الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-61-4
الصفحات: ١٦٧
وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار لمن ولاّه أمرهم ، فاستكبروا عن طاعته تغرّراً(١) وافتراءً على اللّه عزّوجلّ ، واغتراراً بكثرة من ظاهرهم ، وعاونهم ، وعاند اللّه عزّوجلّ ورسوله)(٢).
خامساً ـ إدراك خصوصية تضمن النص للظاهر والباطن :
إنّ من الموّد أنّ للمنهج القرآني واُسلوبه في إيصال الأفكار والمفاهيم والمعارف المختلفة أثراً بالغ الأهمية في عملية الكشف عن دلالاته ، وهذا ما يستلزم من المتصدي لعملية الكشف أن يكون مستوعباً للأساليب القرآنية في التوصيل والتبليغ وصيغ التعبير ، قال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(٣) ، وقال تعالى : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ)(٤) ، ونلاحظ أن اُسلوب القرآن التعبيري يكاد يتصور في صورتين تعبيريتين هما :
١ ـ الظهور المباشر : وهو ما يتمثل فيه ارتسام مدلول الكلمة أو الكلام بالنظرة الأولى في الذهن كما في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)(٥).
٢ ـ التضمّن والاحتواء المستبطنين : وهو ما يتمثل في استعمال القرآن للمثل والقصة للإيحاء بالمفاهيم من جهة ، أواستعمال الرمز والإشارة
__________________
(١) أي : تمنّعاً وتمرّداً.
(٢) الاحتجاج ١ : ٣٧٦.
(٣) سورة محمّد صلىاللهعليهوآله : ٤٧ / ٢٤.
(٤) سورة ص : ٣٨ / ٢٩.
(٥) سورة الاخلاص : ١١٢ / ١.
الخفية والاحتواء على مفاهيم مستبطنة لا تنكشف بمجرد التدبر ولا تظهر بالاكتفاء بالظاهر.
وقد عبر الإمام الصادق عليهالسلام عن هذه الحالة بقوله عليهالسلام (نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة)(١) ، ومثله عن الإمام الرضا عليهالسلام(٢) ، وكذلك عن عبد اللّه بن عباس(٣).
وهذا ما يطلق عليه في النقل عن الرسول صلىاللهعليهوآله والأَئمة عليهمالسلام بالظاهر والباطن واحتواء النص عليهما ، وهو ما جاءت الروايات العديدة لبيانه ، فمن ذلك ما روي عن الرسول صلىاللهعليهوآله من حديث طويل في وصف القرآن الكريم : ( .. وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق)(٤).
ويبدو أن المراد من الظهر هنا ما يفهم من ظاهر الآيات الشريفة ، ومن البطن الإشارات والرموز. وفي رواية عن الإمام علي عليهالسلام : (ما من آية
__________________
(١) الكليني / أصول الكافي ٢ : ٦٣٠ ـ ٦٣١ / ١٢ باب النوادر من كتاب فضل القرآن ، وتفسير القمي ٢ : ١٨ و١٤٧ و١٧١ و٢٥١ و٣٧٣ ، وتفسير العيّاشي ١ : ١٠٠ / ٤.
(٢) الطبرسي / الاحتجاج ٢ : ٢٢٢.
(٣) الشريف المرتضى / تنزيه الأنبياء عليهمالسلام : ١٦٧ ، والشيخ الطوسي / التبيان في تفسير القرآن ١٠ : ٢٨ ، والطبرسي / مجمع البيان ٧ : ٤٦٥ ، وجوامع الجامع له أيضاً ٢ : ٧٥٧ ، ورواه من العامة الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء : ١١٢.
وأصل إيّاك أعني واسمعي يا جارة عجز بيت شعري قاله سهل بن مالك الفزاري ، وله قصّة. اُنظر : الطريحي / مجمع البحرين ١ : ٤٢٧.
(٤) أصول الكافي ٢ : ٥٩٩ / ٢ من كتاب فضل القرآن ، وتفسير العيّاشي ١ : ٢ ـ ٣ / ١.
إلاّ ولها أربعة معانٍ : ظاهر ، وباطن ، وحدٍّ ، ومطلع. فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحدّ هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو مراد اللّه من العبد)(١) فالتلاوة هنا الظاهر من مدلول اللفظ ، وأما الباطن فعنى به ما في ذلك الظاهر من معان مستبطنة.
