ثمرات الأعواد - ج ٢

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ٢

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٩
الجزء ١ الجزء ٢

لأصحابه : شدّوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه فشدّوا عليه فقاتلوهم أشدّ قتالاً حتى أفرجوا عن إبراهيم ووصلوا إليه وحزّوا رأسه فأتوا به عيسى فأراه ابن أبي الكرام الجعفري ، فقال : نعم هذا رأسه فنزل عيسى إلى الأرض وسجد ، ولمّا بلغ المنصور خبر قتل إبراهيم تمثّل قائلاً :

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

قال الراوي : وأرسل عيسى رأس إبراهيم إلى المنصور بالكوفة فقال المنصور : احملوه إلى من في السجن من قومه ، وكان في السجن أبو عبدالله بن الحسن بن الحسن وستّة من أهله (١) فجاء به الربيع إليهم فوضع الرأس بين أيديهم ، فأخذه أحدهم ووضعه في حجره وقال : أهلاً وسهلاً يا أبا القاسم ، والله لقد كنت من الذين قال الله عزوجل فيهم : (الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ) (٢) إلى آخر الآية.

فقال الربيع : كيف أبو القاسم في نفسه؟ قال أحدهم : هو كما قال الشاعر :

فتى كان تحميه عن الضيم نفسه

ويكفيه من دار الهوان اجتنابها (٣)

__________________

(١) قال أرباب السير : حجّ المنصور سنة مائة وأربع وأربعين وقبض على عبدالله بن الحسن ومعه ستّة من أبناء الحسن وأحفاده وسيّرهم الى العراق ومرّ المنصور بالربذة وهم على المحامل المكشّفة فصاح به عبدالله بن الحسن : يا أبا جعفر ، ما هكذا فعلنا بكم يوم بدر ، يشير إلى جدهم العباس بن عبدالمطّلب ، فجاء بهم إلى الكوفة وحبسهم بالهاشميّة في طامورة تحت الأرض حتى ماتوا ومواضعهم الآن تزار ، يقال لها : قبور السبعة ، في قضاء الهاشمية من لواء الحلّة اليوم.

(٢) سورة الرعد.

(٣) (فائدة) : كان قتل إبراهيم يوم الإثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس

٢٠١

فكأنّما القم الربيع بحجر ، فليته حضر حين جاؤا برأس الحسين عليه‌السلام الى يزيد ليلقم يزيد بن معاوية بحجر وذلك لمّا أدخلوا رأس الحسين عليه‌السلام على يزيد وأخذه بيده وجاء به الى الرباب وقال : أتعرفين هذا الرأس؟ فبكت وكأنّ لسان حالها يقول :

عَلَيَّ عزيز أن تراه كما أرى

عليه عزيز أن يراك تراني

وإنّي لأستحييه والترب بيننا

كما كنت استحييه وهو يراني (١)

__________________

وأربعين ومائة ، وكان عمره ثمانية وأربعين سنة.

(فائدة) : ذكر المسعودي أنّ المنصور قال لجلسائه بعد قتل محمّد وإبراهيم : تالله ما رأيت رجلاً أنصح منالحجاج بني مروان ، فقام المسيب بن زهرة الضبي فقال : يا أمير المؤمنين ما سبقنا الحجاج بأمر تخلّفنا عنه ، والله ما خلق الله على جديد الأرض خلقاً أعزّ علينا من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك ، وفعلنا ذلك فهل نصحناك أم لا؟ فقال له المنصور : أجلس لا جلست!

(١) (فائدة) : هذه هي الرباب إحدى الوفيات لأزواجهنّ ، ذكر أرباب التواريخ قالوا : لمّا رجعت الرباب من الأسر إلى المدينة أمرت بسقف البيت فقلع ، وجعلت تجلس هي وإبنتها سكينة تحت حرارة الشمس ، وكانت زينب تأتي إليها وتقول لها : قومي يا رباب عن حرارة الشمس ، فتقول لها : سيّدتي لا تلوميني إني رأيت جسد سيّدي الحسين تصهره الشمس في كربلاء!

٢٠٢

المطلب الخمسون

في ترجمة الحسين بن علي عليه‌السلام قتيل فخ

قبور بكوفان واخرى بطيبة

واُخرى بفخّ نالها صلواتي

أشار دعبل بن علي الخزاعي بهذا البيت إلى قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام بالكوفة ، إذ أنّ الغري كان طرف جبانة الكوفة من الغرب ، وذكر قبور الأئمّة الأربعة الذين هم بالبقيع ، وطيبة هي المدينة المنورة ، وأمّا القبور التي بفخّ فهي قبر الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن بن الحسن السبط ، وأصحابه الذين قتلوا بفخ ، وفخ : بئر قريبة من مكة المكرمة ، على فرسخ منها ، ولقد أخبر عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزل بفخ وصلّى ركعتين وبكى ، وبكت أصحابه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (نزل عَلَيَّ جبرئيل وقال : إنّ رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدين).

