تأسيس الأئمّة عليهم السلام لأصول منهج فهم النص القرآني

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

تأسيس الأئمّة عليهم السلام لأصول منهج فهم النص القرآني

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-61-4
الصفحات: ١٦٧

١
٢

٣
٤

كلمة المركز

الحمد للّه ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين .. إنّ تبليغ ما أمر اللّه تعالى به ، وحراسته ، وهداية الناس إليه ، وظائف أساسية لا يمكننا تصوّر بعث نبي بغيرها. وفي إطار الدين الخاتم لا يمكننا تخيّل رجل يشتبه عليه شيء من القرآن الكريم ، أو تغيب عنه سنّة من سنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك يكون أهلاً للقيام بتلك الوظائف بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يريد اللّه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد دلّ الشرع والعقل والواقع التاريخي الذي مرّت به المسيرة الإسلامية بعد غياب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على حاجتها الماسّة إلى شخصية تمتلك المنهج الربّاني الواضح بكلّ امتداداته الفكرية والثقافية ، وبنفس القوة التي كان عليها المنهج النبوي الشريف ، لتستطيع بذلك بيان الموقف الإسلامي تجاه كلّ شأن من شؤون الأُمّة ومن موقع العلم الراسخ بجميع المفردات الإسلامية التي تتحكّم بطبيعة ذلك الموقف ، وإلاّ ستتعثّر المسيرة الإسلامية بعدم تمكين تلك الشخصية من موقع القيادة ، وسيعطل إبعادها من موقعها الطبيعي من الوصول إلى أهداف الشريعة وتحقيق غاياتها ، وبالتالي تعدّد المواقف حيال معظم القضايا الجوهرية قد يفقدها قوة التأثير في نفوس الأُمّة كما هو الملاحظ في مجالات عديدة نظير عد الخروج على السلطان الجائر خروجاً من الإسلام عند بعض ، والقعود عنه كذلك ـ مع القدرة على التصدّي ـ عند آخرين!

وهذا لا يعني عدم إتاحة الفرصة للوصول إلى الهدف ، بل هناك ثمّة دلائل كثيرة تشير إلى إمكان العودة إلى الحقّ والأخذ بتلابيب الحقيقة المضيعة حقباً وإنصاف من غمطوا كثيراً ، سيما بعد انحسار المد الناصبي الذي تربّي جيلاً بعد جيل على عداوة الحق وأهله مع استهانته السافرة بدماء الأبرياء وحرمات المسلمين ، ولا زال بحمد اللّه يتلقّى الضربات تلو الضربات ، وترتفع الأصوات في وجوب القضاء عليه حتى من أهله وفي عقر داره.

ولا يفهم من كلامنا هذا أنا نريد الاستهانة بمن صاروا رمزاً لقوم دون

٥

آخرين ، بقدر ما نريد أن يكون المنهج الإسلامي في المعالجات العلمية يمثّل عين الارتباط برسالة الإسلام والانفتاح الفكري والعملي عليها ، وقد حدّد النبي الأعظم باتّفاق جميع طوائف ومذاهب المسلمين ملامح ذلك المنهج وجعله عاصماً لمن استمسك به من كل انحراف وضلالة إلى يوم القيامة ، يوم هتف صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، وإن اللطيف الخبير أنبأني انهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة) ولهذا لا نجد أحداً من المسلمين من ينفي ارتباطه بأهل البيت عليهم‌السلام حتى الوهابية التي لم تأخذ بشيء من منهجهم عليهم‌السلام تدّعي ذلك زوراً!!