هذه الثنائية في النص الواحد تستدعي من المفسر المتصدي التفاتاً مهماً إلى ضرورة الوقوف طويلاً أمام النص ، وعدم الانجراف إلى التأسيس على الظاهر وحده بحيث يتقيد فيه وينزوي بالنص في دائرة ضيقة ، ويهمّش مفاهيم ومعارف ربما تكون هي الجانب الأكثر تعبيراً وتوصيلاً لمراد المتكلّم بالنص القرآني ، وربما تستبعد الكثير من الوجوه المحتملة في تفسيره لا سيّما إذا كان النص كما عبر عنه الإمام علي عليهالسلام : (حمّال ذو وجوه)(٢).
وهذا ما يتأكّد بالمصداق الواقعي في الرواية عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، قال : (سألت أبا جعفر عليهالسلام عن شيء من التفسير فأجابني ، ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر. فقلت : جعلت فداك كنت أجبتني في هذه
__________________
(١) الفيض الكاشاني / التفسير الصافي ١ : ١٣٠ ، وأورده الزركشي في البرهان في علوم القرآن ٢ : ١٥٣ فصل في حاجة المفسّر إلى الفهم والتبحّر في العلم ولم ينسبه إلى أحد.
(٢) الشريف الرضي / المجازات النبويّة : ٢٥١ ، والشيخ المفيد / أوائل المقالات : ٤٠١ ، وابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة ١٨ : ٧١ ، وذكره من العامّة : الشوكاني في فتح القدير ١ : ١٢ ، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث ١ : ٤٢٧ حَمَلَ ، ومثله ابن منظور في لسان العرب ١١ : ١٧٥ (حَمَلَ) أيضاً.
المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال عليهالسلام : يا جابر إنّ للقرآن بطنا ، وللبطن بطناً ، وله ظهر ، وللظهر ظهر ، يا جابر ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، إن الآية يكون أوّلها في شيء [وأوسطها في شيء] وآخرها في شيء ، وهو كلام متّصل منصرف على وجوه)(١).
وهذا المستبطن من المفاهيم والمعاني في النص لابدّ له من كاشف يتحدد عند الأَئمة بنحو الانحصار بهم عليهالسلام ، مصداقاً وتطبيقاً للرسوخ في العلم الذي تبين لنا أنّهم عليهمالسلام مصداقه الوحيد.
ثم أنّ الفهم للباطن من النص يتعلق بالمائز الذي اختصوا به من جهة ، ولطبيعة النص في مخاطباته التي تستحضر اختلاف الأفهام ، وهو ما أشارت إليه روايات عديدة ، عنهم عليهمالسلام ، كقول الإمام الحسين عليهالسلام : (كتاب اللّه عزّوجلّ على أربعة أشياء : على العبارة ، والإشارة ، واللطائف ، والحقائق. فالعبارة للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء عليهمالسلام)(٢).
__________________
(١) البرقي / المحاسن ٢ : ٣٠٠ / ٥ من كتاب العلل ، وتفسير العيّاشي ١ : ١١ / ٢ ، وما بين العضادتين منه ، و ١ : ١٢ / ٨ كما في المحاسن ، ومثله عند الاسترآبادي في تأويل الآيات الظاهرة ١ : ٢٢ / ٥.
(٢) المجلسي / بحار الأنوار ٨٩ : ٢٠ / ١٨ ، ورواه الإحسائي في عوالي اللئالي ٤ : ١٠٤ / ١٥٥ عن أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام ، ورواه المجلسي في البحار ٧٥ : ٢٧٨ / ١١٣ ، عن الإمام الصادق عليهالسلام.
ويظهر من هذا أمران :
١ ـ إنّ للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم. وهذا لا يمنع من وصول المرتبة العليا إلى ذوي المراتب الأقلّ بالتعليم ، كوصول الحقائق إلى الأولياء بواسطة النبي صلىاللهعليهوآله ، وإلى الخوّاص بتوسطّهم عليهمالسلام ، وهكذا في بقية المراتب الأخرى.
٢ ـ إنّ الظهر والبطن أمران نسبيان ، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس كما يظهر من الرواية السابقة عن الإمام الباقر عليهالسلام التي تضمنت اختلاف أجوبته عن سول واحد.
من هنا نفهم ميزتهم عليهمالسلام في الكشف عن باطن النص الذي يصل إلى حد النطق عن القرآن (الصامت) كما عبر عنه الإمام علي عليهالسلام في قوله : (أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الأُمم ، وانتقاضٍ مبرم ، فجاء بتصديق بين الذي يديه ، والنور المقتدى به ، ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم عنه ، ألاَ إنّ فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم)(١) ، وكما في قوله عليهالسلام : (أنا القرآن الناطق وهذا القرآن الصامت)(٢) تصريحاً بأن فهمه للقرآن ، وانكشاف باطنه له بما علّمه الرسول صلىاللهعليهوآله ممّا مرّ بيانه في الروايات السابقة ، وهذا الانكشاف هو المائز الذي يفصل بين الاستنطاق ، ومجرّد التدبّر في النص الذي هو أعلى ما يصل إليه غير المعصوم عليهالسلام من متصدّين للفهم ممن اجتمعت فيه
__________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ٥٨.
(٢) نهج البلاغة : ٢٢٣ ، الخطبة رقم ١٥٨.
