ثمرات الأعواد - ج ٢

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٩
الجزء ١ الجزء ٢

قال الراوي : وأقبل القوم كلّهم عليه يدعونه الى أمرهم ويرغّبونه فيه ، فقال لهم إبراهيم بن الأشتر : فإنّي قد أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه من الطلب بدم الحسين عليه‌السلام وأهل بيته على أن تولّوني الأمر. فقالوا له : أنت لذلك أهل ولكن ليس إلى ذلك من سبيل ، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي ، وهو الرسول المأمور بالقتال ، وقد أمرنا بالطاعة ، فسكت عنهم ابن الأشتر ، ولم يجبهم.

قال : فانصرفنا من عنده إلى المختار فأخبرناه بما رد علينا ، قال : فغبر ثلاثاً ثم إنّ المختار دعا بضعة عشرة رجلاً من وجوه أصحابه ، قال الشعبي : وأنا فيهم وأبي ، قال : فسار بنا ومضى أمامنا يقدّ بنا بيوت الكوفة قدّاً لا ندري إلى أين يريد ، حتى وقف بباب دار إبراهيم بن الأشتر ، فاستأذنا عليه فأذن لنا ، وألقيت لنا الوسائد ، فجلسنا عليها وجلس المختار معه على فراشه ، وطلب منه أن ينهض معه ويشدّ عضده بهذه الدعوة ، فأجابه إبراهيم إلى ذلك.

قال أبو مخنف : حدّثني يحيى بن عيسى بن الأزدي ، قال : كان حميد ابن مسلم الأسدي صديقاً لإبراهيم بن الأشتر ، وكان يختلف إليه ويذهب به معه ، وكان إبراهيم يروح في كلّ عشية عند المساء فيأتي المختار ويمكث عنده حتى تصوب النجوم ، ثم ينصرف فمكثوا بذلك يديرون امورهم ، حتى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربعة عشر من ربيع الأول سنة ست وستّين ، ووطن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم ، هذا وقد هال أمر المختار والي الكوفة وهو عبدالله بن مطيع ، فنظم الشرطة المسلحة على مفارق الطرق والسكك وفي الجبانين ، وقد خرج إبراهيم ليلة من الليالي ومن حوله عشيرته وهم مدججون بالسلاح متقلدين السيوف قاصدين دار المختار ، وكان إبراهيم فتى حدثاً شجاعاً.

قال الراوي : فأخذ إبراهيم على طريق باب الفيل ، وإذا بياس بن مضارب ومعه الخيل والرجال قد أخذوا أفواه السكك ، فصاح بإبراهيم : من هؤلاء؟ فقال إبراهيم : أنا إبراهيم بن مالك الأشتر ، فقال له إياس ، ما هذا الجمع معك وما

١٢١

تريدون؟ والله إنّ أمرك لمريب ، وقد بلغني إنّك تمرّ كلّ عشية ههنا وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه. فقال إبراهيم : لا أبا لغيرك خلّ سبيلنا. فقال : كلا والله لا أفعل وكان مع إياس رجل من همدان يقال له أبو قطن وكان صديقاً لابن الأشتر ، فقال له ابن الأشتر : يا أبا قطن أدن منّي ، وكان مع أبي قطن رمح طويل ، فدنا منه أبو قطن ومعه الرمح ، وهو لا يرى إلّا ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب ليخلّي سبيله ، فجاء إبراهيم فتناول الرمح من يده وقال : إنّ رمحك هذا لطويل ، ثم حمل به على ابن مضارب فطعنه في ثغرة نحره فصرعه وقال لرجل من قومه : انزل فاحتزّ رأسه ، فنزل إليه واحتزّ رأسه وتفرق أصحابه ورجعوا الى ابن مطيع ، فبعث ابن مطيع ابنه راشد ابن إياس مكانه أبيه على الشرطة.

وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار ليلة الأربعاء ، فدخل عليه فقاله له إبراهيم : إنّا اتّعدنا للخروج للقابلة ليلة الخميس ، وقد حدث أمر لابدّ من الخروج الليلة ، قال المختار : وما هو؟ قال : عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسني بزعمه فقتلته وهذا رأسه مع أصحابي على الباب. فقال المختار : بشرّك الله بخير ، فهذا طير صالح ، وهذا أوّل الفتح إن شاء الله. ثم قال المختار : قم يا سعد بن منقذ واشعل في الهرادي النيران ، ثم ارفعها للمسلمين ، وقم أنت يا عبدالله بن شدّاد فناد : يا منصور أمت ، وقم أنت يا سفيان بن ليل وأنت يا قدامة بن مالك فناد : يا لثارت الحسين عليه‌السلام ، ثم قال المختار : عَلَيَّ بدرعي وسلاحي فأتى به وأخذ يلبس سلاحه وهو يقول :

قد علمت بيضاء حسناء الطلل

واضحة الخدّين عجزاء الكفل

إني غداة الروع مقدام بطل

ثم إنّ إبراهيم قال للمختار : إنّ هؤلاء الرؤوس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبانين يمنعون أخواننا أن يأتوننا ويضيّقون عليهم ، فلو إنّي خرجت بمن معي إلى قومي ودعوتهم فيأتيني كلّ من بايعك منهم وندفعهم عن مواطنهم. فقال له

١٢٢

المختار : نعم أخرج وإيّاك أن تسير إلى أميرهم تقاتله ولا تقاتل أحداً وأنت لا تستطيع أن لا تقاتل ، واحفظ ما أوصيتك به إلّا أن يبدأك أحد بقتال.

