ثمرات الأعواد - ج ٢

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٩
الجزء ١ الجزء ٢

عيسى بن زيد ، فإنّه يقبح لمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه ، فدافعني عن ذلك مدّة ، وقال : إنّ هذا يثقل عليه ، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إيّاه فتزعجه ، قال : فلم إزل به اداريه وألطف له حتى طابت نفسه لي بذلك فجهّزني إلى الكوفة ، وقال لي : إذا صرت إليها فاسئل عن دور بني حي ، فإذا دللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية وسترى في السكة دار لها باب صفته كذا وكذا فاعرفه واجلس بعيداً منها إلى أول السكة ، فإنّه سيقبل عليك من المغرب كهل طويل مسنون الوجه ، قد أثر السجود في جبهته ، عليه جبّة صوف يستقي الماء على جمل لا يضع قدماً ولا يرفعها إلّا ذكر الله عزّوجلّ ودموعه تنحدر ، فقم وسلّم عليه وعانقه ، فإنّه سيذعر منك كما يذعر الوحش ، فعرّفه نفسك وانتسب له يسكن إليك ويحدّثك طويلاً ، ويسألك عنّا جميعاً ، ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه ، ولا تطل عليه وودّعه فإنّه سوف يستعفيك من العود إليه ، فافعل ما يأمرك به ، فإنّك إن عدت إليه توارى عنك واستوحش منك وانتقل عن موضعه ، وعليه في ذلك مشقّة ، فقلت : أفعل كما أمرتني ، ثم جهّزني إلى الكوفة ، وودّعته وخرجت.

فلمّا وردت الكوفة قصدت سكّة بني حي بعد العصر ، وجلست خارجها بعد أن عرفت الباب الذي نعته لي ، فلمّا غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل وهو كما وصفه لي أبي ، لا يرفع قدماً ولا يضعها إلّا حرّك شفتيه بذكر الله عزّوجلّ ودموعه ترقرق في عينيه وتذرف أحياناً ، فقمت إليه وعانقته فذعر منّي كما يذعر الوحش من الإنس ، فقلت : يا عمّ أنا يحيى بن الحسين بن زيد بن أخيك ، فضمّني إليه وبكى حتى قلت قد جاءت نفسه ، ثم أناخ جمله وجلس معي فجعل يسألني عن أهله رجلا رجلا وامرأة امرأة وصبيّا صبيّا وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي ، قال : يا بني استقي على هذا الجمل الماء فاصرف ما اكتسب ، يعني من أجرة الجمل إلى صاحبه واتقوّت باقيه ، وربّما عاقني عن استقاء

١٨١

الماء فأخرج إلى البرية يعني بظهر الكوفة فألتقط ما يرمي الناس من البقول فأتقوّت به ، وتزوّجت ابنته وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا فولدت منّي بنتاً فنشأت وبلغت وهي لا تعرفني أيضاً ولا تدري من أنا ، فقالت لي اُمّها : زوّج ابنتك بابن فلان السقاء لرجل من جيراننا يسقي الماء ، فإنّه أيسر حالاً منّا وقد خطبها وألحّت عَلَيَّ فلم أقدر على إخبارهم بأنّ ذلك غير جائز ولا هو بكفؤ لها ، فيشيع خبري ، وجعلت تلحّ عَلَيَّ فلم أزل استكفي الله أمرها ، حتى ماتت بعد أيام فما أحد آسى على شيء من الدنيا آساي على إنّها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم أقسم عَلَيَّ انصرف ولا أعود إليه ، وودّعني.

فلمّا كان بعد ذلك صرت إلى الموضع الذي أنتظره فيه فلم أره ، وكان هذا آخر عهدي به ، ولمّا طال تخفيه وتواريه ، وأمر المهدي العباسي أن ينادى في الكوفة بالأمان لعيسى ، فسمع منادياً ينادي : ليبلّغ الشاهد الغائب أن عيسى بن زيد آمن في ظهوره وتواريه ، فرأى عندئذ عيسى بن زيد بن الحسن بن صالح وقد ظهر فيه سرور بذلك ، فقال له : كأنك قد سررت بما سمعت؟ فقال : نعم ، قال له عيسى : والله لإخفاتي إيّاهم ساعة واحدة أحبّ إليّ من كذا وكذا.

وحدّث يعقوب بن داود قال : دخلت مع المهدي في قبّة في بعض الخانات في طريق خراسان ، فإذا حايطها عليه أسطر مكتوب ، فدنا ودنوت منه فإذا هي هذه الأبيات :

والله ما أطعم طعم الرقاد

خوفاً إذا نامت عيون العباد

شرّدني أهل اعتداء وما

أذنبت ذنباً غير ذكر المعاد

آمنت بالله ولم يؤمنوا

فكان زادي عندهم شرّ زاد

أقول قولاً قاله خائف

مطرد قلبي كثير السهاد

منخرق الخفّين يشكو الوجا

تنكبه أطراف سمر حداد

١٨٢

شرّده الخوف فأزرى به

كذاك من يكره حرّ الجلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

قال يعقوب بن داود : فجعل المهدي يكتب تحت كل بيت : لك الأمان من الله ومني فاظهر متى شئت ، حتى كتب ذلك تحتها أجمع ، فالفتف فإذا هو دموعه تجري على خدّيه ، فقلت له : من ترى قائل هذا الشعر يا أمير المؤمنين؟ قال : أتتجاهل عليَّ من عسى قائل هذا الشعر إلّا عيسى بن زيد.

