الميزان في تفسير القرآن - ج ١٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٥

ولقد امتن الله سبحانه عليه وعلى أخيه في قوله : « وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ » الصافات : ١١٤ وسلم عليهما في قوله : « سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ » الصافات : ١٢٠.

وأثنى على موسى عليه‌السلام بأجمل الثناء في قوله : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا » مريم : ٥٢ وقال : « وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً » الأحزاب : ٦٩ وقال : « وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً » النساء : ١٦٤.

وذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام الآية ٨٤ ـ ٨٨ فأخبر أنهم كانوا محسنين صالحين وأنه فضلهم على العالمين واجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. وذكره في جملة الأنبياء في سورة مريم ثم ذكر في الآية ٥٨ منها أنهم الذين أنعم الله عليهم.

فاجتمع بذلك له عليه‌السلام معنى الإخلاص والتقريب والوجاهة والإحسان والصلاح والتفضيل والاجتباء والهداية والإنعام وقد مر البحث عن معاني هذه الصفات في مواضع تناسبها من هذا الكتاب وكذا البحث عن معنى النبوة والرسالة والتكليم.

وذكر الكتاب النازل عليه وهو التوراة فوصفها بأنها إمام ورحمة ( سورة الأحقاف : ١٢ ) وبأنها فرقان وضياء وذكر : ( الأنبياء : ٤٨ ) وبأن فيها هدى ونور : ( المائدة : ٤٤ ) وقال : « وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ » الأعراف : ١٤٥.

غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها واختلفوا فيها. وقصة بخت نصر وفتحه فلسطين ثانيا وهدمه الهيكل وإحراقه التوراة وحشره اليهود إلى بابل سنة خمسمائة وثمان وثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة وثمان وثلاثين قبل المسيح وإذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا وكتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ وقد تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيح عليه‌السلام.

٢ ـ قصص موسى عليه‌السلام في القرآن : هو عليه‌السلام أكثر الأنبياء ذكرا في

٤١

القرآن الكريم فقد ذكر اسمه ـ على ما عدوه ـ في مائة وستة وستين موضعا من كلامه تعالى ، وأشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن ، وقد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات ، وقد ذكر في القرآن شيء كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا ، واليد البيضاء ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وفلق البحر ، وإنزال المن والسلوى ، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا ، وإحياء الموتى ، ورفع الطور فوق القوم وغير ذلك.

وقد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه عليه‌السلام من دون استيفائها في كل ما دق وجل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية والإرشاد على ما هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء وأممهم.

وهذه الفصول التي فيها كليات قصصه هي أنه تولد بمصر في بيت إسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون وجعلت أمه إياه في تابوت وألقته في البحر وأخذ فرعون إياه ثم رده إلى أمه للإرضاع والتربية ونشأ في بيت فرعون.

ثم بلغ أشده وقتل القبطي وهرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون وملئه أن يقتلوه قصاصا.

ثم مكث في مدين عند شعيب النبي عليه‌السلام وتزوج إحدى بنتيه.

ثم لما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا وقد ضلوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم وذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة وكلمه واجتباه وآتاه معجزة العصا واليد البيضاء في تسع آيات واختاره للرسالة إلى فرعون وملئه وإنجاء بني إسرائيل وأمره بالذهاب إليه.

فأتى فرعون ودعاه إلى كلمة الحق وأن يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذبهم وأراه آية العصا واليد البيضاء فأبى وعارضة بسحر السحرة وقد جاءوا بسحر عظيم من ثعابين وحيات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وأصر فرعون على جحوده وهدد السحرة ولم يؤمن.

٤٢

فلم يزل موسى عليه‌السلام يدعوه وملأه ويريهم الآية بعد الآية كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وهم يصرون على استكبارهم ، وكلما وقع عليهم الرجز قالوا : يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.

فأمره الله أن يسري بني إسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر واتبعهم فرعون وجنوده حتى إذا اداركوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.

ولما أنجاهم الله من فرعون وجنوده وأخرجهم إلى البر ولا ماء فيه ولا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المن والسلوى وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها وأكلوا منهما وظللهم الغمام.

ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى ، ولما تم الميقات أنزل الله عليه التوراة وأخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل.

فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل ونسفه في اليم وطرد السامري وقال له : اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وأما القوم فأمروا أن يتوبوا ويقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطور فوقهم.

ثم إنهم ملوا المن والسلوى وقالوا لن نصبر على طعام واحد وسألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها فأمروا أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم وابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة.

