ثمرات الأعواد - ج ٢

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٩
الجزء ١ الجزء ٢

وكان جابر يحب الحسين عليه‌السلام ويحمله على كتفيه وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حمل الحسين عليه‌السلام وجاء جابر ورآه الحسين عليه‌السلام يرمي بنفسه عليه ، وكان يقال له : حبيب الحسين ، وهو من جملة من دخل إلى الحسين عليه‌السلام يومئذ بمكة ، وذلك لمّا أراد الخرج منها الى العراق ، وقال له فيما قال : سيدي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، فقال : (يا عم يا جابر إنّ تكليفي من الله غير تكليفي أخي الحسن عليه‌السلام ، ولو كان أخي الحسن عند أربعين رجلاً لمّا صالح معاوية ، وها أنا ذا معي ما ينوف على الأربعين غير الذي يلحقونني).

قال الراوي : فجعل جابر يبكي ويقول : سيّدي بحقّ جدّك ألا ما عدلت عن الوجه ، لما رأى تصميم الحسين عليه‌السلام على الخروج إلى العراق ودّعه ودموعه تجري ، ولمّا خرج الحسين عليه‌السلام من مكّة خرج جابر إلى البصرة ، وجعل كل يوم يخرج خارج البصرة ويسأل القادمين من الكوفة عن الحسين عليه‌السلام ، حتى استخبر بقتل الحسين عليه‌السلام فجعل يلطم وجهه ويبكي ، ونام ليلته فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وهو أشعث مغبر مكشوف الرأس ، فقال : مالي أراك يا رسول الله أشعث؟ فقال : يا جابر الآن رجعت من دفن ولدي الحسين عليه‌السلام ، ثم تجهّز جابر للمسير إلى كربلاء ، فجاء ومعه الأعمش بن عطية وغلامه حتى وافى كربلاء يوم التاسع عشر من شهر صفر وبات عند قبر الحسين عليه‌السلام ليلته ، حتى أصبح الصباح أقبل زين العابدين عليه‌السلام بعمّاته وأخواته من الشام ، ولمّا لاح للهاشميات قبر الحسين عليه‌السلام وقبور الشهداء ألقين بأنفسهن على القبور ولسان حال الحوراء زينب عليها‌السلام يقول :

يا نازلين بكربلا هل عندكم

خبر بقتلانا وما أعلامها

ما حال جثة ميت في أرضكم

بقيت ثلاثا لا يزار مقامها

بالله هل رفعت جانزته وهل

صلى صلاة الميّتين أمامها

٦١

قال أرباب المقاتل : وانكبت فاطمة بنت الحسين عليها‌السلام على قبر أبيها حاضنه له وهي تبكي حتى غشي عليها ، وجاءت سكينة ووقعت على قبر أبيها ، وهكذا درن الهاشميات على قبر الحسين عليه‌السلام لاطمات الخدود ، صارخات معولات ، واجتمعن إليهم نساء ذلك السواد فأقاموا الى ذلك أيّاماً.

قم وجدد الحزن في العشرين من صفر

ففيه ردت الرؤوس الآل للحفر (١)

__________________

(١) (فائدة) كان جابر بن عبدالله الأنصاري ممن شهد العقبة وعمي في آخر عمره ، ومات بالمدينة سنة ٧٨ هـ وقليل ثمان وتسعين ، وقد أدرك من امامه الباقر عليه‌السلام ثلاث سنين بالمدينة ، وكان أخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان من السبعين الذين بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقبه منى. وعن الفضل بن شاذان أنه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد النبي ، وهو ممن مدحه الصادق عليه‌السلام. وعن فضيل بن عثمان عن الزبير قال : رأيت جابراً يتوكّأ وهو يدور في سكك المدينة ومجالسهم ، وهو يقول : علي خير البشر فمن أبى فقد كفر ، يا معاشر الأنصار أدبوا أولادكم في حب علي عليه‌السلام ومن أبى فالينظر في شأن أمه.

٦٢

المطلب الثامن عشر

في موضع دفن الرأس الشريف

اختلف أرباب التاريخ في موضع دفن رأس الحسين عليه‌السلام كاختلافهم في موضع دفن الزهراء سيدة النساء صلوات الله عليها ، وقبر عبدالله الرضيع ابن الحسين عليهما‌السلام ، الذي رماه حرملة بن كاهل بسهم يوم عاشوراء وذبحه من الوريد الى الوريد ، نعم إنّ للمؤرخين أقوال كثيرة في موضع دفن الرأس حيث ذكر كلّ منهم ما وقف عليه ، واستند إمّا على السماع أو على رواية رواها من غيره ، أو نقلها من مصدر من المصادر.

