الميزان في تفسير القرآن - ج ١٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٥

والمعنى : فأصبح موسى في المدينة ـ ولم يرجع إلى بلاط فرعون ـ والحال أنه خائف من فرعون ينتظر الشر ففاجأه أن الإسرائيلي الذي استنصره على القبطي بالأمس يستغيث به رافعا صوته على قبطي آخر قال موسى للإسرائيلي توبيخا وتأنيبا : إنك لغوي مبين لا تسلك سبيل الرشد والصواب لأنه كان يخاصم ويقتتل قوما ليس في مخاصمتهم والمقاومة عليهم إلا الشر كل الشر.

قوله تعالى : « فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ » إلى آخر الآية ، ذكر جل المفسرين أن ضمير « قالَ » للإسرائيلي الذي كان يستصرخه وذلك أنه ظن أن موسى إنما يريد أن يبطش به لما سمعه يعاتبه قبل بقوله : « إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ » فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال : « يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ » إلخ ، فعلم القبطي عند ذلك أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فائتمروا بموسى وعزموا على قتله.

وما ذكروه في محله لشهادة السياق بذلك فلا يعبأ بما قيل : إن القائل هو القبطي دون الإسرائيلي ، هذا ومعنى باقي الآية ظاهر. وفي قوله : « أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما » تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أن المتقاتلين هذين كانا جميعا إسرائيليين ، وفيه أيضا تأييد أن القائل : « يا مُوسى أَتُرِيدُ » إلخ ، الإسرائيلي دون القبطي لأن سياقه سياق اللوم والشكوى.

قوله تعالى : « وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ » إلخ ، الائتمار المشاورة ، والنصيحة خلاف الخيانة.

والظاهر كون قوله : « مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ » قيدا لقوله : « جاءَ » فسياق القصة يعطي أن الائتمار كان عند فرعون وبأمر منه ، وأن هذا الرجل جاء من هناك وقد كان قصر فرعون في أقصى المدينة وخارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله وأشار عليه بالخروج من المدينة.

وهذا الاستئناس من الكلام يؤيد ما تقدم أن قصر فرعون الذي كان يسكنه كان خارج المدينة ، ومعنى الآية ظاهر.

٢١

قوله تعالى : « فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » فيه تأييد أنه ما كان يرى قتله القبطي خطأ جرما لنفسه.

( بحث روائي )

في تفسير القمي ، قال : فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة ـ حتى بلغ مبلغ الرجال ـ وكان ينكر عليه ما يتكلم به موسى عليه‌السلام من التوحيد ـ حتى هم به فخرج موسى من عنده ودخل المدينة ـ فإذا رجلان يقتتلان ـ أحدهما يقول بقول موسى والآخر يقول بقول فرعون ـ فاستغاثه الذي من شيعته فجاء موسى ـ فوكز صاحب فرعون فقضى عليه وتوارى في المدينة.

فلما كان الغد جاء آخر ـ فتشبث بذلك الرجل الذي يقول بقول موسى ـ فاستغاث بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له. أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ فخلى عن صاحبه وهرب.

وفي العيون ، بإسناده إلى علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه‌السلام ـ فقال له المأمون : يا ابن رسول الله ـ أليس من قولك : إن الأنبياء معصومون؟ قال : بلى. قال : فأخبرني عن قول الله : « فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » قال الرضا عليه‌السلام : إن موسى عليه‌السلام دخل مدينة من مدائن فرعون ـ على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء ـ فوجد فيها رجلين يقتتلان ـ هذا من شيعته وهذا من عدوه ـ فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات ، قال : هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين ـ لا ما فعله موسى عليه‌السلام من قتله « إِنَّهُ » يعني الشيطان « عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ».

قال المأمون : فما معنى قول موسى : « رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي »؟ قال : يقول : وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة ـ فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ـ فغفر له إنه هو الغفور الرحيم. قال موسى : رب بما أنعمت علي من القوة ـ حتى قتلت رجلا بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين ـ بل أجاهدهم بهذه القوة حتى ترضى.

٢٢

فأصبح موسى عليه‌السلام في المدينة خائفا يترقب ـ فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر ـ قال له موسى إنك لغوي مبين ـ قاتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم ـ لأؤدبنك وأراد أن يبطش به ـ فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما وهو من شيعته ـ ( قالَ : يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ ـ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ). قال المأمون : جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن.

( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)

٢٣

قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) ).