ومرّ الصادق بفخّ عند رواحه الى الحج ، فنزل وتوضأ وصلى ثم ركب عليه‌السلام ، فقيل له : هذا من الحج؟ قال : (لا ، ولكن يقتل ههنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق أرواحهم أجسادهم الجنة).

وكانت وقعة فخ في أيام خلافة الهادي ، رابع خلفاء بني العباس ولم تكن وقعة أعظم على أهل البيت بعد واقعة الطف من وقعة فخ ، والحسين قتيل فخ رجل عظيم القدر ، كان : جليلاً ، عالماً ، فاضلاً ، كريماً.

٢٠٣

ذكر أبو الفرج في كتابه ـ مقاتل الطالبيين ـ عن الحسن بن هذيل ، قال : بعت للحسين بن علي صاحب فخ حائطاً بأربعين ألف دينار ، فنثرها على بابه ، فما أدخل إليه أهله منها حبّة ، بل كان يعطيني منها كفّاً ، فأذهب بها إلى فقراء أهل المدينة.

وقال الحسن أيضاً : قال لي الحسين بن علي صاحب فخّ : اقترض لي أربعة آلاف درهم ، فذهبت إلى صديق لي فأعطاني ألفين وقال : إذا كان غداً إتني حتى أعطينك ألفين ، فخرجت بالألفين ، وأتيت الحسين فوضعها تحت حصير كان يصلّي عليه ، فلمّا كان من الغد أخذت الألفين الآخرين ، ثم جئت لطلب الذي وضعته تحت حصيره ، فلم أجده ، فقلت له : يابن رسول الله ما فعلت الألفين؟ قال : لا تسأل عنها فأعتذر ، فقال : تبعني رجل من أهل المدينة ، فقلت ألك حاجة؟ فقال : لا ، ولكنّي أحب أن أصل جناحك ، فأعطيته إيّاه ، أمّا إنّي أحسبني ما أجرت على ذلك ، لأنّي لم أجد لها حسنا ، وقال الله تعالى : (لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى‏ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ) (١).

وقال إسماعيل بن إبراهيم الواسطي : جاء رجل إلى الحسين فسأله فلم يكن عنده شيء ، فأقعده وبعث إلى داره ، وقال : أخرجوا ثيابي ليغسلوها ، فلما اجتمعت قال للرجل : خذ هذه الثياب.

وعن الحسن بن هذيل أيضاً قال : كنت أصحب الحسين بن علي صاحب فخّ ، فقدم الى بغداد فباغ ضيعة له بتسعة آلاف دينار ، فخرجنا ونزلنا سوق أسد ، فبسط لنا على الباب الخان ، فأتى رجل ومعه سلة فيها طعام ، فقال له : مرّ الغلام أن يأخذ منّي هذه السلة ، فقال له : ومن أنت؟ قال : أنا أصنع الطعام الطيّب ، فإذا نزل

__________________

(١) آل عمران من الآية ٩٢.

٢٠٤

هذه القرية رجل من أهل المودة أهديته إليه ، قال : يا غلام خذ هذه السلّة منه ، وقال للرجل : عد إلينا لتأخذ سلّتك ، قال : ثم أقبل علينا رجل عليه ثياب رثّة ، وقال : أعطوني ممّا رزقكم الله ، فقال لي الحسين : إدفع إليه السلّة ، وقال له : خذ ما فيها وردّ الإناء ، ثم أقبل عَلَيَّ وقال : إذا رد السائل السلة فادفع إليه خمسين ديناراً ، وإذا جاء صاحب السلة فادفع إليه مائة ديناراً ، فقلت : جعلت فدآك آنفاً بعث عيناً لتقضى بها ديناً عليك ، فسألك سائل فأعطيته طعاماً وهو مقنع له ، فلم ترض حتى أمرت له بخمسين ديناراً ، فقال : يا حسن إن لنا ربّاً يعرف الحساب ، إذا جاء السائل فادفع إليه مائة دينار ، فإذا جاء صاحب السلة فادفع إليه مائتي دينار ، والذي نفسي بيده إني لأخاف أن لا يقبل منّي الذهب والفضّة والتراب عندي بمنزلة واحدة ، هذا ما كان من كرمه وجوده. وأمّا الأخبار في فضله متواترة ومشهورة.

وأمّا سبب خروجه ، قالوا : إنّ الهادي رابع خلفاء بني العباس ولّى المدينة رجلاً من ولد عمر بن الخطاب ، وهو عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر ، فضيّق العمري على الهاشميين أشدّ التضييق ، وكان ينال منهم بكل ما يستطيعه من الأذى والضرب ، حتى ضرب الحسن بن محمّد بن عبدالله المحض يوماً مائتين سوطاً وضرب رجلين من خواصّه ، ثم أمر فجعلوا الحبال في أعناقهم وطيف بهم في سكك المدينة مكشّفي الظهور ، وأشاع في الناس بأنّه وجدهم على شراب ، فجاء إليه الحسين بن علي صاحب فخّ فقال له : لقد خزيتهم ، ولم يكن لك أن تضربهم فلم تطوف بهم؟ فأمر العمري بهم فقبض عليهم وزجّوا في السجن ، فجاء الحسين وضمن له وكفلهم فأخرجهم من الحبس.