ومن قصص موسى عليه‌السلام ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى

٤٣

مجمع البحرين للقاء العبد الصالح وصحبته حتى فارقه.

٣ ـ منزلة هارون عليه‌السلام عند الله وموقفه العبودي : أشركه الله تعالى مع موسى عليه‌السلام في سورة الصافات في المن وإيتاء الكتاب والهداية إلى الصراط المستقيم وفي التسليم وأنه من المحسنين ومن عباده المؤمنين ( الصافات : ١١٤ ـ ١٢٢ ) وعده مرسلا ( طه : ٤٧ ) ونبيا ( مريم : ٥٣ ) وأنه ممن أنعم عليهم ( مريم : ٥٨ ) وأشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان والصلاح والفضل والاجتباء والهداية ( الإنعام : ٨٤ ـ ٨٨ ).

وفي دعاء موسى ليلة الطور : « وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً » طه : ٣٥.

وكان عليه‌السلام ملازما لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره ويعينه على جميع مقاصده.

ولم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص إلا خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات وقال لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا وقد عبدوا العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القول استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.

٤ ـ قصة موسى (ع) في التوراة الحاضرة : قصصه عليه‌السلام موضوعة فيما عدا السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة وهي : سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه عليه‌السلام من حين ولادته إلى حين وفاته وما أوحي إليه من الشرائع والأحكام.

غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسيرة.

ومن أهمها أنها تذكر أن نداء موسى وتكليمه من الشجرة كان في أرض مدين

٤٤

قبل أن يسير بأهله وذلك حين كان يرعى غنم يثرون (١) حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فناداه الله وكلمه بما كلمه وأرسله إلى فرعون لإنجاء بني إسرائيل. (٢)

ومنها ما ذكرت أن فرعون الذي أرسل إليه موسى غير فرعون الذي أخذ موسى ورباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطي خوفا من القصاص. (٣) ومنها أنها لم تذكر إيمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حيات فتلقفتها عصا موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون وعارضوا موسى في آيتي الدم والضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسى عليه‌السلام معجزة. (٤)

ومنها أنها تذكر أن الذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى عليه‌السلام وذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير إمامنا لأن هذا ( موسى ) الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه؟ فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الشعب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها.

فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أهذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. (٥)

وفي الآيات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه عليه‌السلام غير خفية على المتدبر فيها.

وهناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطي أن

__________________

(١) تسمي التوراة أبا زوجة موسى يثرون كاهن مديان.

(٢) الإصحاح الثالثة من سفر الخروج.

(٣) سفر الخروج ، الإصحاح الثاني. الآية ٢٣.

(٤) الإصحاح السابع والثامن من سفر الخروج.

(٥) الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج.

٤٥

المتضاربين ثانيا كانا جميعا إسرائيليين. (١)

وأيضا وقع فيها أن الذي ألقى العصا فتلقفت حيات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى. (٢)

وأيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات ونزول الصاعقة عليهم وإحياءهم بعده.

وأيضا فيها أن الألواح التي كانت مع موسى لما نزل من الجبل وألقاها كانت لوحين من حجر وهما لوحا الشهادة (٣). إلى غير ذلك من الاختلافات.

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً

__________________

(١) الإصحاح الثاني من سفر الخروج.

(٢) الإصحاح السابع من سفر الخروج.

(٣) الإصحاح الثاني من سفر الخروج.

٤٦

فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) ).

( بيان )

سياق الآيات يشهد أن المشركين من قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله راجعوا بعض أهل الكتاب واستفتوهم في أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه وهو

٤٧

مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه والإيمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة وأنهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى : « وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ».

فساء المشركين ذلك وشاجروهم وأغلظوا عليهم في القول وقالوا : إن القرآن سحر والتوراة سحر مثله « سِحْرانِ تَظاهَرا » و « إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ » فأعرض الكتابيون عنهم وقالوا : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ).

هذا ما يلوح إليه الآيات الكريمة بسياقها ، وهو سبحانه لما ساق قصة موسى عليه‌السلام وأنبأ أنه كيف أظهر قوما مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم وتستحيي نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم رباه في حجر عدوه الذي يذبح بأمره الألوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه ورده إليهم وأظهره عليهم حتى أغرقهم أجمعين وأنجى شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين.

عطف القول على الكتاب السماوي الذي هو المتضمن للدعوة وبه تتم الحجة وهو الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى عليه‌السلام فيه بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الأولى بمعاصيهم.