الشرائط العامة للفهم ، وزالت عنه الموانع ، فاستنبط العقائد الموافقة للبراهين العقلية واستظهر الأحكام العملية بمقدار ما دلّ عليه الظاهر ، فليس في وسع هواء إلاّ النظر من وراء حجاب الألفاظ الظاهرة ، والمفاهيم والصور الذهنية ، فهم يستفيدون منه بحدود تلك الأمور الأساسية المتاحة لهم.
أما الملاحم والغيبيات ، والتأويل بمعنى إرجاع مفاهيم ومعارف الكتاب إلى اُصولها وغيره ممّا لا يكفي مجرد التدبر لاستظهاره ، ولا ترقى العبارة للتعبير عنه ، ولا تفيد الإشارة في الإرشاد إليه ، فهو خارج عن نطاق الظهور اللفظي ولا يمكن استنباطه وتحصيله إلاّ بالعبور والرقي من مجرد التدبّر إلى الاستنطاق الذي يتوقف على تنزل القرآن من السر إلى العلن ، وأن ينطق بمكنونه ، وذلك لا يكون إلاّ لمن هو أهله وهم مستنطقو الباطن العميق.
سادساً ـ استبعاد التفسير بالرأي والهوى عن ساحة فهم النص :
يشكّل التفسير بالرأي أحد الاتجاهات الرئيسة في تفسير النص القرآني ، وتكاد صورته تتحدّد في مسلكين :
المسلك الأول ـ المقبول : ويكون باعتماد النظر المجرد (الذي يستعين بقواعد اللغة وأساليب البيان من غير أن يخالف تفسيراً عن النبي صلىاللهعليهوآله أو يتنافى مع أسباب النزول التي صحت طرق إثباتها)(١).
__________________
(١) ظ:الرزقاني/مناهل العرفان ٥١٨:١.
ومن ثمّ فهذا المسلك يعتمد الإتجاه العقلي في الكشف عن معاني الآيات وألفاظها ، وفي هذه الحدود أجاز العلماء هذا اللون من التفسير في ضوء شرائط تحرّزية ، تتمثّل في إرجاعه إلى مرجعية النص ومعياريته أوّلاً ، ثم الاعتماد على ما ورد تفسيره عن النبي صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام ثانياً. وكذلك أن لا تعرف فيه بشاعة الاستقباح.
هذه الضوابط ستكون في ما بعد منيرة السبيل للمفسر برأيه على أن يكون حائزاً للضوابط الفنية والموضوعية للمفسر التي تشكل ضابطاً آخر مهماً من ضوابط التفسير ، بأن يكون ذا معرفة ، واطلاع بقوانين اللغة (وأساليبها ، بصيراً بقانون الشريعة حتى ينزل كلام اللّه على المعروف من تشريعه)(١).
ونلاحظ هنا ورود جملة من الروايات عن الصحابة والتابعين في التفسير بالرأي بهذه الحدود ، أعني عدم معارضتها لما صحّ عن النبي صلىاللهعليهوآله وأهل البيت عليهمالسلام وعدم منافاتها لأدلّة العقول ، وجريانها على وفق قواعد اللغة وأساليب البيان العربي. وكان تلميذ الإمام علي عليهالسلام عبد اللّه بن عباس من القلائل الذين (اُوتوا علماً في كتاب اللّه رغم تحرّج أكثر الصحابة من القول في تفسير كتاب اللّه)(٢).
المسلك الثاني ـ التفسير بالرأي المنهي عنه : وردت العديد من الروايات
__________________
(١) الزركشي / البرهان في علوم القرآن ٢ : ١٧٨.
(٢) ابن تيمية / مقدمة في تفسير القرآن : ٣٨.
عن الرسول صلىاللهعليهوآله ، وآله عليهمالسلام ، والصحابة والتابعين في استقباحه والنهي عنه. وهو التفسير القائم على التخلي عن الضوابط التي التزم بها المسلك الأول ، فهنا يتمّ تفسير النص بالرأي الخاص المحض ، دون الاعتماد على شيء من علوم الشريعة ، ولا النظر إلى مرجعية الأُسس والأُصول التشريعية والعقائدية ، فيكون معنى الرأي هنا : (الاعتقاد عن اجتهاد ، وربما أطلق على القول عن الهوى والاستحسان)(١) ؛ إذ نلاحظ من الروايات النبوية نهياً شديداً عنه كما في قوله صلىاللهعليهوآله : (من فسر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار)(٢) ، وفي لفظ : (من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)(٣).