وإذا أرادت المسيرة الإسلامية أن تضبط خطواتها فما عليها إلاّ أن تكشف المنهج الإسلامي السليم الذي عبّأ الطاقات المؤمنة عبر التاريخ وعمل على توعيتها فكرياً ، وأشعرها بأن الوضع الذي انتابها بعد القائد الأول لم يكن كما يريد : رسالة تتحرّك على الأرض ، وعلماً يتفجّر على الدوام ، وحقّاً لا باطل فيه ، وصدقاً لا كذب معه ، ووعياً كاملاً بالمحتوى التفصيلي لأهداف الشرع الحنيف وغاياته ومقاصده ، وتوجّهاً خالصاً للّه ولا شيء لغير اللّه فيه ، ونجاة من الضلالة إلى يوم القيامة. الأمر الذي لم يتجسّد شيء منه إلاّ في المنهج الذي عصمه اللّه ، حتى تكاثفت صوره المشرقة على مستوى الكلمة والحركة والموقف.

وهذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ قد اعتنى عناية فائقة في حدود موضوعه بالثقلين الشريفين ، فاستجلى لنا معالم السيرة المعصومة في تأسيسها لواحدة هي من أهم ما يشدّنا إلى الإسلام ويربطنا به فكراً وعقيدة. لقد استطاع بجدارة أن يضع بين أيدي الباحثين الأصول العلمية الثابتة التي أسسها أهل البيت عليهم‌السلام وهم أحد الثقلين في كيفية فهم نصّ الثقل الآخر وهو القرآن الكريم.

راجين من المولى عزّوجلّ أن يحقّق الهدف من نشره ، ويسدّد خطى مؤلّفه ، ويشركنا في ثوابه إنّه سميع مجيب.

مركز الرسالة

٦

المقدمة

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه أجمعين محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد :

أنزل تعالى كتابه الكريم هداية للناس وبيّنات من الهدى والفرقان ، وجعله شرعة ومنهاجا ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، تبيانا لكلّ شيء ، ودستوراً لتنظيم أُمور العباد ، وجعل السنّة شارحة له ، ومبيّنة لأحكامه وتعاليمه ، وجعل العقل رسولاً ثانيّا ، فأسّس منظورا لمنظومة المرجعيّات المشكِّلة للعقيدة ، ودعى إلى تدبّر آياته وانتزاع الحقيقة الكبرى من بين آلاف آياته. إنّه لا يعتريه نقص ولا يعتوره اختلاف (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفا كَثِيرا)(١) وأسَّس لأُصول المنهجيّات والانعكاسات عن النصّ ، ونظَّم أُصول فهم دلالاته وكشف معانيه ، ووضع المعايير لمعالجة تعارضاته الظاهريّة فرسم منهج تفسيره بأن أرجع فهمه إلى ردّ متشابهاته إلى محكماته ، وردّه إلى الراسخين في العلم ممّن اختصّهم اللّه تعالى بأن كشف لهم عن دلالاته.

إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وأيّ فهم يجب أن يكون انعكاسا عنه لا عكساً عليه؛ لتبقى للنصّ مرجعيّته المركزيّة كونه الخطاب المركزي

__________________

(١) سورة انساء: ٤/٨٢.

٧

والدستور الإلهي.

لقد أسّست الدعوة للتفكّر والتدبّر ـ عند تحقّقهما ـ لمعياريّة مهمّة ومنطلقات تأصيليّة لطبيعة الروة التي يجب أن يستضاء النص لتكوينها حتّى تكون موّلة لأن يقال إنّها منظومة عقيدة.

ففي هدي القرآن تنطلق آفاق متجدّدة من الفهم ، ولكي ترتبط بأُصوله ، عليها أن تستحضر مبادئ ومعايير فهم مقنّن بإطاره الذي جاء لتصويره وتقريره ببعديه الزمانييّن : النزولي ، والمفتوح غير المقيّد بزمان أو مكان.

هكذا كان النص واحداً وسيبقى واحدا ما بقي حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلالاً وحرامه حراماً ، وما النظرات والتمثّلات للنص إلاّ رو ، كان بعضها موفّقا حيث برقت وومضت في ذهن أصحابها استضاءات بضوابط ومعايير فهمه كما أرساها وكما أسَّس لها المنهج النبويّ وتمثّلها الموّلون الحقيقيّون لكشف دلالاته ، وكان بعضها زيغا وابتغاء فتنة ، اتّبع متشابهات الكتاب ابتغاء عكس الطروحات والأهواء والآراء الخاصّة للنصّ لانتزاع تأهيل غير مشروع دخيل على النص كما هو دخيل على الانعكاسات الإيجابية عن النص من ركائز الفكر الإسلامي والمشروع المركزي المستضيء بالنص والمشكِّل للنسق العقائدي.