ذكر المؤيد صاحب حماة في تاريخه ، وعمر بن الوردي في تاريخه : قيل إنّ رأس الحسين عليه‌السلام جهز إلى المدينة ودفن عند أُمّه ، وكذلك ذكر السمهودي في (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) عن محمد بن سعيد : أنّ يزيد بن معاوية بعث برأس الحسين عليه‌السلام إلى عمر بن العاص ، وكان عامله على المدينة ، فكفنه ودفنه بالبقيع عند قبر اُمّه فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، فهؤلاء المؤرخين ذهبوا على أنّ الرأس الشريف حمل إلى المدينة ودفن بالبقيع أو عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) وكذلك ابن سعد ذكر هذه الرواية في طبقاته الكبرى ورواية البخاري في تاريخه.

٦٣

وممن قال أنه دفن بعسقلان (١) مجبر الدين الحنبلي في ـ الأنس الجليل ـ قال : وبها أي بعسقلان مشهد عظيم بناه بعض الفاطميين من خلفاء مصر على مكان زعموا أنّ فيه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وممن قام بدمشق ياسين بن المصطفى الفرضي قال في (النبذة اللطيفة في المزارات الشريفة) في المزارات المشهورة للصحابة بدمشق ونواحيها ، والمشهور منهم بتربة باب الفراديس المسمّاة بمرج أبي الدحداح الآن سمّي مسجد الرأس داخل باب الفراديس في أصل جدار المحراب لهذا المسجد رأس الملك الكامل.

وأما الذين يذكرون انه مدفون بمصر منهم الصبان في أسعاف الراغبين قال : واختلفوا في رأس الحسين عليه‌السلام بعد مسيره إلى الشام أين صار وفي أيّ موضع استقر؟ فذهبت طائفة إلى أنّ يزيد أمر أن يطاف برأسه الشريف في البلاد فطيف به حتى انتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها بها ، فلمّا غلب الإفرنج على عسقلان افتداه منهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمال جزيل ومشى إلى لقائه من عدة مراحل ووضعه في كيس حرير أخضراً على كرسي من خشب الأبنوس وفرش تحته المسك والطيب وبنى عليه المشهد الحسيني المعروف بالقاهرة.

وذكر شيخ عبدالوهاب الشعراني في طبقات الأولياء عند ذكره الحسين عليه‌السلام : دفنوا رأسه ببلاد المشرق ثم رشا عليها طلايع بن زريك بثلاثين ألف دينار ونقله إلى مصر وبنى عليه المشهد الحسيني ، وخرج هو وعسكره حفاة

__________________

(١) عسقلان مدينة على ساحل البحر من أعمال فلسطين كان يقال لها عروس الشام لحسنها وهي ذات بساتين وثمار ، بها مشهد رأس الحسين عليه‌السلام وهو مشهد عظيم وفيه ضريح الرأس والناس يتبركون به وبنيت عسقلان في أيام عمر بن الخطاب.

٦٤

إلى نحو الصالحية من طريق الشام يتلقون الرأس الشريف ، ثم وضعه طلايع في كيس من حرير أخضر على كرسي آبنوس وفرشوا تحته المسك والعنبر والطيب قدر وزنه مراراً (١).

وممّن ذكر أنّه مدفون بالرقة عبدالله بن عمر الوراق في كتاب (المقتل) ، قال : ولمّا خضر الرأس بين يدي يزيد بن معاوية قال : لأبعثنه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان ، وكانوا بالرقة ، فبعثه إليهم فدنوه في بعض دورهم ، ثم اُدخلت تلك الدار في المسجد الجامع ، قال : وهو إلى جانت سدره هناك ، وقيل : إنّ الفاطميين نقلوه من باب الفراديس إلى عسقلان ثم نقلوه إلى القاهرة.

ومنهم من قال : أنه دفن بالثوية حيث الآن يسمى بمسجد (الحنانة) شرقي النجف عن يسار الذاهب إلى الكوفة وبالقرب من قبر العبد الصالح كميل بن زياد النخعي ، وقال الآخرون : إنّه دفن عند أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام وتوجد الآن غرفة في الرواق الحيدري ، مما يلي الرأس الشريف من جهة الغرب وهي مزركشة ، وقد كتب على جدرانها بعض اللوائح بخط جميل.

