ثمرات الأعواد - ج ٢

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٩
الجزء ١ الجزء ٢

أكبر من الله ، فلمّا قال المؤذن : أشهد أن لا إله إلّا الله ، قال علي عليه‌السلام : شهد بذلك لحمي وعظمي ودمي ، فلمّا قال المؤذن : أشهد أنّ محمداً رسول الله ، التفت السجاد عليه‌السلام من فوق المنبر إلى يزيد ، وقال : يايزيد ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنه جدّك فقد كذبت وكفرت ، وإن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته وسبيت نساءه؟! ثم التفت الى المجلس ، وقال : معاشر الناس هل فيكم من جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فَعَلَتِ الأصوات بالبكاء والنحيب.

وعلى يزيد ضحّى بمجلسه

قد أوقفتها المعشر السفل

لا من بني عدنان يلحضها

ندب ولا من هاشم بطل

إلّا فتى نهبت حشاشته

كفّ المصاب وجسمه العلل

٤١

المطلب الثاني عشر

في ذكر بعض ما جرى في مجلس يزيد لعنه الله

ذكر السيّد بن طاووس رحمه‌الله قال : يروى أنّه كان في مجلس يزيد بن معاوية حبر من أحبار اليهود ، فقال : من هذا الغلام؟ فقال له يزيد؟ هو علي بن الحسين ، قال : ممّن علي بن الحسين؟ قال : ابن علي ابن أبي طالب ، قال : فمنّ أمه؟ قال : اُمّه فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الحبر : يا سبحان الله فهذا ابن بنت نبيكم قتلتموه؟! بئسما خلّفتم نبيكم في ذريته ، والله لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لظننت إنّا كنّا نعبده من دون ربّنا ، وأنتم بالأمس فارقتم نبيكم ووثبتم اليوم على ابنه فقتلتموه ، سوءة لكم من اُمّة.

قال : فأمر يزيد به فوجئ في حلقه ثلاثاً ، فقام الحبر وهو يقول : إن شئتم فاضربوني واقتلوني فإنّي أجد في التوراة أنّ من قتل ذرية نبي لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي ، فإذا مات يصليه الله نار جهنّم.

وروي عن زين العابدين قال : لمّا أتى برأس الحسين الى يزيد بن معاوية كان يتّخذ مجالس الشراب ويأتي برأس الحسين عليه‌السلام ويضعه بين يديه ويشرب عليه ، فحضر في مجلسه ذات يوم رسول ملك الروم وكان من أشراف الروم وعظمائهم ، فقال : يا أمير هذا رأس من؟ فقال يزيد : مالك ولهذا الرأس؟ فقال : إنّي إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيء رأيته ، فأحببت أن اخبره بقصّة هذا

٤٢

الرأس وصاحبه حتى يشاركك في الفرح والسرور. فقال يزيد : هذا رأس الحسين ابن علي بن أبي طالب ، فقال الرومي : ومن اُمّه؟ فقال : فاطمة بنت رسول الله. فقال الرومي : اُفّ لك ولدينك ، لي دين أحسن من دينك ، إنّ أبي من أحفاد داود وبيني وبينه آباء كثيرة والنصارى يعظمونني ويأخذون التراب من تحت قدمي تبركاً بي حيث أنّي من أحفاد داود ، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله ، ما بينه وبين نبيكم إلّا واحدة ، فأيّ دين دينكم؟!

ثم قال ليزيد : هل سمعت حديث كنيسة الحافر؟ فقال له : قل حتى أسمع ، فقال : بين عمان والصين بحر مسيرة سنة ، ليس فيه عمران إلّا بلدة واحدة في وسط الماء ، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين ، وما على وجه الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت وأشجارها العود والعنبر ، وهي بلدة في أيدي النصارى ، لا ملك لأحد من الملوك سواهم ، وفي تلك البلدة كنايس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر ، فيها حقّة من الذهب معلّقة ، فيها حافر يقولون إنّ هذا حافر حمار كان يركبه عيسى ، وقد زيّنوا الموضع حول الحقّة بالذهب والديباج يقصدها في كل عام عالم من النصارى ويطوفون حولها ويقبّلوها ويطلبون حوائجهم من الله فيها ، هذا شأنهم ودأبهم وتقديرهم لحافر حمار يزعمون أنّه حافر حمار كان يركبهم عيسى نبيّهم ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم ، فلا بارك الله تعالى فيكم ولا في دينكم.