وكذا أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن وقص عليه قصص موسى عليه‌السلام ولم يكن هو شاهدا لنزول التوراة عليه ولا حاضرا في الطور لما ناداه وكلمه ، وقص عليه ما جرى بين موسى وشعيب عليه‌السلام ولم يكن هو ثاويا في مدين يتلو عليهم آياته ولكن أنزله وقص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوما ما أتاهم من نذير من قبله لأنهم بسبب كفرهم وفسوقهم في معرض نزول العذاب وأصابه المصيبة فلو لم ينزل الكتاب ولم يبلغ الدعوة لقالوا : ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وكانت الحجة لهم على الله سبحانه.

فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزول القرآن قالوا : ( لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ ) حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدقوه فقال المشركون : ( سِحْرانِ تَظاهَرا ) يعنون التوراة والقرآن ، وقالوا ( إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ).

٤٨

ثم لقن سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله الحجة عليهم بقوله : « قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » أي إن من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عند الله يهدي إلى الحق وتتم به الحجة على الناس وهم يعرفون فإن لم تكن التوراة والقرآن كتابي هدى وكافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما وليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالإعجاز وبدلالة البراهين العقلية. على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا هدى والقوم في الإعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم وهو قوله : « فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ » إلخ.

ثم مدح سبحانه قوما من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن فأظهروا لهم الإيمان والتصديق وأعرضوا عن لغو القول الذي جبهوهم به.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ » إلخ اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة بوحيه إليه.

وقوله : « مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى » أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح ومن بعدهم من الأمم الهالكة ولعل منهم قوم فرعون ، وفي هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي بمضي الماضين وليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم وحلول العذاب الإلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون ويتذكر به المتذكرون.

وقوله : « بَصائِرَ لِلنَّاسِ » جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به وكان المراد بها الحجج البينة التي يبصر بها الحق ويميز بها بينه وبين الباطل ، وهي حال من الكتاب وقيل : مفعول له.

وقوله : « وَهُدىً » بمعنى الهادي أو ما يهتدى به وكذا قوله : « وَرَحْمَةً » بمعنى ما يرحم به وهما حالان من الكتاب كبصائر ، وقيل : كل منهما مفعول له.

والمعنى : وأقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة من بعد ما أهلكنا

( ١٦ ـ الميزان ـ ٤ )

٤٩

الأجيال الأولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة والإنذار حال كون الكتاب حججا بينة يبصر بها الناس المعارف الحقة وهدى يهتدون به إليها ورحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه وأحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد والعمل.

قوله تعالى : « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ » الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والغربي صفة محذوفة الموصوف والمراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي.

وقوله : « إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ » كان القضاء مضمن معنى العهد ، والمراد بعهد الأمر إليه ـ على ما قيل ـ أحكام أمر نبوته بإنزال التوراة إليه وأما العهد إليه بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد : « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا » وقوله : « وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ » تأكيد لسابقه.

والمعنى : وما كنت حاضرا وشاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل.

قوله تعالى : « وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ » تطاول العمر تمادي الأمد والجملة استدراك عن النفي في قوله : « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ » ، والمعنى : ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه ولكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الأمد ثم أنزلنا عليك قصته وخبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه.

قوله تعالى : « وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ » الثاوي المقيم يقال : ثوى في المكان إذا أقام فيه ، والضمير في « عَلَيْهِمُ » لمشركي مكة الذين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتلو عليهم آيات الله التي تقص ما جرى على موسى عليه‌السلام في مدين زمن كونه فيه.

وقوله : « وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ » استدراك من النفي في صدر الآية.

والمعنى : وما كنت مقيما في أهل مدين ـ وهم شعيب وقومه ـ مشاهدا لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك ولكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم.

٥٠

قوله تعالى : « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ » إلى آخر الآية ، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق : « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا » إلخ ، إن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور نارا.

وقوله : « وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ » إلخ ، استدراك عن النفي السابق ، والظاهر أن « رَحْمَةً » مفعول له ، والالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله : « مِنْ رَبِّكَ » للدلالة على كمال عنايته تعالى به صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقوله : « لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ » الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أو هم ومن يقارنهم من آبائهم فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود وصالح وشعيب وإسماعيل عليه‌السلام.

والمعنى : وما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى وكلمناه واخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة إخبار الحاضر المشاهد ولكن لرحمة منا أخبرناك بها لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون.