وينطلق النهي والتشديد فيه عند الأَئمة عليهمالسلام من هذا الإطار النبوي ، ونلاحظ هناأنّهم عليهمالسلام في رواياتهم يحددون ثلاث صورتندرج جميعاًتحت عنوان لجوء المفسر إلى الاستمداد من غير القرآن في تفسيره ، وتتمثل هذه
__________________
(١) الميزان ٣ : ٧٦.
(٢) الأحسائي / عوالي اللئالي ١ : ١٧ / ٢ ، ورواه من العامّة : السرخسي الحنفي / أصول السرخسي ١ : ١٢٧ ، و ٢ : ١٢١ ، والغزالي / المنخول في علم الأصول : ٤٢٧ ، وأخرجه الطبري في جامع البيان ١ : ٥٥ / ٦٣ ، عن عبد اللّه بن عباس موقوفاً.
(٣) الشهيد الثاني / منية المريد في أدب المفيد والمستفيد : ٣٦٨ ، ورواه من العامّة : الترمذي / سنن الترمذي ٤ : ٢٦٩ ، والطبراني / المعجم الأوسط ٥ : ٢٠٨ ، والثعالبي / تفسير الثعالبي الجواهر الحسان في تفسير القرآن ١ : ١٣٨ ، وأورده الزركشي في البرهان في علوم القرآن ٢ : ١٦٤ بلفظ : (من فسّر القرآن برأيه فقد أخطأ) ثمّ قال : (وفي رواية : من قال في القرآن برأيه فقد كفر).
الصور في :
الصورة الأولى ـ التكلم في القرآن بالرأي :
فمما روي عن أبي بصير ، عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : (من فسر القرآن برأيه ، إن أصاب لم يُور ، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء)(١).
ويجعل الإمام الرضا عليهالسلام اللجوء إلى الرأي بمرتبة الكفر إذ يروى عنه أنّه قال : (الرأي في كتاب اللّه كفر)(٢).
والروايات هنا تشير إلى التفسير بالرأي في قيامه على استقلال المفسر برايه في تفسير كلامه تعالى بما عنده من الأسباب والاجتهاد ، وعدم الرجوع إلى غيره في فهم الكلام الإلهي ، مما يوقعه في مغبة أن (يقيس كلامه تعالى بكلام الناس)(٣).
ومن أبرز وجوه تأثير التفسير بالرأي المنهي عنه ما نراه في الجانب العقائدي بالذات ، حيث نلاحظ أن الآيات الكريمة المعتمدة في هذا الجانب لدى طائفة من المفسرين ربما كان يتبين بعضها من بعض آخر ، أو يكون شاهداً عليه ، وهو من وجوه تفسير القرآن بالقرآن إلاّ إنّهم لم يلاحظوا ذلك ، ممّا نجم عنه آثار خطيرة تتمثّل في ظهور التنافي بين الآيات المفسَّرة بسبب إبطال المفسِّر وتضييعه (للترتيب المعنوي الموجود
__________________
(١) تفسير العياشي ١ : ١٧ / ٤ ، ونحوه في ١ : ١٧ / ٢.
(٢) تفسير العيّاشي ١ : ١٨ / ٣.
(٣) الميزان ٣ : ٧٦.
في مضامينها فيوي إلى وقوع الآية في غير موقعها ، ووضع الكلمة في غير موضعها)(١) ويلزم عن هذا التأويل صرف بعض آيات القرآن أو أكثرها عن ظاهرها.
هذا المسلك الخطير لجأت إليه بعض الاتجاهات الفكرية في الإسلام ، فصارت تُووِّل نصوص القرآن بما ينسجم ، واتجاهاتها محاولة ـ بذلك ـ سحب النص إلى مستوى التحييد التام عن مساره الخاص إلى مسار آخر يخدم ويتبع طروحات ذلك الاتجاه بتأويل الآيات التي يخالف ظاهرها اُسس المذهب الموِّل ، وبالتالي تحكيم أصول المذهب في النص المرجعي ، وإخراجه عن معياريته!(٢)
وقد نبّه الأَئمّة عليهمالسلام إلى خطورة هذا التهميش للنص وسحبه عن محوريته إلى الدوران في فلك الآراء المختلفة ، كلٌّ يجرّه إلى محوره الذي يريد.
وأوّل من نبّه على خطورة هذا الاتجاه هو أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام حيث يقول بشأن هواء : (ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم
__________________
(١) الميزان ٣ : ٨٠ ـ ٨١.