فقال يزيد : اُقتلوا هذا النصراني لئلا يفضحني في بلاده ، فلمّا أحس النصراني بذلك قال له : تريد أن تقتلني؟ قال : نعم ، قال : اعلم إني رأيت البارحة نبيكم في المنام يقول لي : يا نصراني أنت من أهل الجنّة ، فتعجبت من كلامه ، وأنا الآن أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، ثم وثب الى رأس الحسين عليه‌السلام فضمه إلى صدره ، وجعل يقبله ويبكي ، حتى قتل رضوان الله عليه.

٤٣

وذكر المجلسي قال : ثم أقبل يزيد على أهل مجلسه وقال : إنّ هذا يعني (الحسين) كان يفخر ويقول : أبي خير من أب يزيد ، وجدّي خير من جدّه ، وأنا خير منه ، فهذا الذي قتله ، فأمّا قوله بأنّ أبي خير من أب يزيد ، فلقد حاجّ أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه ، أمّا قوله لأنّ اُمّي خير من اُم يزيد فلعمري لقد صدق إنّ فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي ، أما قوله جدّي خير من جدّه فليس لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر يقول بأنّه خير من محمّد ، وأمّا قوله بأنّه خير مني فلعلّه لم يقرأ هذه الآية (قل اللهم مالك المكلك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (١) ثم جعل ينكث ثنايا الحسين عليه‌السلام بالخيزرانة ويفرّق بين شفتيه *.

وإنّ ثغراً رسول الله يلثمه

بالخيزران يزيد الرجس يقرعه

ولثغره يعلو القضيب وطالما

شغفاً به كان النبي مقبّلا

__________________

(١) آل عمران ٢٦.

(*) (فائدة) عن الفضل بن شاذان قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول «لمّا حمل رأس الحسين الى الشام ، أمر يزيد بن معاوية فوضع في طشت ونصبت عليه المائدة ، فأقبل هو وأصحابه يأكلون ويشربون الفقاع ، فلمّا فرغوا أمر بالرأس فوضع تحت سرير وبسط عليه رقعة الشطرنج وجلس يلعب بالشطرنج ، ويذكر الحسين وأباه وجدّه صلوات الله عليهم ويستهزئ بذكرهم ، فمتى قمر صاحبه تناول الفقاع وشرب منه ثلاثاً وصب فضلته ممّا يلي الطشت من الأرض ـ الفقاع ـ الشراب يتّخذ من الشعير سمّي به لما يعلوه من الزبد.

٤٤

المطلب الثالث عشر

في ما جرى على السبايا في مجلس يزيد

ذكر صاحب نفس المهموم (١) عن المناقب وغيره : روي أنّ يزيد بن معاوية أقبل على عقيلة الهاشميين زينب بنت علي عليهما‌السلام وسألها أن تتكلّم ، فأشارت العقيلة إلى علي بن الحسين عليه‌السلام وقالت : هو سيّدنا وخطيب القوم ، فأنشأ السجاد عليه‌السلام يقول :

لا تطمعوا إن تهينونا فنكرمكم

وإن نكف الأذى منكم وتؤذونا

الله يعلم إنّا لا نحبكم

ولا نلومكم إن لم تحبّونا

فقال يزيد : صدقت يا غلام ، ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين ، والحمد لله الذي قتلهما وسفك دماءهما. فقال السجاد عليه‌السلام : يا يزيد لم تزل النبوة والإمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد ، ولقد كان جدّي علي بن أبي طالب عليه‌السلام في يوم بدر واُحد والأحزاب ، في يده راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار. فقال اللعين : أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ، ونازعني

__________________

(١) في ص ٤٤٢ ، ونفس المهموم هذا كتابٌ جليل وهو من مؤلفات المحقق الثبت المغفور له الشيخ عباس القمي رحمه‌الله.

٤٥

سلطاني ففعل الله به ما رأيت ، ثم تلا هذه الآية (وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (١). فقال علي بن الحسين : كلّا ما هذه فينا نزلت ، أنما نزلت فينا (مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (٢) فنحن الذين لا نأس على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا منها.

فغضب يزيد ، وجعل يلعب بلحيته وشاور جلساءه في أمره ، فأشاوا عليه بقتله ، فابتدر أبو جعفر الباقر عليه‌السلام بالكلام وله من العمر ثلاث سنين فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال ليزيد :

(يا يزيد ، أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه ، حيث شاورهم في أمر موسى وهارون فإنّهم قالوا : (أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحّارٍ عَلِيمٍ) (٣) وقد أشار هؤلاء عليك بقتلنا ولهذا سبب). فقال يزيد : وما السبب؟ فقال عليه‌السلام : (إنّ هؤلاء كانوا لرشدة ، وهؤلاء لغير رشدة ، ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلّا أولاد الأدعياء). فأمسك يزيد مطرقاً ومتعجّباً من كلام أبي جعفر عليه‌السلام كما أعجب الحاضرون لنباهته لصغر سنّه.