( بيان )

فصل ثالث من قصته عليه‌السلام يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله القبطي خوفا من فرعون وتزوجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسم في القرآن لكن تذكر روايات أئمة أهل البيت عليه‌السلام وبعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي المبعوث إلى مدين.

قوله تعالى : « وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ » قال في المجمع : تلقاء الشيء حذاؤه ، ويقال : فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء داعي نفسه. وقال : سواء السبيل وسط الطريق انتهى.

ومدين ـ على ما في مراصد الاطلاع ـ ، مدينة قوم شعيب وهي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب عليه‌السلام انتهى ، ويقال : إنه كان بينهما وبين مصر مسيرة ثمان وكانت خارجة من سلطان فرعون ولذا توجه إليها.

والمعنى : ولما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال : أرجو من ربي أن يهديني وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه والخروج منه إلى غيره.

والسياق ـ كما ترى ـ يعطي أنه عليه‌السلام كان قاصدا لمدين وهو لا يعرف الطريق الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه.

قوله تعالى : « وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ » إلخ الذود الحبس والمنع ، والمراد بقوله : « تَذُودانِ » أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله : « يَسْقُونَ » سقيهم أغنامهم ومواشيهم ، والرعاء جمع الراعي وهو الذي يرعى الغنم.

٢٤

والمعنى : ولما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم ووجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما وتمنعانها أن ترد المورد قال موسى مستفسرا عنهما ـ حيث وجدهما تذودان الغنم وليس على غنمهما رجل ـ : ما شأنكما؟ قالتا لا نسقي غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون ويخرجوا أغنامهم وأبونا شيخ كبير ـ لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقي ولذا تصدينا الأمر.

قوله تعالى : « فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » فهم عليه‌السلام من كلامهما أن تأخرهما في السقي نوع تعفف وتحجب منهما وتعد من الناس عليهما فبادر إلى ذلك وسقى لهما.

وقوله : « ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » أي انصرف إلى الظل ليستريح فيه والحر شديد وقال ما قال ، وقد حمل الأكثرون قوله : « رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ » إلخ على سؤال طعام يسد به الجوع ، وعليه فالأولى أن يكون المراد بقوله « لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَ » القوة البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي فيها رضى الله كالدفاع عن الإسرائيلي والهرب من فرعون بقصد مدين وسقي غنم شعيب واللام في « لِما أَنْزَلْتَ » بمعنى إلى وإظهار الفقر إلى هذه القوة التي أنزلها الله إليه من عنده بالإفاضة كناية عن إظهار الفقر إلى شيء من الطعام تستبقى به هذه القوة النازلة الموهوبة.

ويظهر منه أنه عليه‌السلام كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل ولا يريده وإن كان مما يقتضيه طبعه البشري إلا ابتغاء مرضاة ربه وجهادا فيه ، وهذا ظاهر بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطي : ( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) ثم القائل لما خرج من مصر خائفا يترقب : « رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » ثم القائل لما أخذ في السلوك : « عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ » ثم القائل لما سقى وتولى إلى الظل : « رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » ثم القائل لما آجر نفسه شعيبا وعقد على بنته : « وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ ».

وما نقل عن بعضهم أن اللام في « لِما أَنْزَلْتَ » للتعليل وكذا قول بعضهم إن المراد بالخير خير الدين وهو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق.

٢٥

قوله تعالى : « فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ » إلى آخر الآية. ضمير إحداهما للمرأتين ، وتنكير الاستحياء للتفخيم والمراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها ، وقوله : « لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا » ما مصدرية أي ليعطيك جزاء سقيك لنا ، وقوله : « فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ » إلخ يلوح إلى أن شعيبا استفسره حاله فقص عليه قصته فطيب نفسه بأنه نجا منهم إذ لا سلطان لهم على مدين.

وعند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى عليه‌السلام أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب عليه‌السلام بالنجاة وترجى أن يهديه سواء السبيل وهو في معنى الدعاء فورد مدين ، وسأله الرزق فدعاه شعيب ليجزيه أجر ما سقى وزاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين ووهب له زوجا يسكن إليها.

قوله تعالى : « قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ » إطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التي تستدعي من يقوم مقامه وإن كانت العهدة باقتضاء المقام رعي الغنم.

وقوله : « إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ » إلخ ، في مقام التعليل لقوله : « اسْتَأْجِرْهُ » وهو من وضع السبب موضع المسبب والتقدير استأجره لأنه قوي أمين وخير من استأجرت هو القوي الأمين.

وفي حكمها بأنه قوي أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقي الأغنام ما استدلت به على قوته وكذا من ظهور عفته في تكليمهما وسقي أغنامهما ثم في صحبته لها عند ما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته.