قوله تعالى : « وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا » إلخ ، المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد والعمل بدليل ذيل الآية ، والمراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا والآخرة فإن الإعراض عن الحق بالكفر والفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة ، وقد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » الأعراف : ٩٦ وغيره.

وقوله : « فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ » متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم إرسال الرسول وجواب لو لا محذوف لظهوره والتقدير : لما أرسلنا رسولا.

ومحصل المعنى : أنه لو لا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول وأخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر والفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا لكنهم يقولون ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك التي يتلوها علينا ونكون من المؤمنين.

قوله تعالى : « فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى »

٥١

إلخ ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحق وأنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا والظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول وهو القرآن النازل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والمراد بقولهم : « لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى » أي لو لا أوتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل التوراة التي أوتيها موسى عليه‌السلام ، وكأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً » الفرقان : ٣٢.

وقد أجاب الله عن قولهم بقوله : « أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا » يعنون القرآن والتوراة « وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ». والفرق بين القولين أن الأول كفر بالكتابين والثاني كفر بأصل النبوة ولعله الوجه لتكرار « قالُوا » في الكلام.

قوله تعالى : « قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » تفريع على كون القرآن والتوراة سحرين تظاهرا ، ولا يصح هذا التفريع إلا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم ويجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما ، وهو كذلك على ما تبين بقوله : « وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ » إلخ ، إن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب ويرسل إليهم الرسول ، ولذلك أمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتبعه.

ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما ـ لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف ـ لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما.

والقرآن الكريم وإن كان يصرح بتسرب التحريف والخلل في التوراة الحاضرة وذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى عليه‌السلام وهي التي يصدقها القرآن.

٥٢

على أن موضوع الكلام هما معا والقرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما.

وقوله : « إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا.

قوله تعالى : « فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ » إلى آخر الآية ، الاستجابة والإجابة بمعنى واحد ، قال في الكشاف : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال : استجاب الله دعاءه أو استجاب له ، ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه. انتهى.

فقوله : « فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ » تفريع على قوله : « قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ » أي فإن قلت لهم كذا وكلفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن والتوراة وتعين أن لا هدى أتم وأكمل من هداهما وهم مع ذلك يرمونها بالسحر ويعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق ولا بصدد اتباع ما هو صريح حجة العقل وإنما يتبعون أهواءهم ويدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل : « سِحْرانِ تَظاهَرا » « إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ».

ويمكن أن يكون المراد بقوله : « أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ » إنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما وهم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم إنما يبنون سنة الحياة على اتباع الأهواء ولا يعتقدون بأصل النبوة وأن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحي وعليهم أن يتبعوه ويسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم ، وربما أيد هذا المعنى قوله بعد : « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ » إلخ.

وقوله : « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ » استفهام إنكاري والمراد به استنتاج أنهم ضالون ، وقوله : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فإن اتباع الهوى إعراض عن الحق وانحراف عن صراط الرشد وذلك ظلم والله لا يهدي القوم الظالمين وغير المهتدي هو الضال.

ومحصل الحجة أنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما وليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى ، ومتبع الهوى ظالم والظالم غير مهتد وغير المهتدي ضال فهم ضالون.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ » التوصيل تفعيل من

٥٣

الوصل يفيد التكثير كالقطع والتقطيع والقتل والتقتيل ، والضمير لمشركي مكة والمعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض : الآية بعد الآية ، والسورة إثر السورة من وعد ووعيد ومعارف وأحكام وقصص وعبر وحكم ومواعظ لعلهم يتذكرون.

قوله تعالى : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ » الضميران للقرآن وقيل : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. والأول أوفق للسياق ، وفي الآية وما بعدها مدح طائفة من مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدم في الآيات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة.

وسياق ذيل الآيات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب آمنوا به فلا يعبأ بما قيل إن المراد بهم مطلق المؤمنين منهم.

قوله تعالى : « وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا » إلخ ، ضمائر الإفراد للقرآن ، واللام في « الْحَقُ » للعهد والمعنى وإذا يقرأ القرآن عليهم قالوا : آمنا به إنه الحق الذي نعهده من ربنا فإنه عرفناه من قبل.

وقوله : « إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ » تعليل لكونه حقا معهودا عندهم أي إنا كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذي يدعو إليه ويسميه إسلاما.