وذكر المجلسي في البحار ، أنّه لمّا حمل علي بن الحسين عليه‌السلام الى يزيد (لعنه الله) وهمّ يزيد بضرب عنقه ، فأوقفه بين يديه ، وهو يكلّمه ويستنطقه بكلام ليوجب به قتله ، وعلي عليه‌السلام يجيبه حيث ما يكلّمه ، وكانت في يد السجاد عليه‌السلام سبحة صغيرة يديرها بأصابعه وهو يتلكم ، فقال له يزيد (لعنه الله) أنا اُكلمك وأّت

__________________

(١) سورة الشورى ٣٠.

(٢) سورة الحديد ٢٣.

(٣) سورة الشعراء ٣٧.

٤٦

تجيبني وفي يدك سبحة تلهو بها فكيف يجوز لك ذلك؟ فقال عليه‌السلام : حدثني أبي عن جدّي أنه كان إذا صلّى الغداة انتفل لا يكلّم أحداً حتى يأخذ سبحة بيديه ، فيقول : اللّهم إنّي اصبحت اُسبّحك وأحمدك واُهلّلك واُكبّرك واُمجّدك بعدد ما اُدير به سبحتي ، ويأخذ السبحة في يده ويديرها وهو يتكلّم بما يريد من غير أن يتكلم بالتسبيح ، وذكر أن ذلك محتسب له وهو حرز له ، إلى أن يأوي الى فراشه ، فإذا آوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول ، ووضع السبحة تحت رأسه فهي محسوبة له من الوقت الى الوقت ، وأنا أفعل اقتداء بجدّي. فقال يزيد مرّة بعد اخرى : لست اُكلّم أحداً منكم إلّا ويجيبني بما يفوز به.

قال الراوي : وعفا عنه ، ووصله وأمر بإطلاقه.

وفي رواية اُخرى : إنّ يزيد لمّا عزم على قتل عليّ بن الحسين عليه‌السلام قام رجل شامي وقال : يا أمير ائذن لي حتى أضرب عنقه ، فلمّا سمعت زينب قوله القت بنفسها عليه وقالت : يا يزيد حسبك من دمائنا ، وقال له السجاد عليه‌السلام : يا يزيد ، إذا كنت قد عزمت على قتلي فابعث من يردّ هذه النسوة الى المدينة.

قال الراوي فرّق يزيد وعفا عنه ، وقال الشاعر :

رقّ له الشامت ممّا به

ما حال من رقّ له الشامت

٤٧

المطلب الرابع عشر

في ما جرى للسبايا بالخربة في الشام

قال السيد في اللهوف (١) : أمر يزيد بن معاوية بهم ـ أي سبايا الحسين عليه‌السلام ـ إلى منزل لا يكنّهم من الحر ولا يقيهم من برد ، فأقاموا به حتى تقشّرت وجوههم ، وكانوا مدة إقامتهم في البلد المشار إليه ـ أي الشام ـ ينوحون على الحسين عليه‌السلام.

قال الصدوق في أماليه (٢) : ثمّ إنّ يزيد لعنه الله أمر بنساء الحسين عليه‌السلام فحبسن مع علي بن الحسين عليه‌السلام في محبس لا يكنّهم من حرّ ولا قرّ ، حتى تقشّرت وجوههم.

وقال ابن نما في مقتله : وأُسكّن في مساكن لا يقين من حرّ ولا برد ، حتى تقشّرت الجلود وسال الصديد بعد كنّ الخدور ، وظلّ الستور ، والجزع مقيم والحزن لهنّ نديم.

وفي تلك الخربة ماتت رقية بنت الحسين عليه‌السلام ، ذكرها صاحب نفس المهموم ، عن الكامل البهائي والسيّد في الإيقاد ، في زيادة ونقصان يروون أنّه كانت للحسين بنت صغيرة لها من العمر أربع سنين ، فانتبهت ليلة من منامها وقالت :

__________________

(١) انظر ص ٢١٩.

(٢) انظر ص ٢٣١ من أماليه رحمه‌الله.