وذكر أبو الفرج أنّ المنصور طلب عيسى طلباً ليس بالحثيث ، وطلبه المهدي وجدّ في طلبه حيناً فلم يقدر عليه ، فنادى بأمانه ليبلغه فيظهر ، فبلغه فلم يظهر ، وبلغه أنّ له دعاة ثلاثة ، وهم : ابن علاق الصيرفي ، وحاضر مولى لهم ، وصباح الزعفراني ، فظفر المهدي بحاضر فحبسه وعّره ورفق به وأشتدّ عليه ليعرفه موضع عيسى ، فلم يفعله فقتله ، ومكث طول حياة عيسى يطلب صباحاً وابن علاق ، فلم يظفر بهما حتى إذا مات عيسى عليه الرحمة ، قال صباح للحسن ابن صالح : أما ترى هذا العذاب والجهد الذي نحن فيه بغير معنى ، قد مات عيسى ابن زيد ومضى لسبيله ، وإنّما نطلب خوفاً منه وإذا علم أنّه قد مات آمننا فدعني آتي هذا الرجل ـ يعني المهدي ـ وأخبره بوفاته حتى نتخلّص من طلبه لنا. فقال : لا والله لا نبشّر عدو الله بموت ولي الله وابن نبيّ الله ولا تقر عينه فيه ونشمته ، فوالله إنّ ليلة أبيتها خائفاً منه أحبّ إليّ من جهاد السنة وعبادة بها.

قال أبو الفرج : ومات الحسن بن صالح بعد وفاة عيسى بشهرين ، قال صباح الزعفراني : ولمّا مات الحسن بن صالح أخذت أحمد بن عيسى وأخاه زيداً وجئت بهما إلى بغداد فجعلتهما في موضع أثق به عليهما ، ثم لبست أطماراً وجئت إلى دار المهدي ، فسألت عن الربيع وأدخلت عليه وسألتي فقلت له : إنّ عندي بشارة تسرّ الخليفة وبعد السؤلات الكثيرة استأذن لي على المهدي ، فأذن لي وأدخلت

١٨٣

عليه ، فقال : أنت صباح الزعفراني؟ قلت : نعم ، قال : فلا حيّاك الله ولا بيّاك ولا قرّب دارك يا عدوّ الله ، أنت الساعي على دولتي والداعي على اعدائي ، ثم تجيئني الآن؟ فقلت : إني جئتك مبشّراً ومعزياً. قال : مبشّراً بماذا ومعزياً بماذا؟ قلت : أمّا البشرى فبوفاة عيسى بن زيد ، وأما التعزية فبه لأنّه ابن عمّك ولحمك ودمك.

قال : فحول وجهه الى المحراب وسجد ثم التفت إليّ وقال : إلى منذ كم مات؟ قلت : منذ شهرين. قال : أفلم تخبرني بوفاته إلى الآن ، قلت : منعني الحسن ابن صالح. فقال : وما فعل الحسن؟ قلت : مات ولو لا ذلك ما وصل إليك الخبر ، فسجد سجدة اُخرى وقال : الحمدلله الذي كفاني أمره ، فلقد كان أشدّ الناس عليّ ولعلّه لو عاش لأخرج على غير عيسى ، قال : ثم التفت إليّ وقال لي : سل حاجتك. قلت : والله لا أسألك شيئاً إلّا حاجة واحدة. قال : وما هي؟ قلت : ولد عيسى بن زيد ، والله لو كنت أملك ما أعولهم به ما سألتك في أمرهم ولا جئتك بهم أطفال يموتون جوعاً وضرّاً وليس لهم الآن من يكفلهم غيري وأنا عاجز عن ذلك وهم عندي في ضنك وأنت أولى الناس بصيانتهم وأحقّ بحمل ثقلهم ، فهم لحمك ودمك وأيتامك وأهلك ، قال : فبكى حتى جرت دموعه ثم قال : إذاً يكونون والله عندي بمنزلة ولدي لا وأوثر عليهم أحداً.

قال : فجئت بهما إليه ، فلمّا نظر إليهما جعل يبكي رقّة لهما وليتمهما.

فهذا المهدي لمّا نظر إلى ولدي عيسى بن زيد وهما صبييّن بكى رقّة لهما وليتمهما.

أقول : لعن الله أهل الكوفة فإنّهم ما رقّوا لأيتام الحسين عليه‌السلام ، قالت سكينة : كلّما دمعت من أحدنا عين قرعوا رأسها بالرمح :

وإذا حنّ في السبايا يتيم

جاوبته أرامل ويتاما

١٨٤

المطلب السادس والأربعون

في ترجمة يحيى بن زيد ومقتله عليه‌السلام

ذكر دعبل بن علي الخزاعي في قصيدته التائية قبور الأئمة وأولادهم عليهم‌السلام ، فمن تلك القبور قبر يحيى بن زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام ، قال فيه :

واخرى بأرض الجوزجان محلّها

واُخرى بباخمرا لدى الغربات

فالذي في جوزجان (١) هو قبر يحيى بن زيد عليه‌السلام الذي خرج في زمن الوليد ابن يزيد الأموي عليه اللعنة.

ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتابه مقاتل الطالبيين قال : لمّا قتل زيد بن علي ابن الحسين عليه‌السلام ودفنه ابنه يحيى ، رجع يحيى وأقام بجانبه السبيع وتفرّق الناس عنه ، فلم يبق معه إلّا عشرة نفر ، وقد خرج بهم بعد ذلك الى نينوى ، ثم من نينوى إلى المدائن وهي إذ ذاك طريق الناس إلى خراسان ، ولمّا بلغ ذلك يوسف بن عمر وسرّح في طلبه ابن أبي الجهم الكلبي ، فورد المدائن وقد فاته يحيى ومضى حتى أتى إلى الري ثم إلى سرخس ، ثم خرج منها وسار إلى بلخ ، ونزل على الجريش ابن عبدالرحمن الشيباني ، فلم يزل عنده حتى هلك هشام بن عبدالملك وولي بن

__________________

(١) الجوزجان اسم كورة واسعة من كور بلخ واقعة بين مروالروذ وبلخ ، ويقال لقصبتها اليهودية.

١٨٥

يزيد لعنه الله ، وكتب يوسف بن عمرو إلى نصر بن سيار ، وهو عامل على خراسان يقول في الكتاب : ابعث إلي الجريش حتى يأخذ يحيى بن زيد أشدّ الأخذ.

فبعث نصر إلى عقيل بن معقل الليثي وهو عامل على بلخ أن يأخذ الجريش ولا يفارقه حتى تزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بن زيد ، فدعا به وضربه ستمائة سوط ، وقال : والله لأزهقن نفسك أو تأتيني به ، فقال : والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه ، فاصنع ما أنت صانع ، فوثب قريش بن الجريش وقال لعقيل : لا تقتل أبي وأنا آتيك بيحيى! فوجّه جماعة فدلهم عليه وهو في بيت في جوف بيت فأخذ عقيل إلى نصر بن سيار فحبسه وقيّده وجعله في سلسلة من حديد وكتب إلى يوسف بن عمر فأخبره بخبره وقال عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر يهجوا بني ليث ويذكر ما صنع بيحيى بن زيد :

أليس بعين الله ما تفعلونه

عشية يحيى موثق بالسلاسل

ألم تر ليثاً ما الذي حتمت به

لها الويل في سلطانها المتزايل

لقد كشف للناس ليث عن استها

أخيراً وصارت ضحكة في القبائل

كلاب عوت لا قدّس الله أمرها

فجائت بصيد لا يحلّ لآكل

قال أبو الفرج : وكتب يوسف بن عمرو إلى الوليد (لعنه الله) يعلمه بذلك ، فكتب إليه يأمره أن يؤمنه ويخلي سبيله وسبيل أصحابه ، فكتب يوسف بذلك إلى نصر بن سيار فدعا به نصر وكلّمه وحذره الفتنة ، فقال له يحيى : وهل في اُمّة محمد فتنة أعظم ممّا أنتم فيه ، من سفك الدماء وأخذ ما لستم له بأهل؟ فلم يجيبه نصر بشيء ، وأمر له بألفي درهم ونعلين بعد أن فصل السلاسل منه.

قال الراوي : ولمّا اطلق يحيى بن زيد وفكّ حديده صار جماعة من مياسير الشيعة إلى الحدّاد الذي فكّ قيده من رجله فسألوه أن يبيعهم الحديد ، قال :

١٨٦

وتنافسوا وتزايدوا حتى بلغ عشرين ألف درهم ، فخاف الحداد أن يشيع خبره فيؤخذ منه المال ، فقال لهم : أجمعوا ثمنه بينكم فرضوا بذلك وأعطوه المال فقطّعه قطعة قطعة ، وقسّم بينهم فاتخذوا منه فصوصاً للخواتيم يتبركون به.

وخرج يحيى الى أبر شهر ، وقد اجتمع عنده أصحابه وهم سبعون رجلاً ، وكان بأبر شهر عمرو بن زرارة ، فأعطى يحيى ألف درهم نفقة له ، ثم أشخصه إلى بيهق.

قال المسعودي : ولمّا رأى يحيى المنكر والظلم وما عمّ الناس من الجور أقبل يحيى من بيهق وهي أقصى عمل خراسان في سبعين رجلاً راجعاً إلى عمرو ابن زرارة ، فبلغ نصر بن سيار ذلك فكتب إلى عبدالله بن قيس بن عباد البكري عامله بسرخس والحسن بن زيد عامله بطوس أن يمضيا إلى عمرو بن زرارة وهو عامله على أبر شهر وهو أمير عليهم ، يقاتلون يحيى بن زيد.

قال الراوي : فأقبلوا إلى يحيى فاجتمعوا عليه حتى صاروا زههاء عشرة آلاف وخرج يحيى بن زيد وما معه إلّا سبعين فارساً ، فقاتلهم يحيى فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة واستباح عسكره وأصاب منه دواباً كثيرة ، ثم أقبل حتى مرّ بهرات وعليها المعلس بن زياد ، فلم يتعرّض أحد منهما لصاحبه ، وسار حتى نزل بأرض الجوزجان ، فأسر إليه نصر بن سيار وسلم بن حور في ثمانية ألف فارس من أهل الشام وغيرهم ، فلحقه بقرية يقال لها : ارغوي ، وعلى الجوزجان يومئذ حمّاد بن عمرو السعيدي ، ولحق يحيى بن زيد أبو العجاريم الحنفي ، والخشخاش الأزدي (١).

