تأسيس الأئمّة عليهم السلام لأصول منهج فهم النص القرآني

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

تأسيس الأئمّة عليهم السلام لأصول منهج فهم النص القرآني

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-61-4
الصفحات: ١٦٧

والأعمش سليمان بن مهران(١) ، وعبيد السمين(٢) ، وهشام بن سالم الجواليقي(٣).

وأُرسِل إرسال المسلّمات في مصادر كثيرة(٤).

جدير بالذكر أنّه صحّ عن صالح بن أبي الأسود ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : (سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّه لا يحدّثكم أحد بعدي بمثل حديثي)(٥) ؛ لأنّه حديث العالِم بجميع ما في كتاب اللّه عزّوجلّ ، فلا يضادّه في شيء يقوله أو يفعله.

هذه الطاقات والشمولية الكامنة في النص القرآني هي خصائص ذاتية له ميَّزته عن غيره من الكتب السماوية ، لذا ترى الإمام الباقر عليه‌السلام يقارن القرآن في مطلقيته مع الكتب الأخرى في نسبيتها فيقول في ما نقله العياشي : (قال اللّه لموسى عليه‌السلام : (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ

__________________

(١) القاضي النعمان / شرح الأخبار ١ : ١٩٦.

(٢) ابن قولويه / كامل الزيارات : ١٥٥ / ١٩١ ١٦ باب (٢٣).

(٣) بصائر الدرجات : ٢٨٧ / ٧ باب (٢).

(٤) اُنظر : اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٣ ، والقاضي النعمان / شرح الأخبار ١ : ٩١ ، و ٢ : ٣٨ / ٤١٠ ، و ٢ : ٢١٧ ، و ٢ : ٢٨٦ / ٦٠١ ، والليثي علي بن محمد الواسطي / عيون الحكم والمواعظ : ٢٨٥ ، وشاذان بن جبريل القمّي / الفضائل : ٩٧ و ١٣٨ ، وابن سلامة / دستور معالم الحكم : ١٠٥.

(٥) جماعة من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام / الأُصول الستّة عشر : ٧٦ ، والقاضي النعمان / شرح الأخبار ٣ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ / ١٢٠٠ ، ورواه من العامّة المزّي في تهذيب الكمال ٥ : ٧٨ في ترجمة الإمام الصادق عليه‌السلام برقم ٩٥٠ ، ومثله الذهبي في سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٥٧ (١١٧) ، وكذلك في تذكرة الحفّاظ ١ : ١٦٦ / ١٦٢ (٩).

٨١

شَيْءٍ)(١). فعلمنا أنه لم يكتب لموسى عليه‌السلام الشيء كله ، وقال اللّه لعيسى عليه‌السلام : (لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)(٢) ، وقال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَولاَءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ)(٣).(٤)

وترتبط هذه الشمولية والإحاطة بأهم خصائص الرسالة الإسلامية في كونها خاتمة الرسالات ، وهي ـ بناء على ذلك ـ من لوازم الخاتمية في كونها كمال الدين الإلهي المنزل إلى العباد في استنفاد لكل محتملات الحاجة الإنسانية التي ينبغي للنص تغطيتها ، وهذا المعنى هو ما عبّر عنه الإمام الصادق عليه‌السلام ـ في ما رواه مرازم عنه ـ بقوله عليه‌السلام : (إنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى واللّه ما ترك اللّه شيئاً يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا أُنزل في القرآن إلاّ نزّل اللّه فيه)(٥).

وهذا ما أكّده القرآن لنفسه في آخر ما نزل منه خاتماً الوحي الإلهي بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِيناً)(٦).

إنّ هذه الشمولية في النص تستلزم من المتصدي ـ لتفسيره كمايوحي به الأَئمّة عليهم‌السلام ـ أنّ يرتقي بفهمه إلى مستوى استكناه الآفاق المفتوحة

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٥.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٦٣. سورة النحل : ١٦ / ٨٩.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٢٦٦.

(٤) أصول الكافي ١ : ٥٩ / ١ باب الردّ إلى الكتاب والسنّة من كتاب فضل العلم.

(٥) سورة المائدة : ٥ / ٣.

٨٢

للنص بما يحقق كشف مالم يكشف بعد.