٤٨

أين أبي الحسين؟ فإنّي رأيته في المنام ، فلمّ سمعن النسوة ذلك جعلن يبكين وبكى معهنّ سائر الأطفال ، وارتفع العويل والصراخ ، فانتبه يزيد من نومه ، وقال : ما الخبر؟ فحقّقوا عن هذا الصراخ وأخبروه أنّ بنتاً للحسين رأت أباها في منامها فانتبهت وهي تطلبه ، فأمرهم أن يذهبوا برأس أبيها إليها ، فلمّا أتوا بالرأس الشريف وجعلوه في حجرها قالت : ما هذا؟ فقيل لها : رأس أبيك الحسين ، ففزعت الطفلة وصاحت : وا أبتاه من ذا خضّبك بدمائك ، يا أبتاه من الذي قطع وريديك ، يا أبتاه من الذي ايتمني على صغر سنّي ، يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر ، يا أبتاه من للنساء الحاسرات والأرامل المسبيّات ، يا أبتاه ليتني لك الفداء ، يا أبتاه ليتني قبل هذا اليوم عميا.

قال الراوي : ثم وضعت فمها على فم أبيها وجعلت تئنّ حتى غشي عليها وسكن أنينها ، فحرّكوها فإذا بها ميتة ، فارتفعت الأصوات وعلا الصراخ من السبايا حتى الصباح ، وأُخبر يزيد بوفاة الطفلة ، فأمر بغسلها وكفنها ودفنها (١).

قال الراوي : ومكثوا في تلك الخربة أيّاماً ، وربما كان السجاد يخرج خاج الخربة ، حتى قال المنهال بن عمر ، كنت أتمشي في أسواق دمشق ، وإذا أنا بعلي ابن الحسين عليه‌السلام يمشي ويتوكّأ على عصى في يده ورجلاه كأنّهما قصبتان ، والصفرة قد غلبت عليه ، قال : فخنقتني العبرة لمّا رأيته بتلك الحال ، فقلت له : سيدي كيف أصبحت يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : (يا منهال وكيف يصبح من كان أسيراً ليزيد بن معاوية ، يا منهال أصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمداً

__________________

(١) إن لهذه الطفلة وهي رقية بنت الحسين عليه‌السلام مشهد معروف بدمشق الشام وضريح مشهد يزار ، ويتبرك به المسلمون ، في عاصمة الأُموييّن ، وكلّ من يزورها تهيمن عليه الأحزان وتأخذ الكئابة منه مأخذها فيخشع قلبه وتجري دموعه على ضريحها المنوّر.

٤٩

منها ، وأصبحت قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمداً منها ، وإنّا عترة محمّد أصبحنا مقتولين مذبوحين مأسورين مشرّدين شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد ترك أو كابل ، هذا صاحبنا أهل البيت) ، ثم قال : (يا منهال إنّ الحبس الذي نحن فيه ليس له سفق والشمس تصهرنا فأفر سويعة لضعف بدني وأرجع إلى عمّاتي وأخواتي خشية على النساء).

قال المنهال : فبينا أخاطبه ويخاطبني وإذا أنا بإمرأة قد خرجت من الحبس وهي تناديه فتركني ورجع إليها ، فحققت عنها فقيل لي هي عمّته زينب ، وهي تقول له : إلى أين تمضي يا قرّة عيني.

يعظّمون له أعواد منبره

وتحت ارجلهم أولاده وضعوا

بأي حكم بنوه يتبعونكم

وفخركم أنّكم صحب له تبع

٥٠

المطلب الخامس عشر

في إظهار ندم يزيد وإنكاره على ابن مرجانة

لم ينجح يزيد بن معاوية بما دبّره في بادئ الأمر عند دخول السبايا إلى دمشق الشام ، وما موّه به على أهلها وما أشاعه من البهتان والكذب الصريح بأنّ هؤلاء السبايا خوارج ، خرجوا عليه فقتل رجالهم وسبي ذراريهم واتضح للناس خداعه ومكره وذهب عمله سدى لما ظهرت من الكرامات للرأس الشريف ، وتلاوته للآيات ، وكلام السجاد مع الشامي الذي قال له : الحمد لله الذي فضحكم فأجابه السجاد على رؤوس الأشهاد : الحمد لله الذي أكرمنا نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسؤاله : هل قرأت هذه الآية (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) فعلم كلّ من سمع أنّ هؤلاء آل رسول الله ، والقضايا التي صدرت في مجلسه من خطبة الحوراء زينب عليها‌السلام وخطبة السجاد عليه‌السلام ، وكلام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، وكلام السجاد عليه‌السلام مع المنهال بن عمر ، الى غير ذلك من القضايا المذكورة ، في كتب التاريخ والسير ، فما مضى على تمويه يزيد على أهل الشام إلّا أيّام حتى تحقق لأهل الشام أجمع أنّ هؤلاء ذرية رسول الله وقد قتل يزيد رجالهم وسبي نساءهم وأسر أطفالهم ، فخاف بن ميسون آنئذ عاقبة أمره ، وخشي على تحطيم عرشه ، فقلب عند ذاك ظهر المجن وراح يظهر للناس أنّ الذي قتل الحسين عليه‌السلام هو ابن مرجانة ،. وهو بريئ من عمله الذي عجله بالحسين وأهل