أصَّل القرآن لمعياريّات ومبادئ فهم ، فبيَّن أنّه تبيان لكلّ شيء ، وأنّ فروعه تردّ إلى أُصوله ، وأنّه لا يتناقض ، ولا يزيد ولا ينقص ، ولا يتحدّد بزمان ، وأنّه سقف لكلّ تطور ، لا يعلوه فهم ولا يسبقه منظور ، وأنّ فهمه يجري باستدعاء كامل جزئيات منظوره الخاص ؛ لأن أي فهم محدود يهمِّش النص ويعوِّم مفاهيمه لتطفو على سطح الفكر محاولات محدودة

٨

القدرة على التعبير عن أجواء النص ومفاهيمه وطرحه للعقيدة.

إنّ حركة النص متجددة ، ومفاهيمه تتخطى كل الأبعاد ، وحيويته الدائمة تتجاوز انعكاساته التي جُمِّدت في إطارها الزمني الضيق ، والنص لا ينتظر المتخلفين عن حركته ، فدعوته للتدبر استعجالاً للهمم واستنهاضاً للعزائم للالتحاق بركب الكمال ، وعدم الانزواء في حدود الإطار النزولي ، أو الجمود على ظاهر وتحديده بفهم ساذج ينحرف بالنص عن إطاره البياني البعيد غوراً الذي يغوص في أبعاد ما كانَ للعقل البشري أن يسبرها بقدراته المحدودة بالغة ما بلغت.

لقد انبثقت أفهام عكست على النص روة تهّمشه وتسلبه مرجعيته لتفتتها في عملية استقطاب لبعض أبعاد النص ، لتحميلها الهوى المذهبي والطرح اللاموضوعي البعيد عن آفاق النص ومراميه وغاياته ، وكان لابدّ من وقفة تستضيء المعايير التي أسسها القرآن وتحفظ للنص مركزية الخطاب وحاكمية التأسيس ومنح الأهلية لكل فهم يتصدى لكشف دلالاته.

وإذا كان النص واحداً والأفهام والإدراكات والقدرات متعددة متفاوتة ، فهذا مقبول ومساوق للطبيعة البشرية ، ولكن لا يمكن قبول نص واحد وأفهام متناقضة تحمل النص مسولية التناقض والتعدد المتنافر الأقطاب وتبرء نفسها بل تدعي لطرحها استضاءة خطاب المركز والسير في هدي نسقه العقيدي.

فالقرآن الكريم جاء ليدعو إلى تدبّر آياته بما يخلق حالة التلاحم الفكري والتدبر الإيجابي وصولاً إلى صياغة المشروع الفكري الإسلامي ، استضاءةً بومضات الإشعاع التي تنعكس عن كلّ نص من

٩

نصوصه ، ودعا إلى فهم منضبط يستدعي تلك الإضاءات ، ويستحضر تلك المعايير ، ويسترشد بتلك الضوابط.

وهذا ما يستدعي استبعاد كل الأفهام التي انحرفت عن مسيرة النص وهديه ، وشكلت محاولة لحرف مسيرة الاتجاهات المنضبطة عن الوصول إلى النتيجة الحتمية التي هي من لوازم كون القرآن واحداً وأن دعوته الوحدة. تلك النتيجة هي توحد الاتجاهات المتعددة في صياغة تكاملية تتظافر في كشف منظور ونسق عقائدي مبدو الأوّل التوحيد والتنزيه ، ومنتهاه تحصين عقيدة الإنسان من عوامل الزيغ والانحراف ، تحقيقا لأهلية تمثيل أُمّة كانت خير أُمّة أُخرجت للناس.