ثانياً ـ مرجعية النص ومركزيته وحاكميته :

إنّ إحاطة النص القرآني وشموليته تقتضي ـ على سبيل الأمر البدهي ـ أن يكون هذا النص معيارا ومقياسا يحدّد بإزائه وفي ضوئه كل ما يمت إلى الإسلام ـ شريعة أو عقيدة ـ بصلة ، فما وافقه أُخذ به ، لأنّه وحده الحق والكلمة الناطقة بخطاب اللّه تعالى والمعبرة عن قوانين الوجود كما مر فيها قوله تعالى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ ..)(١).

وقال تعالى : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)(٢).

وقال تعالى : (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ)(٣).

هذه المعيارية أكّدها الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونها دستورية المنظور الإسلامي في مختلف جوانبه ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نورا ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه)(٤) ، فإنّ

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٣١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٦٤.

(٤) أصول الكافي ١ : ٦٩ / ١ باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب من كتاب فضل العلم.

ونحوه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في أصول الكافي ٢ : ٥٤ / ٤ باب حقيقة الإيمان واليقين من كتاب الإيمان والكفر ، والبرقي / المحاسن ١ : ٢٢٦ / ١٥٠ ، والعيّاشي /

٨٣

ما يترتب على ذلك هو كامل الاستفادة من الخصائص والآثار المهمة التي توافر عليها النص ، والتي بينها صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : (القرآن هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة ، وضياء من الأحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من كل الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد من القرآن إلاّ إلى النار)(١).

وبما أنّ السنة شارحة القرآن الذي وجه المسلمين إلى وجوب الرجوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢).

فإنّنا نجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوصي بالتمسك بالقرآن ، والأخذ به ، وعرض الروايات المنقولة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله على كتاب اللّه.

وإنّ حجب هذه المعيارية ـ التي يجعلها الأَئمّة عليهم‌السلام ضابطاً مهماً لفهمه ـ بإلغاء شرط موافقة الأحاديث أو ما يستنبط من القرآن ، يعني ذلك العدول إلى ما يوي إلى النار ، ويدخل ذلك في خانة الكذب الموي

__________________

تفسير العيّاشي ١ : ٨ / ٢ ، والصدوق / الأمالي : ٤٤٩ / ٦٠٨ ١٨ مجلس (٥٨) ، والشيخ المفيد / رسالة في المهر ٢ : ٣٠.

ورواه العيّاشي في تفسيره ٢ : ١١٥ / ١٥٠ ، واليعقوبي في تاريخه (تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٠ مسنداً عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

(١) أصول الكافي ٢ : ٦٠٠ / ٨ من كتاب فضل القرآن ، وتفسير العيّاشي ١ : ٥ / ٨. وورد نحوه ضمن نسخة في العهد الذي كتبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للعلاء بن الحضرمي حين بعثه إلى البحرين. رواه الطبراني في المعجم الكبير ١٨ : ٩١.

(٢) سورة الحشر : ٥٩ / ٧.

٨٤

إليها ، وقد كثرت الكذابة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتشر الوضع والافتراء حتى حذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك ، فقال : (من كذّب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار)(١) ، فلابدّ والحال هذه من مراقبة ما ينقل ومحاسبته في ضوء هذه المرجعية وضرب ما خالفها منه عرض الجدار.

وهذا أمر شديد الضرورة تفرضه ـ فضلاً عن كثرة الكذب والوضع في الأحاديث ـ كثرة الأفهام المختلفة الاتجاهات التي تصدت للتعامل مع النص واستجلاء تصورها لملامح العقيدة وأصولها ، وكثر من ثمّ أهل الجدل والتأويل والآراء ، وصار كل أهل رأي يلجون إلى النص محاولين تأويله بما يوافق مذاهبهم ، فصار لزاماً على كل متصدٍّ للتفسير أن يحافظ على هذه المعيارية والحاكمية للنص القرآني ثم السنة الصحيحة الصدور وهو ماينطبق عند الإمامية على مايرد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأَئمة عليهم‌السلام ، ولهم ـ أعني الإمامية ـ في إثبات حجّيّة سنّة أهل البيت عليهم‌السلام وجعلها كسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الجهة بلا فرق عشرات الأدلّة العقلية والنقلية التي يشاركهم بروايتها سائر المسلمين.