(٢) نقل الدكتور أبو سليمان في كتابه الفكر الأُصولي ص : ١٢٢ عن الكرخي ـ أحد علماء العامّة ـ أنّه قال : (الأصل أنّ كل آية تخالف قول أصحابنا ، فإنّها تحمل على النسخ ، أو على الترجيح ، والأَوْلى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق)!!
جميعاً! وإلههم واحد ، ونبيّهم واحد ، وكتابهم واحد ، أفأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلىاللهعليهوآله عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(١). فيه تبيان كل شيء ، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً ، وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال سبحانه : ( .. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)(٢). وأن القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلاّ به)(٣).
الصورة الثانية ـ تفسير القرآن بغير علم :
عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، قال : (من فسر القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار)(٤).
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٨٢.
(٣) نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده ١ : ٥٥ الخطبة رقم ١٨ ، وانظر : الليثي ، علي بن محمد الواسطي / عيون الحكم والمواعظ : ١٤٣ ، وابن أبي الحديد المعتزلي / شرح نهج البلاغة ١ : ٢٨٨ في شرح الخطبة رقم (١٨) ، والطبرسي / مجمع البيان ١ : ٣٣ ، والعلاّمة الحلي / كشف اليقين : ١٨٩.
(٤) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ١ : ١٣٦ عن أبي يعلى الموصلي ، والطبراني ، وقال : ورجال أبي يعلى رجال الصحيح) ، وذكره الشهيد الثاني في منية المريد : ٣٦٩.
وقال أيضاً : (من قال في القرآن بغير علم فليتبو مقعده من النار)(١).
وقوله صلىاللهعليهوآله : (فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم به فكلوه إلى عالمه)(٢).
ومن المصاديق المهمة للتفسير بغير علم ما يتمثّل في التصدّي لتفسير القرآن من دون علم بعلومه المختلفة التي تتظافر في ما بينها لتشكّل آدابا فنية وموضوعية يتسلّح بها المفسر فتكون ملكة وحسّاً وسلاحاً بيد المفسر لامتلاك إمكانية أن ينكشف له ما أبهم على غيره ممن افتقر إلى تلك الآداب والعلوم وهذا ما يتبيّن بوضوح من الرواية الطويلة عن الإمام الصادق عليهالسلام يقول في وصف هواء ( .. احتجّوا بالمنسوخ يظنّون أنّه الناسخ ، واحتجّوا بالمتشابه وهم يظنّون أنّه المحكم ، واحتجّوا بالخاص وهم يظنّون أنّه العام ، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السبب في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا ، واعلموا رحمكم اللّه : أن من لم يعرف من كتاب اللّه عزّوجلّ الناسخ والمنسوخ ، والخاص من العام ، والمحكم من المتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكّي من المدني ، وأسباب التنزيل ، والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والموفة ، وما فيه من علم القضاء والقدر ، والتقديم والتأخير ، والمبين
__________________
(١) الصدوق / التوحيد : ٩٠ ـ ٩١ / ٥ باب ٤ ، والطبرسي / مجمع البيان ١ : ١٩ و ٣٣ ، و ١٠ : ٤٨٧ ، وأخرجه عن ابن عباس مرفوعاً : ابن أبي شيبة في المصنّف ٧ : ١٧٩ / ٣ ، وأحمد بن حنبل في مسنده ١ : ٢٣٣ ، و ١ : ٢٦٩ ، والنسائي في سننه ٥ : ٣٠ ـ ٣١ / ٨٠٨٤ و ٨٠٨٥ ، وغيرهم كثير.
(٢) عبد الرزاق الصنعاني / المصنّف ١١ : ٢١٦ ـ ٢١٧ / ٢٠٣٦٧ ، وأحمد بن حنبل / مسند أحمد ٢ : ١٨٥ ، والطبراني / المعجم الأوسط ٣ : ٢٢٧.
والعميق ، والظاهر والباطن ، والجار فيه والصفة لما قبل مما يدلّ على ما بعد ، والموّد منه والمفصّل ، وعزائمه ورخصه ، ومواضع فرائضه وأحكامه ، ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون ، والموصول من الألفاظ ، والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده ، فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله)(١).
والرواية لا تحتاج إلى تعليق فمن دون هذه العلوم ومعرفة جزئياتها تفصيلياً وإبداء الرأي في معاني النص القرآني وتصويرها على أنّها كشفٌ للمراد منه ، يعني ذلك كلّه تفسير القرآن بغير علم بحقيقة المراد ، فيعود تفسيرا بالرأي والهوى والاستحسان الذي لا يمت للنص ومعانيه بصلة ويقع تحت نطاق المنهي عنه المذموم الخوض فيه.