قال الراوي : وعبّأ سلم جيشه وعبّا يحيى جيشه واقتتل الفريقان ودام القتال

__________________

(١) الخشخاش الأزدي هو الذي أخذ نصر بن سيار بعد ذلك فقطع يديه ورجليه وقتله.

١٨٧

ثلاثة أيام بلياليها أشدّ قتال حتى قتل أصحاب يحيى كلّهم ، وكان يحيى في ذلك اليوم يتمثل بقول الخنساء :

نهين النفوس وهول النفو

س يوم الكريهة أوفى لها

قال الراوي : فكان يقاتل ويجالد أعداءه في ذلك اليوم. قال : وأتيت يحيى نشابة في جبهته فخرّ إلى الأرض قتيلاً ، وجاء إليه بعد ذلك سورة بن محمّد فوجده قتيلاً فاحتزّ رأسه وبعثوا برأسه إلى الشام إلى الوليد بن زيد ، وأخذ الذي رماه بالسهم سلبه وقميصه (١) وصلب يحيى بن زيد على باب مدينة جوزجان ، حتى جاءت المسوّدة مع أبي مسلم الخراساني فأنزلوه وغسّلوه وكفّنوه وحنّطوه ودفنوه ، وأراد أن يتبع قتلة يحيى فقيل له : عليك بالديوان فوضعه بين يديه ، وكان إذا مرّ به اسم رجل ممّن أعان على يحيى قتله ، حتى لم يدع أحداً قدر عليه ممّن شهد قتله إلّا قتله ، فكأنّ أهل البيت كما قال الشاعر :

هذا قضى قتلاً وذاك مغيّبا

خوف العدو وذا قضى مسموما

__________________

(١) وهذان أعني سورة بن محمّد الذي قطع رأس يحيى والغزي الذي رماه بالسهم وقتله وسلب قميصه أخذهما بعد ذلك أبو مسلم بالخراساني وقطع أيديهما وأرجلهما وصلبها.

١٨٨

المطلب السابع والأربعون

في ترجمة محمد ذي النفس الزكية عليه‌السلام

قال أرباب التاريخ : ولد محمّد ذي النفس الزكية ابن عبدالله بن الحسن بن علي عليهم‌السلام سنة مائة.

وذكر أبو الفرج الأصبهاني : قال : ولد محمّد بن عبدالله وبين كتفيه خال أسود كهيئة البيضة عظما ، فقال فيه الشاعر :

فإنّ الذي يروى الرواة لبين

إذا ما ابن عبدالله فيهم تجرّدا

له خاتم لم يعطه الله غيره

وفيه علامات من البرّ والهدى

وكان يقال له : صريح قريش ، ويقال له : المهدي.

وقال أبو الفرج الأصبهاني في المقاتل : كان محمّد بن ذي النفس الزكية بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أفضل أهل زمانه في علمه بكتاب الله وحفظه له وفقهه في الدين وفي شجاعته وجوده وبأسه وكلّ أمر يحمل بمثله.

قال أبو الفرج : حدّث عمير بن الفضل الخثعمي ، قال : رأيت أبا جعفر المنصور يوماً ، وقد خرج محمّد بن عبدالله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود وأبو جعفر معه ، فأخذ بردائه حتى ركب ثم سوّى ثيابه على السرج ومضى محمّد ، فقلت : وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمّداً من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه وسوّيت عليه ثيابه؟ قال : أو

١٨٩

ما نعرفه؟ قلت : لا. قال : هذا محمّد بن عبدالله بن الحسن مهديّنا أهل البيت.

قال اليعقوب بن عربي : سمعت أبا جعفر المنصور يقول في أيام بني أمية وهو في نفر من بني أمية يقول : ما في آل محمد أعلم بدين الله ولا أحقّ بولاية الأمر من محمّد بن عبدالله ، وبايع له وكان يعرفني بصحبته والخروج معه.

قال يعقوب : وحبسني بعد مقتل محمّد بضع عشر سنة وهو الذي بايع له رجال من بني هاشم من آل أبي طالب عليه‌السلام وآل العباس وسائر بني هاشم ، وقد بايعوا له بالأبواء (١) مرّة وبالمدينة مرّة ثانية.

قال أبو الفرج : ثم إنّ بني هاشم اجتمعوا فخطبهم عبدالله بن الحسن فحمدالله وأثنى عليه ، ثم قال : يا بني هاشم إنّكم أهل البيت قد فضلكم الله بالرسالة واختاركم لها وأكثركم بركة يا ذرية محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنوا عمّه وعترته وأولى الناس بالفزع في أمر الله من وضعه الله موضعكم من نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ترون كتاب الله معطّلاً وسنّة نبيه متروكة ، والباطل حيّاً والحق ميّتاً ، قاتلوا لله في الطلب لرضاه بما هو أهله قبل أن ينزع منكم اسمكم وتهونوا عليه كما هانت بنوا إسرائيل وكانوا أحبّ خلقه إليه ، وقد علمت أنّا لم نزل نسمع أنّ هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أيديهم فقد قتلوا صاحبهم يعني الوليد بن يزيد ، فهلمّ نبايع محمّداً فقد علمت أنّه المهدي. فقالوا : لم يجتمع أصحابنا بعد ولو اجتمعوا فعلنا ولسنا نرى أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق.