وقيل : الضميران للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما تقدم أوفق للسياق ، وكيف كان فهم يعنون بذلك ما قرءوه في كتبهم من أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ » الأعراف : ١٥٧ وقوله : « أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ » الشعراء : ١٩٧.

قوله تعالى : « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ » إلخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا ومدح لهم على حسن سلوكهم ومداراتهم مع جهلة المشركين ولذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بإيتائهم أجرهم مرتين إيتاؤهم أجر الإيمان بكتابهم وأجر الإيمان بالقرآن وصبرهم على الإيمان بعد الإيمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى.

وقيل : المراد إيتاؤهم الأجر بما صبروا على دينهم وعلى أذى الكفار وتحمل المشاق وقد عرفت ما يؤيده السياق.

٥٤

وقوله : « وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ » إلخ الدرء الدفع ، والمراد بالحسنة والسيئة قيل : الكلام الحسن والكلام القبيح ، وقيل : العمل الحسن والسيئ وهما المعروف والمنكر ، وقيل : الخلق الحسن والسيئ وهما الحلم والجهل ، وسياق الآيات أوفق للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمدارأة ، والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ » إلخ ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلقه بالسمع ، والمراد سقط القول الذي لا ينبغي الاشتغال به من هذر أو سب وكل ما فيه خشونة ، ولذا لما سمعوه أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله وقالوا : ( لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) وهو متاركة ، وقوله : « سَلامٌ عَلَيْكُمْ » أي أمان منا لكم ، وهو أيضا متاركة وتوديع تكرما كما قال تعالى : « وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ».

وقوله : « لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ » أي لا نطلبهم بمعاشرة ومجالسة ، وفيه تأكيد لما تقدمه ، وهو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفظوا به لكان من مقابلة السيئ بالسيئ.

قوله تعالى : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » المراد بالهداية الإيصال إلى المطلوب ومرجعه إلى إفاضة الإيمان على القلب ومعلوم أنه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد ، وليس المراد بها إراءة الطريق فإنه من وظيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه ، والمراد بالاهتداء قبول الهداية.

لما بين في الآيات السابقة حرمان المشركين وهم قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من نعمة الهداية وضلالهم باتباع الهوى واستكبارهم عن الحق النازل عليهم وإيمان أهل الكتاب به واعترافهم بالحق ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية إلى الله لا إليك يهدي هؤلاء وهم من غير قومك الذين تدعوهم ولا يهدي هؤلاء وهم قومك الذين تحب اهتداءهم وهو أعلم بالمهتدين.

( بحث روائي )

في الدر المنثور ، أخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي

٥٥

سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية ـ بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض ـ غير القرية التي مسخت قردة. ألم تر إلى قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ـ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى »؟

أقول : وفي دلالة الآية على الإهلاك بخصوص العذاب السماوي ثم انقطاعه بنزول التوراة خفاء.

وفيه في قوله تعالى : « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا » الآية ، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لما قرب الله موسى إلى طور سيناء نجيا ـ قال : أي رب هل أحد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما. قال : نعم ، محمد أكرم علي منك. قال : فإن كان محمد أكرم عليك مني ـ فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر ـ وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المن والسلوى.

قال : نعم ، أمة محمد أكرم علي من بني إسرائيل. قال : إلهي أرنيهم. قال : إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك صوتهم. قال : نعم إلهي.

فنادى ربنا أمة محمد : أجيبوا ربكم ، فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم ـ وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة ـ فقالوا : لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا. قال : صدقتم وأنا ربك وأنتم عبيدي حقا ـ قد غفرت لكم قبل أن تدعوني ـ وأعطيتكم قبل أن تسألوني ـ فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة.

قال ابن عباس : فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أراد أن يمن عليه بما أعطاه وبما أعطى أمته ـ فقال : يا محمد « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ».

أقول : ورواه فيه أيضا بطرق أخرى عن غيره ، وروى هذا المعنى أيضا الصدوق في العيون ، عن الرضا (ع) لكن حمل الآية على هذا المعنى يوجب اختلال السياق وفساد ارتباط الجمل المتقدمة والمتأخرة بعضها ببعض.

وفي البصائر ، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه‌السلام : في قول الله عز وجل : « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ » يعني من اتخذ دينه هواه بغير هدى من أئمة الهدى ).

٥٦

أقول : وروي مثله بإسناده عن المعلى عن أبي عبد الله (ع) وهو من الجري أو من البطن.