إنّ حقيقة كون النص القرآني صالحاً لكل عصر وجيل تؤكّد وبلا شك ضرورة تحديد المرجعية العلمية للأُمّة في فهم أبعاد ذلك النص وأهدافه ومراميه ، وحيث حصرها النص النبوي المتواتر بثلّة طاهرة ، وجعلها قريناً للقرآن الكريم ، وحليفاً له لا يفارقه حتّى يردا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحوض يوم القيامة ؛ وتكفّل النص القرآني نفسه بتطهير تلك الثلّة ، وعصمها من كلّ رجس ، وأنّهم الراسخون في العلم الذين لا يشتبه عليهم شيء في فهم القرآن الكريم ، لذا ارتأينا تسليط الضوء على دورهم الريادي في أخطر المسائل التي لا زالت آثارها العقدية المتفاوتة في مدارس المسلمين وفرقهم قائمة إلى اليوم.

ومن هنا كان اختيار (تأسيس الأئمّة لأصول منهج فهم النص القرآني) موضوعاً لهذا البحث ، كشفنا النقاب عنه في ثلاثة فصول ، توخّينا فيها الدقّة والاختصار.

وحيث لا يمكن أي باحث الخروج بتصوّر شامل عن المنهج العلمي

١٠

المتبع في أي حقل لأي مدرسة من مدارس المسلمين في حركتها الفكرية والعلمية إلاّ بالرجوع المباشر إلى من احتضن تراث تلك المدرسة ، وصانه من الاختلاط بغيره ، ونقّحه ، وأشاد عليه صرح بنائه الفكري والعقائدي ؛ كذلك الحال هاهنا ممثّلاً ـ بنحو الحصر ـ بمصادر الإماميّة التي حفظت لنا تراث أهل البيت عليهم‌السلام ، واستوعبته روايةً وشرحاً وتعليقاً ، وأمّا غيرهم فلا يكاد أن يجد الباحث في هذا الموضوع عندهم سوى نتفٍ هنا ، وإشارات طفيفة هناك لا تُسمن ولا تغني من جوع ، حيث لم تفرد المدارس الإسلامية الأخرى في دراساتها لأي موضوع مساحة مناسبة تليق بمقام أهل البيت عليهم‌السلام ، مما أدّى ذلك ـ بطبيعته ـ إلى غياب أو تغييب دورهم العلمي المصبوغ بلون الدم على أكثر من صعيد ، وانسحب ذلك بصورة أشدّ وآكد على عموم المذهب الإمامي بما فيه من علماء وقادة إصلاح! فأشاح عنه أغلب مؤرخي ودارسي المذاهب الإسلامية ودورها في الحركة الفكرية والثقافية والعقائدية ، هذا فضلاً عمّا تثيره فرقة الوهابية المنتسبة إلى الإسلام من إشارات تجاه مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام وقادتها وروادها ، تتستّر بذلك على خطوات مسيرتها التي تعثّرت منذ نشأتها المتأخرة على يد محمد بن عبد الوهاب النجدي بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأكثر من اثني عشر قرناً ، ولا زالت تتعثّر حتّى يوم الناس هذا بتكفيرها سائر المسلمين لمسائل عديدة ، من مثل : الزيارة ، والتوسّل ، والشفاعة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبآله عليهم‌السلام ، وبالعباد الصالحين ، حيث جعلت كلّ هذا كفراً بواحاً ، وأباحت لأجله دماء المسلمين!

ولا زالت تلك الفرقة تتخبّط في دماء الأبرياء من السنّة والشيعة ، بل ومن أهل الكتاب أيضاً ، بشبهات واهية حتّى صارت سبباً مباشراً في

١١

الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين بحجّة القضاء على الإرهاب.

من هنا ـ ولأجل إنصاف الحق كما يقتضيه البحث الموضوعي ـ سبقت فصول البحث الثلاثة (لمحة تاريخيّة في بدايات ونشأة الإمامية).

أمّا الفصل الأوّل فقد بيّنا فيه المسلك المنهجي عند أهل البيت عليهم‌السلام في مجال تفسير النصّ القرآني.