قال الراوي : وأرسل إليه عبدالله فأبى أن يأتي فقام وقال : أنا آتي به الساعة ، فخرج بنفسه حتى أتى الصادق عليه‌السلام فدعاه وجاء معه إلى المحل الذي اجتمع به الهاشميون ، وأوسع له عبدالله إلى جانبه ثم قال له : قد علمت ما صنع بنا بنو أمية

__________________

(١) الأبواء موضع بين مكة والمدينة ، ولد فيه الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام.

١٩٠

وقد رأينا أن نبايع لهذا الفتى. فقال : لا تفعلوا فإن الأمر لم يأت بعد ، فغضب عبدالله وقال : لقد علمت خلاف ما تقول ، ولكنّه يحملك على ذلك الحسد لابني. فقال الصادق عليه‌السلام : لا والله ما ذاك يحملني ولكن هذا وإخوته وأبناءهم دونكم وضرب يده على ظهر أبي السفاح ، قال : ثم نهض فلحقه عبدالصمد وأبو جعفر المنصور ، وقالا : يا أبا عبدالله أتقول ذلك؟ قال : نعم والله أقول وأعلمه ثم التفت إلى عبدالله وقال : والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهؤلاء ، وإنّ ابنيك لمقتولان (١). قال : وتفرّق المجلس ولم يجتمعوا بعدها.

وروى عن عبدالله بن جعفر بن المسور في حديثه قال : وخرج في ذلك اليوم جعفر الصادق يتوكّأ على يدي ، فقال لي : أرأيت صاحب الرداء الأصفر ـ يعني أبا جفعر المنصور ـ؟ قلت : نعم ، قال : فإنّا نجده يقتل محمّد. قلت : أو يقتل محمّداً؟ قال : نعم ، فقلت في نفسي حسده وربّ الكعبة ، قال : ثم ما خرجت والله من الدنيا حتى رأيته قتله.

وعن ابن داحة أنّ جعفر بن محمد عليه‌السلام قال لعبدالله بن الحسن : إنّ هذا الأمر والله ليس لك ولا إلى ابنيك وإنّما هو لهذا ـ يعني السفاح ـ ، ثم لهذا ـ يعني المنصور ـ ثم لولده من بعده لا يزال فيهم حتى يوامروا الصبيان ويشاوروا النساء ، فقال عبدالله : والله يا جعفر ما أطلعك الله على غيبه ، ما قلت هذا إلا حسداً لابني. فقال : لا والله ما حسدت ابنك وإن هذا يعني ـ يعني أبا جعفر ـ يقتله على أحجار الزيبت ، ثم يقتل أخاه إبراهيم بعده بالطفوف ، وقوائم فرسه في الماء ، قال : ثم قام مغضباً يجرّ رداءه فتبعه أبو جعفر المنصور فقال له : أتدري ما قلت يا أباعبدالله؟ قال : اي والله أدريه وإنّه لكائن.

__________________

(١) وهذه من مغيبات الإمام الصادق عليه‌السلام.

١٩١

قال الراوي : حدّث من سمع من أبي جعفر المنصور إنّه لمّا انصرفت صرت لوقتي فرتبت عمالي وميزت أموري تميّز مالك لها ، قال لي : فلمّا ولي أبو جعفر الخلافة سمي جعفر الصادق عليه‌السلام وكان إذا ذكره يقول : قال لي الصادق جعفر ابن محمد كذا وكذا ، كان المنصور يتربض بإمامنا الصادق الدوائر حتى أشخصه من المدينة إلى بغداد مرّتين ، وفي المرّة الثانية أوفقه بين يديه حافياً حاسراً وكان الإمام قد جاوز السبعين سنة حتى صار يراوحه برجليه يرفع اليمنى ويضع اليسرى ، ويضع اليمنى ويرفع اليسرى حتى رفع راسه وكلّمه بكلام لا يطيق اللسان تردّده فكان مما قال له : تكتب إلى أهل خراسان وتدعوهم الى نفسك ، والإمام يتعذر له من ذلك.

قال الراوي : ثم إنّ المنصور مدّ يده تحت الفراش وأخرج كتباً إلى الصادق عليه‌السلام فنظر إليها وقال : والله يابن العم ليست هذه كتبي ولا هذا خطّي ولا هذا توقيعي ، صيّرني إلى بعض حبوسك حتى يأتيني الموت فإنّه منّي قريب ، وأقسم بالله ما كان وقوف الصادق عليه‌السلام هذا بين يدي المنصور الدوانيقي إلّا فرع من وقوف جدّه السجاد بين يدي يزيد بن معاوية غير أنّ هناك فرق عظيم : الصادق وقف بين يدي المنصور وحده ولكن جدّه السجاد وقف بين يدي يزيد بن معاوية معه عمّاته وأخواته :