ومن هنا يظهر أن هذه القائلة : « يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ » إلخ ، هي التي جاءته وأخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت عليه‌السلام وذهب إليه جمع من المفسرين.

قوله تعالى : « قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ » إلخ ، عرض من شعيب لموسى عليه‌السلام أن يأجره نفسه ثماني سنين أو عشرا

٢٦

قبال تزويجه إحدى ابنتيه وليس بعقد قاطع ومن الدليل عدم تعين المعقودة في كلامه عليه‌السلام.

فقوله : « إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ » دليل على حضورهما إذ ذاك ، وقوله : « عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ » أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيرا لي ثماني حجج ، والحجج جمع حجة والمراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام ، وبه يظهر أن حج البيت ـ وهو من شريعة إبراهيم عليه‌السلام ـ كان معمولا به عندهم.

وقوله : « فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ » أي فإن أتممته عشر سنين فهو من عندك وباختيار منك من غير أن تكون ملزما من عندي.

وقوله : « وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ » إخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة وأنه عمل غير موصوف بالمشقة وأنه مخدوم صالح.

وقوله : « سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ » أي إني من الصالحين وستجدني منهم إن شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى إياه منهم لا بكونه في نفسه منهم.

قوله تعالى : « قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ » الضمير لموسى عليه‌السلام.

وقوله : « ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ » أي ذلك الذي ذكرته وقررته من المشارطة والمعاهدة وعرضته علي ثابت بيننا ليس لي ولا لك أن نخالف ما شارطناه ، وقوله : « أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ » بيان للأجل المردد المضروب في كلام شعيب عليه‌السلام وهو قوله : « ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ » أي لي أن أختار أي الأجلين شئت فإن اخترت الثماني سنين فليس لك أن تعدو علي وتلزمني بالزيادة وإن اخترت الزيادة وخدمتك عشرا فليس لك أن تعدو علي بالمنع من الزيادة.

وقوله : « وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ » توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن إشهاده تعالى على ما يقولان وإرجاع الحكم والقضاء بينهما إليه لو اختلفا ، ولذا اختار التوكيل على الإشهاد لأن الشهادة والقضاء كليهما إليه تعالى ، وهذا كقول يعقوب عليه‌السلام حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله : « فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ » يوسف : ٦٦.

٢٧

( بحث روائي )

في كتاب كمال الدين ، بإسناده إلى سدير الصيرفي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ـ قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ـ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) ـ من مصر بغير ظهر ولا دابة ولا خادم تخفضه أرض ـ وترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين.

فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر ـ وإذا عندها أمة من الناس يسقون ـ وإذا جاريتان ضعيفتان وإذا معهما غنيمة لهما ـ قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير ـ ونحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال ـ فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما : قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس.

ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها ـ وقال : « رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » فروي أنه قال ذلك وهو محتاج إلى شق تمرة ـ فلما رجعتا إلى أبيهما ـ قال : ما أعجلكما في هذه الساعة ـ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما اذهبي ـ فادعيه لي فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ـ قالت : ( إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا ).

فروي أن موسى عليه‌السلام قال لها : وجهني إلى الطريق وامشي خلفي ـ فإنا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء ، فلما جاءه وقص عليه القصص ـ قال : ( لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).

قال : ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ـ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) ـ فروي أنه قضى أتمهما ـ لأن الأنبياء عليهم‌السلام لا تأخذ إلا بالفضل والتمام.

أقول : وروى ما في معناه القمي في تفسيره.

وفي الكافي ، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه‌السلام : « رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » قال : سأل الطعام.

أقول : وروى العياشي عن حفص عنه عليه‌السلام : مثله ، ولفظه إنما عنى الطعام :

٢٨

وأيضا عن ليث عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله ، وفي نهج البلاغة مثله ولفظه والله ما سأله إلا خبزا يأكله.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل ـ فقال : ( رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) ـ قال : إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر.

وفي تفسير القمي ، قال : قالت إحدى بنات شعيب : ( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) ، فقال لها شعيب عليه‌السلام : أما قوته فقد عرفتنيه أنه يستقي الدلو وحده ـ فبم عرفت أمانته؟ فقالت : إنه لما قال لي : تأخري عني ودليني على الطريق ـ فإنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء ـ عرفت أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته :

أقول : وروي مثله في المجمع ، عن علي (ع).