يا أبا عبدالله الحسين عليه‌السلام ، هذه الأقوال كلّها لم تكن عليها عمل الطائفة ، بل الذي عليه العمل وهو القول الفصل إنّ السجاد زين العابدين عليه‌السلام جاء به إلى كربلاء ودفنه مع الجسد الشريف.

__________________

(١) وممن قال أن الرأس الشريف بالمشهد الذي بالقاهرة نقل إليها من عسقلان ، علي بن أبي بكر المشهور بالسائح الهروي المتوفى سنة ٦١١ ، قال في الإشارات إلى أماكن الزيارات عند كلامه على عسقلان : وبها مشهد الحسين عليه‌السلام ، وكان رأسه بها فلمّا أخذته الفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة ٥٤٩.

وحكى ابن أبي دنيا ، قال : وجد رأس الحسين عليه‌السلام في خزانة يزيد بدمشق فكفّنوه ودفنوه بباب الفراديس وكذا ذكره البلاذري في تاريخه ، قال : هو بدمشق.

٦٥

ذكر صاحب كتاب حبيب السير : أنّ يزيد بن معاوية سلم رؤوس الشهداء إلى علي بن الحسين عليه‌السلام فألحقها بالأبدان الطاهرة يوم العشرين من صفر.

وقال السبط ابن الجوزي بعد تعدد الأقوال قال : وأشهرها أنه رد إلى كربلاء مع السبايا إلى الجسد الشريف فدفن معه.

لا تطلبوا قبر الحسين

بأرض شرق أو بغرب

ودعوا الجميع وعرجوا

نحوي فمشهده بقلبي

٦٦

المطلب التاسع عشر

في رجوع السبايا الى المدينة

قال ابن الأثير والبياسي والطبري في روايته عن أبي مخنف : أنّه لمّا أراد يزيد أن يسيّرهم إلى المدينة أمر النعمان بن بشير أن يجهّزهم بما يصلحهم ويسير معهم رجلاً أميناً من أهل الشام ، وأن يبعث معه خيلاً وأعوانا.

وقال المفيد : ندب النعمان بن بشير ، وقال له : تجهز لتخرج بهؤلاء النسوة الى المدينة ، وأنفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولاً تقدّم إليه أن يسير بهم في الليل ويكونوا أمامه ، حيث لا يفوته طرفه ، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق أصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم ، وينزل منهم بحيث إن أراد إنسان من جماعتهم وضوءاً أو قضاء حاجة لم يحتشم.

قالوا جميعاً : ودعا يزيد ، زين العابدين عليه‌السلام ليودّعه ، وقال له : لعن الله ابن مرجانة ، أما والله لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلّا أعطيته إياها ، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت ، ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكن الله قضى ما رأيت ، يا بني كاتبني من المدينة ، وإنّه إلي كلّ حاجة تكون لك ، وتقدّم بكسوته وكسوة أهله وأوصى بهم هذا الرسول ، فخرج بهم الرسول.

قال المفيد : وسار بهم في جملة النعمان فكان يسايرهم ليلاً فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه ، فإذا نزلوا تنحى عنهم هو وأصحابه وكانوا حولهم كهيئة

٦٧

الحرس ، وكان يسألهم حاجتهم ويلطف بهم ، كما وصّاه يزيد حتى دخلوا المدينة ، ولمّا وصلوا قالت فاطمة بنت علي (أي ام كلثوم) لاختها زينب : لقد أحسن هذا الرجل إلينا ، فهل لك أن نصله بشيء ، فقالت : والله ما معنا نصله به إلّا حليّنا ، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما ، فبعثتا به إليه واعتذرتا فرد الجميع ، وقال : لو كانت صنعت للدنيا لكان هذا يرضيني ولكن والله ما فعلته إلّا لله ، ولقرابتكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال بشر بن حذلم : ولمّا قربنا من المدينة ، نزل علي بن الحسين عليه‌السلام فحطّ رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ، وقال : يا بشر رحم الله أباك فلقد كان شاعراً ، فهل أنت تحسن الشعر؟ فقلت : بلى يا سيّدي ، وإنّي لشاعر ، فقال عليه‌السلام : قم الآن وادخل المدينة وانعى الحسين عليه‌السلام ولو ببيتين من الشعر.