وفي المجمع في قوله تعالى : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ » الآيات ، نزل قوله : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ » وما بعده ـ في عبد الله بن سلام وتميم الداري ـ والجارود والعبدي وسلمان الفارسي ـ فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة.

وقيل : نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل ـ كانوا مسلمين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه ـ اثنان وثلاثون من الحبشة ـ أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه ـ وثمانية قدموا من الشام منهم بحيراء وأبرهة والأشرف وأيمن وإدريس ونافع وتميم.

أقول : وروي غير ذلك.

وفيه في معنى قوله تعالى : « وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ » وقيل : يدفعون بالحلم جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام ، ومعناه يدفعون بالمدارأة مع الناس أذاهم عن أنفسهم : وروي مثل ذلك عن أبي عبد الله (ع).

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا عماه قل : لا إله إلا الله ـ أشهد لك بها عند الله يوم القيامة ، فقال : لو لا أن يعيرني قريش ـ يقولون ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عليك ـ فأنزل الله عليه : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ـ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ »

أقول : وروي ما في معناه عن ابن عمر وابن المسيب وغيرهما ، وروايات أئمة أهل البيت عليه‌السلام مستفيضة على إيمانه والمنقول من أشعار مشحون بالإقرار على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحقية دينه ، وهو الذي آوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صغيرا وحماه بعد البعثة وقبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين والأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة.

( وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ

٥٧

لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩)

٥٨

وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) ).

( بيان )

تذكر الآيات عذرا آخر مما اعتذر به مشركو مكة عن الإيمان بكتاب الله بعد ما ذكرت عذرهم السابق : « لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى » وردته وهو قولهم : إن آمنا بما جاء به كتابك من الهدى وهو دين التوحيد تخطفنا مشركو العرب من أرضنا بالقتل والسبي والنهب وسلب الأمن والسلام.

فرده تعالى بأنا جعلنا لهم حرما آمنا يحترمه العرب ويجبى إليه ثمرات كل شيء فلا موجب لخوفهم من تخطفهم.

على أن تنعمهم بالأموال والأولاد وبطر معيشتهم لا يضمن لهم الأمن من الهلاك حتى يرجحوه على اتباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله واستأصلها وورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا.

٥٩

على أن الذي يؤثرونه على اتباع الهدى إنما هو متاع الحياة الدنيا العاجلة ولا يختاره عاقل على الحياة الآخرة الخالدة التي عند الله سبحانه.

على أن الخلق والأمر لله فإذا اختار شيئا وأمر به فليس لأحد أن يخالفه إلى ما يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثم استشهد تعالى بقصة قارون وخسفه به وبداره الأرض.

قوله تعالى : « وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا » إلى آخر الآية. التخطف الاختلاس بسرعة ، وقيل الخطف والتخطف الاستلاب من كل وجه ، وكان تخطفهم من أرضهم استعارة أريد به القتل والسبي ونهب الأموال كأنهم وما يتعلق بهم من أهل ومال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم ، والمراد بالأرض أرض مكة والحرم بدليل قوله بعد : « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً » والقائل بعض مشركي مكة.

والجملة مسوقة للاعتذار عن الإيمان بأنهم إن آمنوا تخطفتهم العرب من أرضهم أرض مكة لأنهم مشركون لا يرضون بإيمانهم ورفض أوثانهم فهو من قبيل إبداء المانع ففيه اعتراف بحقية أصل الدعوة وأن الكتاب بما يشتمل عليه حق لكن خطر التخطف مانع من قبوله والإيمان به ، ولهذا عبر بقوله : « إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ » ولم يقل : إن نتبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك.

وقوله : « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً » قيل : التمكين مضمن معنى الجعل والمعنى أولم نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم ، وقيل : حرما منصوبا على الظرفية والمعنى : أولم نمكن لهم في حرم ، و « آمِناً » صفة « حَرَماً » أي حرما ذا أمن ، وعد الحرم ذا أمن ـ والمتلبس بالأمن أهله ـ من المجاز في النسبة ، والجملة معطوفة على محذوف والتقدير أولم نعصمهم ونجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم.

وهذا جواب أول منه تعالى لقولهم : « إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا » ومحصله : أنا مكناهم في أرض جعلناها حرما ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب لخوفهم أن يتخطفوا منها أن آمنوا.

وقوله : « يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ » الجباية الجمع ، والكل للتكثير لا للعموم لعدم إرادة العموم قطعا ، والمعنى : يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء ، والجملة

٦٠