وفي المجمع ، وروى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : رسائل أيتهما التي قالت : إن أبي يدعوك؟ قال : التي تزوج بها. قيل : فأي الأجلين قضى؟ قال : أوفاهما وأبعدهما عشر سنين. قيل : فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال : قبل أن ينقضي. قيل له : فالرجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين أيجوز ذلك؟ قال : إن موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل : كيف؟ قال : علم أنه سيبقى حتى يفي.

أقول : وروى قضاء عشر سنين في الدر المنثور ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدة طرق.

وفي تفسير العياشي ، وقال الحلبي : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن البيت ـ أكان يحج قبل أن يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : نعم ـ وتصديقه في القرآن قول شعيب ـ حين قال لموسى عليه‌السلام حيث تزوج : « عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ » ولم يقل ثماني سنين.

( فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ

٢٩

ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي

٣٠

لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) ).

( بيان )

فصل آخر من قصة موسى عليه‌السلام وقد أودع فيه إجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر وبعثته بالرسالة إلى فرعون وملئه لإنجاء بني إسرائيل وتكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم وتنتهي القصة إلى إيتائه الكتاب وكأنه هو العمدة في سرد القصة.

قوله تعالى : « فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً » إلخ ، المراد بقضائه الأجل إتمامه مدة خدمته لشعيب عليه‌السلام والمروي أنه قضى أطول الأجلين ، والإيناس الإبصار والرؤية ، والجذوة من النار القطعة منها ، والاصطلاء الاستدفاء.

والسياق يشهد أن الأمر كان بالليل وكانت ليلة شديدة البرد وقد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور وقد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها ، وقد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله : « لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ » إلخ قوله : « لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً » طه : ١٠ ، وهو أدل على كونهم ضلوا الطريق.

وكذا في قوله خطابا لأهله : « امْكُثُوا » إلخ ، شهادة على أنه كان معها من يصح

٣١

معه خطاب (١) الجمع.

قوله تعالى : « فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ » إلخ قال في المفردات : شاطئ الوادي جانبه ، وقال : أصل الوادي الموضع الذي يسيل منه الماء ومنه سمي المنفرج بين الجبلين واديا وجمعه أودية انتهى والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها.

والمراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر وهو صفة الشاطئ ولا يعبأ بما قاله بعضهم : إن الأيمن من اليمين مقابل الأشأم من الشؤم.

والبقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطئ الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها ، ومباركتها لتشرفها بالتقريب والتكليم الإلهي وقد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه : « فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً » طه : ١٢.

ولا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء والتكليم بوجه غير أن الكلام وهو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب وهو على كل شيء محيط ، قال تعالى : « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ » الشورى : ٥١.

ومن هنا يظهر ضعف ما قيل : إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به.

وكذا ما قيل : إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء عليهم‌السلام أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة ومبلغ. وذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب والحجاب واسطة وظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.

__________________

(١) وفي التوراة الحاضرة أنه حمل معه إلى مصر امرأته وبنيه ( سفر الخروج الإصحاح الرابع آية ٢٠ ).

٣٢

وقوله : « أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » أن فيه تفسيرية ، وفيه إنباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا ـ والرب هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من مملوكيه ـ لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره وإله معبود سواه.

ففي الآية إجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى الأصول الثلاثة أعني التوحيد والنبوة والمعاد إذ قال : « إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ » الآيات : طه : ١٤ ـ ١٦.

قوله تعالى : « وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى : مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ » تقدم تفسيره في سورة النمل.

قوله تعالى : « يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ » بتقدير القول أي قيل له : أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ، وفي هذا الخطاب تأمين له ، وبه يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل : « يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ » النمل : ١٠ وأنه تأمين معناه أنك مرسل والمرسلون آمنون لدي وليس من العتاب والتوبيخ في شيء.

قوله تعالى : « اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ » المراد بسلوك يده في جيبه إدخاله فيه ، والمراد بالسوء ـ على ما قيل ـ البرص.

والظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا (١) الموضع من القصة : ثم قال له الرب أيضا : أدخل يدك في عبك فأدخل يده في عبه ثم أخرجها وإذا يده برصاء مثل الثلج.

قوله تعالى : « وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ » إلى آخر الآية ، الرهب بالفتح فالسكون وبفتحتين وبالضم فالسكون الخوف ، والجناح قيل : المراد به اليد وقيل : العضد.

__________________

(١) سفر الخروج الإصحاح الرابع آية ٦.

(١٦ ـ الميزان ـ ٣ )

٣٣

قيل : المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف.