٥١

بيته ، وأراد أن يدفع عنه هذا الأمر فأفرغ للسبايا داراً من دوره ، وأمر أن تنقل إليها بعد أن حبسهم في تلك الخربة ، وكان الذي دعاه إلى ذلك ، أنّ زوجته هند لمّا علمت بأنّ هؤلاء آل بيت رسول الله ، دخلت عليه وهي تولول قد شقَّت جيبها حاسرة الرأس ، فلمّا رآها على هذا الحال قام إليها وألقى عليها رداءه ، وقال لها : إعولي يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش ، فقد عجّل عليه ابن زياد فقتله قتله الله ، ثم قال لها : ادخلي الحرم. قالت : والله لا أدخل حتى أدخل بنات رسول الله معي. فأمر يزيد بهنّ إلى منزله وأنزلهنّ في دار من دوره ، فلمّا دخلن الهاشميات استقبلتهنّ نساءآل أبي سفيان ، وقبلن أيديهن وأرجلهنّ وهنّ ينحن ويبكين وألقين ما عليهنّ من الثياب والحلل.

قال الراوي : وأقمنّ المأتم ثلاثة أيّام ، وقيل أقمن المأتم سبعة أيّام وما كان يزيد يجلس على مائدة إلّا ويحضر السجاد عليه‌السلام معه.

وذكر السيد في اللهوف : إنّ يزيد قال لعلي بن الحسين يوماً : اذكر لي حاجتك. فقال السجاد عليه‌السلام : اُريد منك أوّلاً أن تريني وجه أبي الحسين فأتزوّد منه ، والثانية أن ترد علينا ما أُخذ منّا ، والثالثة إن كنت عازماً على قتلي فوجّه مع هذه النسوة من يردهنّ إلى حرم جدّهنّ. فقال اللعين : أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً ، وأمّا قتلك فقد عفوت عنك ، وأمّا النساء فلا يردهنّ غيرك إلى المدينة ، وأمّا ما اُخذ منكم يوم الطف فأنا اُعوضكم عنه اضعافه. فقال السجاد عليه‌السلام ، أمّا مالك فلا نريده ، وهو موفّر عليك وإنّما طلبت ما اخذ منّا لأنّ فيه مغزل جدتي فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقنعتها وقلادتها وقميسها.

قال الراوي : فأمر برّد ذلك كلّه.

وقال أرباب المقاتل : وأشار عليه مروان بن الحكم بإرجاعهم إلى المدينة ، فأمر يزيد بن معاوية بالمحامل أن تحضر ، فأُحضرت وبعث على السجاد زين

٥٢

العابدين عليه‌السلام وبعد أن جلس السجاد تكلّم معه يزيد وقال : لعن الله ابن مرجانة حيث قتل أباك ، أما والله لو كنت صاحبه ما سألني خصلة إلّا أعطيتها إيّاه ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما قدرت عليه ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكنّ الله قضى ما رأيت تكاتبني من المدينة وارفع إليّ حوائجك.

قال : وأمر بإحضار كسوة له ولأهله فاحضرت ، ثم أمر بالأنطاع ففرشت وصبت عليها الأموال ، وقال : يا ام كلثوم خذوا هذه الأموال عوض ما أصابكم. فقالت اُم كلثوم : يا يزيد ما أقلّ حياءك وأصلف وجهك ، تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم مالاً ، والله لا كان هذا أبدا.

أقول : والله لو أن الجبال تكون ذهباً ما كانت تساوي أنملة من أنامل عبدالله الرضيع الذي ذبخ على صدر أبيه الحسين يوم عاشوراء.