قال الراوي : فغاب الحسن بن محمد عن المدينة أيأماً لشغل له ، فبلغ ذلك العمري فغضب وأحضر الحسين بن علي ويحيى بن عبدالله بن الحسن فأغلظ لهما وهدّدهما وقال : لتأتياني به أو لأسوأنّكما ، فإنّ له ثلاثة أيام لم يحضر

٢٠٥

العرض ، وكان يطلب بني هاشم في كلّ يوم للعرض عليه ، ليقف على أحوالهم وشؤونهم.

قال الراوي : فتضاحك الحسين في وجه العمري ، وقال له : أنت مغضب يا أبا حفص ، فقال العمري : استحقاراً بي تخاطبني بكنيتي ، فقال له الحسين : قد كان أبو بكر وعمر هما خير منك يخاطبان بالكنى ، فلا ينكران ذلك وأنت تكره الكنية وتريد المخاطبة بالولاية. فقال له : آخر قولك شرّ من أوّله ، إنّما أدخلتك عَلَيَّ لتفاخرني وتؤذيني ، ثم حلف العمري أن لا يخلّي سبيله أو يجيئه بالحسن بن محمد في باقي يومه وليلته ، وإن لم يجيء به ليضربنّ الحسين ألف سوط ، وحلف إن وقعت عينيه على الحسين بن محمّد ليقتله من ساعته.

قال : فخرج الحسين من عنده ووجّه إلى الحسن من جاء به فقال له : يابن العمّ قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق ، فامض حيث شئت. فقال الحسن : لا والله يابن العم ، بل أجيء معك الساعة حتى أضع يدي في يده. فقال الحسين : لا والله ماكان الله ليطلع عَلَيَّ وإذا جاء إلى محمّد وهو خصيمي وحجيجي في أمرك لعلّ الله أن يقينا شرّه.

قال الراوي : ثم إنّ الحسين عليه‌السلام وجه إلى بني هاشم فاجتمعوا ستّة وعشرين رجلاً من ولد علي عليه‌السلام وعشرة من الحاج ونفر من الموالي ، فحضروا عنده وهم طوع إرادته ، فكان أول من أمره أن ثار بهؤلاء النفر ، لكأنّه عمّه الحسين عليه‌السلام حيث بعث على إخوته في الليلة التي بعث عليه ـ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ والي المدينة من قبل يزيد لعنه الله فاجتمعوا عنده وقد دخلوا عليه يقدمهم أبوالفضل العباس الخ.

٢٠٦

المطلب الحادي والخمسون

في مقتل الحسين بن علي الحسني بفخ

لمّا كثر الأذى والجور من عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله العمري والتضييق على العلويين ، ورأى الحسين بن علي صاحب فخ ما رأى من الهوان عليه خاصّة ، وجّه الى بني هاشم فاجتمعوا ستّة وعشرين رجلاً من ولد علي وعشرة من الحاج ، ونفر من الموالي ، فلمّا أذن أذان الصبح دخلوا المسجد وصعد عبدالله بن الحسن الأفطس على المأذنة التى عند رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال للمؤذن : إذّن بحيّ على خير العمل ، فلمّا نظر المؤذن إلى سيف في يده أذّن بها ، وسمعه العمري ، فأحسّ بالشر ودهش ، ثم قام من وقته وهرب من المدينة ، فصلّى الحسين بالناس الصبح ، ودعى بالشهود العدول الذين كان العمري أشهدهم عليه بأن يأتي بالحسن إليه فقال للشهود : هذا الحسن قد جئت به ، فهاتوا العمري ، وإلّا والله خرجت من يميني وممّا عَلَيَّ ، ثم خطب الحسين بعد صلاته ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أنا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على منبر رسول الله ، وفي حرم رسول الله ، أدعوا الى سنّة رسول الله ، أيّها الناس أتطلبون آثار رسول الله في الحجر والعود ، تمسحون بذلك وتضيّعون بضعة منه.

