزلوا بوادي النخلة ، فلمّا كان الليل سمعوا بكاء نساء الجن على الحسين عليه‌السلام وهنّ يقلن :

نساء الجن يبكين شجيّات

يسعدن بنوح للنساء الهاشميات

ويلطموا خدوداً كالدنانير نقيّات

ويندبن حسيناً عظمت تلك الرزيّات

ثم رحلوا من وادي النخلة وساروا حتى وصلوا إلى لينا (٢) وكانت عامرة بالناس فخرجت المخدرات والكهول والشباب ينظرون إلى رأس الحسين عليه‌السلام

__________________

(١) تكريت بلدة مشهورة بين بغداد والموصل ، وهي إلى بغداد أقرب ، قيل سميت بتكريت بنت وائل ، فتحها المسلمون في أيام عمر ابن الخطاب سنة ١٦ هـ.

(٢) لينا ، قال ياقوت : أكبر قرية من كورة بين النهرين التي بين الموصل ونصيبين.

٢٤

ويصلّون عليه وعلى جدّه وأبيه ، ويلعنون من قتله ويقولون : يا قتلة أولاد الأنبياء اخرجوا من بلدنا ، فخرجوا منها واجتازوها يجدون السير حتى وافوا عسقلان (١) وأمر أميرها فزينوها فرحاً وسروراً بقتل الحسين عليه‌السلام ، ثم ساروا منها حتى وصلوا نصيبين (٢) وكان الوالي عليها منصور بن الياس فزيّن البلدة ، ونصبوا الرؤوس في الرحبة من الظهر الى العصر.

قال الراوي : وبات حاملي الرؤوس فيها تلك الليلة حتى الصباح ثم رحلوا منها إلى قنسرين (٣) وكانت عامرة بأهلها ثم غادروها جادّين بالسير حتى وافوا كفر طاب (٤) وكان حصناً صغيراً فلم يدخلوه لأنّ أهل الحصن منعوهم وسألوهم الماء فلم يسقوهم فرحلوا عنها وأتوا سيبور (٥) ففعلوا كما فعل أهل كفر طاب وعمدوا إلى قنطرة كانت قرب بلدهم فهدموها لأن لا يدخلها قتلة الحسين عليه‌السلام.

قال الراوي : وشهروا السلاح عليهم فقال لهم خولي : إليكم عنّا ، فحملوا عليه وعلى أصحابه وقاتلوهم قتالاً شديداً ، فلمّا نظرت اُم كلثوم ذلك قالت : ما

__________________

(١) عسقلان مدينة حسنة على ساحل بحر الشام من أعمال فلسطين يقال لها عروس الشام ، ولها سوران ، وهي ذات بساتين وثمار ، بها مشهد رأس الحسين عليه‌السلام وهو مشهد عظيم وفيه ضريح الرأس والناس يتبركون به ، بنيت في أيام عمر بن الخطاب وخربها السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٨٣.

(٢) نصيبين قرية من قرى حلب.

(٣) قنسرين مدينة بينها وبين حلب مرحلة من جهة حمص بقرب بالعواصم وكانت عامرة بأهلها إلى أن كانت سنة ٣٥١ تفرق عنها أهلها خوفاً من الروم. قال ياقوت : فليس بها اليوم إلا ٨ خان ينزله القوافل ، وعشار السلطان وفريضة صغيرة.

(٤) كفر طاب بلدة بين المعرة ومدينة حلب في برية معطشة ليس لهم شرب إلّا ما يجمعونه من مياه الأمطار.

(٥) سيبور موضع معروف.

٢٥

اسم هذه المدينة؟ فقيل لها : سيبور ، فقالت : أعذب الله شرابهم وأرخص أسعارهم ورفع أيدي الظلمة عنهم.

قال الراوي : فلو إن الدنيا كلها ظلماً وجوراً لما نالهم إلا قسط عدل ، ثم ساروا الى أن وصلوا حماة (١) فغلق أهلها الأبواب في وجوههم وصعدوا على سورها ، وقالوا : والله لا تدخلون بلدتنا ولو قتلنا عن آخرنا ، فلما سمعوا ذلك ارتحلوا منها فوصلوا الى حمص (٢) وكان الأمير خالد بن نشيط ، فزين البلدة فرحاً وسروراً ..