هبوا أنّكم قاتلتم فقتلتم

فما ذنب أطفال تقاسي نبالها

رجالهم صرعى وأسرى نساؤهم

وأطفالهم في السبي تشكو حبالها

٥٣

المطلب السادس عشر

في رجوع السبايا من الشام ووصولهم الى كربلاء

اختلفت العلماء في ذكرهم لسبايا الحسين عليه‌السلام ؛ فبعضهم يقول : مكثوا بالشام (١) وعادوا إلى كربلاء ، ومنهم من قال : رجعوا بسنتهم ، والخبر الثاني أقرب للوضع ، حيث إنّ مروان بن الحكم أشار على يزيد عليه اللعنة ، أن يرجعهم إلى المدينة وأخذ يهيّئ لهم يزيد كلّما يحتاجون في طريقهم من المحامل والخيم

__________________

(١) ذكر السيد ابن طاووس رحمه‌الله في الإقبال ، قال : وجدت في المصباح ـ مصباح المجتهد للطوسي رحمه‌الله : إنّ حرم الحسين وصلوا كربلاء مع مولانا علي بن الحسين عليه‌السلام يوم العشرين من صفر وفي غير المصباح : إنّهم وصلوا كربلاء أيضاً في عودتهم من الشام يوم العشرين من صفر ، وكلاهما مستبعد لأنّ عبيدالله بن زياد (لعنه الله) كتب إلى يزيد يعرفه ما جرى ويستأذنه في حملهم ، ولم يحملهم حتى عاد الجواب إليه ، وهذا يحتاج الى نحو عشرين يوماً ، وأكثرمنها ، ولأنّه لمّا حملهم إلى الشام روي أنّهم لمّا أقاموا فيها شهراً في موضع لا يكنّهم من حر ولا من برد وصورة الحال تقتضي أنهم تأخّروا أكثر من أربعين يوماً من قتل الحسين عليه‌السلام إلى أن وصلوا العراق أو المدينة ، وأمّا جوازهم في عودتهم على كربلاء فيمكن ذلك ، ولكنه ما يكون وصولهم إليها يوم العشرين من صفر لأنّهم اجتمعوا على ما روي مع جابر بن عبدالله الأنصاري ، فإن كان جابر قد وصل زائراً من غير الحجاز فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوماً ، وعلى أن يكون جابر وصل من غير الحجاز من الكوفة أو غيرها

٥٤

والطعام والقرب والأواني ، ووجّه معهم النعمان بن بشير الصحابي (١) ومعه ثلاثون رجلاً وأمره أن يكون بأمر السجاد زين العابدين عليه‌السلام في حلّهم وترحالهم ، فخرجوا من دمشق الشام ، فكان النعمان بن بشير يسايرهم بحيث يرونهم ويراهم ، وإذا نزلوا نزل ناحية عنهم هو وأصحابه ، وصاروا لهم كهيئه الحرس ، وكان بين حين وآخر يأتي وحده إلى السجاد ويسأله عمّا يحتاجونه ويلطف به ، حتى إذا وصلوا إلى مفرق طريقين أحدهما ينتهي إلى المدينة والأخر إلى العراق ، قالوا للدليل : مر بنا على كربلاء ، فامتثل الدليل أمرهم ، فوصلوا إلى كربلاء في العشرين من شهر صفر ، فوجدوا بها جابر بن عبدالله الأنصاري (٢) قد ورد كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام.

قال الأعمش بن عطية الكوفي : خرجت مع جابر بن عبدالله الأنصاري زائراً قبر الحسين عليه‌السلام ، فلمّا ورد كربلاء دنا من شاطئ الفرات فاغتسل ، ثم خرج وقد ائتزو بإزار وارتدى بآخر ، ثم فتح صرّة فيها سعد (٣) فنثرها على بدنه ، ثم مشى إلى القبر الشريف حافياً ، وكان لايخطو خطوة إلّا ذكر الله تعالى فيها ، حتى إذا دنا من القبر الشريف ، قال : ألمسنية يا ابن عطية. قال : فألمسته القبر ، فخرّ على القبر

__________________

(١) النعمان بن بشير الأنصاري الخزري يكنى أبا عبدالله وهو مشهور ، له ولأبيه صحبة. قال الواقدي : كان أول مولود في الاسلام من الأنصار ، بعد الهجرة بأربعة عشر شهراً ، وعن أبي الزبير ، قال : كان النعمان بن بشير أكبر منّي بستة أشهر ، استعمله معاوية على الكوفة فبقى حتى دخلها مسلم بن عقيل ، ودخلها أيضاً عيبدالله بن زياد ، قتل النعمان سنة خمس وستين.

(٢) جابر بن عبدالله الأنصاري شهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحضر جل غزواته ، وكف بصره في آخر عمره ، توفي في المدينة سنة أربع وسبعين ويقال سنة سبع وسبعين ، عاش أربع وتسعين سنة.

(٣) السعد : طيب معروف بين الناس ، ومنه الحديث : اتخذوا السعد لأسنانكم فإنه يطيب الفم. (مجمع البحرين)

٥٥

مغشياً عليه ، فرششت عليه الماء ، فلمّا أفاق صاح : يا حسين يا حسين حتى قالها ثلاثاً ، ثم قال : حبيب لا يجيب حبيبه.