قال : فأتاه الناس وبايعوه على كتاب الله وسنة نبيّه والرضا من آل محمّد ، فبلغ ذلك حماد البربري ، وكان على مسلحة بالمدينة ومعه مائتين من الجند ،

٢٠٧

وجاء العمري ناس كثير حتى وافوا باب المسجد فاراد حماد أن ينزل ، فبدر يحيى ابن عبدالله بن الحسن ، وفي يده السيف فضربه على جبينه وعليه القلنسوة فقطع ذلك كلّه وأطار مخّ رأسه ، فسقط عن دابّته وحمل على أصحابه فتفرّقوا وانهزموا ، وكان بالمدينة مبارك التركي ومعه بعض الجند ، فقاتل الحسين أشدّ القتال حتى منتصف النهار ، ثم انهزموا ، وقيل : إنّ مباركاً أرسل إلى الحسين يقول له : والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير أيسر عَلَيَّ من أشوكك بشوكة ، أو أقطع من رأسك شعرة فبيّتني فإنّي منهزم عنك.

قال : فوجّه إليه الحسين قوماً ، فلمّا دنوا منه صاحوا صيحة واحدة وكبّروا فانهزم التركي هو ومن معه ، وأقام الحسين بن علي وأصحابه يتجزون بالمدينة أحد عشر يوماً ، وفرق ما كان في بيت المال على الناس وهي سبعون ألفاً ، ويقول : ابايعكم على كتاب الله وسنّة نبيّه ، وعلى أن يطاع الله ولا يعصى ، وأدعوكم الى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ، والعدل في الرعية ، والقسم بالسويّة ، وعلى أن تقيموا معنا وتجاهدوا عدوّنا ، فإن نحن وفيناكم وفيتم لنا ، وإن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم.

قال : ثم خرج الحسين وأصحابه وهم زهاء ثلاثمائة لستّ بقين من ذي القعدة إلى مكة ، واستخلف على المدينة دينار الخزاعي ، هذا وقد بلغ خبره إلى الخليفة الهادي العباسي ، وكان قد حج في تلك السنة رجال من أهل بيت الخليفة ، منهم سليمان بن أبي جعفر عمّ الهادي ، ومحمّد بن سليمان والعباس بن محمد وموسى وإسماعيل ابنا عيسى الدوانيقي ، وقد التحق بهم مبارك التركي ومن معه فأمرهم الخليفة بتولية الحرب ، وقد سرح لحرب الحسين الجيش.

قال : ولمّا بلغ الحسين وأصحابه فخّ تلقّتهم الجيوش من المسوّدة ، وكان يوم التروية عند صلاة الصبح ، فعرض العباس بن محمّد على الحسين الأمان

٢٠٨

فقال : لا أمان لكم ، وأبى الحسين أشدّ الإباء. قال لي موسى بن عيسى : إذهب إلى عسكرالحسين حتى تراه وتخبرني بكلّ ما رأيت. قال : فمضيت ودرت فما رأيت خللاً ولا فللاً ولا رأيت إلّا مصلياً أو مبتهلاً أو قارئ في المصحف أو معدّ للسلاح ، قال : فجئته وقلت له : ما أظن القوم إلّا منصورين. فقال : وكيف ذلك يابن الفاعلة؟ قال : فأخبرته ، فضرب يداً على يد وبكى حتى ظننت أنّه سينصرف ، وقال : هم والله أكرم خلق الله وأحق بما في أيدينا منّا ، ولكن الملك عقيم ، ولو أنّ صاحب هذا القبر يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نازعنا على الملك لضربنا خيشومه بالسيف.

قال الراوي : ولمّا تقابل الفريقان أقعد الحسين رجلاً على جمل ومعه سيف ، يلوح به ، والحسين بن علي يملي عليه حرفاً حرفاً ، ونادى : يا معشر المسودّة ، هذا الحسين بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن عمّه يدعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فأمر موسى بن عيسى بتعبية العسكر فصار محمّد بن سليمان في الميمنة وموسى في الميسرة وسليمان بن أبي جعفر والعباس بن محمّد في القلب وكان أوّل من بدأهم موسى فحملوا عليه فاستطردهم شيئاً حتى انحدروا في الوادي وحمل عليهم محمد بن سليمان من خلفهم فطحنهم طحنة واحدة حتى قتل أكثر أصحاب الحسين وبقي الحسين في عدد يسير ، فجعل يقاتل أشد القتال حتى أثخن بالجراح.

قال من حضر الوقعة : رأيت الحسين بن علي وقد دفن شيئاً ظننت أنّه شيء له قدر فلمّا كان من أمره ما كان نظرنا فإذا هو قطعة من جانب وجهه وقد قطع ودفنه ، ثم عاد للقتال.

قال : وكان حمّاد التركي ممّن حضر الوقعة ، فقال للقوم : أروني حسيناً ،

٢٠٩

فأروه إيّاه فرماه بسهم فقتله ، فوهب له محمّد بن سليمان مائة ألف درهم ومائة ثوب.