لذلك نجد أن الأَئمة عليهم‌السلام في تأسيسهم لمنهج فهم النص يودون هذا الضابط الرئيس بجعل القرآن الكريم والسنّة الثابتة معيارا وحاكما على المفسر الخوض على وفق موراته لتحديد حقية ما يذهب إليه أو بطلانه. وقال بعضهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام : صف لنا ربّك حتّى نزداد في توحيده

__________________

(١) هذا الحديث الشريف من أبرز أمثلة الأحاديث المتواترة لفظاً في جلّ كتب دراية الحديث لدى الشيعة والعامّة.

٨٥

تعالى وصفاته وطريق معرفته ، فقال عليه‌السلام : (ما دلّك القرآن عليه من صفته فاتبعه ليوصل بينك وبين معرفته ، وائتم به واستضيء بنور هدايته ، فإنّها نعمة وحكمة أوتيتهما فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما دلك الشيطان عليه مما ليس في القرآن فارفضه ولا في سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة الهدى أثره فَكِلْ علمه إلى اللّه عزوجل ، فإنّ ذلك منتهى حق اللّه عليك)(١).

والمراد بـ (ما دلّك الشيطان .. الخ) : هو (التوهمات والخيالات الحاصلة في النفس من المعارف ، فليس لأحد أن يتبعها بل لابد من الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه وإيكال علم ذلك إلى اللّه تبارك وتعالى ، وإلاّ فيدخل ذلك في اتباع الشيطان وإغوائه ، والتعمّق المنهي عنه)(٢).

وورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام في أجوبته عن مسائل أبي قرة المحدث وقد سأله في أنّ الروة قُسّمت لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قُسّم التكليم لموسى عليه‌السلام ، فأكّد الإمام عليه‌السلام نفي الروة عن الباري تعالى ، فكان أن احتج السائل بروايات عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقيقة ما رآه في المعراج مما تصوره (أبو قرة) تفسيرا لآيات سورة النجم ، واستدل به لتأكيد حصول روة اللّه تعالى عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستنكر الإمام عليه‌السلام تلك الروايات ، وأكّد استدلالاً بالآيات القرآنية استحالة حصول الروة ، فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات؟

__________________

(١) الصدوق / التوحيد : ٥٥ / ١٣ باب التوحيد ونفي التشبيه ، وابن أبي الحديد المعتزلي / شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٠٥ في شرح الخطبة رقم ٩٠ ، وهي الخطبة المعروفة بـ (خطبة الأشباح).

(٢) السبزواري / مواهب الرحمن في تفسير القرآن ٥ : ٥٩.

٨٦

قال الإمام عليه‌السلام : (إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبت بها)(١).

أي كذب بها بالمعنى الذي يفهمه منها القائلون بالروة البصرية ، وإلاّ فالروايات في حصول الروة (القلبية) كثيرة الورود عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأَئمة عليه‌السلام. الأمر الذي أيّده القرآن الكريم بكلّ قوّة ، حيث نفى الرؤية البصرية بقوله تعالى : (لاَتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٢) ، وأثبت الرؤية القلبية بقوله تعالى : (مَاكَذَبَ الْفُوادُ مَا رَأَى)(٣).

ثالثاً ـ مرجعية النص لنفسه :

إنّ معيارية النص القرآني لغيره تمثل أهلية ذاتية لتمثيل نفسه بنفسه وهذا ما يمثل ضابطا يشكل أساس منهج تفسيري أصيل هو البدء في الكشف عن النص بما كشفه عن نفسه من تفسير القرآن بالقرآن الذي يقوم على استيضاح معنى الآية من نظيراتها وأهلية ذلك مستمدة من التدبر المندوب إليه في الكتاب نفسه ، قال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(٤) حيث يتم تشخيص المصاديق وتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات وذلك لازم قوله تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ

__________________

(١) الصدوق / التوحيد : ١٠٩ ـ ١١١ / ٩ باب ما جاء في الرؤية.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ١١.

(٤) سورة محمّد : ٤٧ / ٢٤.