فهنّ على أكفائهنّ نوائح

كما هتف فوق الغصون الوراشن

١٩٢

المطلب الثامن والأربعون

في مقتل محمّد ذي النفس الزكية عليه‌السلام

لمّا تولّى المنصور الدوانيقي الخلافة ولزم اُزمّة الأمور ، صار يطلب العلويين وكان أشدّ الطلب على محمد وإبراهيم ابني عبدالله المحض ، فلمّا اشتدّ الطلب بمحمّد خرج قبل وقته الذي أوعد أخاه إبراهيم على الخروج فيه ، وقيل : بل خرج محمّد لميعاده مع أخيه ، وإنّما أخوه إبرهيم تأخّر ، وكان محمّد بالمذار ، وقد بلغ رياح والي المدينة أنّ محمداً يريد الخروج ، فأرسل على جماعة من بني الحسن فحبسهم ، فبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير وقد ظهر محمّد وأقبل من المذار إلى المدينة في مائة وخمسين رجلاً ، فأتى بني سلمة بهؤلاء تفاؤلاً بالسلامة وقصد السجن فكسر بابه وأخرج من فيه ، وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصحابه : لا تقتلوا إلّا أن يقتلوا ، فامتنع منهم رياح والي المدينة ، فدخولوا من باب المقصورة وأخذوا رياحاً أسيراً ، ثم خرج محمّد إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس واستمالهم ، واستولى محمّد على المدينة.

قال الراوي : وسار رجل من بني عامر إلى المنصور مجداً حتى وصل إليه بعد تسعة أيام فوصله ليلاً وإستأذن عليه ودخل ، فقال له : يا أمير المؤمنين خرج محمّد بن عبدالله بالمدينة. قال : أنت رأيته وعاينته؟ قال : أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله جالساً ، وتواترت الأخبار بذلك. فقال المنصور لأبي أيوب

١٩٣

وعبدالملك مَن الرجل تعرفنانه بالرأي يجمع رأيه إلينا؟ قالا : بالكوفة بديل بن يحيى وكان السفاح يشاوره ، فأرسل إليه وقال له : إنّ محمّداً قد ظهر بالمدينة. قال : فأشحن الأهواز بالجنود. قال : إنّه قد ظهر بالمدينة. قال : قد فهمت وإنّما الأهواز الباب الذي تؤتون منه.

قال الراوي : ودعا المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى وأمره بالمسير الى المدينة لقتال محمّد وسيّر معه الجنود حتى إذا قرب من المدينة بلغ محمّداً ذلك ، فاستشار أصحابه بالخروج من المدينة أو المقام بها فاستشار بعضهم بالخروج عنها وأشار بعضهم بالمقام بها لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيتني في درع حصينة فأوّلتها المدينة ، فأقام بها ، ثم استشار أصحابه في حفر خندق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأشار بعضهم بتركه ، فقال محمّد : إنّما اتبعنا في الخندق أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يردني أحد عنه فلست بتاركه ، وأمر به فحفر وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق الذي حفره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأحزاب.

قال : وسار عيسى حتى نزل الأعوص ، وكان محمّد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق وحصرهم فلا يخرجون. قال : وأراد عيسى الى محمّد يخبره أنّ المنصور قد أمنه وأهله ، فأعاد الجواب ، يا هذا إنّ لك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرابة قريبة وأدعوك الى كتاب الله وسنّة نبيّه والعمل بطاعته واحذرّك نقمته وعذابه ، وإني والله ما أنا منصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه وإيّاك أن يقتلك من يدعوك الى الله فتكون شر قتيل أو تقتله فيكون أعظم لوزرك ، فلمّا بلغته الرسالة قال عيسى : ليس بيننا وبينه إلّا قتال. وقال محمّد للرسول : علام تقتلونني وإنّما أنا رجل فرّ من أن يقتل؟ قال : القوم يدعونك إلى الأمان فإن أبيت إلّا قتالهم قاتلوك.

١٩٤

قال الراوي : وجاء عيسى بجيشه ونزل بالجرف ثم وقف على سلع (١) فنظر إلى المدينة ومن فيها فنادى : يا أهل المدينة إنّ الله حرم دماء بعضنا على بعض فهلمّوا إلى الأمان ، فمن قام تحت راياتنا فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن خرج من المدينة فهو آمن ، خلوا بيننا وبين صاحبنا فإمّا لنا وإمّا له : فشتموه وانصرف من يومه وعاد من الغد وقد فرّق القواد من سائر جهات المدينة وأخلى ناحية مسجد أبي الجراح ، قال : ونشبت الحرب بينهم ، وبرز محمّد في أصحابه.

قال الراوي : وقاتل محمّد يومئذ قتالاً عظيماً فقتل بيده سبعين رجلاً ، وأمر عيسى حميد بن قحطبة فتقدّم في مائة كلّهم راجل سواه ، فزحفوا حتى بلغوا جداراً دون الخندق عليه ناس من أصحاب محمّد ، فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق ونصب عليه أبواباً ، وعبر هو وأصحابه فألقوا الحقائب ، وغيرها في الخندق وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل فاقتتلوا أصحاب محمّد قتالاً شديداً ، قال : وانصرف محمّد قبل الظهر فاغتسل وتحنّط ، ثم رجع فقال له عبدالله ابن جعفر : بأبي أنت وأمي والله مالك بما ترى طاقة ، فلو أتيت الحسن بن معاوية بمكة فإنّ معه جلّ أصحابك. فقال : لو خرجت لقتل أهل المدينة ، والله لا أرجع حتى أقتل أو أُقتل ، وأنت منّي في سعة فاذهب حيث شئت ، فمشى معه قليلاً ثم رجع عنه جل أصحابه فلم يبق معه إلّا ثلاثمائة أو يزيدون قليلاً.