قال : ولمّا قتل الحسين وأصحابه قطّعوا رؤوسهم وجاؤا بالرؤوس إلى موسى والعباس وسليمان وهي مائة رأس ونيّفاً وبين تلك الرؤوس رأس الحسين بن علي وبجبهته ضربة سيف طولاً وعلى قفاه ضربة اُخرى ، وكان عندهم جماعة من ولد الحسن والحسين وسيّدهم موسى بن جعفر ، فلمّا نظر موسى بن جعفر إلى رأس الحسين بكى وفقيل له : رأس الحسين ، قال : نعم إنا لله وإنا إليه راجعون ، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً آمر بالمعروف ناهياً عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله ، ثمّ حلمت الرؤوس والاُسارى إلى الهادي ، وأمر بقتل بعض الاُسارى ، ولمّا بلغ العمري قتل الحسين وهو بالمدينة عمد إلى داره ودور أهله فأحرقها وقبض نخيلهم وجعلها في الصوافي المقبوضة.

أقول لَإن أحرق العمري دار الحسين وأهله فلقد اقتدى بسلفه مع دار فاطمة والذين أحرقوا مضارب الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء حتى فررن منها الهاشميات كالطيور الهاربة من النار.

وحائرات أطار القوم أعينها

رعباً غداء عليها خدرها هجموا (١)

__________________

(١) من قصيدة عصماء للشاعر المحلق السيد حيدر الحلّي ومطلعها :

إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحمُ

فلا مشت بي في طُرق العُلى قدمُ

٢١٠

المطلب الثاني والخمسون

في غيبة الحجة عليه‌السلام

ولد المهدي صاحب العصر والزمان ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين بسر من رأى (١) في أيام المعتمد العباسي.

وروى المفيد رحمه‌الله (٢) قال : ولم يخلف أبوه ولد ظاهراً ولا باطناً غيره ، وخلّفه غائباً مستتراً ، وكان عمره عليه‌السلام عند وفاة أبيه خمس سنين ، وقد آتاه الله فيها الحكمة وفصل الخطاب ، وجعله آية للعالمين.

نعم ، آتاه الله الحكمة كما آتاها يحيى صبيّاً ، وجعله إماماً في حال الطفوليّة الظاهرة كما جعل عيسى بن مريم في المهد نبيّاً ، واُمّه اُم ولد يقال لها نرجس ، كانت خير أمة. وفي رواية أنّ اسمها الأصلي مليكة. وكنيته ككنية جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكنّى أيضاً بأبي جعفر ، وألقابه : الحجة ، والمهدي ، والخلف الصالح ، والقائم المنتظر ، وصاحب الزمان ، وأشهرها المهدي ، ولقد بشّر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده الأئمّة واحداً بعد واحد ، حتى يوم ولادته عليه‌السلام وقبل أن يولد بساعات أخبر عنه أبوه العسكري عليه‌السلام.

__________________

(١) وفي رواية سنة ستّ وخمسين ومائتين ، فيكون في الحروف الأبجدية (نور).

(٢) في ص ٣٣٩ من كتابه الإرشاد.

٢١١

روى أبوالحسن المسعودي في كتاب اثبات الوصية لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، روى لنا الثقاة من مشائخنا أنّ بعض أخوات أبي الحسن علي بن محمّد الهادي كانت له جارية ولدت في بيتها مربّيتها تسمّى نرجس ، فلمّا كبرت وعبلت دخل أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام فنظر إليها فأعجبته ، فقالت له عمّته : أراك تنظر إليها. فقال عليه‌السلام : إني ما نظرت إليها إلّا متعجّباً أمّا إنّ المولود الكريم على الله جلّ وعلا يكون منها ، ثم أمّرها أن تستأذن أباالحسن ، ورفعها إليه ففعلت فأمرها بذلك.

وروى الصدوق في إكمال الدين بسنده عن المطهري عن حكيمة بنت الإمام محمّد عليه‌السلام قالت : كانت لي جارية يقال لها نرجس ، فزارني ابن أخي يعني العسكري وأقبل يحدّ النظر إليها ، فقلت له : سيدي لعلك هويتها فأرسلها إليك؟ فقال : لا يا عمّة لكنّي أتعجّب منها ، سيخرج منها ولد كريم على الله عزّوجلّ الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً. فقلت : فأرسلها إليك يا سيّدي؟ فقال : استأذني أبي ، فأتيت إلى منزل أبي الحسن فبدأني وقال : يا حكيمة ابعثي نرجس الى ابني أبي محمد ، فقلت : يا سيدي على هذا قصدتك. فقال : يا مباركة إنّ الله تبارك تعالى أحبّ أن يشركك في الأجر. قالت : فزيّنتها ووهبتها لأبي محمّد.