٨٧

شَيْءٍ)(١) ، إذ كيف يتصور أن يكون القرآن الكريم تبيانا لكل شيء ويعجز عن أن يكون تبيانا لنفسه؟! وكيف يكون (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(٢) و (نُوراً مُبِيناً)(٣) وهم أحوج ما يكون أن يهديهم إليه ، ويبين لهم نفسه ويضيء لهم خباياه؟!

وقد جاء في الحديث الشريف : (إنّ القرآن ليصدق بعضه بعضا ..)(٤) ومن مصاديق وتطبيقات هذا التصديق ، أن يبين بعضه خبايا بعض ، والاستمداد ببعضه على كشف بعضه الآخر.

ومما لا شك فيه أنّه بوجود هذا الطريق إلى فهم القرآن من الاهتداء بالبيان الإلهي نفسه ، ينتج أن طريق فهمه غير مسدود ، وأنّه لا يحتاج إلى طريق سواه ؛ لأنّ من كان هادياً لا يفتقر إلى غيره في الهداية إليه ، ونحن نلاحظ من الكتاب نفسه أن اللّه تعالى هو المبين الأول لمراده من كلامه كما في قوله تعالى : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٥).

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٨٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٥.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٧٤.

(٤) نقله المتّقي الهندي في كنز العمّال ١ : ٦١٩ / ٢٨٦١ عن الطبراني مرفوعاً ، ونقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم ١ : ٣٥٥ عن أحمد بن حنبل من طريق آخر مرفوعاً.

(٥) وأخرجه الشيخ الصدوق في التوحيد : ٢٥٥ / ٥ باب ٣٦ عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.

٨٨

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(١).

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)(٢).

(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ..)(٣).

وفي هذا الملحظ المهم يرد عن الأَئمة عليهم‌السلام الكثير من الروايات في ضابطية هذا المنهج وأولويته في مصادر تفسير النص القرآني ، ومنع تجاوزه إلى غيره مع وجود البيان فيه ، وإلى الأخذ به والتدبر في نصوصه وتحقيق معياريته لقياس صحة أي فهم لنصوصه ، أو فحص عن صحة المرويات المنقولة عن الأئمة عليهم‌السلام في تفسيره كما تبين سابقا.

ونلاحظ أنّهم عليهم‌السلام في تفسيرهم كثيرا ما يستدلون بالآية على أُختها ويستشهدون بمعنى على آخر في تفسير النص ، وقد يتوهّم بأنّ هذا دالّ على أنّ ذلك واقع في نطاق الإمكان ، وبصورة يمكن معها معرفة المراد تفصيلاً ، كما يُفهم ذلك من عبارة الذهبي بأنّ التفسير (لم يكن عملاً آليا لا يقوم على كثير من التدبّر والتعقّل ، وليس بالأمر الهيّن الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان ، وإنّما هو أمر يعرفه أهل العلم والنظر خاصة)(٤).

ولو كان الأمر كذلك لما وجدنا عشرات بل مئات الآراء التفسيرية

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٩.

(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ١٩.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

(٤) الذهبي محمد حسين / التفسير والمفسرون ١ : ٤١.

٨٩

المتضادّة الصادرة من (أهل العلم والنظر خاصّة).

نعم ، ما ذكره صحيح في الجملة ، ولكن لا يمكن الأخذ به على إطلاقه ، وإلاّ لما بقيت هناك ثَمَّة ميزة للمرجعية العلمية التي أشار لها القرآن الكريم بلفظ (الراسخون في العلم) ، وحدّدتها السنّة المطهّرة وقيّدتها بالقرآن الناطق أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام وولده عليهم‌السلام من بعده ، كما يدلّ عليه حديث الثقلين المتواتر بلفظ (كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي). لذلك فما يستفاد من قيامهم عليه‌السلام بتفسير القرآن بالقرآن وتأصيلهم هذا الضابط المهم أنّ (المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية وذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام وتهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود واللّه الهادي) (١) وستكون للبحث وقفة مع بعض مروياتهم عليه‌السلام في تفسير القرآن بالقرآن في مطلب قادم.