قال الراوي : فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده في الكتيبة التي أقبل فيها حتى أتى قومه ، واجتمع إليه جلّ من بايعه وأجابه ثم إنّه سار بهم في سكك الكوفة طويلاً من الليل ، وهو في ذلك يتجنّب السكك التي فيها الأمراء حتى انتهى إلى مسجد السكون ، فلقيته خيل وليس لهم قائد ، فحملوا عليهم وحمل أبراهيم وأصحابه عليهم فكشفوهم حتى دخلوا جبانة كندة ، وكانت شرطة ابن مطيع تعتدّ وتجتمع حتى انتهى ابراهيم جبانة أثير ، وقف فيها طويلاً ، ونادى أصحابه بشعارهم فجاءته الشرطة بالخيل والرجال وفي مقدّمتهم سويد بن عبدالرحمن المنقري ، فلمّا رأى ذلك ابن الأشتر ، قال لأصحابه : يا شرطة الله انزلوا فإنكم أولى بالنصر من الله من هؤلاء الفسّاق الذين خاضوا دماء أهل بيت رسول الله فنزلوا ثم شدّ عليهم إبراهيم فضربهم حتى أخرجهم إلى الصحراء وولّوا منهزمين يركب بعضهم بعضا ، وهم يتلاومون فقال قائل منهم : إنّ هذا الأمر يراد ، ما يلقون لنا جماعة إلّا هزموهم ، فلم يزل يهزمهم حتى أدخلهم الكناسة ، وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم : أتبعه وغنم ما قد دخلهم من الرعب فقد علم الله إلى الله من ندعوا وما نطلب وإلى من يدعون وما يطلبون ، فقال إبراهيم : لا أفعل ذلك.

نعم إنّ إبراهيم لمّا حارب بالكوفة قتلة الحسين عليه‌السلام كان لا يتبع مدبراً ولا يأمر بالنهب ، ولكن أهل الكوفة نهبوا يوم عاشوراء جميع ما كان في رحل الحسين عليه‌السلام وخيامه حتى الملاحف الأزر من على رؤوس الفاطميات!!

هذي تصيح أبي وتهتف ذي أخي

وتعجّ تلك بأكرم الأجداد (١)

__________________

(١) من قصيدة للشيخ أحمد النحوي المتوفى سنة ١١٨٣ هـ ومطلعها :

بأبي أبِّي الضيم لا يُعطي العدى

حذر المنيّة منه فضل قيادِ

١٢٣

المطلب الثاني والثلاثون

في محاربة المختار لأهل الكوفة

لمّا نهض المختار بالكوفة وشد أزره بإبراهيم بن الأشتر ، فكان أوّل ما صنعه المختار أن قاتل رؤساء الشرطة الذين كانوا قد وظفهم عبدالله بن مطيع ، وجعلهم على أفواه السكك ، والطرقات والجبانين ، ولمّا بان الضعف والعجز من أصحاب عبدالله بن مطيع أقبل شبث بن ربعي إلى عبدالله بن مطيع ، وقال : ابعث إلى امراء الجنابين فمرهم فليأتوك ، واجمع إليك جميع الناس ثم انهض إلى هؤلاء القوم (يعني المختار وأصحابه) وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم ، فأنّ أمر القوم قد قوى ، وقد خرج المختار وظاهر واجتمع له أمره ، فلمّا بلغ ذلك المختار من مشورة شبث بن ربعي على ابن مطيع ، خرج في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند ، ممّا يلي بستان زائدة في السبخة ، ونادى مناديه بالكوفة : يا منصور أمت ، يا لثارات الحسين عليه‌السلام ، ثم نادى المنادي : يا أيها الحي المهتدون ، ألا إنّ أمير آل محمد ووزيرهم قد خرج فنزل دير هند ، وبعثني إليكم داعياً ومبشّراً فاخرجوا إليه رحمكم الله.

قال الراوي : فخرجوا من الدور يتداعون يا لثارات الحسين عليه‌السلام وأقبلوا إلى المختار حتى نزلوا معه في عسكره ، فتوافى إلى المختار في تلك الليلة ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفاً كانوا قد بايعوه ، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر ،

١٢٤

فأصبح وقد فرغ من تعبئته.

قال حميد بن مسلم : فلمّا أصبح استقدم فصلّى بنا الغداة بغلس ، ثم قرأ والنازعات ، وعبس وتولّى ، قال : فما سمعنا اماماً أمّ قوماً أفصح لهجة منه ، قال : وبعث ابن مطيع إلى أهل الجبانين يأمرهم أن ينظموا إلى أهل المسجد ، وقال لراشد بن إياس بن مضارب ناد في الناس ، فليأتوا المسجد فنادى المنادي : ألا برئت الذمة من رجل لم يحضر المسجد الليلة فتوافى الناس فلمّا اجتمعوا بعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو ثلاثة آلاف إلى المختار ، وبعث راشد بن إياس في أربعة ألاف من الشرطة.