قالت : فمضى أبو الحسن جلس أبو محمّد مكانه ، فكنت أزوره كما كنت أزور والده ، قالت : فلمّا غربت الشمس صحت بالجارية ، ناوليني ثيابي لأنصرف فقال عليه‌السلام : يا عمّتاه اجعلي افطارك الليلة عندنا ، فإنّها ليلة النصف من شعبان ، فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة وهو حجّته في أرضه. قالت : فقلت : ومن اُمّه؟ قال : نرجس. فقلت : جعلني الله فداك لا أرى بها أثر حمل! فقال : هو ما أقول لك. قالت : فجئت إليها ، فلمّا سلّمت وجلست جاءت لتنزع

٢١٢

خفيّ وقالت لي : يا سيّدتي كيف أمسيت؟ فقلت : بل أنت سيّدتي وسيّدة أهلي ، فأنكرت قولي وقالت : ما هذا يا عمّة؟ فقلت : يا بنيّة إنّ الله سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة.

قالت حكيمة : فجلست واستحيت ، ثم قال لي أبو محمّد : إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحمل لأنّ مثلها مثل اُمّ موسى لم يظهر بها الحمل ولم يعلم بها أحد الى وقت ولادتها ، لأنّ فرعون كان يشق بطون الحبالى ، في طلب موسى ، وهذا نظير موسى عليه‌السلام.

قالت حكيمة : فلمّا فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ، فلمّا كان في جوف الليل قمت الى الصلاة فصلّيت وفرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث ، ثم جلست معقّبة انتبهت وقامت الى الصلاة ، فدخلتني الشكوك ، فصاح بي أبو محمد من المجلس : لا تعجلي يا عمة ، فإن الأمر قد قرب. قالت : فقرأت الم سجدة ، ويس فبينا أنا كذلك وإذا بنرجس انتبهت فزعة فوثبت إليها وقلت لها : اسم الله عليك ، ثم قلت : أتحسين شيئاً؟ قالت : نعم ، فقلت لها : اجمعي نفسك واجمعي قلبك ، ثم أخذتني فترة وأخذتها فترة فانتبهت بحس سيدي فكشفت الثوب عنه فإذا به ساجد يتلقى الأرض بمساجده ، فأخذته وضممته إلي ، فإذا به طاهر مطهر ، فصاح بي أبو محمد : هلمي الي ابني يا عمة ، فجئت به إليه ، فوضع يده تحت إليته وظهره ووضع قدميه على صدره ثم ادلى لسانه في فيه وأمر يده على عينيه وسمعه ومفاصله ، ثم قال : تكلم يا بني ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، ثم صلّى على أمير المؤمنين وعلى الأئمة إلى أن وقف على أبيه ثم أحجم.

قالت حكيمة : ولمّا أصبح الصباح جئت لأسلم على أبي محمّد عليه‌السلام فافتقدت سيّدي فلم أره ، فقلت : جعلت فداك ما فعل سيّدي؟ فقال : استودعناه

٢١٣

الذي استودعته اُمّ موسى ، فلمّا كان اليوم السابع ، جئت إليه فقال : هلمّي إلي ابني ، ففعل به كالأول ثم ادلى لسانه في فيه كأنّه يغذيه لبناً أو عسلا ، ثم قال : تكلّم يا بني ، فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وثنى بالصلاة على محمّد وعليّ أمير المؤمنين والأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، حتى وقف على أبيه ثم تلا هذه الآية : (وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (١).

أقول : إذاً متى يا فرج الله.

طالت علينا ليالي الإنتظار فهل

يابن الزكي لليل الإنتظار غد

فاكحل بطلعتك الغرّا لنا مقلاً

يكاد يأتي على إنسانها الرمد (٢)

__________________

(١) سورة القصص : ٥ ـ ٦.

(٢) من قصيدة مشهورة للمغفور له السيد رضا الهندي طاب ثراه مطلعها :

أيّان تنجز لي يا دهرُ ما تعِدُ

قد عَشَّرَت فيك آمالي ولا تلدُ

٢١٤

المطلب الثالث والخمسون

في غيبة الحجة عليها‌السلام

الخلف الصالح له غيبتان : صغرى وكبرى ، أمّا الغيبة الصغرى كانت مدّتها إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء ، وعدم نصب غيرهم ، وهي أربع وسبعون سنة ، ففي هذه المدّة كان السفراء يرونه وربّما رآه غيرهم ، ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في أجوبة مسائل ، وفي أمور شتّى.

وأمّا الغيبة الكبرى فهي بعد الأولى إلى أن يأتيه الأمر من الله فيقوم بالسيف ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، وقد جاء في بعض التوقيعات أنّه بعد الغيبة الكبرى لا يراه أحد وإنّ من ادعى الرؤية قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب ، وجاء في بعض الأخبار أنّه يحضر الموسم كلّ سنة فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه ، فهو المنتظر لأمر الله.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تذهب الدنيا حتى يلي اُمّتي رجل من أهل بيتي يقال له المهدي».

وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».

٢١٥

وقد وردت روايات جمّة وأحاديث نبوية في الحجة عليه‌السلام.

وعن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «المهدي رجل من ولدي ، لونه لون عربي ، وجسمه جسم إسرائيلي ، على خدّه الأيمن خال كأنّه كوكب درّي ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، يرضى بخلافته أهل الأرض وأهل السماء ، والطير في الجوّ».