وأمّا الفصل الثاني فكان لبيان ضوابط التعامل مع النصّ القرآني عند أهل البيت عليهم‌السلام.

ثمّ جاء الفصل الثالث بنماذج تطبيقيّة لمنهج الإماميّة في توضيح النصّ القرآني.

ولا يسعني هنا إلاّ أن أدعو اللّه مخلصاً في أن أكون قد وُفقت بمنِّه وفضله تعالى في خدمة كتابه العزيز من خلال سبر وكشف دور قرناء القرآن الكريم في الحفاط على نصوصه المقدّسة الشريفة ، وبيانهم عليهم‌السلام السبل الكفيلة بفهمها فهماً صحيحاً بعيداً عن الإفراط والتفريط ، وإن كانت الأخرى فحسبي أني أخلصت نيّتي للّه عزّوجلّ ، وبذلت ما في وسعي.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

وصلّى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين

الدكتور

ستّار جبر حمّود الأعرجي

١٢

تمهيد

المنهج في اللغة والاصطلاح

أوّلاً ـ المنهج في اللغة :

المنهج من النَهْج وهو الطريق ، وطريقٌ نهجٌ : أي بَيَّنٌ واضح ، ومَنْهَجَ الطريق وضَّحَهُ ، وأنهج الطريق : وضح واستبان ، وصار نَهْجاً واضحا بيِّناً(١).

والمنهاج : الطريق الواضح ، وفلان يستنهج نهج فلان ، أي : يسلك مسلكه(٢).

قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(٣).

وهكذا نجد أنّ أصل المنهج في اللغة يدور حول معنى الطريق والسبيل

__________________

(١) ابن منظور / لسان العرب ١٢ : ١٤٣ مادة نَهَجَ دار صادر ، دار بيروت ١٣٧٥ هـ ـ ١٩٥٦م ، والزبيدي ، محمد مرتضى / تاج العروس ١ : ٢٥١ ، والجوهري / تاج اللغة وصحاح العربية : ٤٤٥.

(٢) لسان العرب ١٤٣:١٢.

(٣) سورة المائدة: ٥/٤٨.

١٣

الواضح المستقيم.

وهذا المعنى استحضرته الآية الكريمة ، في الاستعمال القراني.

وكلمة المنهج في الأدبيات المعاصرة مترجمة عن الكلمة الانجليزية (method) وهي مشتقة من كلمة تعني : البحث أو النظر أو المعرفة كما استعملها أفلاطون وأرسطو(١) وإن كانت في معناها الاشتقاقي تلتقي إلى حد التطابق مع معناها اللغوي العربي إذ تشير إلى الطريق أو المنهج الموي إلى الغرض المطلوب(٢).

ثانياً ـ المنهج في الاصطلاح :

يكاد المعنى الاصطلاحي للمنهج أن يرتبط من بعض جوانبه بمعناه اللغوي وإن اختلفت درجة هذا الارتباط بين تعريف وآخر عند أهل الاصطلاح ، ويمكن في هذا الإطار استعراض بعض تلك التعاريف للخروج بتصور عن معنى المنهج.

فقد كان أرسطو يرى في المنهج أنّه : (صناعة نظرية تعرّفنا الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدّاً وفي القياسات برهاناً)(٣).

ويلاحظ أنّ الاصطلاح اتّخذ بعداً تطورياً فعند فرانسيس بيكون تمت صياغة قواعد المنهج التجريبي في كتابه الأورغانون الجديد(٤).

__________________

(١) ظ : د. عبد الرحمن بدوي / مناهج البحث العلمي : ٣.

(٢) المصدر السابق نفسه.

(٣) ظ : النشار ، د. علي سامي / المنطق الصوري : ٥.

(٤) بدوي / مناهج البحث العلمي : ٤.

١٤

وتمثلت عند رينيه ديكارت محاولة الكشف عن المنهج الموي إلى حسن السير بالعقل للوصول إلى الحقيقة ، إذ يعرفه بأنّه : (قواعد مودة بسيطة إذا راعاها الانسان مراعاة دقيقة كان في مأمن من أن يحسب صوابا ما هو خطأ)(١).