ثم قال : وأنى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أثباجك (١) ، وفرّق بين رأسك وبدنك ، أشهد أنّك ابن سيّد النبيين ، وابن سيد الوصيين ، وابن حليف التقى وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء ، وابن سيد النقباء ، وابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، وكيف لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيد المرسلين وربيت في حجور المتقين ، ورضعت من ثدي الإيمان ، وفطمت بالإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً ، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة لفراقك ، ولا شاكة في حياتك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، أشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.

ثم أجال ببصره نحو القبور ـ قبور الشهداء ـ وقال : السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء قبر الحسين عليه‌السلام وأناخت برحله ، أشهد أنّكم اقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم الملحدين وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين ، والذي بعث محمداً بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال ابن عطية : فقلت لجابر : فكيف تقول ذلك ونحن لم نهبط وادياً ولم نعل جبلاً ولم نضرب بسيف ، والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم ، واُوتمت أولادهم ، وأرملت أزواجهم؟ فقال لي : يابن عطية سمعت حبيبي رسول الله يقول : من أحب قوماً حشر معهم ، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم ، والذي بعث محمداً بالحق إنّ نيتي ونية أصحابي على مضى عليه الحسين وأصحابه ،

__________________

(١) الثبج : ما بين الكاهل إلى الظهر. (المنجد)

٥٦

حذو النعل بالنعل ، ثم قال : خذوني نحو أبيات كوفان.

قال ابن عطية : فلمّا صرنا في بعض الطريق فقال لي : يابن عطية هل اُوصيك وما أظن أنني بعد هذا السفر ملاقيك ، أحبّ محبّ آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما اُحبّهم وأبغض مبغض آل محمّد على ما أبغضهم ، وإن كان صوّاماً قوّاماً ، وارفق بمحبّ آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه إن تزلّ قدم بكثر ذنوبهم ، ثبتت أخرى بمحبتهم ، فأنّ محبّهم يعود إلى الجنة ومبغضهم يعود إلى النار.

ويروى في بعض المقاتل ، قال ابن عطية : بينا نحن بالكلام وإذا بسواد قد أقبل علينا ومن ناحية الشام ، قفلت : يا جابر إني أرى سواداً عظيماً مقبلاً علينا من ناحية الشام ، فالتفت جابر إلى غلامه ، وقال له : انطلق وانظر ما هذا السواد ، فإن كانوا من أصحاب عبيدالله بن زياد ارجع إلينا حتى نلتجأ إلى مكان ، وأن كان هذا سيّدي ومولاي زين العابدين أنت حرّ لوجه الله. فانطلق الغلام بأسرع من أن رجع إلينا وهو يلطم وجهه وينادي : قم يا جابر واستقبل حرم الله وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا سيدي ومولاي علي بن الحسين عليه‌السلام قد أقبل بعمّاته وأخواته ليجدّدوا العهد بزيارة الحسين عليه‌السلام. فقام جابر ومن معه واستقبلوهم بصراخ وعويل ، يكاد الصخر أن يتصدّع منه ، ولمّا دنى من الإمام انكب على قدميه يقبّلهما وهو يقول : سيّدي عظّم الله لك الأجر بمصاب أبيك الحسين ، وعظّم الله لك الأجر بعمومتك واخوتك. فقال الامام عليه‌السلام : أنت جابر؟ قال : نعم سيّدي أنا جابر ، فقال عليه‌السلام : يا جابر ههنا ذبحت أطفال أبي.

هنا رأيت أبي في التراب منعفرا

وصحبه حوله صرعى على الترب

٥٧

المطلب السابع عشر

في ترجمة جابر بن عبدالله الأنصاري

كان جابر بن عبدالله الأنصاري (١) من جلة الصحابة جليل القدر ، عظيم الشأن ، انقطع إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، شهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمانية عشر غزوة ، وشهد مع علي صفين ، وكان من المكثرين الحديث والحافظ للسنن.

قال شيخاً في المستدرك : جابر الأنصاري ، هو من السابقين الأولين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ، حامل سلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى باقر علوم الأولين والآخرين.