قال الراوي : ووقعت حادثة بين أهل حمص وبين حاملي الرؤوس ، فجعل أهل حمص يرمونهم بالحجارة حتى قتل في ذلك اليوم ستة وعشرون فارساً ، ثم أغلقوا الباب في وجوههم ، فقال بعضهم : يا قوم أكفر بعد إيمان ، فخرجوا وتحالفوا أن يقتلوا خولي بن يزيد ويأخذوا منه الرأس ليكون فخر لهم الى يوم القيامة ، فبلغهم ذلك فرحلوا عنهم خائفين وأتوا بعلبك (٣) فأظهر أهلها الفرح

__________________

(١) حماة بالفتح مدينة كبيرة عظيمة كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار وهي قديمة جاهلية ذكرها امرؤ القيس في شعره.

(٢) حمص بلد مشهور قديم مسور وفي طرفه القبلى قلعة حصينة على تل عال كبيرة ، وهي بين دمشق وحلب في نصف الطريق ، يذكر ويؤنث ، وبحمص من المزارات والمشاهد : مشهد علي بن أبي طالب عليه‌السلام فيه موضع إصبعه ، وقبر سفينة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسم سفينة مهران ـ ويقال بها قبر قنبر مولى علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ويقال أن قنبر قتله الحجاج وقتل إبنه ميثماً التمار بالكوفة ، (أما قبر ميثم فهو الآن مشيد يزار بالكوفة) وبحمص قبور لأولاد جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام إلى غير ذلك من المشاهد.

(٣) بعلبك مدينة قديمة فيها أبنية عجيبة وآثار عظيمة ، وهو اسم مركب من بعل اسم صنم وبك أصله عنقه أي دقها ، وتباك القوم أي ازدحموا ، قيل بعلبك كانت مهر بلقيس وبها قصر سليمان بن داود عليه‌السلام وهو مبني على أساطين الرخام ، وبها قبر إلياس النبي عليه‌السلام وبقلعتها مقام إبراهيم الخليل عليه‌السلام وبها قبر أسباط.

٢٦

والسرور واستقبلوا حاملي الرؤوس بالماء والفقاع والسويق والسكر ، وهم يغنّون ويصفقون له فرحين بقتل الحسين عليه‌السلام ، فلمّا نظر السجاد إلى ذلك أنشأ يقول :

هو الزمان فلا تفنى عجائبه

عن الكرام ولا تفنى مصائبه

فليت شعري إلى كم ذا تجاذبنا

صروفه وإلى كم ذا نجاذبه

يسيّرونا على الأقتاب عارية

وسائق العيس يحمي عنه غاربه

كأنّنا من اُسارى الروم بينهم

أو كلّما قاله المختار كاذبه

وقال الآخر :

فمن بلدة تسبى إلى شرّ بلدة

ومن ظالم تهدي إلى شرّ ظالم (١)

__________________

(١) وهو المرحوم السيد صالح بن السيد مهدي القزويني البغدادي طاب ثراه المتوفى سنة ١٣٠٦ والبيت من قصيدة ممتعة مطلعها :

طريق المعالي في شدوق الأراقم

ونيل الأماني في بروق الصوارِم

٢٧

المطلب الثامن

في وصول السبايا والرؤوس إلى دمشق الشام

قال أرباب المقاتل في الحوادث التي جرت في طريق الشام على السبايا منها أنهم لمّا وصلوا إلى جبل جوشن (١) بالسبي أسقطت زوجة الحسين عليه‌السلام ولداً كانت قد سمته محسنا ، فدفنوه هناك ، ولمّا وصلوا إلى دمشق الشام وكان اليوم الأول من شهر صفر ، ذكر البهائي في كتابه الكامل ، قال : وأوقفوا أهل الشام الدفوف والطبول ، فلمّا بلغ السبي جيرون (٢) كان يزيد على سطح قصره فلاحت له الرؤوس والسبايا أنشأ قائلاً :

لما بدت تلك الرؤوس وأشرقت

تلك الشموس على ربى جيرون

نعب الغراب فقلت نح أو لا تنح

فلقد قضيت من النبي ديون

__________________

(١) جوشن جبل مطل على حلب في غربها ، وفي سفحه مقابر ومشاهد للشيعة. هكذا ذكر ياقوت في المعجم ، قال : ومنه كان يحمل النحاس الأحمر وهو معدنه ، ويقال إنّه بطل منذ عبر عليه سبي الحسين بن علي رضي‌الله‌عنه ونساؤه وكانت زوجة الحسين حاملاً ، فأسقطت هناك ، فطلبت من الصناع خبزاً أو ماء فشتموها ومنعوها ، فدعت عليهم فمن ذلك اليوم من عمل فيه لا يربح ، وذكرت هذا الخبر في كتابي ـ الدعوات المستجابة ـ وفي قبلى الجبل مشهد يعرف بمشهد السقط ويسمى مشهد الدكة والسقط يسمى محسن بن الحسين رضي‌الله‌عنه.