ويشير إلى هذا التحديد في مقالة الطريقة إذ يرى أنّ المنهج هو (الترتيب الصحيح ، والاحصاء الدقيق لجميع ظروف الشيء المبحوث عنه)(٢).

وقد خص ديكارت المنهج بأحد أهم موفاته وهو (مقال عن المنهج) سنة ١٦٣٧م. وأحتل المنهج مكانة واضحة التأثير عند مناطقة بور رويال حيث جعلوه قسما رابعا من منطقهم وحدّوه بأنّه : (فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة ، أما من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين ، أو من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين)(٣).

وهو تعريف يمكن أن يُستخلص منه أنواع المناهج من حيث طبيعة الوظيفة التي تويها.

ويرى د. عبد الرحمن بدوي أننا إذا أضفنا منطق بيكون إلى منطق

__________________

(١) ظ بدوي : المصدر نفسه ، وانظر : مراد وهبة ويوسف كرم / المعجم الفلسفي : ٢٣١.

(٢) مقالة الطريقة لحسن قيادة العقل للبحث عن الحقيقة : ١١٠.

(٣) بدوي / مناهج البحث العلمي : ٤.

١٥

بور رويال فإن القرن السابع عشر يكون قد شهد بداية تكّون المنهج الاستدلالي والمنهج التجريبي حتى أخذ معناه الاصطلاحي السائد بأنّه : (الطريق الموي إلى الكشف عن الحقيقة والعلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة)(١).

وينقل صاحب المعجم الفلسفي تعريفاً للمنهج أنّه : (الطريق الواضح في التعبير عن شيء ، أو في عمل شيء ، أو في تعلم شيء ، طبقا لمباديء معينة وبنظام معين بغية الوصول إلى غاية معينة)(٢). وهو تعريف يلتقي مع التعريفين السابقين.

ويذهب الدكتور علي سامي النشار إلى أن المنهج هو : (طريق البحث عن الحقيقة في أي علم من العلوم ، أو في أي نطاق من نطاقات المعرفة الإنسانية)(٣).

أما الدكتور ياسين خليل فيرى أنّ المنهج : (أي إجراء يطبق على أشياء مختلفة ومتنوعة فيحولها من حالتها غير المنتظمة إلى نظام بينها على أساس علاقات ارتباطاتها ببعضها)(٤).

__________________

(١) ظ المصدر نفسه : ٥.

(٢) ظ المعجم الفلسفي : ٢٣١.

(٣) ظ : نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ١ : ٦.

(٤) منطق البحث العلمي : ١٦ ، ساعدت جامعة بغداد على نشره ، بغداد ١٣٩٤ هــ ١٩٧٤م.

١٦

ويلاحظ على مجمل هذه التعريفات أنّ قاسما مشتركا يجمع بينها في حدها للمنهج تتمثل فيه ركيزتان هما :

١ ـ استحضار المعنى اللغوي للمنهج ، وهو الطريق المستقيم الواضح.

٢ ـ النظام الذي يربط بين العلاقات أو الأشياء المختلفة للوصول إلى غاية هي تحصيل المعرفة الصحيحة.

ومن خلال ذلك يمكن أن نستنتج أنّ المنهج في الحقيقة هو الجانب التطبيقي لنظرية البحث عند الباحث ، ولذا نجدها تختلف في طبيعتها بحسب طبيعة النظرية نفسها والمجال الذي تتمثل فيه الغاية من تطبيقاتها. لذلك فنحن في حدود البحث هنا نجد أنّ المنهج هو الطريقة التي يتبعها المتصدي لفهم النص للكشف عن دلالاته ، وهذا يقوم على خطوات منظمة تتمثل فيها مجموعة مفاهيم ومنطلقات ومنظومة مصطلحات يتسلح بها المتصدي في سعيه للوصول إلى غايته ، ومن خلال هذه المسيرة يمكن انتزاع مجموعة مورات تتحكم في عملية سير المتصدي مع النص وتحدد اُسلوبه الخاص في بلوغ تلك الغاية ، ومن ثم تحديد أساليب الاستدلال عليها وإثباتها ، من أهمها :

١ ـ المرجعيات التي تشكّل المعين الذي يزود المتصدي لفهم النص بخزين فكري وصلةٍ بقواعد مركزية لها أهميتها في إضاءة طريق الكشف عن النص.