قال بشر : فقمت وركبت فرسي وجئت حتى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج

والرأس منه على القناة يدور

قال : فضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، ثم قلت : هذا علي بن الحسين عليه‌السلام مع عماته واخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه.

قال بشر : فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلّا وبرزن من خدورهنّ ضاربات الصدور ، ناشرات الشعور ، وهن يدعين بالويل والثبور ، قال : فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم.

قال بشر : وسمعت في طريقي جارية تنوح وتنشد :

نعى سيّدي ناع نعاه فأوجعا

وأمرضني ناع نعاه فأفجعا

٦٨

اعينيّ جودا بالدموع واسكبا

وجودا بقان مثل دمعكما معا

على من دهى عرش الجليل فزعزعا

وأصبح أنف الدين والمجد أجدعا

على ابن نبي الله وابن وصيه

وإن كان عنّا شاحط الدار اشسعا

ثم قالت : أيها الناعي جددت حزناً بأبي عبدالله ، وخدشت منّا قروحاً لما تندمل ، فمن أنت يرحمك الله؟ فقلت : أنا بشر بن حذلم ، وجهني مولاي علي بن الحسين عليه‌السلام وهو نازل موضع كذا وكذا مع العيال والأطفال.

قال : فتركوني الناس ومضوا يهرعون حتى إذا وصلت قريباً من الموضع والناس قد أخذوا الطريق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطيت رقاب الناس ، حتى قربت من الفسطاط ، وكان علي بن الحسين عليه‌السلام داخل الفسطاط ، ثم خرج وبيده منديل يمسح به دموعه وخلفه خادم معه يحمل الكرسي ، ثم وضعه له بين الناس وهو لم يتمالك من العبرة ، وارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب ، وقام الناس يعزونه من كل ناحية ، فضجّت تلك البقعة ضجّة واحدة ، ثم أومأ بيده إلى الناس أن اسكتوا ، فسكنت فورتهم ، فقال :

«الحمد لله رب العالمين مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، ونحمده على عظائم الأُمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظمة الفادحة الجائحة ، أيها القوم إنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبدالله الحسين عليه‌السلام وعترته وسبي نساءه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عال السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية ، أيها الناس فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضلّ عن أنهما لها؟ فلقد بكت السبع الشداد بقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض

٦٩

بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقربون ، وأهل السماوات أجمعون ، أيها الناس أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ عليه؟ أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثملت في الإسلام؟ أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين ، شاسعين الأوطان ، كأنّنا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم أجرمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ولا سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إنّ هذا إلا اختلاق ، والله لو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمّرها وأفدحها ، فعند الله نحتسب فيما أصابنا ، وما بلغ بنا فإنّه عزيز ذوانتقام».

قال : فعلت الأصوات بالبكاء والعويل.

وروى في المنتخب (١) : إن ام كلثوم عليها‌السلام حين توجهت الى المدينة جعلت تبكي وتقول :

مدينة جدنا لا تقبلينا

فبالحسرات والأحزان جينا

خرجنا منك بالأهلين جمعاً

رجعنا لا رجال لا وبنينا

__________________

(١) انظر ج ٢ ص ٤٩٩.

٧٠

المطلب العشرون

في ملاقاة السجاد عليه‌السلام مع عمّه محمّد

ذكر صاحب الدمعة الساكبة قال : لمّا دخل بشر بن حذلم الى المدينة وأخبر الناس بقتل الحسين عليه‌السلام وضج الناس بالبكاء والنحيب ، وكان محمّد بن الحنفية مريضاً ، ولم يكن له علم بذلك الخبر الشنيع ، فسمع اصواتاً عالية ورجّة عظيمة ، فلم يقدر أحد أن يخبره لخوفهم عليه من الموت لأنّه قد أنحله المرض ، فألح عليهم بالسؤال. فتقدم إليه أحد غلمانه ، وقال : جعلت فداك يابن أمير المؤمنين ، إنّ أخاك الحسين عليه‌السلام قد أتى من الكوفة وقد غدر أهل الكوفة بابن عمّك مسلم بن عقيل ، فرجع عنهم وأتى بأهله وأصحابه ، فقال له لم لا يدخل علي أخي؟ قال : ينتظر قدومك إليه.