(٢) جيرون بناء عند باب دمشق من بناء سليمان بن داود عليه‌السلام ، وقيل : إن من بنى دمشق جيرون بن عاد بن أروم بن سام بن نوح ، وبه سمي باب جيرون ، وقال أبو عبيدة : جيرون عمود عليه صومعة ، «معجم البلدان».

٢٨

وفي البحار (١) قال السيد رحمه‌الله ، فلمّا قربوا من دمشق الشام دنت اُم كلثوم من الشمر ، فقالت له : لي إليك حاجة ، فقال لها : ما حاجتك؟ فقالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل نظّاره ، وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ، ونحن في هذه الحالة ، فأمر اللعين في جواب سؤالها بالعكس أن تجعل الرؤوس على الرماح ما بين المحامل بغياً منه وكفراً ، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفقة ، حتى أتى بهم باب دمشق فوقفوا على درج المسجد ـ الجامع ـ حيث يقام السبي.

قال سهل الساعدي (٢) : دخلت الشام فرأيت الأسواق معطلة والدكاكين مقفّلة والناس في فرح وسرور ، فقلت في نفسي : الأهل الشام عيد لا أعرفه؟ قال : فرأيت جماعة يتحدّثون ، فقلت : مالي أرى الناس في فرح وسرور؟ فقالوا : كأنّك غريب؟ قلت : نعم ، فقالوا : ما أعجبك أنّ السماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها؟! قلت : ولم ذاك؟ قالوا : هذا رأس الحسين عليه‌السلام يهدى من العراق. فقلت : وا عجباه يهدى رأس الحسين والناس يفرحون ، ثم قلت لهم : من أيّ باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات.

قال : فبينا أنا كذلك وإذا بالرايات يتلوا بعضها بعضها وإذا نحن بفارس يحمل سناناً عليه رأس من أشبه الناس وجها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن خلفه النساء على الجمال بغير غطاء ووطاء ، فدنوت من إحدى النساء ، وقلت لها : يا جارية من أنت؟ فقالت : أنا سكينة ابنة الحسين عليه‌السلام. فقلت لها : ألك حاجة فأقضيها سيّدتي؟ أنا سهل الساعدي ممّن رأى جدّك رسول الله وسمع حديثه. قالت : يا سهل ، قل لحامل هذا الرأس أن يقدّم الرؤوس أمامنا حتى يشغل الناس بالنظر إليها

__________________

(١) انظر ج ٤٥ ص ١٧٢.

(٢) سهل بن سعد الساعدي : كان من جملة الصحابة ، من الحفاظ وكان آخر من مات بالمدينة من الصحابة رحمه‌الله.

٢٩

قال : فدنوت من حامل الرأس فقلت له : هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمائة دينار؟ قال : وما هي؟ قلت : تقدّم الرأس أمام المحامل ففعل ذلك ، ودفعت إليه ما وعدته.

قال الراوي : وجاء شيخ إلى السجاد عليه‌السلام وقال : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد منكم وأمكن أمير المؤمنين يزيد منكم ، فقال علي بن الحسين عليه‌السلام : يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال : نعم ، فقال عليه‌السلام : هل قرأت هذه الآية (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى)؟ قال الشيخ : قد قرأت ذلك ، قال عليه‌السلام : فنحن ذوالقربى ، فهل قرأت هذه الآية (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)؟ قال الشيخ : قد قرأت ذلك ، فقال السجاد عليه‌السلام ، نحن أهل البيت الذي خصصنا بآية التطهير ، فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلم به ، ثم قال : بالله إنكم هم؟ فقال علي بن الحسين عليه‌السلام : تالله أنا هم ، فبكى الشيخ ورمى بعمامته ورفع رأسه الى السماء وقال : اللّهم إني أبرء إليك من عدوّ آل محمد من الجنّ والإنس. ثم قال : سيّدي هل لي من توبة؟ فقال علي السجاد عليه‌السلام : نعم إن تبت تاب الله عليك ، وأنت معنا ، قال : أنا تائب ، ويروى أنه بلغ ذلك يزيد فأمر بقتله.