٢ ـ طبيعة الوسائل والأدوات المساندة للمتصدي في عملية الكشف عن معاني النص ودلالاته ، وأهمها خصائص النص نفسه واللغة التي صاغ

١٧

بها خطابه.

٣ ـ الطابع الفكري الخاص بالمتصدي والذي يكوّن حصيلته التي توله للتصدي للكشف عن دلالة النص.

هذه الأمور بأجمعها تنتظم في إطار عام تشكل في النهاية طبيعة الروة (المنظور) الذي يكّونه المتصدي للعقيدة في إطار الخطاب القرآني ، الأمر الذي ينبغي على مؤرخي ودارسي المذاهب الكلامية أن يقفوا عنده طويلاً ليخرجوا بتصور عن المناهج الكلامية الكبرى التي تصدّت لاستنباط أصول العقيدة من النص القرآني.

١٨

لمحة تاريخية

في بدايات ونشأة التشيّع

كان ظهور التشيّع في الساحة الفكرية الإسلامية من الإفرازات المهمة لطبيعة فهم بعض النصوص القرآنية(١) ، وما تابعها من نصوص الأحاديث

__________________

(١) يرى الشيعة والإمامية وكثيرٌ من مفسّري العامّة ومحدّثيهم نزول العديد من الآيات القرآنية في النص على الإمام عليّ عليه‌السلام منها :

١ ـ آية المباهلة قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (سورة آل عمران : ٣ / ٦١).

٢ ـ آية التطهير قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً) (سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣).

٣ ـ آية الولاية قوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُوتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (سورة المائدة : ٥ / ٥٥).

٤ ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (سورة الرعد : ١٣ / ٧).

٥ ـ قوله تعالى : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) سورة النبأ : ٧٨ / ١ ـ ٢.

٦ ـ آية إكمال الدين قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

١٩

النبويّة(١) التي هي جزء من الوحي لقوله تعالى : (وما ينطق عن الهوي*إن هوإلاّ وحي يوحى)(٢).

جاءت هذه النصوص في حقّ أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام والنص على إمامته ، وخلافته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في قيادة الأُمّة ، وبيانا لفضائله ، وما يختص به من مكانة ، وفضل ، وصلة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينا) (سورة المائدة : ٥ / ٣) وغيرها.

وقد استدلّ الإمامية بعشرات الأدلّة الروائية ـ المرويّة من طرق الفريقين ـ المُفَسِّرَة لتلك الآيات الشريفة ، والمؤكّدة على نزولها في أهل البيت عليهم‌السلام لا سيّما أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام.

(١) يرى الإمامية ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ على إمامة عليّ عليه‌السلام في مناسبات عدّة وبروايات متكثّرة من أهمّها :

١ ـ حديث الغدير / قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه).

٢ ـ حديث المنزلة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى).

٣ ـ حديث الراية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لأعطين الراية غدا رجلاً يحبُّ اللّه ورسوله ويحبُّه اللّه ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يده).

٤ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار).

٥ ـ حديث مدينة العلم قوله : (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) وغيرها كثيرٌ جدّاً ، ويشاركهم في روايتها سائر محدّثي العامّة مع اختلاف متكلميهم في دلالتها صيانة لكرامة سلفهم الماضين.

للتفصيل حول الآيات والروايات اُنظر : مداركها عند الإمامية في المرتضى : الشافي في الإمامة / الطوسي : تلخيص الشافي ج ٢ / ٣ ، والعلاّمة الحلّي / الألفين. واُنظر أيضاً أحمد محمود صبحي / نظرية الإمامة : ١٧٥ ـ ٢٠٩.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ٣ ـ ٤.

٢٠