قال : فنهض فوقع وجعل تارة يقوم وتارة يسقط ، وهو يقول : لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم ، فكأنّ حس قلبه بالشر ، فقال : إنّ فيها والله مصائب آل يعقوب ، ثم قال : أين أخي؟ أين ثمرة فؤادي؟ أين الحسين؟ ولم يعلم بقتله ، فقالوا : يا مولانا أخوك بالموضع الفلاني. قال : قدّمو لي جوادي ، فقدّم له الجواد ، واركبوه على جواده وحوله خدّامه ، حتى إذا خرج خارج المدينة فلم ير إلّا أعلاماً سودا ، فقال : ما هذه الأعلام السود ، والله قتل بنو اُمية الحسين ، فصاح صيحة عظيمة ، وخرّ عن جواده إلى الأرض مغشياً عليه ، فركض الخادم إلى زين

٧١

العابدين عليه‌السلام وقال له : يا مولاي أدرك عمّك قبل أن تفارق روحه الدنيا ، فخرج وبيده منديل يمسح بها دموعه الى أن أتى إلى عمّه فأخذ رأسه ووضعه في حجره ، فلمّا أفاق قال : يابن أخي أين أخي؟ أين قرّة عيني؟ أين نور بصري؟ أين أبوك؟ أين خليفة أبي؟ أين أخي الحسين؟ فقال علي عليه‌السلام : أتيتك يتيماً ليس معي إلّا نساء حاسرات في الذيول عاثرات ، ناعيات نادبات ، وللمحامي فاقدات ، يا عمّاه لو تنظر إلى أخيك يستغيث فلا يغاث ، ويستجير فلا يجار ، قتل وهو عطشان والماء يشربه كلّ حيوان. فصرخ محمّد بن الحنفية حتى عشي عليه مرّة ثانية ولمّا أفاق من غشيته قال : يابن أخي قص علي ما أصابكم.

قال الراوي : فكان السجاد يقص على عمّه ودموعه تجري وهو يمسحها بمنديل كان في يده ، فقال محمد بن الحنفيه : يعزّ عليَّ يا أبا عبدالله ، يا أخي كيف طلبت ناصراً فلم تنصر ، ومعيناً فلم تعن ، ثم نهض ودخل داره ولم يخرج إلّا بعد ثلاثة أيام ، ولما كان اليوم الرابع خرج للناس وهو شاك في سلاحه وقد اشتمل ببردة واستوى على جواده وقصد ناحية الجبل ، فلم يظهر للناس إلا عند خروج المختار (١).

قال الراوي : وسمعت اُم لقمان بنت عقيل صراخ للنساء ، وخرجت ومعها أترابها اُم هاني ، وأسماء بنت علي عليه‌السلام وجعلن يندبن الحسين عليه‌السلام.

قال الراوي : وكان دخولهم المدينة يوم الجمعة والخطيب يخطب الناس ، فذكروا الحسين عليه‌السلام وما جرى عليه ، فتجددت الأحزان ، واشتملت المصائب وصار كيوم مات فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) الظاهر أنه اعتزل الناس حداداً على أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام.

٧٢

قال الراوي : وأقبلت اُم كلثوم إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي باكية العين ، حزينة القلب ، فقالت : السلام عليك يا جدّاه ، إني ناعية إليك ولدك الحسين عليه‌السلام ، وجعلت تمرغ خديها على المنبر والناس يعزونها.

وفي البحار وغيره ، أمّا فخر المخدرات زينب عليها‌السلام فإنها لمّا دخلت المدينة ووقع طرفها على قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صرخت وبكت وأخذت بعضادتي باب المسجد ونادت : يا جدّاه إنّي ناعية إليك أخي الحسين عليه‌السلام وهي مع ذلك لا تجف لها عبرة ولا تفتر من البكاء والنحيب.