قال أبو سعد الصقيل : ولمّا فرغ المختار من صلاة الغداة وانصرف سمعنا أصواتاً مرتفعة فيما بين بني سليم وسكة البريد ، فقال المختار : من يعلم لنا هؤلاء ما هم؟ فقلت له : أنا أصلحك الله. فقال المختار : أما لا فألق سلاحك وانطلق حتى تدخل فيهم كأنّك نظّار ، ثم تأتيني بخبرهم ، قال : ففعلت فلمّا دنوت منهم إذا مؤذنّهم يقيم ، فجئت حتى دنوت منهم ، فإذا شبث بن ربعي معه خيل عظيمة وعلى خيله شيبان بن حريث الضبي ، وهو في الرجّالة معه منهم كثرة ، فلمّا أقام مؤذنّهم تقدّم فصلّى بأصحابه فقرأ أذا زلزلت الأرض زالزاها ، فقلت في نفسي : أما والله إني لأرجو أن يزلزل الله بكم ، وقرأ والعاديات ضبحاً ، فقال له ناس من أصحابه : لو كنت قرأت سورتين هما أطول من هاتين شيئاً ، فقال شبث : ترون الديلم قد نزلت بساحتكم وأنتم تقولون لو قرأت سورة البقرة وآل عمران.

قال : وكانوا ثلاثة آلاف ، قال : فأقبلت سريعاً حتى أتيت المختار فأخبرته بخبر شبث وأصحابه وأتاه معي ساعة أتيته سعر بن أبي سعر الحنفي يركض من مراد ، وكان ممّن بايع المختار ، فلم يقدر على الخروج معه ليلة مخافة من الحرس.

قال : فسرح المختار إبراهيم بن الأشتر ، قبل راشد بن إياس في تسعمائة ،

١٢٥

ويقال : ستمائة فارس وراجل فمضى إبراهيم إلى راشد فلقيه في مراد ومعه أربعة آلاف ، فقال إبراهيم لأصحابه ، لا يهولنكم كثرة هؤلاء فوالله لرب رجل خير من عشر ، ولرب فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين ، ثم قال : يا خزيمة بن نصر سر إليهم في الخيل ، ونزل وهو يمشي في الرجال ورأيته مع مزاحم ابن الطفيل ، فأخذ إبراهيم يقول له : ازدلف برايتك امض بها قدماً قدماً ، قال : واقتتل الناس ، فاشتد قتالهم وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس فحمل عليه فطعنه وقتله ، ثم نادى ، قتلت راشداً وربّ الكعبة.

قال : وانهزم أصحاب راشد ، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار ، وبعث النعمان بن أبي الجعد يبشّر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد ، فلمّا أن جاءهم البشير بذلك كبّروا واشتدّت أنفسهم ، ودخل أصحاب بن مطيع الفشل ، وسرّح بن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين ، واعترض ابراهيم بن الأشتر فريق الحمراء ليردّه عن من في السبخة من أصحاب بن مطيع ومشى ابراهيم نحوه في الرجال.

قال الراوي : ما أطعنّا برمح ولا اضطربنا بسيف حتى انهزموا ، رجع ابراهيم نحو المختار وإذا بشبث بن ربعي ويزيد بن أنس وأصحابه قد أحاطوا بالمختار ، فلمّا أن رأوا إبراهيم جعلوا ينكصون روائهم رويداً رويداً حتى انهزموا وتراجعوا إلى ابن مطيع ، وفي ذلك الحين استخبر ابن مطيع بقتل راشد بن أياس فأسقط في يده ..

ثم إنّ المختار جمع أصحابه وانهدّ نحو المسجد والقصر ، وكان هناك جند كثير ، فحاربهم بمن معهم ، وشتّت شملهم حتى دخل السوق هو وأصحابه وحصروا ابن مطيع في القصر ثلاثة أيام ، وكان معه الأشراف من رؤوس العسكر

١٢٦

إلّا عمرو بن حريث ، فإنّه أتى داره ولم يلزم نفسه الحصار ثم خرج حتى نزل البر ، ثم جاء المختار ونزل جانب السوق وولّى حصار القصر ابراهيم بن الأشتر ، ويزيد ابن أنس ، وأحمر بن شميط ، فكان ابن الأشتر مما يلي المسجد وباب القصر ويزيد بن أنس مما يلي بني حذيفة ، وسكة دار الروميين وأحمر بن شميط ممّا يلي دار عمارة ودار أبي موسى ، فلمّا اشتد الحصار على ابن مطيع وأصحابه كلّم الأشراف ، وقام إليهم شبث فقال له : أصلح الله الأمير انظر لنفسك ولمن معك فوالله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم. قال ابن مطيع : أشيروا عليّ برأيكم. فقال له شبث : الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أماناً ولنا وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك.

قال الراوي : ولمّا أن جنّ الليل خرج من القصر من نحو درب الروميين حتى أتى دار أبي موسى ، وخلّى القصر وفتح أصحابه الباب فقالوا له : يا ابن الأشتر آمنون نحن؟ قال : أنتم آمنون ، قال : وخرج من القصر عند ذلك وهو قصر الإمارة هذا هو القصر الذي أصعدوا مسلم بن عقيل على سطحه ورموه من أعلى السطح إلى الأرض ، هذا هو القصر الذي أدخول فيه بنات الرسالة على ابن مرجانة والسجاد مغلل ومقيّد ، فلمّا رأه ابن زياد (لعنه الله) قال : من هذا العليل؟ فقيل له : هذا علي بن الحسين. قال : أليس قد قتل الله عليّاً ... الخ.