رابعاً ـ الموقف من المحكم والمتشابه :

نلاحظ في متابعتنا النص الوارد عن الأَئمة عليهم‌السلام لقضية المتشابه أنّه يستشرف النص القرآني ويستضيء بخطوطه العريضة. ولا سيما ذلك النص الذي أَسَّس للموقف من المتشابه في القرآن آلية الحل والمرجعية التي ينطلق منها إلى كشف التشابه وإزالته ممثّلاً في سورة آل عمران من قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ

__________________

(١) الطباطبائي / الميزان ٨٧:٣.

٩٠

مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ..)(١).

ويمكن تلمس هذا الكشف المتصور للمتشابه عند المعصوم عليه‌السلام في مرجعيتين :

المرجعية الأولى ـ المحكم :

ونلاحظ هنا أنّ الكتاب قد سبق إلى تأسيس وتحديد الأهلية الكاملة لهذه المرجعية في رفع التشابه ، فحين نتابع مادة (حكم) التي يعود إليها لفظ (المحكم) نجدها تعني : الشيء الذي حُكِّمَ أصله ومنع منعا بحيث لا يمكن نفوذ شيء إليه حتى يفصله)(٢) وبالعودة إلى القرآن نفسه نجده يود هذا المعنى حين يصف نفسه بأنه جميعه كتاب محكم ، قال تعالى : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)(٣).

كما أننا نلاحظ أنّه يصف نفسه في سورة الزمر بأن جميعه متشابه بقوله تعالى : (كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ ..)(٤).

لكن آية المتشابه في سورة آل عمران تنحى منحى مغايراً تماماً للتعميم في سورة الزمر ، وتبتعد بالوصف إلى التعبير عن معنى آخر للتشابه المقصود ، فتبتعد بالوصف إلى اتجاه تأسيسي لآليات الكشف عن النص ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

(٢) لسان العرب ، مادة حكم ١٢ : ١٣٤.

(٣) سورة هود : ١١ / ١.

(٤) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٣.

٩١

حيث تُقَسَّم آياته إلى (محكمات) و (متشابهات) ، لتشكّل العلاقة الحتمية والتظافرية بينهما بلا انفكاك ، ولتوّد أن الفصل بينهما يعني اقتطاع النص وتهميش الجزء المهم منه.

هذه العلاقة هي من مرجعية المحكم للمتشابه المعبّر عنها في الكتاب بـ (الأُمومة).

ففي قوله تعالى : (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) يمكن استخلاص المراد منها من خلال متابعة المفردة في القرآن لكشف الدلالة الأصلية لمعنى أُم. إذ نلاحظ أنّها ترد فيه بمعنى الأصل وما يرجع إليه الشيء.

لاحظ قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ)(١).

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٢).

وما ينتج من هذا هو ملامح صورة هذه المرجعية في المحكم للمتشابه حين يلجأ إليها في رفع التشابه ، حيث يتبيّن بوضوح أن المراد من المحكمات هي الآيات التي تتضمن أُصولاً قرآنية ثابتة ومسلَّمة في مقابل المتشابهات التي تبقى مداليلها من دون بيان ما لم ترجع إلى تلك الأصول الثابتة ، فالمحكم إذن هو محكم بذاته ومبيّن بنفسه. أمّا المتشابه فيول إلى الأحكام بعد ردّه إلى المحكم الذي هو الأصل الثابت ، وهكذا

__________________

(١) سروة الشوري: ٤٢/٧.

(٢) سروة الزخرف: ٤٣/٤.

٩٢

تثبت دلالة الإحكام على النص بأكمله فيعود جميعه محكماً ، ويرتفع التشابه الذي ثبت أنّه وقتي مندفع بردّه إلى المحكم.

هذه الحقيقة المهمة كانت مداراً للفهم المعصومي في طريق الكشف عن التشابه من تأكيدها وبيان أسسها العامة منهجة وتطبيقاً ، وتأشير ضابطيتها وحاكميتها عند التصدي لكشف دلالات النص القرآني.

وهذا ما تتظافر العديد من الروايات عنهم عليهم‌السلام لبيانه المندرج ضمن اتجاهين :

١ ـ روايات كاشفة عن تحديدهم عليهم‌السلام للمتشابه.

