الميزان في تفسير القرآن - ج ١٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٥

ومنها : أن لا في قوله : « لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ » تفيد النهي أي لا تبدلوا خلق الله أي دينه الذي أمرتم بالتمسك به ، أو لا تبدلوا خلق الله بإنكار دلالته على التوحيد ومنه ما نسب إلى ابن عباس أن المراد به النهي عن الخصاء.

وفيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين ولا موجب لتسمية الإعراض عن دلالة الخلقة أو إنكارها تبديلا لخلق الله. وأما ما نسب إلى ابن عباس ففساده ظاهر.

ومنها : ما ذكره الرازي في التفسير الكبير ، قال : ويحتمل أن يقال : خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا ـ خروج للخلق عن العبادة والعبودية. وهذا لبيان فساد قول من يقول : العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف ، وقول المشركين : إن الناقص لا يصلح لعبادة الله وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله ، وقول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه وصار إلها فقال : ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك. انتهى.

وفيه أنه مغالطة بين الملك والعبادة التكوينيين والملك والعبادة التشريعيين فإن ملكه تعالى الذي لا يقبل الانتقال والبطلان ملك تكويني بمعنى قيام وجود الأشياء به تعالى والعبادة التي بإزائه عبادة تكوينية وهو خضوع ذوات الأشياء له تعالى ولا تقبل التبديل والترك كما في قوله : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ » إسراء : ٤٤ وأما العبادة الدينية التي تقبل التبديل والترك فهي عبادة تشريعية بإزاء الملك التشريعي المعتبر له تعالى فافهمه.

ولو دل قوله : « لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ » على عدم تبديل الملك والعبادة والعبودية لدل على التكويني منهما والذي يبدله القائلون بارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل أو بعبادة الكواكب أو المسيح فإنما يعني به التشريعي منهما.

قوله تعالى : « مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نظير قوله : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ » الطلاق : ١ وقوله : « فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا » هود : ١١٢

١٨١

فيئول المعنى إلى نحو من قولنا : فأقم وجهك للدين حنيفا أنت ومن معك منيبين إلى الله ، والإنابة الرجوع بالتوبة.

وقوله : « وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص إقامة الصلاة من بين سائر العبادات بالذكر للاعتناء بشأنها فهي عمود الدين.

وقوله : « وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » القول في اختصاصه من بين المحرمات بالذكر نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة ، وقد قال تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » النساء : ٤٨ إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى : « مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » « من » للتبيين و « مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ » إلخ ، بيان للمشركين وفيه تعريفهم بأخص صفاتهم في دينهم وهو تفرقهم في دينهم وعودهم شيعة شيعة وحزبا حزبا يفرح ويسر كل شيعة وحزب بما عندهم من الدين والسبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله : « بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ » فبين أنهم بنوا دينهم على أساس الأهواء وأنه لا يهديهم ولا هادي غيره.

ومن المعلوم أن هوى النفس لا يتفق في النفوس بل ولا يثبت على حال واحدة دون أن يختلف باختلاف الأحوال وإذا كان هو الأساس للدين لم يلبث دون أن يسير بسير الأهواء وينزل بنزولها ، ولا فرق في ذلك بين الدين الباطل والدين الحق المبني على أساس الهوى.

ومن هنا يظهر أن النهي عن تفرق الكلمة في الدين نهي في الحقيقة عن بناء الدين على أساس الهوى دون العقل ، وربما احتمل كون الآية استئنافا من الكلام وهو لا يلائم السياق.

وفي الآية ذم للمشركين بما عندهم من صفة التفرق في الكلمة والتحزب في الدين.

قوله تعالى : « وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ » التعبير بالمس للدلالة على القلة والخفة وتنكير ضر

١٨٢

ورحمة أيضا لذلك والمعنى : إذا أصاب الناس شيء من الضر ولو قليلا كمرض ما وفقر ما وشدة ما دعوا ربهم وهو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذي كانوا يدعونه ويعترفون بربوبيته يشركون باتخاذ الأنداد والشركاء.