قال : وأقبلت اُم كلثوم الى قبر اُمها فاطمة الزهراء ، ورمت بنفسها على القبر وهي تقول : يا اُمّاه اُعزّيك بولدك الحسين عليه‌السلام فقد قتلوه عطشانا :

أفاطم لو خلت الحسين مجدلا

وقد مات عطشانا بشط فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الفلوات (١)

قال أرباب المقاتل : ولبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح ، وكنّ لا يشتكين من حر ولا برد ، وما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولا رؤي في دار هاشمي دخان خمس حجج ، كل ذلك حزناً على أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام ، وكانت رباب زوجة أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام تبكي الليل والنهار على أبي عبدالله ، وأمرت بسقف البيت فاقتلعوه ، وكانت تجلس في حرارة الشمس وتنوح على الحسين عليه‌السلام ، وقد خطبها يزيد بن معاوية والأشراف من قريش ، فقالت : لا والله ما

__________________

(١) البيتان من القصيدة التائية الشهيرة وهي للشاعر العملاق دعبل بن علي الخزاعي المتوفى سنة ٢٤٦ هـ ومطلعها كما في ديوانه :

تجاوبن بالأرنان والزفرات

نوائح عجم اللفظ والنطقات

٧٣

كنت لأتخذ حماً آخر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) وكانت ترثي الحسين عليه‌السلام بأشجى رثاء فمن قولها :

إن الذي كان نوراً يُستضاء به

بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة

عنّا وجنبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به

وكنت تصحبنا بالرحم والدين

من لليتامى ومن للسائلين ومن

يغني ويأوى إليه كل مسكين

والله لا أبتغي صهراً لصهركم

حتى اُوسد بين الرمل والطين

وأمّا اُم البنين اُم العباس فإنّها كانت ترثي الحسين عليه‌السلام وترثي أولادها وتندبهم بأشجى ندبة ، وكانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم فيجتمع الناس لسماع رثائها وفيهم مروان بن الحكم فيبكون لشجي الندبة ، فمن قولها :

لا تدعوّني ويك اُمّ البنين

تذكريني بليوث العرين

كانت بنون لي ادعى بهم

واليوم اصبحت ولا من بنين

أربعة مثل نسور الربي

قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الخرصان أشلاءهم

فكلّهم أمسى صريعاً طعين

يا ليت شعري أكما أخبروا

بأنّ عباساً قطيع اليمين

ومن رثاها في ولدها العباس عليه‌السلام عليه‌السلام :

يا من رأى العباس كر

على جماهير النقد (٢)

__________________

(١) قيل : إن الرباب عاشت سنة بعد الحسين عليه‌السلام ثم ماتت كمداً ولم تستظل بسقف أبداً.

(٢) النقد ـ بالتحريك ـ قسم من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه.

٧٤

ووراءه أبناء حيدر

كلّ ليث ذي لبد (١)

اُنبئت أنّ ابني اُصيب

برأسه مقطوع يد

ويلي على شبلي أما

ل برأسه ضرب العمد

لو كان سيفك في يد

يك لما دنا منه أحد

بلى والله يا اُمّ البنين ، إن ولدك العباس :

قطعوا يديه وهامه فضخوه في

عمد الحديد فخر خير طعين (٢)

__________________

(١) اللّبد ـ بفتحتين ـ الصوف المتلبد أو الشعر الكثير.

(٢) من قصيدة عصماء في رثاء مولانا أبي الفضل العباس عليه‌السلام للمغفور له الشيخ حسن قفطان المتوفى سنة ١٢٦٩ هـ ومطلعها :

هيهات أن يجفو السُهاد عيوني

أو أنّ داعية الأسى تجفوني

٧٥

المطلب الحادي والعشرون

في واقعة الحرّة (١)

قال ابن جرير الطبري في تاريخه (٢) وابن الأثير في الكامل : أنّه لمّا قتل الحسين عليه‌السلام وثار نجدة بن عامر الحنفي باليمامة ، وثار ابن الزبير بالحجاز ، وفي سنة احدى وستين عزل يزيد بن معاوية عمر بن سعد عن أمرة الحجاز ، وبعث الوليد بن عتبة ، ثم في سنة اثنتين وستين عزل الوليد بن عتبة ، وولّى عثمان بن محمد بن أبي سفيان ، وهو حدث غر ، فبعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة ، فلمّا قدموا على يزيد أكرمهم ولمّا رجعوا إلى المدينة قاموا فأظهروا عيب يزيد وشحّه ، وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ويضرب بالطنابير ويعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسمر عنده الخراب وهم اللصوص. وكان أحد اُولئك النفر الوفد عبدالله بن حنظة الأنصاري رحمه‌الله وكان شريفاً فاضلاً عابداً وكانوا يدعونه ابن غسيل الملائكة ، وكانت عنده ثمانية بنين ، فقال : قد جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلّا بنيّ هؤلاء لجاهدته لهم ، وقد اعطاني وما قبلت عطاءه إلّا لأتقوّى به.