ونلاحظ هنا العديد من الروايات نكتفي ببعضها ، فمن ذلك ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : (إنّ أُناساً تكلموا في هذا القرآن بغير علم ، وذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى يقول : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ) (١) فالمنسوخات من المتشابهات والمحكمات من الناسخات ..) (٢).

كذلك ما ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام في رد المنسوخ إلى

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

(٢) الكليني / أصول الكافي ٢ : ٢٨ / ١ باب بلا عنوان من كتاب الإيمان والكفر.

٩٣

المتشابه (١).

وفي رواية أُخرى أكثر تفصيلاً وتحديداً ، عن أبي بصير ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : (إنّ القرآن زاجر وآمر ، يأمر بالجنّة ، ويزجر عن النار)(٢).

أي : يأمر بما يوجب الدخول في الجنّة ، ويزجر عمّا يوجب الدخول في النار ، وهذا في المعنى أمر بامتثال أمره ونهيه والمداومة عليه(٣).

وقد أضاف القمّي في تفسيره بعد هذه الرواية : (وفيه محكم ومتشابه فاما المحكم فيون به ويعمل به واما المتشابه فيون به ولا يعمل به وهو قول اللّه تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ..)(٤))(٥).

والنهي عن العمل بالمتشابه هنا نظراً لاجماله الذي يجب معه الرجوع إلى المفصل بمقتضى العقل ومن ثمّ ارجاع المتشابه إلى المحكم.

__________________

(١) ظ : العياشي : التفسير ١ : ١١.

(٢) الكليني / أصول الكافي ٢ : ٦٠١ / ٩ من كتاب فضل القرآن ، والعيّاشي / تفسير العيّاشي ١ : ١٠ / ٦.

(٣)يُنظر : المازندراني / شرح أصول الكافي ٨ : ٩١ ، والمجلسي / بحار الأنوار ٦٦ : ٩٤.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

(٥) القمّي علي بن ابراهيم / تفسير القمّي ٢ : ٤٥١ ، وقد جعل المجلسي في بحار الأنوار ٢٣ : ١٩١ / ١٢ ، و ٨٩ : ٨١ / ١٠ ، والحويزي في تفسير نور الثقلين ١ : ٣١٥ ـ ٣١٦ / ٣١؛ كلام القمّي في تفسيره من تتمّة رواية أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام! والصحيح ما بيّناه بقرينة ما رواه الكليني والعيّاشي ، فلاحظ.

٩٤

ووصف المنسوخات التي لا يُعلم ناسخها بأنّها من المتشابهات مع كون المتشابه أعمّ من المنسوخ الذي لا يعلم ناسخه ؛ إنّما هو بلحاظ كون المنسوخ والمتشابه من باب واحد في حصول الاشتباه بهما بقاءً وثباتاً. وأمّا وصف المحكمات بأنّها من الناسخات مع كون المحكم أخصّ من الناسخ من وجه ؛ فهو بلحاظ كون المحكم ـ بالقياس إلى المتشابه ـ كالناسخ قياساً إلى منسوخه في البقاء والثبات ؛ لأنّهما من باب واحد أيضاً ، وهما في النتيجة سيّان. وعليه فمن عمل بالمتشابه دون المحكم فكأنّه عمل بالمنسوخ دون الناسخ. وفي الحديث الشريف تقريع بليغ لأولئك الذين نصبوا أنفسهم أعلاماً للأُمّة ووقعوا في جهلهم في متشابهات الكتاب العزيز فضلّوا وأضلّوا.

وفي رواية أُخرى عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن المحكم والمتشابه فقال : (المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله) (١).

وروى مسعدة بن صدقة ، قال : (سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه؟ قال : الناسخ الثابت المعمول به ، والمنسوخ ما قد كان يُعمل به ، ثم جاء ما نسخه ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله)(٢).

والتعبير بـ (جاهله) يؤكّد هنا على وجود من لا يجهله ، وهذا ما يلزم عنه الرد إليه ، فيعود المتشابه محكماً ، وهو ما يتمثل بمرجعية (من لا

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١٦٢:١/٣.

(٢) تفسير العيّاشي ١١:١_١٢/٧.