أي إنهم كافرون للنعمة طبعا وإن اعترفوا بها عند الضر وقد أخذ لذلك فريقا منهم لأن منهم من ليس كذلك.

قوله تعالى : « لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » تهديد لأولئك المشركين عند إذاقة الرحمة واللام في « لِيَكْفُرُوا » للأمر الغائب وقوله : « فَتَمَتَّعُوا » متفرع على سابقه وهو أمر آخر والأمران جميعا للتهديد ، والالتفات من الأمر الغائب إلى الأمر الحاضر لثوران الوجد والسخط من تفريطهم في جنب الله واستهانتهم بأمره فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضر ويكفروا إذا كشف.

قوله تعالى : « أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ » « أَمْ » منقطعة والمراد بالإنزال الاعلام أو التعليم مجازا ، والسلطان البرهان ، والمراد بالتكلم الدلالة مجازا فالمعنى بل أعلمناهم برهانا فهو يدل على ما كانوا به يشركون أو بشركهم.

ويمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان وهو الملك فلا مجاز في الإنزال والتكلم والمعنى : بل أأنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم.

قوله تعالى : « وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ » الإذاقة كالمس تدل على قليل النيل ويسيره ، والقنوط اليأس.

وإذا الأولى شرطية والثانية فجائية والمقابلة بين « إِذا » في إذاقة الرحمة و « إِنْ » في إصابة السيئة لأن الرحمة كثيرة قطعية والسيئة قليلة احتمالية ، ونسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة لأن الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى والسيئة عدمية هي عدم الإفاضة ولذا عللها بقوله : « بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ » ، وفي تعليل السيئة بذلك وعدم التعليل في جانب الرحمة بشيء إشارة إلى أن الرحمة تفضل.

والتعبير في الرحمة بقوله : « فَرِحُوا » وفي السيئة بقوله : « إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ » للدلالة على حدوث القنوط ولم يكن بمترقب فإن الرحمة والسيئة بيد الله والرحمة واسعة

١٨٣

ولهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم.

والمراد بالآية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة والنقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا ويعقلوا أن الأمر بيد غيرهم وبمشية من ربهم إذا لم يشأ لم يكن ، وإذا فقدوا قنطوا كان ليس ذلك بإذن من ربهم وإذا لم يشأ لم يأذن وفتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون.

وبهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الآية وبين قوله السابق : « وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ » الآية وذلك أن مدلول هذه الآية أن أفهامهم سطحية إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا قنطوا ومدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا دعوا الله وهم قانطون من الشيء وأسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع.

وربما أجيب بأن المراد بالناس في هذه الآية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس في الآية السابقة ولو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال وقنوطهم في حال أخرى.

وأجيب عنه أيضا بأن الدعاء لساني جار على العادة ولا ينافي القنوط الذي هو أمر قلبي وأنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور.

وأجيب أيضا أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء. وفيه مضافا إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط.

قوله تعالى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح والقنوط عند إذاقة الرحمة وإصابة السيئة فإن الرزق في سعته وضيقه تابع لمشية الله فعلى الإنسان أن يعلم أن الرحمة التي ذاقها والسيئة التي أصابته ممكنة الزوال بمشية الله سبحانه ولا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده ولا للقنوط مما يرجى زواله.

وأما أنه أمر ظاهر للإنسان مقطوع به كأنه يراه فلأن الرزق الذي يناله الإنسان أو يكتسبه متوقف الوجود على ألوف وألوف من الأسباب والشرائط ليس الإنسان الذي يراه لنفسه إلا أحد تلك الأسباب ولا السبب الذي يركن إليه ويطيب به نفسا إلا بعض تلك الأسباب وعامة الأسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذي يعطي ويمنع وهو

١٨٤

الذي يبسط ويقدر أي يوسع ويضيق ، والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ » إلخ ، ذو القربى صاحب القرابة من الأرحام والمسكين أسوأ حالا من الفقير وابن السبيل المسافر ذو الحاجة ، وإضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذي القربى حقا ثابتا ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فظاهر الآية بما تحتف به من القرائن أن المراد بها الخمس والتكليف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتبعه غيره ممن كلف بالخمس ، والقرابة على أي حال قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في آية الخمس ، هذا كله على تقدير كون الآية مدنية وأما على تقدير كونها مكية كسائر آيات السورة فالمراد مطلق الإحسان للقرابة والمسكين وابن السبيل.