١٢٧

المطلب الثالث والثلاثون

في بيعة أهل الكوفة للمختار

ذكر الطبري في تاريخه (١) ، قال : بعد أن فتح الله على المختار وانهزم عبدالله ابن مطيع أمير الكوفة ، وقد أخلى قصر الإمارة ـ جاء المختار حتى دخل القصر وبات به وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر ، فخرج المختار وصعد المنبر فحمدالله وأثنى عليه ، ثم قال : الحمدلله الذي وعد وليّه النصر وعدوّه الخسر ، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعداً مفعولاً وقضاء مقضياً ، وقد خاب من افترى. أيها الناس إنّه رفعت لنا راية ومدّت لنا غاية ، فقيل لنا في الراية أن ارفعوها ولا تضعوها وفي الغاية أن اجروا إليها ولا تعدوها ، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي ، فكم من ناع وناعية لقتلي في الواعية ، وبعداً لمن طغى وأدبر وعصى وكذّب وتولّى ، ألا فادخوا أيها الناس فبايعوا بيعة هدى فلا والذي جعل السماء سقفاً مكفوفاً والأرض فجاجاً سبلا ، ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب عليه‌السلام وآل علي أهدى منها ، ثم نزل فدخل القصر ودخلنا عليه.

ودخل عليه أشراف الناس فبسط يده وابتدره الناس فبايعوه ، وجعل يقول : تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلّين

__________________

(١) انظر ج ٤ ص ٤٨٧.

١٢٨

والدفع عن الضعفاء ، وقتال من قاتلنا ، وسلّم من سالمنا ، والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا نستقيلكم ، فإذا قال الرجل نعم بايعه.

قال موسى بن عامر العدوي : فكأنّي والله انظر الى المنذر بن حسان بن ضرار ، إذ أتاه حتى سلّم عليه بالإمرة ثم بايعه ، وانصرف عنه ، فلمّا خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة ، واقفاً عند المصطبة ، فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر ، قال رجل من سفائهم : هذا والله من رؤوس الجبارين فشدّوا عليه وعلى ابنه فقتلوهما ، فصاح بهم سعيد بن منقذ لا تعجّلوا حتى ننظر ما رأي أميركم فيه.

قال : وبلغ المختار بذلك فكرهه ، حتى رؤي ذلك وجهه ، وأقبل المختار يمنّي الناس ويستجر مودّتكم ومودة الأشراف ، ويحسن السيرة جهده قال : وجاء ابن كامل فقال للمختار : أعلمت أنّ ابن مطيع في دار أبي موسى ، فلم يجبه بشيء ، فأعاده عليه ثلاثاً فلم يجبه ، فظن ابن كامل أنّ ذلك لا يوافقه وكان المختار قبل هذا صديقاً لابن مطيع ، فلمّا أمسى بعث الى ابن مطيع بماءة ألف درهم ، وبعث إليه تجهّز هذه الليلة وأخرج ، فإنّي قد شعرت بمكانك وقد ظننت أنّه لم يمنعك من الخروج إلّا أنّه ليس في يديك ما يقويك على الخروج ، فأخذها ومضى إلى البصرة وأصاب المختار تسعة آلاف ألف في بيت المال بالكوفة ، فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حاصر ابن مطيع في القصر وهو ثلاثة ألف وثمانمائة رجل كل رجل خمسمائة درهم ، وأعطى ستّة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر ، فأقاموا معه تلك الليلة وتلك الثلاثة أيام حتى دخل القصر مائتين مائتين واستقبل الناس بخير ومناهم العدل وحسن السيرة ، وأدنى منه الأشراف فكانوا جلساءه وحداثه ، واستعمل على شرطته عبدالله بن كامل الشاكري ، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة مولى عرينة ، فقام ذات يوم على رأسه فرأى الأشراف يحدثونه

١٢٩

ورآه قد أقبل بوجهه وحديثه عليهم ، فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي : أما ترى أبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا ، فدعاه المختار ، وقال له : ما يقول لك اولئك الذين رأيتهم يكلّمونك؟ فقال له وأسرّ إليه : شقّ عليهم أصلحك الله صرفك وجهك عنهم إلى العرب ، فقال له قل لهم لا يشقّنّ ذلك عليكم ، فأنتم منّي وأنا منكم ، ثم سكت طويلاً ثم قرأ (إنا من المجرمين منتقمون) فسمعها الموالي منه ، فقال بعضهم لبعض : ابشروا كأنّكم والله به قد قتلهم.

قال الراوي : لمّا ظهر المختار واستمكن ، ونفى ابن مطيع ، وبعث عمّاله إلى الآفاق (١) جعل يجلس للناس غدوة وعشية يمضي بين الخصمين ، ثم قال : والله إنّ لي فيما إزاول وأحاول لشغلاً عن قضاء بين الناس ، قال : فأجلس للناس شريحاً (٢) وقضى بين الناس ، ثم إنّه خافهم فتمارض وسمعهم يقولون : إنّه

__________________

(١) ذكر الطبري في تاريخه قال : أول رجل عقد له المختار راية عبدالله بن الحارث أخو الأشتر عقد له على أرمينية ، وبعث محمد بن عمير بن عطارد على آذربيجان ، وبعث عبدالله بن سعيد بن قيس على الموصل ، وبعث اسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخي ، وبعث قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري وهو حليف لثقيف على بهقباذ الأعلى ، وبعث محمد بن كعب بن قرطة على بهقباذ الأوسط ، وبعث حبيب بن منقذ الثوري على بهقباذ الأسفل ، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان ، وكان مع سعد بن حذيفة ألفا فارس بحلوان ، قال : ورزقه ألف درهم في كل شهر وأمره بقتال الأكراد وبإقامة الطرق ، وكتب إلى عماله في الجبال يأمرهم أن يحملوا أموال كورهم الى سعيد بن حذيفة بحلوان.