قال الراوي : وأنشأ السجاد عليه‌السلام يقول :

اُقاد ذليلاً في دمشق كأنّني

من الزنج عبد غاب عنه نصير

وجدّي رسول الله في كل مشهد

وشيخي أمير المؤمنين أمير

فياليتني أُمّي لم تلدني ولم أكن

يراني يزيد في البلاد أسير

وقال الشاعر :

مالي أراك ودمع عينك جامد

أوما سمعت بمحنة السجّاد

ويصيح وا ذُلّاه أين عشيرتي

وسُراة قومي أين أهل ودادي

منهم خلت تلك الديار وبعدهم

نعب الغراب بفرقتي وبعاد

٣٠

المطلب التاسع

في دخول السبايا والسجّاد والرأس الشريف على يزيد

روى المجلسي رحمه‌الله (١) في البحار قال : واُدخلوا السبايا على يزيد ، وكان يزيد جالساً على السرير ، وعلى رأسه تاج مكلّل بالدرر والياقوت ، وحوله كثير من مشايخ قريش ، فلمّا دخل حامل الرأس أنشأ يقول :

أوقر ركابي فضّة أو ذهبا

إنّي قتلت السيد المحجّبا

قتلت خير النّاس اُمّاً وأبا

وخيرهم إذ ينسبون النسبا

وذكر المفيد (٢) ، وابن نما (٣) ، روي عن عبدالله بن ربيع الحميري ، قال : أنا لعند يزيد بن معاوية بدمشق ، إذ أقبل زجر بن قيس حتى دخل عليه ، فقال له يزيد : ويلك ما وراءك وما عندك؟ قال : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستّين من شيعته فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا ، أو ينزلوا على حكم الأمير عبيدالله ، أو القتال فاختاروا القتال على الإستسلام ، فغدونا عليهم مع شروق الشمس وأحطنا بهم من

__________________

(١) انظر ج ٤٥ ص ١٢٨.

(٢) في ج ٢ ص ١١٨ من إرشاده.

(٣) في ص ٩٨ من كتابه مثير الأحزان.

٣١

كلّ ناحية ، حتى إذا أخذت السيوف مأخذها من القوم جعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون منا بالآكام والحفر لوذاًكما لاذ الحمام من الصقر ، فوالله يا أمير المؤمنين ، ما كان إلّا جزرة جزور أو نومة قائل ، حتى أتينا على آخرهم ، فهاتيك أجسادهم مجردة وثيابهم مرمّلة ، وخدودهم معفّرة ، وتصهرهم الشمس وتسفي عليهم الرياح زوارهم الرخم والعقبان ، فأطرق يزيد هنيئة ، ثم رفع رأسه ، وقال : قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ، أمّا أنّي لو كنت صاحبه لعفوت عنه.

وعن ربيعة بن عمرو الجرشي : قال : وكنت أنا عند يزيد إذ سمعت صوت مخفر يقول : هذا مخفر بن ثعلبة أتى باللئام الفجرة ، فأجابه مجيب : ما ولدت أُم مخفر شرّ وألأم منه.

قال السيد رحمه‌الله (١) : أدخل ثقل الحسين عليه‌السلام ونساءه ومن تخلّف من أهله على يزيد وهم مقرّنون بالحبال ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحالة ، قال له علي بن الحسين عليه‌السلام : أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو يرانا على هذه الحالة؟

قال : فأمر يزيد (لعنه الله) بالحبال فقطعت ، ثم وضع رأس الحسين عليه‌السلام بين يديه وأجلس النساء خلفه لأن لا ينظرون إليه.