ولعموم الآية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال : « ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ».

قوله تعالى : « وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » الربا نماء المال ، وقوله : « لِيَرْبُوَا » إلخ ، يشير إلى وجه التسمية ، فالمراد أن المال الذي تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا إرادة لوجه الله ـ بقرينة ذكر إرادة الوجه في مقابله ـ فليس يزيد وينمو عند الله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه.

وقوله : « وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » المراد بالزكاة مطلق الصدقة أي إعطاء المال لوجه الله من غير تبذير ، والمضعف ذو الضعف ، والمعنى : وما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فأولئك هم الذين يضاعف لهم مالهم أو ثوابهم.

فالمراد بالربا والزكاة بقرينة المقابلة وما احتف بهما من الشواهد ، الربا الحلال وهو العطية من غير قربة ، والصدقة وهي إعطاء المال مع قصد القربة. هذا كله على تقدير كون الآية مكية وأما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا الربا المحرم وبالزكاة هي الزكاة المفروضة.

وهذه الآية والتي قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات ولا اعتبار بما يدعى من الرواية أو الإجماع المنقول.

١٨٥

( بحث روائي )

في العيون ، عن عبيد الله بن عباس قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فينا خطيبا ـ فقال في آخر خطبته : نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الأعلى ـ والحجة العظمى والعروة الوثقى. الحديث.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ » الآية ـ أن سبب نزولها ـ أن قريشا كانوا يحجون البيت بحج إبراهيم عليه‌السلام ـ ويلبون تلبيته : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ـ إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

فجاءهم إبليس في صورة شيخ فغير تلبيتهم ـ إلى قول : لبيك اللهم لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فكانت قريش تلبي هذه التلبية حتى بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأنكر عليهم ذلك وقال : إنه شرك.

فأنزل الله عز وجل : « ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ـ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ ـ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ » أي أترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك؟ فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكا فيما أملك؟.

وفي الكافي ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً » قال : هي الولاية.

وفيه ، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » قال : التوحيد.

أقول : ورواه أيضا عن الحلبي وزرارة عنه عليه‌السلام ورواه الصدوق في التوحيد ، عن العلاء بن فضيل وزرارة وبكير عنه (ع).

وفي روضة الكافي ، بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كانت شريعة نوح عليه‌السلام ـ أن يعبد الله بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد ، وهو الفطرة التي فطر الناس عليها.

وفي تفسير القمي ، بإسناده عن الهيثم الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده عن أبيه محمد بن علي عليه‌السلام : في قوله عز وجل : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » قال :

١٨٦

هو لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ علي أمير المؤمنين ولي الله إلى هاهنا التوحيد.

أقول : وروى هذا المعنى في بصائر الدرجات ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ورواه في التوحيد ، عن عبد الرحمن مولى أبي جعفر عنه عليه‌السلام.

ومعنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أن الإنسان مفطور على الاعتراف بالله لا شريك له بما يجد من الحاجة إلى الأسباب المحتاجة إلى ما وراءها وهو التوحيد وبما يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمله وهو النبوة ، وبما يجد من الحاجة إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين وهو الولاية والفاتح لها في الإسلام هو علي عليه‌السلام ، وليس معناه أن كل إنسان حتى الإنسان الأولي يدين بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث.

وإلى هذا يئول معنى الرواية السابقة أنها الولاية فإنها تستلزم التوحيد والنبوة وكذا ما مر من تفسيره الفطرة بالتوحيد فإن التوحيد هو القول بوحدانية الله تعالى المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد والنبوة والولاية فالمال في تفسيرها بالشهادات الثلاث والتوحيد والولاية واحد.