قال الراوي : والتفت إلى بقية أصحابه وقال لهم : نحن اليوم بعدّة أهل بدر ، قال : وصلّى محمّد الظهر ، والعصر ، ثم تقدم وقد عرقب فرسه وعرقب بنو شجاع الخميسيون دوابّهم ، ولم يبق أحد إلّا كسر جفن سيفه ودعا محمّد في ذلك اليوم

__________________

(١) سلع جبل في المدينة المنورة.

١٩٥

حميد بن قحطبة ، وقال له : يا حميد بن قحطبة اُبرز إليّ فأنا محمد بن عبدالله. فقال حميد : قد عرفتك وأنت الشريف بن الشريف الكريم ابن الكريم لا والله لا اُبرز إليك وبين يدي من هؤلاء الأغمار أحد ، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك ، وكان محمّد إذا حمل هدّ الناس هدّا وكان أشبه الناس بقتال حمزة ، فبينما هو يقاتل إذ رماه أحدهم بسهم فوقف إلى جدار ، فتحاماه الناس ، فلمّا وجد الموت تحامل على سيفه فكسره وطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه ، ونزل إليه واحتزّ رأسه ، وجاء به إلى عيسى ، فلمّا أتي عيسى برأس محمّد ، قال لأصحابه : ما تقولون فيه فوقعوا فيه ، فقال بعضهم : كذبتم ما لهذا قاتلناه ، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشقّ عصى المسلمين ، وإن كان لصوّاماً قوّاماً فسكتوا. قال : وأرسل عيسى الرأس إلى المنصور فأمر به فطيف به بالكوفة ، وسيّره إلى الآفاق (١).

قال ابن الأثير : ولمّا قتل محمّد أخذ عيسى بني موسى أصحاب محمّد وصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن العزيز صفّين وبقي محمّد مصلوباً ثلاثاً (٢).

قال الراوي : وأرسلت زينت بنت عبدالله أخت محمّد وابنته فاطمة إلى عيسى أنكم قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه فلو أذنتم لنا في دفنه ، فإذن لها فدفن بالبقيع.

__________________

(١) (فائدة) : ذكر ابن الأثير في تاريخه وغيره : أنّ محمداً بن عبدالله لمّا قتل وبلغ أخاه إبراهيم قتله يومئذ قد ظهر بالبصرة وتابعه الناس ، وكان ذلك اليوم يوم عيد ، فخرج إلى الصلاة بالناس ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه وتمثل قائلاً :

أبا المنازل يا خير الفوارس من

يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

الله يعلم أنّي لو خشيتهم

وأوجس القلب من خوف لهم جزعا

لم يقتلوه ولم أسلم أخي أحداً

حتى نموت جميعاً أو نعيش معا

(٢) كان قتل محمد وأصحابه يوم الإثنين بعد العصر لأربع عشر خلت من شهر رمضان.

١٩٦

وصاحت زينب بنت علي يوم عاشوراء بعمر بن سعد : يابن سعد أيقتل أبو عبدالله الحسين وأنت تنظر إليه؟ ثم صاحت : يا قوم ، أما فيكم مسلم يدفن هذا الغريب؟ أما فيكم موحّد يواري هذا العاري السليب؟

عريان يكسوه الصعيد ملابسا

أفديه مسلوب اللباس مسربلا

ولصدره تطأ الخيول وطالما

بسريره جبريل كان موكلا (١)

__________________

(١) من قصيدة جزلة لأبي الحسن علاء الدين المعروف بالشفيهيني المتوفى في الربع الأوّل من القرن الثامن ومطلعها :

يا من إذا عدّت فضائل غيره

رجحت فضائله وكان الأفضلا

١٩٧

المطلب التاسع والأربعون

في ترجمة إبراهيم ومقتله عليه‌السلام

كان إبراهيم بن عبدالله المحض عالماً عارفاً شاعراً شجاعاً مقداماً أيداً ـ أي قوياً ـ.

قال أبو الفرج بحذف السند : إنّ محمّداً وإبراهيم كانا عند أبيهما فوردت إبل لمحمّد فيها ناقة شرود ، لا يردّ رأسها شيء ، فجعل إبراهيم يحدّ النظر إليها ، فقال له محمّد : كأنّ نفسك تحدّثك أنّك رادّها؟ قال : نعم ، قال : فإن فعلت فهي لك ، فوثب إبراهيم فجعل يتغيّر لها ، ويتستر بالإبل حتى إذا مكنّته هايجها ، وأخذ بذنبها فاحتملت وأدبرت تمخض بذنبها حتى غاب عن أبيه ، فأقبل على محمّد ، فقال : قد عرّضت أخاك للهلكة فمكث قليلاً ، ثم جاء مشتملاً بإزار حتى وقف عليها. فقال محمّد : كيف رأيت ، زعمت أنّك و ادّها وحابسها ، فألقى إبراهيم ذنبها وقد انقطع في يده ، فقال : ما أعذر من جاء بهذا!