(٢) شريح القاضي أبو أمية بن الحرث بن المشجع ، كان من كبار التابعين ، وأدرك الجاهلية ، واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة ، فأقام قاضياً خمس وسبعين ، ولم يتعطل فيها إلّا ثلاث سنين ، امتنع فيها من القضاء في فتنة ابن الزبير ، استعفى الحجاج بن يوسف من القضاه فأعفاه ، ولم يقض بين اثنين حتى مات ، ولم يكن على وجهه طاقة شعر ، وسخط عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّة فطرده من الكوفة ، ولم يعزله عن القضاء وأمره أن يقيم ببانقيا ، =

١٣٠

عثماني ، وإنه ممن شهد على حجر بن عدي ، وإنه لم يبلغ عن هاني بن عروة ما أرسله به ، وقد كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام قد عزله عن القضاء ، فلما أن سمع بذلك ورآهم يذمونه ويسندون إليه مثل هذا القول ، تمارض وجعل المختار مكانه عبدالله بن عتبة بن مسعود (١).

__________________

= وكانت قرية من الكوفة أكثر سكانها اليهود ، وبالجملة فالأخبار في خباثة رأي هذا الرجل وسوء عاقبته كثيرة ، توفي سنة سبع وثمانين من الهجرة وهو ابن مائة سنة وقيل سنة ست وسبعين وهو بن مائة وعشرين سنة (روضات الجنات).

(١) (فائدة) : نظم عبدالله بن همام قصيدة وجاء بها إلى المختار بعد أن استتب الأمر بالكوفة يصف بها ثورة المختار ، ومن تبعه من القبائل ، فأنشدها بمجلس المختار منها :

وفي ليلة المختار ما يذهل الفتى

ويلهيه عن رود الشباب شموع

دعا يا لثارات الحسين وأقبلت

كتائب من همدان بعد هزيع

ومن مذحج جاء الرئيس بن مالك

يقود جموعاً عبيت بجموع

ومن أسد وافى يزيد لنصره

بكل فتى حامي الذمار منيع

وجاء نعيم خير شيبان كلها

بأمر لدى الهيجاء أحد جميع

وما ابن شيمط إذ يحرض قومه

هناك بمخذول ولا بمضيع

ولا قيس نهد لا ولا ابن هوازن

وكل أخو اخباته وخشوع

وسار أبو النعمان لله سعيه

الى ابن أياس مصحراً لووقع

بخيل عليها بوم هيجا دروعها

وأخرى حسوراً غير ذات دروع

فكرّ عليهم كرة ثقفتهم

وشدّ بأولاها على ابن مطيع

فولّى بضرب يشدخ الهام وقعه

وطعن غداة السكتين وجيع

فحوصر في دار الإمارة بائياً

بذّل وارغام له وخضوع

فمن وزير ابن الوصي عليهم

وكان لهم في الناس خير شفيع

وآب الهدى حقاً إلى مستقره

بخير إياب آبه ورجوع

إلى الهاشمي المهتدى المهتدى به

فنحن له من سامع ومطيع

ولهذه القصيدة ذكر في تاريخ الطبري وما جرى بعد إلقائها اختلاف القول والثورة ، راجعها في محلها للطبري : ٧ / ١١١.

١٣١

نعم كلّ ما تكلم أهل الكوفة في شريح القاضي فهو صحيح ، وكأنّ فاتهم انه كان يجالس ابن زياد في قصر الإمارة وهو الذي ردّ مذحج عن ابن زياد ، وكذب عليهم حين حبس عنده هاني بن عروة وهو أيضاً من جملة من أفتى بقتل الحسين عليه‌السلام ورضي بما فعله يزيد وابن مرجانة وأهل الكوفة بسيّد شباب أهل الجنّة ، ولم ينكر عليهم لا بيده ولا بلسانه ، قتلوا الحسين عليه السلام وأجروا الخيل على صدره وظهره ، وقطعوا رأسه وحملوه على رأس رمح ، فما أنكر الخيبث على أهل الكوفة فعلهم ، وكذلك لمّا سبوا بنات الرسالة ، وادخلوهنّ الكوفة مربّقات بالحبال ما أنكر ذلك ، ورأى ابن مرجانة ينكث ثغر الحسين عليه‌السلام بعود الخيزران ما أنكر ذلك ، قال الشاعر :

كحلت بمنظرك العيون عماية

وأصمّ رزئك كلّ اُذن تسمع

رأس ابن بنت محمّد ووصيّه

للناظرين على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع

لا منكر منهم ولا متفجع (١)

__________________

(١) الأبيات للشاعر الكبير دعبل بن علي الخزاعي رحمه‌الله.