٩٥

يجهله) وهم الراسخون في العلم الذين أشارت إليهم الآية وهذا ما سنقف عنده بعد قليل.

٢ ـ روايات في دلالة المتصدي للتفسير أن عليه بعد معرفة المحكم والمتشابه إجراء لوازم المرجعية بينهما ، وذلك برد المتشابه للمحكم ليعود النص كلّه محكماً ويرتفع التشابه ، وبذلك ينكشف من النص ما يترتّب عليه الفلاح وإصابة الحق والاهتداء بهدي الكتاب وكشف المراد منه. عن الإمام الرضا عليه‌السلام (من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم .. إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا)(١).

والرواية ظاهرة في أنّ الأَئمة عليهم‌السلام يرون المرجعية في هذا لكلّ محكم (مبين) في مقابل كل متشابه بغض النظر عن موضع وروده نصاً قرآنياً كان أو حديثا مرويا.

وما لم يتمّ فحص المتشابه ثم ردّه إلى المحكم ، فإن الرغبة في فهم النص وكشف معانيه ستكون واقعة في إطار ما عبّر عنه الإمام الباقر عليه‌السلام ، برواية جابر الجعفي عنه ، قال : (يا جابر ليس أبعد شيء من عقول الرجال من تفسير القرآن)(٢).

__________________

(١) الصدوق / عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٩٠ / ٢٣ ، والاحتجاج ٢ : ١٩٢.

(٢) ظ : البرقي / المحاسن ٢ : ٣٠٠ / ٥ من كتاب العلل ، وتفسير العيّاشي ١ : ١١ / ٢ ، وتفسير القمي ١ : ١٩.

٩٦

وأخرجه العيّاشي عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أيضاً (١).

المرجعية الثانية ـ الراسخون :

الراسخون في العلم الذين أوجب العقل والشرع الرجوع إليهم هم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المطهرون الذين علموا تأويل متشابه القرآن بالأخذ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعلمهم بالمتشابه يعود محكما ويرتفع التشابه عنه ، ويرى سائر علماء الإمامية ـ تبعاً لأئمّتهم عليهم‌السلام ـ أنّ قوله تعالى : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) معطوف على قوله تعالى : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)(٢) فيكون المراد : لا يعلم تأويله إلاّ اللّه والراسخون في العلم.

وقد وردت العديد من الروايات عن الأَئمّة عليهم‌السلام موّدة هذا الفهم للآية الذي يحصر معناها فيهم ، وتوّد هذه الروايات أن ذلك من الأُسس المهمة التي ينطلق منها لفهم النص وفي ضوئها ، فيحتكم في رفع التشابه في الآيات فضلاً عن المحكم إليهم هم عليهم‌السلام.

فمن ذلك ما روي في الصحيح عن بريد بن معاوية العجلي ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام في قول اللّه تعالى : ( .. وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(٣) قال : (رسول اللّه أفضل الراسخين ، قد علّمه اللّه

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ١٧ / ١.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

٩٧

جميع ما اُنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان اللّه لينزّل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله ، وأوصياو من بعده يعلمونه كلّه ..)(١).

والرواية السابقة عن أبي بصير ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تحديد المتشابه تود هذا المعنى ، إذ يقول الإمام عليه‌السلام بشأن تلك الآية الشريفة نفسها (والراسخون في العلم هم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله)(٢) وفي رواية اُخرى عنه عليه‌السلام أيضا أنّه قال : (نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله)(٣) هذه الروايات الصريحة دلّت على انحصار الرسوخ بهم عليه‌السلام ، وهناك العديد من الروايات الأخرى عنهم عليهم‌السلام تحدثت عن صفات الراسخين بمعانٍ يمثلون هم المصداق لها(٤).

__________________

(١) الصفّار / بصائر الدرجات : ٢٢٣ / ٤ باب ١٠ ، و : ٢٢٤ / ٨ من الباب السابق ، وأصول الكافي ١ : ٢١٣ / ٢ باب ان الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم‌السلام ، والقاضي النعمان / دعائم الإسلام ١ : ٢٢ ، وتفسير العيّاشي ١ : ١٦٤ / ٦ ، وتفسير القمّي ١ : ٩٦ ـ ٩٧ ، والطبرسي / مجمع البيان في تفسير القرآن ٢ : ٢٤١ ، وجوامع الجامع له أيضاً ١ : ٢٦٥ ، والطبري ، محمد بن علي / بشارة المصطفى : ٢٩٩ ، والاسترآبادي / تأويل الآيات ١ : ١٠٠ / ٣.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ١٦٢ ـ ١٦٣ / ٤.