وفي حديث آخر : «يستخرج الكنوز ، ويفتح مدائن الشرك».

وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي ، يفتح القسطنطينية ، وجبل الديلم ، ولو لم يبق إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يفتحها».

ونحن لا نعبأ بقول من تعصب بعصابة العصبيّة ، وراح يكيل الكلام الفارغ على هذه الطائفة ، ولم يلتفت إلى الأحاديث الواردة في كتب الأئمّة والأخبار المروية عن علمائه بمناسبة غيبة الحجة المنتظر. بل حدا به حقده أن يقول افتراء علينا (١) :

ما آن للسرداب أن يلد الذي

صيّرتموه بزعمكم إنسانا

فعلى عقولكم العفاء إذ أنكم

ثلّثتم العنقاء والغيلانا

فأجابه شاعرنا مشطراً وهو المغفور له السيّد حيدر الحلّي :

ما آن للسرداب أن يلد الذي

فيه تغيب عنكم كتمانا

فعلى عقولكم العفاء لأنكم

أنكرتم بجحوده القرآنا (٢)

__________________

(١) إذا لم يرو أحد من الشيعة أنه عليه‌السلام غاب بالسرداب.

(٢) أشار بقوله : أنكرتم بجحوده القرآنا إلى قوله تعالى : (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه الى يوم يبعثون) وهذه الآية أكبر دليل على بقاء المهدي عليه‌السلام ، وهو حي يرزق ينتظر الأمر بظهوره.

٢١٦

هو نور رب العالمين وإنّما

صيرتموه بزعمكم إنسانا

لو لم تثنّوا العجل ما قلتم لنا

ثلّثتم العنقاء والغيلانا

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي الإثنى عشر ، أولهم علي وآخرهم ولدي المهدي ، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلف المهدي ، وتشرق الأرض بنور ربّها ويبلغ الكنوز ولا يبقى في الأرض خراب إلّا ويعمر».

وأمّا الحوادث التي تكون قبل خروجه منها : خروج السفياني ، وقتل الحسني ، وإختلاف بني العباس في الملك ، وكسوف الشمس في النصف من شهر رمضان وخسوف القمر في آخره على خلاف العادة ، وخسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وركود الشمس من عند الزوال إلى وسط أوقات العصر ، وطلوعها من المغرب ، وقتل النفس الزكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين ، وذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام ، وهدم حائط مسجد الكوفة ، وإقبال رايات سود من قبل خراسان ، وخروج اليماني ، وظهور المغربي بمصر وتملّكه الشامات ، ونزول الترك الجزيرة ، ونزول الروم الرملة.

وطلوع نجم بالمشرق يضيء كما يضيء القمر ثم ينعطف حتى يكاد يلتقى طرفاه ، وحمرة تظهر في السماء وتنتشر في آفاقها ، ونار تظهر بالمشرق طولا وتبقى في الجو ثلاثة أيام أو سبعة ، وخلع العرب أعنتها وتملكها البلاد ، وخروجها عن سلطان العجم ، وقتل أهل مصر أميرهم ، وخراب الشام ، واختلاف ثلاث رايات فيه ، ودخول رايات قيس والعرب إلى مصر ، ورايات كندة الى خراسان ، وورود خيل من قبل العرب حتى تربط بفناء الحيرة ، وإقبال رايات سود من المشرق نحوها ، وثقب في الفرات حتى يدخل الماء أزقة الكوفة ، وخروج ستّين كذاباً كلهم يدعون النبوة ، وخروج أثني عشر من آل أبي طالب

٢١٧

كلّهم يدعي الإمامة لنفسه.

واحراق رجل عظيم القدر من شيعة بني العباس بين جلولا وخانقين ، وعقد الجسر ممّا يلي الكرخ بمدينة بغداد ، وارتفاع ريح سوادء بها في أول النهار ، وزلزلة حتى ينخسف كثير منها ، وخوف يشمل أهل العراق وبغداد ، وموت ذريع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات ، وجراد يظهر في أوانه وفي غير أوانه حتى يأتي على الزرع والغلّات ، وقلّة الريع لما يزرعه الناس ، واختلاف صنفين من العجم ، وسفك دماء كثيرة فيما بينهم ، وخروج العبيد عن طاعة ساداتهم ، وقتل مواليهم ، ومسخ قوم من أهل البدع ، حتى يصيروا قردة وخنازير ، وغلبة العبيد على بلاد السادات ، ونداء من السماء يسمعه أهل الأرض كلّ أهل لغة بلغتهم ، ووجه وصدر يظهران من السماء للناس في عين الشمس ، وأموات ينشرون من القبور حتى يرجعوا إلى الدنيا فيتعارفون فيها ويتزاورون ، ثم يختم ذلك بأربع وعشرين مطرة تتصل فتحيي بها الأرض بعد موتها ، وتعرف بركاتها وتزول بعد ذلك كلّ عاهة عن معتقدي الحق من شيعة المهدي فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكة ويتوجّهون نحوه لنصرته كما جاءت بذلك الأخبار.