قالت فاطمة ابنة الحسين عليه‌السلام : وقام شامي أحمر ، والتفت إلى يزيد وقال له : يا أمير هب لي هذه الجارية تكون خادمة لي ، يعنيني بذلك ، فأرعدت وظننت إن ذلك جايز لهم ، فأخذت بثياب عمّتي زينب ، وقلت لها : عمة اُوتمت على صغر سنّي واستخدم لأهل الشام؟! وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت له عمّتي : ما كان ذلك لك ولا لأميرك. فقال يزيد : كذبت والله إن ذلك لي لو شئت أن أفعل

__________________

(١) ابن طاووس رحمه‌الله في ص ٢١٣ من كتابه الملهوف على قتلى الطفوف.

٣٢

لفعلت. قالت : كلّا ما جعل الله لك ذلك إلّا أن تخرج عن ملتنا وتدين بغير ديننا ، فاستطار يزيد غضباً ، وقال : تستقبليني بهذا الكلام ، إنّما خرج عن الدين أبوك وأخوك ، قالت زينب عليها‌السلام : بدين الله ودين جدّي وأبي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً. قال : كذبت يا عدوة الله ، قالت عليها‌السلام له : أنت أمير تشتم ظالما ، وتقهر بسلطانك ، فكأنّه استحى وسكت ، فأعاد الشامي مقالته ، هب لي هذه الجارية. فقال له يزيد : اعرب عن هذا وهب الله لك حتفاً قاضياً (١) ، ثم إنّ يزيد جعل ينكث ثنايا الحسين عليه‌السلام وهو يقول :

نفلق هاماً من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري : ٤ / ٣٥٣.

٣٣

المطلب العاشر

في خطبة العقيلة زينب عليها‌السلام في مجلس يزيد

لما جيء بالسبايا والرؤوس إلى يزيد (لعنه الله) جعل ينكث ثنايا الحسين عليه‌السلام بقضيب الخيزران (١) ، وهو يتمثل بأبيات بن الزبعري ، وزاد عليها قائلاً :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

وأخذنا من علي ثارنا

وقتلنا الفارس الشهم البطل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

قال السيد رحمه‌الله (٢) وغيره : فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما‌السلام ، وقالت : (الحمدلله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله

__________________

(١) انظر تأريخ الطبري : ٤ / ٣٥٦ ، وتذكرة الخواص : ٢٩٠ ، ومقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٥٧ ، والفصول المهمة : ١٩٤.

(٢) في ص ٢١٥ من كتابه الملهوف على قتلى الطفوف.

٣٤

سبحانه حيث يقول : (ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السّوءى‏ أَن كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) (١) أظننت يا يزيد حيث اخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء أنّ بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة ، وإنّ ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والامور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلا مهلا لا تطش جهلا ، أنسيت قول الله تعالى (وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (٢) أمن العدل يابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوهنّ وصحلت أصواتهنّ ، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد الى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والشريف والدني ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهنّ حمي ، وكيف تُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ، ثم تقول غير متأثّم ولا مستعظم ، داعياً بأشياخك : ليت أشياخي ببدر شهدوا ، منحنياً على ثنايا أبي عبدالله الحسين سيّد شباب أهل الجنّة ، تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجوم الأرض من آل عبدالمطلب ، أتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم ، فلتردنّ وشيكا موردهم ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت ، اللّهمّ خذ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن

__________________

(١) سورة الروم ١٠.

(٢) سورة آل عمران ١٧٨.

٣٥

سفك دمائنا ، وقتل حماتنا ، فوالله يا يزيد ما فريت إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك ، ولتردنّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيته ، وانتهكت من حرمته ، في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقهم (وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١) وحسبك بالله حاكما وبمحمّد خصيما ، وبجبريل ظهيراً ، وسيعلم من سوّل لك ومكنّك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جندا يزيد ، ولئن جرت عَلَيَّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى ، ألا فالعجب كل العجب ، لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي ، تنتابها العواسل ، وتعفرّها اُمّهات الفراعل ، ولأن اتّخذتنا مغنماً ، ولتجدنّ وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلام للعبيد ، فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل ، فكد كيدك واسع سعيك ، وناصب جهدك فوالله لا تمحوا ذكرنا ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها وهل رأيك إلّا فند ، وأيامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد ، يوم ينادي منادي ألا لعنة الله على الظالمين ، فالحمدلله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله تعالى أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل).

__________________

(١) سورة آل عمران ١٦٩.