__________________

(١) في القاموس ـ الحرّة ـ موضع بظاهر المدينة ، وبها كانت واقعة الحر أيّام يزيد بن معاوية.

(٢) انظر ج ٤ ص ٣٦٧.

٧٦

قال : فخلع الناس يزيد بن معاوية ، وولّوا عليهم عبدالله بن حنظلة الغسيل ، ودخلت سنة ثلاث وستّين ، فأخرج أهل المدينة عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ، ومن المدينة من بني اُمية ومواليهم وهم أكثر من ألف رجل ، فلمّا سمع يزيد بن معاوية خرج بعد العتمة ومعه شمعتان شمعة عن يمينه وشمعة عن يساره ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أمّا بعد ، يا أهل الشام فإنّه كتب إليّ عثمان بن محمد أنّ أهل المدينة أخرجوا قومنا من المدينة ، ووالله لإن تقع الخضراء على الغبراء أحبّ إليّ من هذا الخبر ، ثم نزل ، وكان معاوية قد أوصاه ، وقال له : إنّ دهمك أمر عليك بأعور بني مرّة فاستشره ـ يعني مسلم بن عقبة المرّي ـ فأرسل على مسلم بن عقبة المرّي ، وقال له إنّي مرسلك إلى أهل المدينة.

قال أرباب التاريخ : وجهز له ثلاثين ألفا ، وقال له : سر إليهم (١).

قال : وقبل أن يخرج من الشام مرض مسلم بن عقبة ، فدخل عليه يزيد يعوده ، وقال له : قد كنت وجهتك لهذا البعث ، وكان أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ أوصاني بك وأراك مدفناً وليس فيك سفر. فقال : يا أمير المؤمنين أنشدك الله أن لا تحرمني أجراً ساقه الله إليّ ، انما أنا امرؤ وليس بي بأس ، ثم أمر فحمل على سرير وسار بالجيش حتى وافوا المدينة ، ومرّوا بمكان أرادوا النزول به ، فقال مسلم : ما اسم هذا المكان؟ فقيل له : البتراء. فقال : لا تنزلوا به ، ثم ساروا به حتى نزلوا الحرّة وأحدق الجيش بالمدينة ، فوجدوا أهل المدينة قد خندقوا وأجلسوا الرجال على أفواه الخنادق.

__________________

(١) قال ابن كثير في البداية والنهاية : وقد أخطأ يزيد في أمر مسلم بن عقبة بأباحته المدينة ثلاثة أيام خطأ كبيراً ، فإنه وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف ممّا لا يعلمه إلّا الله عزّوجلّ ، وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه ودوام أيّام فعوقب بنقيض قصده ، فقصمه الله قاصم الجبابرة وأخذه أخذ عزيز مقتدر.

٧٧

قال الراوي : وجاء مروان بن الحكم وكلّم رجلاً من بني حارثة ، وقال له : افتح لنا طريقاً فإن فعلت ذلك أكتب إلى يزيد بن معاوية وأضمن لك شطر ما كان يبذل لأهل المدينة بالعطاء ، ففتح له طرقاً ، واقتحمت خيل أهل الشام ، فجاء الخبر إلى عبدالله بن حنظلة ، فأقبل ومعه أهل المدينة فاقتتلوا ساعة حتى لحق الجيش وانهزم أهل المدينة بعد جلاد عظيم ، فلمّا رأى عبدالله بن حنظلة ، ذلك أخذ يقدم بنيه واحداً بعد واحد ، حتى قتلوا بين يديه ، وكان عليه يومئذ درعان طرحهما ، وجعل يقاتل وهو حاسر ، حتى قتل ، فلمّا قتل عبدالله بن حنظلة صار أهل المدينة كالأغنام بلا راع ، وجعل مسلم يقول لأصحابه : من جاء برأس رجل فله كذا وكذا ، وجعله يغري قوماً لا دين لهم ، فقتلوا وظهروا على أكثر المدينة ، وجالت خيولهم فيها ، وجعلوا يقتلون وينهبون.

قال الراوي : فما تركوا شيئاً ما نهبوه حتى الحمام والدجاج ، وكانوا يدخلون في البيت ويقتلون الرجال ويهتكون النساء.