١٣٢

المطلب الرابع والثلاثون

في ثورة أهل الكوفة على المختار

لمّا جاء ابن زياد إلى حرب التوّابين ، ووقعت واقعة وجرى ما جرى على التوابين ، مكث ابن زياد في بادية الموصل ، وفي ذلك الحين هلك مروان بن الحكم في مستهل شهر رمضان سنة خمس وستّين ، وولّى بعده ابنه عبدالملك ، فأقر ابن زياد على ما كان أبوه ولّاه ، أقبل إلى الموصل وكان بها عبدالرحمن بن سعيد فكتب إلى المختار يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل ، فندب المختار يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة آلاف اختارهم يزيد ، وأمر المختار عبدالرحمن ابن سعيد أن خل بين يزيد وبين البلاد ، فسار يزيد إلى المدائن ، ثم إلى أرض الموصل ، فنزل بها وبلغ خبره ابن زياد ، فجز سريتين أحداهما مع ربيعة بن مخارق ثلاثة آلاف ، والاخرى مع عبدالله بن حملة ثلاثة آلاف ، فسبق ربيعة بن مخارق الى يزيد بن أنس فالتقيا في أرض الموصل ، مما يلي الكوفة فتواقفا ويزيد ابن أنس مريض ، ثم اقتتلوا هم والشاميون يوم عرفة سنة ست وستّين عند اضاءة الصبح ، ففرّ الشاميون قتل أميرهم ربيعة ، واحتاز جيش المختار ما في معسكرهم ورجع فرارهم ، فلقوا الأمير الآخر عبدالله بن حملة فأخبروه فرجع بها وسار نحو يزيد بن أنس ، فانتهى إليهم عشاءاً فبات الناس متحاجزين.

ولمّا أصبحوا يوم الأضحى من سنة ست وستّين اقتتلوا قتالاً شديداً ، ثم

١٣٣

نزلوا فصلّوا الظهر ، ثم عادوا إلى القتال ، فهزم جيش المختار جيش الشام أيضاً وقتلوا أميرهم عبدالله بن حملة ، واحتووا على ما في معسكرهم ، وأسروا منهم ثلاثمائة أسير ، فجاؤا بهم إلى يزيد بن أنس وهو بآخر رمق ، فأمر بقتلهم فضربت أعناقهم ، ومات يزيد بن أنس من يومه ذلك آخر النهار ، وكان قد استخلف ورقاء بن عامر ، فدفنه ورقاء وسقط في أيدي أصحابه وجعلوا يتسلّلون راجعين إلى الكوفة ، واتّفق رأي الأمراء على الرجوع إلى الكوفة ، فأرجف أهل الكوفة بالمختار ، وقالوا : قتل يزيد بن أنس في المعركة وانهزم جيشه وعمّا قليل يقوم ابن زياد فيستأصلنا ، وتمالؤوا على المختار وقتاله ، وإخراجه من بين أظهرهم ، وقالوا : هو كذّاب وانتظروا حتى خرج إبراهيم بن الأشتر فإنّه قد عيّنه المختار وأمره على سبعة آلاف للقاء عبيدالله بن زياد.

فلمّا خرج إبراهيم بن الأشتر اجتمع أشراف أهل الكوفة ممّن كان في جيش قاتلي الحسين عليه‌السلام وغيرهم في دار شبث بن ربعي (١) وكان شيخهم وكان

__________________

(١) شبث بن ربعي على مارواه ابن حجر العسقلاني في الإصابة روى الحديث عن أبيه مالكاً وإن مالك رواه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وذكر اليافعي في مرآة الجنان ، قال سيّد نخع وفارسها وقد ناضل الأمويين بجهده حتى فتل في الواقعة بدير الجاثليق ، من طسوج مسكن قريب من ـ أرانا ـ على نهر دجّيل في غربي بغداد ، وقتل فيها مصعب بن الزبير وكانت سنة اثنتين وسبعين للهجرة ، ولقد أحسن العلامة الشيخ محمد على الأردوبادي حيث يقول مادحاً لإبراهيم بن الأشتر رحمه‌الله :

في نجدة ثقفية يسطوا بها

في الروع من نخع هزبر ضاري

الندب إبراهيم من رضخت له

الصيد الأُباة بملتقى الآصار

من زانه شرف الهوى من سؤدد

وعلى يفوح لها إريح نجار

حشوا الدروع أخي حجي لم يحكه

هضب الرواسي الشم في المقدار

إن يحكه فالليث في حملاته

والغيث في تسكابه المدرار

١٣٤

جاهلياً إسلامياً وأجمعوا رأيهم على قتال المختار ، ثم وثبوا فركبت كل قبيلة مع أميرها في ناحية من نواحي الكوفة ، وقصدوا قصر الإمارة.

وبعث المختار قاصدا مجدّاً إلى إبراهيم بن الأشتر ليرجع إليه سريعاً ، وأرسل المختار إلى اولئك يقول لهم : ماذا تنقموا مني ، فإنّي اجيبكم إلى جميع ما تطلبون ، وإنّما يريد أن يثبّطهم عن المناهضة ، وقال : إن كنتم لا تصدقونني في أمر محمّد بن الحنفية فابعثوا من جهتكم وابعث من جهتي ، ولم يزل يطاولهم حتى قدم ابراهيم بن الأشتر بعد ثلاث ، فاقتسم هو وابراهيم الناس فريقتين تكفّل المختار بأهل اليمين وتكفّل إبراهيم ابن الأشتر بمضر ، وعليهم شبث بن ربعي ، واقتتل الناس من نواحي الكوفة قتالاً عظيماً ، وكثرت القتلى بين الفريقين ، وقتل جماعة من الأشراف منهم عبدالرحمن بن سعيد بن قيس الكندي وسبعمائة وثمانين رجل من قومه ، وقتل من مضر بضعة عشر رجلاً في ذلك اليوم وكانت