وفي المحاسن ، بإسناده عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » قال : فطرهم على معرفة أنه ربهم ـ ولو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم؟.

وفي الكافي ، بإسناده عن الحسين بن نعيم الصحاف عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : فقال عليه‌السلام : إن الله عز وجل خلق الناس كلهم ـ على الفطرة التي فطرهم عليها ـ لا يعرفون إيمانا بشريعة ولا كفرا بجحود ـ ثم بعث الله عز وجل الرسل يدعو العباد إلى الإيمان به فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهده.

أقول : وفي هذا المعنى روايات أخر واردة في تفسير قوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً » البقرة : ٢١٣ والمراد فيها بالإنسان الفطري الإنسان الساذج الذي يعيش على الفطرة الإنسانية الذي لم يفسده الأوهام الفكرية والأهواء النفسانية فإنه بالقوة القريبة من الفعل بالنسبة إلى أصول العقائد الحقة وكليات الشرائع الإلهية فإنه يعيش ببعث وتحريك من فطرته وخصوص خلقته. وأما الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقة

١٨٧

وتفاصيل الشرائع الإلهية فيتوقف على هداية خاصة إلهية من طريق النبوة من الجزء الثاني من الكتاب.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمرو الصفار قال : سألت قتادة عن قوله تعالى : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » فقال : حدثني أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » قال : دين الله.

وفيه ، أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ـ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ـ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » الآية.

أقول : ورواه أيضا عن مالك وأبي داود وابن مردويه عن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولفظه : كل مولود يولد على الفطرة ـ فأبواه يهودانه وينصرانه ـ كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء.

ورواه أيضا في الكافي ، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله خالقه. الحديث.

وفي التوحيد ، بإسناده عن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تضربوا أطفالكم على بكائهم ـ فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله ، وأربعة أشهر الصلاة على النبي وأربعة أشهر الدعاء لوالديه.

أقول : هو حديث لطيف ومعناه : أن الطفل في الأربعة أشهر الأولى لا يعرف أحدا وإنما يحس بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها والرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضرع إليه ويشهد له بالوحدانية.

وفي الأربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة ما بينه وبين رافع حاجته من غير أن يعرفهما بشخصيهما والواسطة بينه وبين ربه هو النبي فبكاؤه طلب الرحمة من ربه للنبي حتى يصل بتوسطه إليه.

وفي الأربعة أشهر الثالثة يميز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه لهما وطلب جريان الرحمة من طريقهما إليه. ففي الحديث ألطف الإشارة إلى كيفية جريان

١٨٨

الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك.

وفي المجمع في قوله تعالى : « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » وروى أبو سعيد الخدري وغيره : أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أعطى فاطمة عليه‌السلام فدكا وسلمه إليها ـ وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).

وفي الكافي ، بإسناده عن إبراهيم اليماني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الربا رباءان : ربا يؤكل وربا لا يؤكل ، فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل ـ تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الذي يؤكل ، وهو قول الله عز وجل : « وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ » وأما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عنه وأوعد عليه النار.

أقول : ورواه أيضا في التهذيب ، عن إبراهيم بن عمر عنه عليه‌السلام ، وفي تفسير القمي ، عن حفص بن غياث عنه عليه‌السلام ، وفي المجمع ، مرسلا عن أبي جعفر (ع).

وفي المجمع في قوله تعالى : « فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : فرض الله الصلاة تنزيها عن الكبر ، والزكاة تسبيبا للرزق ، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق ، وصلة الأرحام منماة للعدد.

وفي الفقيه خطبة للزهراء عليه‌السلام وفيها : ففرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك والصلاة ـ تنزيها عن الكبر والزكاة زيادة في الرزق.

( كلام في معنى كون الدين فطريا ، في فصول )

١ ـ إذا تأملنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكون وتتكامل تدريجا سواء كانت ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعية ـ على ما يظهر لنا ـ وجدنا كل نوع منها يسير في وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض وبعضها بعد بعض يرد النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذي قبله وقبل الوصول إلى ما بعده ولا يزال يستكمل بطي هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها وهو نهاية كماله.