قال : ويجمع الله عند ذلك أصحاب المهدي وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، عدد أهل بدر ، فيبايعونه بين الركن والمقام ثم يخرج بهم من مكة فينادي المنادي باسمه وأمره من السماء حتى يسمعهم أهل الأرض كلّهم ، ثم يأتي الكوفة فيطيل بها المكث ثم يتوجّه بعد ذلك إلى كربلاء :

كربلاء لا زلت كرب وبلا

ما لقي عندك آل المصطفى (١)

__________________

(١) مطلعُ قصيدةٍ مشهورة وهي من نظم الشريف الرضي أعلى الله مقامه وزاد في الخلد إكرامه المتوفى في السادس من شهر محرم الحرام من سنة ٤٠٦ هـ.

٢١٨

المطلب الرابع والخمسون

في سفراء الحجة عليه‌السلام

للمهدي المنتظر من آل محمد عجّل الله فرجه غيبتان : صغرى وكبرى ، كما جاءت بذلك الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، فمن مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين الشيعة يعني إلى وفاة السمري رابع السفراء هي الغيبة الصغرى ، وهي أربعة وسبعين سنة ، ففي هذه الأربع وسبعين سنة كان السفراء يرونه ويجتمعون عنده وربما رآه غيره ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات إلى شيعته في أجوبة مسائل شتى يسألون بها الإمام عليه‌السلام.

وأمّا الغيبة الكبرى فهي بعد الأولى وفي آخرها يقوم بالسيف ، وقد جاء في بعض التوقيعات أنّه بعد الغيبة الكبرى لا يراه أحد ، وأنّ من ادعى الرؤية قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب ، وجاء في عدة أخبار أنه عليه‌السلام ، يحضر المواسم في كلّ سنة فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه.

وأمّا السفراء الأربعة الذين كانوا بينه وبين شيعته : أولهم أبو عمروعثمان بن سعيد العمري ، كان عثمان بن سعيد هذا من بني أسد ، ونسب إلى جدّه أبي أُمّه جعفر العمري ، ويقال العسكري ، لأنّه كان يسكن العسكر ، وهي المحلة التي كان يسكنها الإمامين عليهما‌السلام ، موضع قبورهم الآن ، لأنّ قبورهم في دارهم ، ويقال له السمان لأنّه كان يتجر بالسمن ، تغطية للأمر ، وكان الشيعة إذا حملوا إلى الحسن

٢١٩

العسكري ما يجب عليهم من المال ، جعله أبو عمرو في زقاق السمن وحمله إليه خوفاً وتقيّة ، وكان قد نصبه الإمام الهادي عليه‌السلام وكيلاً له ، ثم ابنه الحسن العسكري ، وبعدها كان سفيراً للمهدي عليه‌السلام إلى شيعته ، وكان الهادي عليه‌السلام يقول في حقّه : (هذا أبو عمرو الثقة الأمين ، ما قاله لكم فعنّي يقوله ، ما أدّاه إليكم فعني يؤدّيه).

وسأله بعض أصحابه قال له : سيّدي لمن أعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال عليه‌السلام (العمري ثقتي فما أدّى إليك فعنّي يؤدّي وما قال لك فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون).

وقال العسكري بعد وفاة أبيه عليه‌السلام فيه : (هذا أبو عمرو الثقة الأمين ، ثقة الماضي وثقتي في الحياة والممات ، فما قاله لكم فعنّي يقوله ، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّي).

وأقبل إليه جماعة من الشيعة زهاء أربعين رجلاً وسألوه عن الحجّة من بعده ، فإذا غلام كأنّه قمر طالع أشبه الناس بأبي محمّد العسكري عليه‌السلام فقال عليه‌السلام : (هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ، ألا وإنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا حتى يتمّ له عمر ، فأقبلوا من عثمان ابن سعيد ما يقوله وانتبهوا إلى أمره وأقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه).

ولقد حضر عثمان بن سعيد تغسيل العسكري وتولى جميع أمره في تكفينه وتحنيطه ودفنه ، وكان مأموراً بذلك من قبل الإمام عليه‌السلام.

قال الشيخ الطوسي رحمه‌الله ، وكانت توقيعات الإمام تخرج على يده ويد ابنه محمّد إلى شيعته ، وخواصّ أبيه العسكري عليه‌السلام ، بالأمر والنهي ، وأجوبة المسائل بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن العسكري عليه‌السلام ، فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالة عثمان بن سعيد حتى توفي رحمه‌الله وغسّله ابنه محمّد ودفن بالجانب الغربي من مدينة السلام في شارع الميدان.

٢٢٠