وقيل : إنه لما ألقى العصا وصارت حية بسط يديه كالمتقي وهما جناحاه فقيل له : اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها.

والوجهان ـ كما ترى ـ مبنيان على كون الجملة أعني قوله : « وَاضْمُمْ » إلخ ، من تتمة قوله : « أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ » وهذا لا يلائم تخلل قوله : « اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ » إلخ ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف.

وقيل : الجملة كناية عن الأمر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه والحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال.

ولا يبعد أن يكون المراد بالجملة الأمر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فإن من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه وجنبيه كالمتمطي في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من التواضع للمؤمنين بقوله : « وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ » الحجر : ٨٨ على بعض المعاني.

قوله تعالى : « قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ » إشارة إلى قتله القبطي بالوكز وكان يخاف أن يقتلوه قصاصا.

قوله تعالى : « وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ » قال في المجمع : يقال : فلان ردء لفلان إذا كان ينصره ويشد ظهره. انتهى.

وقوله : « إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ » تعليل لسؤاله إرسال هارون معه ، والسياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب ولا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل إرساله لئلا يكذبوه فإن من يكذبه لا يبالي أن يكذب هارون معه ومن الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله : « قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ » الشعراء : ١٣.

فمحصل المعنى : أن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين

٣٤

صدقي في دعواي إذا خاصموني إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي.

قوله تعالى : « قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ » شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به ، وعدم الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل ونحوه كأن الطائفتين يتسابقان وإحداهما متقدمة دائما والأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم.

والمعنى : قال سنقويك ونعينك بأخيك هارون ونجعل لكما سلطة وغلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهركما بها. ثم قال : « أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ » وهو بيان لقوله : « وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً » إلخ ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما ومن اتبعهما من الناس.

وقد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر والغلبة وقيل : هو بمعنى الحجة والأولى حينئذ أن يكون قوله : « بِآياتِنا » متعلقا بقوله : « الْغالِبُونَ » لا بقوله : « فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما » وقد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها.

قوله تعالى : « فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً » إلخ ، أي سحر موصوف بأنه مفترى والمفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي وصف به السحر مبالغة.

والإشارة في قوله : « ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً » إلى ما جاء به من الآيات أي ليس ما جاء به من الخوارق إلا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا.

والإشارة في قوله : « وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ » إلى ما جاء به من الدعوة وأقام عليها حجة الآيات ، وأما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله : « فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ » طه : ٥٨ على أن عدم معهودية السحر وعدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه.

فالمعنى : أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه في وقت من الأوقات ، ويناسبه ما حكي في الآية التالية من قول موسى : « رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى » إلخ.

٣٥

قوله تعالى : « وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ » إلخ ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم : « وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ » في رد دعوى موسى ، وهو جواب مبني على التحدي كأنه يقول : إن ربي ـ وهو رب العالمين له الخلق والأمر ـ هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى ومن تكون له عاقبة الدار وهو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى ـ وهو دين التوحيد ـ ووعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار ، والحجة على ذلك الآيات البينات التي آتانيها من عنده.

فقوله : « رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ » يريد به نفسه والمراد بالهدى الدعوة الدينية التي جاء بها.

وقوله : « وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ » المراد بعاقبة الدار إما الجنة التي هي الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم : « وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ » الزمر : ٧٤ وإما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله : « قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » الأعراف : ١٢٨ وإما الأعم الشامل للدنيا والآخرة ، والثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله : « إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ».

وفي قوله : « إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » تعريض لفرعون وقومه وفيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم وفيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني.

قال بعض المفسرين : والوجه في عطف قوله : « وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ » إلخ ، على قولهم : « ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً » إلخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد. انتهى. وما قدمناه من كون قول موسى عليه‌السلام مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق.

قوله تعالى : « وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي » إلى آخر الآية ، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى ولا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من

٣٦

عند الله وأنه ما علم لهم من إله غيره.

فقوله : « ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي » سوق للكلام في صورة الإنصاف ليقع في قلوب الملأ موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكي في موضع آخر : « ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ » المؤمن : ٢٩.

فمحصل المعنى : أنه ظهر للملإ أنه لم يتضح له من دعوة موسى وآياته أن هناك إلها هو رب العالمين ولا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله موسى.

وبذلك يظهر أن قوله : « ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي » من قبيل قصر القلب فقد كان موسى عليه‌السلام يثبت الألوهية لله سبحانه وينفيها عن غيره وهو ينفيها عنه تعالى ويثبتها لنفسه ، وأما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو وقومه فلا تعرض لها.