٣٦

فقال يزيد في جوابها (١) :

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون النوح على النوائح

قال الشاعر :

وأعظم ما يُشجي الغيور دخولها

إلى مجلس ما بارح اللهو والخمرا

يقارضها فيه يزيد مسبّة

ويصرف عنها وجهه معرضا كبرا (٢)

__________________

(١) كما في ج ٢ ص ٦٦ من كتاب مقتل الحسين للخوارزمي.

(٢) من قصيدة عامرة للشاعر المحلّق الشيخ محمد كمونة المتوفى سنة ١٢٨٢ هـ استهلها بقوله :

عرا فاستمرّ الخطب واستوعب الدّهرا

مصابٌ أهاج الكَرب واستأصل الصّبرا

٣٧

المطلب الحادي عشر

في خطبة علي بن الحسين في مجلس يزيد

ذكر صاحب كتاب بحر المصائب : إنّ يزيد بن معاوية دعا بخطيب وكان فصيح اللسان قليل المعرفة بربّه ، فقال له : أجمع الناس بالجامع واصعد المنبر فسب علياً وأولاده ، ففعل ما أمر به وزاد وأكثر في مدح يزيد ، فلمّا سمعه زين العابدين عليه‌السلام ، قام قائماً على قدميه ، وقال : (أيّها الخطيب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوّء مقعدك من النار) ، ثم التفت إلى يزيد (لعنه الله) وقال : (أتأذن لي حتى أصعد هذه الأعواد وأتكلم في كلمات لله فيهنّ رضاً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب؟).

قال : فأبى يزيد عليه ، فقال له الناس : يا أمير المؤمنين أئذن له فليصعد المنبر ، فلعلّنا نسمع منه شيئاً ، فقال : إذا إنّه صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيخة آل أبي سفيان ، فقيل له : يا أمير وما قدر ما يحسن هذا العليل؟ فقال : إنه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زقّاً.

قال : ولم يزالوا به حتى أذن له ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلّى عليه ، ثم قال : (أيّها الناس أحذركم الدنيا فإنّها دار زوال ، وهي أفنت القرون الماضية ، وهم كانوا أكثر منكم أموالاً وأطول أعماراً ، وقد أكل التراب لحومهم ، وغيّر

٣٨

أحوالهم ، أفتطمعون بعدهم بالبقاء ، هيهات هيهات ، لابد باللحوق والملتقى ، فتذكّروا ما مضى من أعماركم ، وما بقي ، وأفعلوا فيه ما سوف يلتقى عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل ، وفروغ الأمل ، فعن قريب تؤخذون من القصور إلى القبور ، وبأفعالكم تحاسبون ، فكم والله من فاجر قد استكملت عليه الحسرات ، وكم من عزيز قد وقع في مسالك الهلكات ، حيث لا ينفع الندم ، ولا يغاث من الظلم (ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا) (١).

ثم قال : أيها الناس اُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع : اعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفُضِّلنا بأنّ منا النبي المختار ، ومنّا الصديق ومنّا الطيار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة ، ومنّا مهديّها.

أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ، أيها الناس أنا بن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حج ولبّى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا من بلغ به جبريل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى مثنى ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل وما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى.

أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا أله إلّا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر

__________________

(١) الكهف من الآية ٤٩.

٣٩

الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين ، أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبييّن ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وتاج البكائين ، وزين العابدين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل طه وياسين ، رسول ربّ العالمين ، أنا ابن المؤيد بجبريل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين ، والناكثين والقاسطين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأول من استجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأول السابقين ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله ، وولي أمر الله ، وعيبة علمة ، سمح سخي بهي ، بهلول زكي ، أبطحي ، رضي ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، قاطع الأصلاب ومفرّق الأحزاب ، أربطهم عنانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل ، يطحنهم بالحروب إذا ازدلفت الأسنّة ، واقتربت الأعنّة طحن الرحا ، ويذورهم فيها ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكّي ، مدني ، خيفي ، عقبي ، بدري ، أحدي ، مهاجري ، من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، أبو السبطين الحسن والحسين ، ذاك جدّي علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ثم قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلما ، أنا ابن محزوز الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا ابن طريح كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على سنان يهدى ، أنا ابن من حرمه من العراق الى الشام تسبى).

فلم يزل يقول أنا أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب وخشي يزيد أن تكون فتنة فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام فلمّا قال الله اكبر ، قال علي عليه‌السلام : لا شيء

٤٠