قال أبو معشر : ودخل رجل من أهل الشام على امرأة نفساء نساء الأنصار ، ومعها صبي فقال لها : هل من مال؟ قالت : لا والله ما تركوا لي شيئاً ، فقال : والله لتخرجين إليّ شيئاً أو لأقتلنّك وصبيّك هذا ، فقالت له : ويحك بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بيعة الشجرة على أن لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي ولا آتي ببهتان افتريه ، فما أتيت شيئاً فاتّق الله فيّ وفي ولدي ، ثم قال لابنها : يا بني والله لو كان عندي شيء لافتديتك به. قال : فأخذ الشامي برجلي الصبي والثدي في فمه فجذبه من حجرها وضرب به الحائط ، فانتثر دماغه في الأرض. قال : ولم يخرج من البيت حتى اسودّ وجهه.

وقال ابن أبي الحديد ، لمّا قدم جيش الحرة إلى المدينة وعلى الجيش مسلم بن عقبة المرّي ، أباح المدينة ثلاثاً واستعرض أهلها بالسيف جزراً ، كما

٧٨

يجزر القصّاب الغنم حتى ساخت الأقدام بالدم ، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار وذرّية أهل بدر ، وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنه عبد قنّ لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية.

قال ابن أبي الحديد : هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحرّة إلّا علي بن الحسين بن علي عليه‌السلام ، فإنّه اعظمه وأجلسه معه على سريره وكان ذلك بوصية من يزيد بن معاوية.

وذكر أبو المؤيد أبو الفداء في تاريخه قال : وأباح مسلم مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أيام يقتلون فيها الناس ويأخذون ما بها من الأموال ويفسقون بالنساء.

وعن الزهري : أنّ قتلى الحرّة كانوا سبعمائة من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار ، وعشرة آلاف من وجوه الموالي (١).

هذه أفعال يزيد وأتباعه بالاُمّة ، وكان قد حكم ثلاث سنين ، ففي السنة الأولى قتل الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي السنة الثانية أباح المدينة وقتل فيها أولاد المهاجرين والأنصار ، وأكثر فيها السفك والهتك ، وفي السنة الثالثة رمى الكعبة بالمنجنيق حتى أحرق أستار الكعبة. (٢)

__________________

(١) كانت وقعة الحرّة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستّين من الهجرة.

(٢) (فائدة) : كان جابر بن عبدالله الأنصاري يومئذ قد ذهب بصره ، فجعل ينادي في أزقّة المدينة : بعس من أخاف الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال له رجل : ومن أخاف الله ورسوله؟ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي ، فحمل رجل عليه بالسيف فترامى عليه مروان فأجاره أن يدخله منزله ويغلق عليه بابه.

(فائدة) : وهجموا على أبي سعيد الخدري داره ، وكان الذي هجم عليه نفر من أهل الشام. فقالوا له : أيها الشيخ من أنت؟ قال : أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقالوا : ما زلنا نسمع عنك قبحظك أخذت في تركك قتالنا ، وكفّك عنا ، ولزوم بيتك ، ولكن أخرج =

٧٩

لم أدر أين رجال المسلمين مضوا

وكيف صار يزيد بينهم ملكا

العاصر الخمر من لؤم بعنصره

ومن خساسة طبع يعصر الودكا (١)

* * *

أيمسي يزيد رافلا في حريره

ويمسي حسيناً عارياً في حرورها

معرى بالهجيرة لا يواري

مخلّاً عن قريب أو حبيب

__________________

= إلينا ما عندك ، قال : والله ما عندي شيء من المال. قال الراوي : فنتفوا لحيته وضربوه ضربات ، ثم أخذوا كلّما وجدوه في بيته حتى النوم حتى زوج حمام كان له.

(فائدة) : وقال شاعر المدينة مخاطباً بني أمية وهو محمّد ابن أسلم :

فإن تقتلونا يوم حرّة وأقم

فنحن على الإسلام أوّل من قتل

ونحن تركناكم ببدر أذلّة

وإبنا بأسياف لنا منكم تفل

(١) للشاعر الماهر السيد جعفر الحلي رحمه‌الله المتوفى ١٣١٥ هـ والبيتان من قصيدبه المشهورة التي استهلها بقوله :

الله أي دم في كربلاء سُفِكا

لم يجرِ في الأرض حتّى أوقف الفلكا

٨٠