__________________

او يحوه فقلوب آل محمّد

المصطفين السادة الأبرار

ما إن يحضّ عند اللقا في غمرة

إلّا وأرسب من سطا بغمار

أويمم الجلي بعزم ثاقب

إلّا ورد شواضها بأوار

المرتدي حلل المديج مطارفا

والممتطي ذللا بكلّ فخار

وعليه كلّ الفضل قصر كلّما

كلّ الثنا قصر على المختار

وابن عبدالبر في الإستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة واللفظ لابن حجر قال : شبث بفتح أوّله والموحدة ، ثم مثله ابن ربع التميمي اليربوعي ، أبو عبدالقدوس ، له أدراك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورواية عن حذيفة وعن علي عليه‌السلام ، وقال الدار قطني : يقال إنّه كان مؤذّن سجّاع لمّا ادّعت النبوّة ، ثم راجع الإسلام. وقال ابن الكلبي : كان من أصحاب علي عليه‌السلام في صفين ، ثم صار مع الخوارج ، ثم تاب ، ثم كان فيمن قاتل الحسين بن علي عليه‌السلام. وقال الغجلي : كان أول من أعان على قتل علي بن أبي طالب ، وبئس الرجل هو. وقال معمر عن أبيه عن أنس ، قال : قال شبث : أنا اول من حرر الحرورية ، وكان فيمن كتب إلى الحسين عليه‌السلام أمّا بعد : فقد أخضر الجناب وأينعت الثمار إلى آخره.

١٣٥

النصرة للمختار ، وأسر خمسمائة فعرضوا عليه ، فقال انظروا من كان منهم شهد مقتل الحسين عليه‌السلام فاقتلوه فقتل منهم مائتان وأربعون رجلا وقتل أصحابه مهم من كان يؤذيهم ويسيء إليهم بغير أمره ، ثم أطلق من بقي منهم.

أقول : هذا أول يوم أخذ المختار فيه بثار الحسين عليه‌السلام من أهل الغدر والكفر ، وبعدها أخذ يقتل كل من حضر طف كربلاء ويهدم داره. قال أرباب التاريخ : فتتبعهم حتى أكثر فيهم القتل ، ولكنّنا ننتظر في الحقيقة اليوم الذي ينادي فيه المنادي : ظهر إمامكم فاتّبعوه يظهر عليه‌السلام ويأخذ بثارات أهل بيته.

متى ينجلي ليل النوى عن صبيحة

نرى الشمس فيها طالعتنا من الغرب

١٣٦

المطلب الخامس والثلاثون

في ما فعله المختار بقتلة الحسين عليه‌السلام

ذكر أرباب التاريخ أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، لمّا ثار عليه أهل الكوفة وحاربهم ونصره الله عليهم وقتل منهم من قتل ، وأطلق من أطلق منهم ، فنادى آنئذ مناديه : من أغلق بابه فهو آمن إلّا من شرك في دماء آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتتبع المختار قتلة الحسين عليه‌السلام ، فكانوا يؤتون حتى يوقفوا بين يديه فيأمر بقتلهم أنواعا من القتلات بما يناسب ما فعلوا ، ومنهم من أحرقه بالنار ، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات ، ومنهم من رمى بالنبال حتى مات.

قال الراوي : وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممّن شهد قتل الحسين عليه‌السلام ، فركب راحلته وهرب فلا يدري أين ذهب ، وقيل : أدركه أصحاب المختار فذبحوه ، لعنه الله.

قال : وهرب شمر بن ذي الجوشن ، فبعث المختار في أثره غلاماً يقال له زريب ، كما روى ابن كثير : قال الطبري : فقلته شمر وسار ، وكتب إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة يتذرع بقدومه عليه ، وكان كل من فر من هذه الوقعة (وقعة الكوفة) يهرب إلى مصعب بالبصرة ، وبعث شمر الكتاب مع علج آخر ، وطلب

١٣٧

منه أن يذهب إلى سيّده ، وكان أبو عمرة وهو صاحب المختار أرسله إلى قرية يقال لها الكلتانية ، ليكون مسلحة بينه وبين أهل البصرة ، فقصده أبو عمرة ودلّه العلج على مكانه في قرية بإزاء قريته ، فلمّا كان الليل كابسه أبو عمرة وأصحابه فأعجلهم أن يلبسوا أسلحتهم ، وطاعنهم شمر برمحه عريان وكان أبرص ثم دخل خيمته ، واستخرج منها سيفاً ، فناضل به حتى قتله أبو عمرة وألقى شلوه الى الكلاب ، عليه اللعنة.

وبعث المختار إلى خولي بن يزيد الأصبحي الذي رام أن يحزّ رأس الحسين عليه‌السلام فأرعد فخرجت إليهم امرأته فسألوا عنه ، فقالت : لا أدري أين هو ، وأشارت بيدها إلى المكان الذي هو فيه مختب وهو بيت الخلاء ، وكانت تبغضه من الليلة التي قدم بها إليها ومعه رأس الحسين عليه‌السلام واسمها (العيوف بنت مالك الحضرمي) ، فدخلوا فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة (١) فحملوه الى المختار ، فأمر بقتله قريباً من داره وأن يحرق بعد ذلك فقتلوه بجانب أهله ، ثم دعا المختار بنار فحرقه ، ولم يبرح المختار حتى عاد رماداً ، لعنه الله ، ثم انصرف إلى محلّه.