قال ابن الأثير في تاريخه : كان ظهور محمّد وإبراهيم ابني عبدالله المحض بعد أن كان لا يقرّ لهما قرار من شدّة الطلب حتى حكت جارية لإبراهيم أنّه لم تقرّهم أرض خمس سنين ، مرة بفارس ومرّة بكرمان ومرّة بالجبل ومرّة بالحجاز ومرّة باليمين ، ومرّة بالشام ، وربما كان إبراهيم يدخل جيش المنصور متخفياً ويجلس على مائدته ـ وهم لا يعرفونه ـ وجاء مرّة إلى بغداد ودخل عسكر

١٩٨

المنصور ، وكان له مرآة ينظر فيها عدوه من صديقه ، فنظر فيها فقال : يا مسّيب قد رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض أعدى لي منه ، فانظر أيّ رجل يكون.

فقدم البصرة واجتمع عليه أهلها ، كان ذلك سنة خمس وأربعين ومائة بعد ظهور أخيه محمّد بالمدينة ، دعا الناس الى بيعة أخيه محمّد فبايعه العلماء والوجهاء وسائر أهل البصرة حتى بلغ ديوانه أربعة آلاف وشهد أمره ، فقالوا له : لو تحولت إلى وسط البصرة أتاك الناس وهم مستريحون ، فتحوّل فنزل في دار أبي مروان مولى بني سليم ، وكان الوالي على البصرة يومئذ من قبل المنصور سفيان بن معاوية وقد مالا على أمره ، وقام إبراهيم بأمره في أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة فصلّى بالناس صلاة الصبح في الجامع وقصد دار الإمارة وبها سفيان متحصناً في جماعة ، فحضره وطلب سفيان منه الأمان فأمنه إبراهيم ودخل الدار ففرشوا له حصيراً فهبت الريح فقلّبته قبل أن يجلس ، فتطيّر الناس بذلك ، فقال إبراهيم : إنّا لا نتطيّر ، وجلس عليه مقلوباً ، وجلس القوّاد ، وسفيان بن معاوية في القصر وقيّده بقيد خفيف ليعلم المنصور أنّه محبوس.

قال : وبلغ جعفراً ومحمّداً إبني سليمان بن علي ظهور إبراهيم ، فأتيا في ستمائة رجل إليهما فأرسل إليهما إبراهيم خمسين رجلاً من أصحابه فهزمهما ونادى منادي إبراهيم : ألا لا يتبع مهزوم ولا يقضى على جريح ، ولمّا استقرت له البصرة أرسل عماّله إلى الأهواز وإلى اصطخر وإلى واسط ولم يزل إبراهيم في البصرة يفرق الجيوش والعمال حتى أتاه نعي أخيه محمد قبل عيد الفطر ، فخرج بالناس يوم العيد وفيه الإنكسار ، فصلّى بهم وأخبرهم بقتل محمّد ، فازدادوا في قتال المنصور بصيرة ، وأصبح من الغد فعسكر واستخلف على البصرة غيلة وخلف ابنه حسناً معه وسار من البصرة متوجهاُ الى الكوفة ، ولما بلغ المنصور

١٩٩

ظهور إبراهيم في قلّة من العسكر فقال : والله ما أدري كيف أصنع ما في عسكري إلّا ألفا رجل والباقون مع عيسى بن موسى ، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفاً ، ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعودة مسرعاً ، فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرة فتركها وعاد إليه ، فوجهه إلى حرب إبراهيم وفي ذلك الحين اُهديت امرأتان إلى المنصور من المدينة ، فلم ينظر إليهما ، فقيل له في ذلك أنهما قد ساءت ظنونهما فقال : ليست هذه أيام نساء ولا سبيل إليهما ، حتى أنظر إلى رأس إبراهيم لي أو رأسي له.

قال الراوي : وواصل إبراهيم سيره حتى نزل باخمرا وهي من الكوفة على ستّة عشر فرسخاً فنزل مقابل عيسى بن موسى وتصافّوا ، فصفّ إبراهيم صفّاً واحداً واقتتل الناس قتالاً شديداً وانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه ، فأقبل حميد منهزماً ، فقال له عيسى : الله الله والطاعة ، فقال : لا طاعة في الهزيمة ، ومرّ الناس فلم يبق مع عيسى إلّا نفر يسير ، وجاء جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي من ظهر أصحاب إبراهيم ولا يشعر بهما باقي أصحابه الذين يتبعون المنهزمين حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم فعطفوا نحوه ورجع أصحابه الذين يتبعون المنهزمين ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم ، فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم ، فلو لا جعفر ومحمّد لتمت الهزيمة لحميد.

قال الراوي : وفّر أصحاب إبراهيم وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستّمائة وقيل أربعمائة ، وقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس الى عيسى وجاء إبراهيم سهم غائر فوقع في حلقه فنحره فتنحّى عن موقفه وقال : أنزلوني ، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول : (وكان أمر الله قدراً ومقدوراً) أردنا أمراً وأراد الله غيره ، واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه ، فقال حميد بن قحطبة

٢٠٠