الصورة الثالثة ـ ضرب القرآن بعضه ببعض :
وردت العديد من الروايات عن الرسول صلىاللهعليهوآله والأَئمّة عليهمالسلام في النهي عن ذلك ؛ لأّنه ممّا يقع تحت نطاق تحكيم الرأي الخاص والميل النفسي بتأثيرات الاتجاه الفكري والأثر المذهبي في تفسير النص.
فمن ذلك ما روي عن الرسول صلىاللهعليهوآله (أنّه خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال : لهذا ضلّت الأُمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض ، قال : وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ولكن نزل ليصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم فاعملوا به ، وما تشابه عليكم فآمنوا
__________________
(١) المرتضى / الآيات الناسخة والمنسوخة : ٤١ ، تحقيق علي جهاد الحساني ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٩٠ : ٣ باب ١٣٨ عن تفسير النعماني بسنده عن إسماعيل بن جابر ، عن الإمام الصادق عليهالسلام نحوه.
به)(١).
فالحديث في مجال بيان أصل مهم يقوم عليه النظر إلى النص القرآني يتمثل في أنّ هذا القرآن ومن حيث كونه منزلاً من عند الواحد الأحد العليم المحيط فإنّه يصدق بعضه بعضا وإلاّ ثبت اللازم الآخر المقابل الذي صورته الآية الكريمة كدليل لصدوره عنه تعالى وذلك قوله تعالى : (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفا كَثِيرا)(٢) ، وهذا ما أكّده الإمام علي عليهالسلام في حديث عنه دفع خلاله شبهة تناقض الآيات الكريمة فيما بينها عند من تصور حدوث ذلك من خلال ظواهر الآيات ، وعجزه عن فهم حقيقة المراد منها ، فتصور أن بعضها يكذب بعضا!
عن أبي معمر السعداني ، قال : (إنّ رجلاً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام فقال : يا أمير المونين إنّي شككت في كتاب اللّه. فقال عليهالسلام : ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب اللّه المنزل؟ قال : لأنّي وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا فكيف لا أشكّ فيه؟ فقال علي بن أبي طالب عليهالسلام : إنّ كتاب اللّه ليصدق بعضه بعضاً ، ولا يكذب بعضه بعضا ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به فهات ما شككت فيه من كتاب اللّه عزّوجلّ ..)(٣) ، ثم قام الإمام عليهالسلام برفع شبهة التناقض بين ظواهر الآيات كما تصورها هذا الشاك. بتأويلها بما
__________________
(١) السيوطي / الدر المنثور ٢ : ٦.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٨٢.
(٣) الصدوق / التوحيد : ٢٥٤ ـ ٢٦٩ / ٥ باب ٣٦ ، وتفسير العيّاشي ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ / ١٦.
يكشف الشبه ، ويود عصمة النص من التناقض والاختلاف ، ويرسخ مرجعيته في تأسيس أصول عقيدة صحيحة.
من ذلك أيضا ما ورد في الصحيح عن القاسم بن سليمان ، عن الإمام الصادق عليهالسلام قال : (قال أبي عليهالسلام : ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر)(١) قال الشيخ الصدوق ـ بعد أن أخرج الحديث عن الإمام الباقر عليهالسلام ـ : سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال : هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى(٢) ويبدو أن هذا الكلام أراد به أصحاب المذاهب والمقالات من تأويلهم الآيات التي لا تتوافق في ظاهرها مع أصول مذاهبهم بما يوي إلى (اختلاط بعضها ببعض ، وبطلان ترتيبها ، ودفع مقاصد بعضها ببعض)(٣).
فهذا الضرب لبعض الآيات ببعض أكثر ما يكون في الآيات التي تفصّل العقيدة وتوس أصولها ، حيث يلجأ أولئك المتمذهبون إلى أنظارهم الخاصة وآرائهم المستقلة ، فيحكمون أنّها معنى للآية المعينة ، ويحكمون على آية أخرى برأي آخر لهم ، ويجمعون بين الآيتين بذلك الرأي ، أو يجعلون رأيهم في تلك الآية دليلاً على ما اختاروه في الآية
__________________
(١) أصول الكافي ٢ : ٦٣٢ / ١٧ باب النوادر من كتاب الإيمان والكفر ، والصدوق / ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٨٠ عقاب من ضرب القرآن بعضه ببعض ، وتفسير العيّاشي ١ : ١٨ / ٢.
(٢) الصدوق / معاني الأخبار : ١٩٠ / ١ باب معنى الحديث الذي رُوي عن الإمام الباقر عليهالسلام أنّه قال : (ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر).