قالوا : ودلّ المختار على عبيدالله بن أسيد الجهني ومالك بن النسر (٢) وحمل مالك المحاربي بالقادسية فأحضرهم فأمر بقطع يدي مالك بن النسر ورجليه وتركه يضطرب حتى مات ، وقتل الآخرين.

قال الراوي : ثم أحضر زياد بن مالك الضبعي ، وعمران بن خالد القشيري ،

__________________

(١) القوصرة وعاء يكون من سعف النخيل للتمر.

(٢) مالك بن النسر هو الذي ضرب الحسين عليه‌السلام بسيفه وكان على رأس الحسين عليه‌السلام برنساً فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين عليه‌السلام لا أكلت بيمينك ولا شربت بها.

١٣٨

وعبدالرحمن بن أبي خشكارة البجلي ، وعبدالله بن قيس الخولاني ، وكانوا قد نهبوا الورس (١) الذي كان في خيم الحسين عليه‌السلام ، فقتلهم ، عليهم لعائن الله.

واحضر عبدالله وعبدالرحمن ابني طلحة وعبدالله بن وهيب الهمداني ابن عم الأعشى فقتلهم.

وأحضر عثمان بن خالد الجهني ، وأبا أسماء بشر بن شميط القابضي ، وكانا مشتركين في قتل عبدالرحمن بن عقيل وسلبه ، فقتلهما وحرقهما بالنار ، عليهما لعنة الله.

وأمر بإحضار حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي وكان هذا اللعين رمى الحسين عليه‌السلام بسهم وكان يقول : تعلّق سهمي بسرباله وما ضرّه ، وأصاب سلب العباس بن علي عليه‌السلام ، قال الراوي : فاستغاث أهله بعدي بن حاتم ، فازدحم عليه الشيعة وقتلوه قبل أن يصل الى المختار خوفاً من شفاعة عدي ، فرموه بالس بن علي عليه‌السلام ، قال الراوي : فاستغاث أهله بعدي بن حاتم ، فازدحم عليه الشيعة وقتلوه قبل أن يصل إلى المختار خوفاً من شفاعة عدي ، فرموه بالسهام حتى صار كالقنفذ فهلك عليه اللعنة.

وبعث المختار على مرّة بن منقذ العبديى ، قاتل علي بن الحسين الأكبر عليه‌السلام فأحاطوا بداره فدافع عن نفسه فضرب على يده اليسرى ونجى منهم لمّا هرب ، ثم لحق بمصعب بن الزبير وقد شلت يده.

وأرسل المختار على زيد بن ورقاء الذي قتل عبدالله بن مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، فلمّا أحاط الطلب بداره خرج يقاتلهم ودافع بالسيف عن نفسه فرموه بالنبل والحجارة حتى سقط وأحرقوه حيّاً ، عليه لعنة الله.

وأرسل المختار خلف محمد بن الأشعث وكان في قرية إلى جنب

__________________

(١) الورس شيء أحمر يشبه سحيق الزعفران.

١٣٩

القادسية ، فأرسل عليه المختار مائة رجل وأحاطوا بقصره ، فخرج منه محمّد بحيث ما رآه أحد ولحق بمصعب بن الزبير ، فعمد المختار إلى داره بالكوفة فهدمها.

وطلب عمرو بن صبيح الصيداني وكان يقول : إني طعنت برمحي يوم عاشوراء وجرحت وما قتلت منهم أحداً ، فأحضر عند المختار وأمر به فطعن بالرماح حتى هلك ، عليه اللعنة.

وتطلب سنان بن أنس الذي كان يدّعي قتل الحسين عليه‌السلام فوجدوه قد هرب الى البصرة.

وطلب آخرين من المتهمين بقتل الحسين عليه‌السلام فوجدهم قد هربوا إلى البصرة ولحقوا بمصعب بن الزبير ، فامر المختار بهدم دورهم وهكذا صنع بكلّ من هرب من هؤلاء إلى البصرة والجزيرة فهدّمت داره حتى روي أنّه قتل ثمانية عشر ألفاً ممّن شرك في قتل الحسين عليه‌السلام.

وأمّا ما كان من أمر حرملة بن كاهل عليه اللعنة قاتل عبدالله الرضيع ، حدّث المنهال بن عمر قال : دخلت على زين العابدين سيدي ومولاي اودّعه وأنا اُريد الأنصراف من مكة ، فقال : يا منهال ما فعل حرملة بن كاهل؟ فقلت : تركته حيّاً بالكوفة ، فرفع يديه جميعاً وقال : اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه حرّ النار. قال المنهال : ولمّا قدمت الكوفة والمختار بها ، فركبت إليه فلقيته خارجاً من داره ، فقال : يا منهال لم تشركنا في ولايتنا هذه؟ قال : فعرّفته أنّي كنت بمكة ، فمشى حتى أتى الكناس ووقف كأنّه ينتظر شيئاً فلم ألبث أن جاء قوم وهم ينادون : البشرى أيها الأمير ، فقد أخذ حرملة. قال : فجيء به ، فقال له المختار : لعنك الله ، الحمد لله الذي أمكنني منك ، ثم صاح الجزار الجزار ، فأُتي بجزار فأمر بقطع يديه

١٤٠