(٣) بصائر الدرجات : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ / ٥ و ٧ باب ١٠ ، وأصول الكافي ١ : ٢١٣ / ١ باب أن الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم‌السلام من كتاب الحجّة ، وتفسير العيّاشي ١ : ١٦٤ / ٨ ، وتأويل الآيات ١ / ١٠٠ / ٢.

(٤) وقد سبق وإن ذكرنا في ص ٤٠ جملة من مصادر الفريقين المؤكّدة على وصف أهل البيت عليهم‌السلام بالراسخين في العلم ، فراجع.

٩٨

وقد حدّد لنا الإمام أبو جعفر باقر العلم عليه‌السلام معنى الراسخين في العلم ، فقال عليه‌السلام : (الراسخون في العلم من لا يختلف في علمه) (١).

وهذا التحديد يلتقي تماما مع التحديد الوارد في الآية الكريمة. حيث ورد فيها مقابلة الرسوخ في العلم بقوله تعالى في وصف الفئة الاُخرى (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) فكان الرسوخ في العلم هو الثبات وعدم الاختلاف والارتياب (الزيغ) عند العالم.

ويزيد الأمر توضيحاً ما ورد عن الإمام الكاظم عليه‌السلام أنّه قال لهشام بن الحكم (ت / ١٩٩ هـ) : ( .. يا هشام أنّ اللّه حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(٢) علموا أنّ القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها.

إنّه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه ، ومن لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلاّ من كان قوله لفعله مصدقاً ، وسرّه لعلانيته موافقاً ، لأنّ اللّه تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلاّ بظاهر منه ، وناطق عنه)(٣).

ففي كلام الإمام عليه‌السلام تحديد للرسوخ بقوله : (من لم يعقل عن اللّه) وذلك (أن الأمر ما لم يعقل حقّ التعقّل لم تنسد طرق الاحتمالات فيه ولم يزل

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٢٤٥ / ١ باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر من كتاب الحجّة.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٨.

(٣) أصول الكافي ١ : ١٨ / ١٢ من كتاب العقل والجهل ، وابن شعبة الحرّاني / تحف العقول : ٣٨٨.

٩٩

القلب مضطرباً في الاذعان به) (١) ولا شك أنّ هذا مصداقٌ للزيغ الذي وصفت به الفئة المقابلة للراسخين في الآية ممن يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة .. ويتأكّد كون الرجوع إلى الراسخين في العلم من الضوابط المهمة في الكشف عن النص و (إحكام) متشابهه من كلام الإمام علي عليه‌السلام من حديث طويل يخلص بعده إلى بيان حكمة وجود المتشابه وخصوصية الراسخين بقوله عليه‌السلام : (ثم أن اللّه جل ذكره لسعة رحمته ، ورأفته بخلقه ، وعلمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كتابه «بالتأويلات الباطلة» قسم كلامه ثلاثة أقسام :

فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل.

وقسماً لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ، ولطف حسهّ ، وصحّ تميّزه ممن شرح اللّه صدره للإسلام.

وقسماً لا يعرفه إلاّ اللّه ، وأُمناو والراسخون في العلم)(٢).

والقسم الثالث الذي يشير إليه الإمام لا شك دال على انحصار الرسوخ بهم عليهم‌السلام ؛ لأنّهم هم اُمناء اللّه عزّوجلّ على وحيه وإن رغمت أُنوف أُمويّة كثيرة.

وقد علّل أمير المؤمنين عليه‌السلام هذا التقسيم بذلك فقال عليه‌السلام في تتمّة الرواية نفسها : (وإنّما فعل اللّه ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من علم الكتاب ما لم يجعل اللّه لهم ،

__________________

(١) الميزان ٣ : ٧٠.

(٢) الطبرسي / الاحتجاج ١ : ٣٧٦.

١٠٠