(٣) الميزان ٣ : ٨١.
الأُخرى من معنى(١).
وهو ما وصل حدّ النهي عنه وذمه إلى درجة اعتباره كفراً عند الرسول صلىاللهعليهوآله والأَئمّة عليهمالسلام لأنّه يلزم منه نسبة تكذيب القرآن بعضه بعضا ، ووقوع التناقض فيه.
وكمثال على ما ذكرناه ما أورده الشيخ الطوسي في التبيان من احتجاجات بعض علماء العامّة في مقام إثبات بعض الفضائل الموهومة لبعض الصحابة من القرآن الكريم ، فقال ما هذا لفظه : (فأمّا قولهم : إنّ معنى قوله تعالى : (كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ)(٢) هو أنّه أراد قوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَئْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً ..) (٣) مملوء بالغلط الفاحش في التاريخ ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ هذه الآية ـ التي في التوبة ـ نزلت بتبوك سنة تسع ، وآية سورة الفتح نزلت سنة ستّ ، فكيف تكون قبلها؟!
وينبغي لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع إلى التاريخ ، ويراعي أسباب نزول الآية على ما رُوي ، ولا يقول على الآراء والشهوات)(٤).
ومن الواضح أنّ الذي دعاهم إلى تفسير آية سورة الفتح بآية سورة التوبة هو التعصّب الأعمى ولو على حساب التاريخ وأسباب النزول!
__________________
(١) السبزواري / مواهب الرحمن في تفسير القرآن ٥ : ٦٩ بتصرف.
(٢) سورة الفتح : ٤٨ / ١٥.
(٣) سورة التوبة : ٩ / ٨٣.
(٤) الشيخ الطوسي / التبيان في تفسير القرآن ٩ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ في تفسير الآية المذكورة في سورة الفتح.
إنّ هذا الالتفات من الأَئمّة عليهالسلام لهذا الضابط المهم الممثل في النهي عن التفسير بالرأي ـ خصوصا ما كان عن الأَئمة عليهمالسلام الذين شاع في أزمانهم هذا اللون من التفسير ـ قد فرضته طبيعة التحولات الفكرية والتحديات العقائدية ممثلة في :
١ ـ ظهور الفرق الكلامية المختلفة التي تجعل القرآن يدور في فلك آرائها وتحاول تطويع النص لملائمة تلك الآراء التي تتبناها.
٢ ـ اتساع حركة التلاقح الفكري والعقائدي للإسلام مع باقي الأُمم والديانات باتساع حركة الترجمة ونقل التحدي العقائدي الإسلامي إلى ساحة الأديان الأُخرى والاتجاهات اللادينية بتوسع الفتوحات الإسلامية ودخول غير المسلمين في الإسلام.
بسبب ذلك كله كان لا بد من تأطير العقيدة الإسلامية المستمدة من النص بعوامل الحماية من أن تنزلق الأنظار المختلفة إلى مغبّة عكس هويتها المذهبية المحدودة على النص المعصوم المطلق.
سابعاً ـ تجرد النص عن قيود الزمان والمكان والمحدودية :
إنّ استقراء بيئة النص وأجواءه الواقعية الحاصلة والمتوقعة المستقبلية يقدّم مستويين متصورين لعلاقة النص بالزمن ، وهما :
الأول ـ المستوى النزولي المقيد :
وينطلق هذا المستوى من صلة النص القرآني بالسبب الذي تعلّق به واستوجب نزوله ، سواء كان ذلك واقعة احتاجت حكما شرعيا ، أو كان عائدا إلى مقتضيات تتالي النزول التجزيئي للنص وصولاً إلى مرحلة الاكتمال.
والنص في هذا المستوى ـ وحسب صلته بالسبب الأول ـ تكون له علاقة وثيقة بالسبب قد يتقيد من بعض جوانبه بما تفرضه وقائع سبب النزول والحالة التي اختص النص بالتعبير عنها ، مثلما تحكمه أمور أُخرى إذا كان السبب هو المقتضيات المتصلة بالنزول التجزيئي ، ومن تلك الأُمور : السياق ، والنظم ، والوحدة الفنية والموضوعية للنص ، والإجمال ، والتفصيل ، والبيان ، والإبهام .. إلخ.