وقوله : « فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً » المراد بالإيقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الأجر المستعمل في الأبنية ، والصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشيء إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الأجر وبناء قصر عال منه.

وقوله : « لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى » نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي يدعو إليه ، والكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة والتقدير : اجعل لي صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلي أطلع إلى إله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس وإضلالهم.

ويمكن أن يكون المراد أن يبني له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى عليه‌السلام ، ويؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر : « يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً » المؤمن : ٣٧.

وقوله : « وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ » ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله : « ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي » إلى الظن بعدم الوجود وقد كان كاذبا في قوله هذا ولا يقوله إلا تمويها وتعمية على الناس وقد خاطبه موسى بقوله : « لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ

٣٧

هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » إسراء : ١٠٢.

وذكر بعضهم أن قوله : « ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي » من قبيل نفي المعلوم بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله : « قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ » يونس : ١٨ وأنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية.

قوله تعالى : « وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ » أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع وذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى : « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ».

قوله تعالى : « فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ » إلخ النبذ الطرح ، واليم البحر والباقي ظاهر.

وفي الآية من الاستهانة بأمرهم وتهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى.

قوله تعالى : « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ » الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي لكونها هي التي تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب إطلاق المسبب وإرادة سببه.

ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار ، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون ولا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر والجحود وليس من الإضلال الابتدائي في شيء.

وقيل : المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله : « وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً » الزخرف : ١٩.

وفيه أن الآية التالية على ما سيجيء من معناها لا تلائمه. على أن كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم.

وقوله : « وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ » أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.

قوله تعالى : « وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ » بيان للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم وعليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم.

٣٨

فالآية في معنى قوله : « وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ » العنكبوت : ١٣ وقوله : « وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ » يس : ١٢ وتنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها واستمرارها.

وكذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر ويشمئز عنهم النفوس ويفر منهم الناس ولا يدنو منهم أحد وهو معنى القبح وقد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه.

( بحث روائي )

في المجمع ، روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأبطأهما.

أقول : وروي ما في معناه بالإسناد عن أبي ذر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن مقسم قال : لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رض ـ فقلت له : أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الآخر؟ قال : الآخر.

وفي المجمع ، روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لما قضى موسى الأجل وسار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا « قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً ».

وعن كتاب طب الأئمة ، بإسناده عن جابر الجعفي عن الباقر عليه‌السلام في حديث قال : وقال الله عز وجل في قصة موسى عليه‌السلام : « وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ » يعني من غير برص.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ـ فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي » قال الراوي : فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فكم مكث موسى عليه‌السلام غائبا عن أمه ـ حتى رده الله عز وجل عليها؟ قال : ثلاثة أيام.

قال : فقلت : فكان هارون أخا موسى عليه‌السلام لأبيه وأمه؟ قال : نعم أما تسمع الله عز وجل يقول : « يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي »؟ فقلت :

٣٩

فأيهما كان أكثر سنا؟ قال : هارون. قلت : فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال : كان الوحي ينزل على موسى وموسى يوحيه إلى هارون ـ.

فقلت له : أخبرني عن الأحكام والقضاء والأمر والنهي ـ كان ذلك إليهما؟ قال : كان موسى الذي يناجي ربه ويكتب العلم ـ ويقضي بين بني إسرائيل ـ وهارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة. قلت : فأيهما مات قبل صاحبه؟ قال : مات هارون قبل موسى وماتا جميعا في التيه. قلت : فكان لموسى ولد؟ قال : لا كان الولد لهارون والذرية له.

أقول : وآخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد ، وفي التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك.

في جوامع الجامع في قوله تعالى : « وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ » قال عليه‌السلام فيما حكاه عن ربه عز وجل : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ـ فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار.

وفي الكافي ، بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال : إن الأئمة في كتاب الله عز وجل إمامان ـ قال الله تبارك وتعالى : « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا » لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم. قال : « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ » يقدمون أمرهم قبل أمر الله ـ وحكمهم قبل حكم الله و ـ يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز وجل.

( كلام حول قصص موسى وهارون عليه‌السلام )

في فصول

١ ـ منزلة موسى عند الله وموقفه العبودي : كان عليه‌السلام أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء ولهم كتاب وشريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله : « وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً » الأحزاب : ٧ ، وقال : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » الشورى : ١٣.

٤٠