قال أرباب التاريخ : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غازياً وجابر بن عبدالله معه على ناقة له وقد تخلّفت ناقته لأنّها كانت عجفاء ، فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى خلفه فلم ير

__________________

(١) هو أبو عبدالله ، جابر بن عبدالله الأنصاري ، مفتي المدينة في زمانه ، كان آخر من شهد ببيعة العقبة في السبعين من الأنصار ، وحمل عن النبي علماً كثيراً نافعاً ، وله منسك صغير في الحج ، وأراد شهود ببدر وشهود احد ، فكان أبوه يخلفه على أخواته ، ثم شهد الخندق وبيعة الرضوان. وعنه قال : استغفر لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة البعير خمساً وعشرين مرة ، وقليل : إنّه شهد بدراً ، وكان يميح الماء ، عمّر أربعاً وتسعين سنة ، وكانت وفاته سنة ثمان وسبعين رحمه‌الله ـ الذهبي ـ تذكرة الحفاظ.

٥٨

جابراً ، فسأل أصحابه ، فقيل له : يا رسول الله إنّ ناقته عجفاء ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه وهمز الناقة برجله فجعلت تهفّ هفيفاً خفيفاً ، حتى سبقت ناقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جابر بكم اشتريت هذه الناقة؟ فقال : بأبي واُمّي يا رسول الله اشتريتها بأربعمائة دينار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رجعنا من غزوتنا بعها عليَّ ، فقال هي لك يا رسول الله ، ثم سأله هل عليك ديون؟ قال : بلى يارسول الله عَليَّ دين كثير ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل عندك شيء تفي به؟ قال : بلى عندي تميرات اقسمها على غرمائي ، والذي يبقي له من الدين أستمهلهم إلى السنة الأُخرى. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا حضرت وقت ايفائك لهم احضرني على التمر ، ولمّا رجع النبي من غزوته إلى المدينة ، أقبل جابر بناقته فعقلها بباب المسجد ، وصاح : يا رسول الله هذه الناقة قد جئتك بها. فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودفع له أربعمائة دينار ، وقال له : يا جابر الدنانير لك والناقة لك. ولمّا صار أوان التمر أحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ النبي الميزان بيده وجعل يزن التمر ويقسمه على غرماء جابر ، حتى وفى عنه جميع ديونه ، وزاد من التمر ببركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروي أنّه دخل جابر يوماً على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّم عليه ، فردّ النبي عليه‌السلام ، فقال : يا رسول الله أخبرني عن منزلة سلمان الفارسي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلمان منّا أهل البيت. ثم قال : يا رسول الله أخبرني عن منزلة عمّار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عمّار منّا أهل البيت. فقال يا رسول الله أخبرني عن منزلة المقداد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المقداد منّا أهل البيت. فقال : أخبرني عن منزلة أبي ذر ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو ذر منّا أهل البيت. ثم انصرف جابر ، فصاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يا جابر أقبل إليَّ ، فأقبل إليه فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألتني عن هؤلاء الأربعة ولم تسألني عن نفسك؟! فأطرق برأسه إلى

٥٩

الأرض حياء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : أخبرني عن نفسي يا رسول الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّا أهل البيت ، فلهذا انقطع جابر إلى أهل البيت وحضر مع علي صفين ، وكان من خواص أصحابه ، وكان يحدّث عن فضلائه ومناقبه.

حتى روي عن أبي الزبير المكي قال : سألت جابر بن عبدالله فقلت : أخبرني أي رجل كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟ قال : فرفع حاجبه عن عينيه ، وقد كان سقط على عينيه ، قال : فقال : ذاك خير البشر ، أما والله إنا كنّا لنعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببغضهم إيّاه.

وكان يقعد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو معتم بعمامة سوداء وكان ينادي : يا باقر العلم يا باقر العلم ، وكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر ، وكان يقول : لا والله لا أهجر ، ولكنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّك ستدرك رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم بقراً فذاك الذي دعاني إلى ما أقول ، فبينا جابر يتردّد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ رأى في ذلك الطريق كتاب (١) وفيه محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، فلمّا نظر إليه قال : يا غلام أقبل ، فأقبل ، ثم قال : أدبر فأدبر ، فقال : شمائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي نفس جابر بيده ، يا غلام ما اسمك؟ فقال : اسمي محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، فأقبل إليه يقبّل رأسه ، وقال : بأبي أنت وأمي رسول الله جدّك يقرئك السلام. قال : فرجع محمد بن علي إلى أبيه وهو ذعر ، فأخبره الخبر ، فقال له : يا بني قد فعلها جابر؟ قال : نعم. قال : يا بني ألزم بيتك ، فكان جابر يأتيه طرفيّ النهار ، وكان أهل المدينة يقولون : وا عجباه لجابر يأتي هذا الغلام طرفيّ النهار.

__________________

(١) لعله مكان معلم الأولاد.

٦٠