الثاني ـ المستوى المفتوح :
هنا ينطلق النص في خصائصه الاحتوائية بعيدا عن مقتضيات الزمان والمكان ، مخلفا وراءه سبب النزول الذي ينسحب إلى تشكيل حالة جزئية نسبية لا تعدو أن تكون مجرد إشارة بسيطة في طريق فهم النص تضيء للمتصدي لتفسيره بعض الجوانب المساعدة على تصور أجواء النزول ، والمعنى الأكثر صلة بمراد اللّه تعالى ـ تبعا لذلك ـ من خطابه حين تتعدد الاحتمالات والأفهام المختلفة. فهنا ينطلق اللفظ بعمومه المفتوح القابل للانطباق والمتحرر عن حدود الحالات الجزئية التي تقيدت بزمان أو مكان معينين ، فتتحول خصوصية السبب إلى أمر غير ذي اعتبار إلاّ بتلك الحدود الضيقة المشار إليها ، وتكون العبرة في الحالة الجديدة بعموم اللفظ وقدرته على الجريان والانطباق على كل زمان أو مكان ما دام يتوفر فيهما الجوانب الموضوعية والمقتضيات التي جاءت الآية (النص) للتعبير عنها ، ويغطيها النزول (العموم) الأول ، هكذا يصبح النص الواحد في نزوله حالة مكثّفة من النزولات المتعددة لكنها اُدمجت جميعا في نص واحد تلافي التعدد الزمني
بالقدرة على التعميم والانطباق ، وذلك مما استلزمته خاتمية الرسالة أوّلاً وانتهاء عهد النبوة بانقطاع الوحي ثانيا.
ذلك كلّه من أجل تحاشي أمرين ، وهما :
الأوّل : الوقوع في مغبة الخضوع للأفهام المختلفة المستقبلية التي تدور في فلك النص.
الثاني : الوقوع تحت طائلة محاولة تفسير النص من خلال الروايات الموضوعة أو الإسرائيليات ، أو التفسير بالرأي المنهي عنه .. إلخ ، مما يجعل النص دائرا في فلك تلك التفسيرات والأفهام وبالتالي يقتطع منه أهم خصائصه وأُسس نزوله ممثلة في مرجعيته في البناء الفكري والعقائدي.
وهذا البعد المفتوح في الصلة بالزمن يعطي للنص اضافة مهمة تشكل خصيصة أساسية هي قوام هيمنة النص على غيره ومرجعيته المفتوحة زمنيا ومكانيا وموضوعيا ، هذه الإضافة تتمثّل في أن النص ستكون له قدرة دائمية متجدّدة في العلو والاحتواء لكل حالة تفرضها مقتضيات كل زمن متصور ، وحاجته إلى الاستمداد من النص القرآني تصويراً وإحاطة وتعبيرا ، وبالتالي سيكون المنظور القرآني هو السقف الذي يعلو فوق كل منظور يمكن أن يستمد من نواميس وضعية ، أو كشوف علمية ، أو أفهام مستضيئة بالنص تقيدت بحدود زمنها.
وبهذا سيحافظ النص على تحرره من قيود الزمن الذي يُخضَع فيه لعملية الكشف عن دلالاته ، وسيثبت أنّ حلال محمد صلىاللهعليهوآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة :
أولاً : في جانبه التشريعي ، كما سيثبت دلالة أنّ النص (تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ)(١) ومهيمنا على غيره ، ومحيطا بالحاجات والمقتضيات عموما في جوانبه الأُخرى.
خلاصة هذا الضابط المهم في الكشف عن النص والاستمداد منه إذن تتمثّل في تجرّده عن الارتباط بالقيود النسبية ، فهو تعبير لفظي تسلح باللغة في التعبير عن قوانين عامة ، وتلك الحالة الجزئية (سبب النزول) وإن ورد النص لمعالجتها ، لكنها لن تقيّده بقيودها ، وأنّ نسبيتها وجزئيتها الموضوعية لا تشكّل تحديدا للنص ومجالاً نهائيا لاحتمالات انطباقه ، وإنما تبقى للنص خصيصة الجريان والامتداد في الانطباق على المصاديق المتجددة الظهور عبر الأزمان والأجيال والأمكنة على كل الحالات التي تعبر فيها هذه الجزئيات عن روح القانون الكلي الذي جاء به النص ، وستمثل كل حالة جزئية في زمنها بالتالي أحد الأفراد المنطوية تحت حكم ذلك القانون الكلي.
هذا ما عبّرت عنه القاعدة العامة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)(٢). وهذا ما أثبته النص القرآني لنفسه من خلال نصوصه التي جاءت
__________________
(١) سورة النحل : ١٦ / ٨٩.
(٢) هذه القاعدة من القواعد الأُصولية المتّفق عليها بين عموم المسلمين ، وهي مأخوذة من كلمات أهل البيت عليهمالسلام ، ومرجعها إليهم؛ إذ لم يسبقهم إليهم أحد ، وسيأتي في كلماتهم عليهمالسلام ما يؤكّد ذلك.