نجد هذه المراتب المطوية بحركة النوع يلازم كل منها مقامه الخاص به لا يستقدم ولا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله فبينها

١٨٩

رابطة تكوينية يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى ولا ينتقل إلى غير مكانه ومن هنا يستنتج أن للنوع غاية تكوينية يتوجه إليها من أول وجوده حتى يبلغها.

فالجوزة الواحدة مثلا إذا استقرت في الأرض استقرارا يهيئها للنمو على اجتماع مما يتوقف عليه النمو من العلل والشرائط كالرطوبة والحرارة وغيرهما أخذ لبها في النمو وشق القشر وشرع في ازدياد من أقطار جسمه ولم يزل يزيد وينمو حتى يصل إلى حد يعود فيه شجرة قوية خضراء مثمرة ولا يختلف حاله في مسيره هذا التكويني وهو في أول وجوده قاصدا قاصدا تكوينيا إلى غايته التكوينية التي هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة.

وكذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضأن مثلا لا نشك في أنها في أول تكونها جنينا متوجهة إلى غايتها النوعية التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها خواصها فلا تضل عن سبيلها التكوينية الخاصة بها إلى سبيل غيرها ولا تنسى غايتها يوما فتسير إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلا أو غاية شجرة الجوز مثلا فكل نوع من الأنواع التكوينية له مسير خاص في استكمال الوجود ذو مراتب خاصة مترتبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتا يطلبها طلبا تكوينيا بحركته التكوينية والنوع في وجوده مجهز بما هو وسيلة حركته وبلوغه إلى غايته.

وهذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمى هداية عامة إلهية وهي كما عرفت لا تضل ولا تخطئ في تسيير كل نوع مسيره التكويني وسوقه إلى غايته الوجودية بالاستكمال التدريجي وبإعمال قواه وأدواته التي جهز بها لتسهيل مسيره إلى غايته ، قال تعالى : « رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » طه : ٥٠ وقال : « الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى » الأعلى : ٥.

٢ ـ نوع الإنسان غير مستثنى من كلية الحكم المذكور أعني شمول الهداية العامة له فنحن نعلم أن النطفة الإنسانية من حين تشرع في التكون متوجهة إلى مرتبة إنسان تام كامل له آثاره وخواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية والطفولية والمراهقة والشباب والكهولة والشيب.

١٩٠

غير أن الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانية والنباتية وغيرها فيما نعلم في أمر (١) وهو أنه لسعة حاجته التكوينية وكثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجودية ورفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الإنسان لا تتم له حياته الإنسانية وهو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع فيه مع غيره بالازدواج والتعاون والتعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التي جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية.

وقد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للإنسان بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الإنسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلا فهو يستخدم الأمور الطبيعية ثم أقسام النبات والحيوان في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد سائر الأفراد أمثاله في الأميال والمقاصد وفي الجهازات والقوى فيضطر إلى المسالمة وأن يسلم لهم حقوقا مثل ما يراه لنفسه.

وينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع ويعطى منه لكل ما يستحقه.

وكيف كان فالمجتمع الإنساني لا يتم انعقاده ولا يعمر إلا بأصول علميه وقوانين اجتماعية يحترمها الكل وحافظ يحفظها من الضيعة ويجريها في المجتمع وعند ذلك تطيب لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة.

أما الأصول العلمية فهي معرفته إجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة وما عليه الإنسان من حيث البداية والنهاية فإن المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنه مادي محض ليس له من الحياة إلا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت وأن ليس في دار الوجود إلا السبب المادي الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم ، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة والكمالات المادية ما وراءها شيء.

__________________

(١) وعامة الحيوان وإن كان لها شيء من الاجتماع الحيوي لكنه يسير في جنب الاجتماع لا يعبأ به.

١٩١

والمعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم وقوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية والمعتقدون بالمبدإ والمعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الأصول الاعتقادية في حقيقة العالم والإنسان الذي هو جزء من أجزائه.

وأما القوانين والسنن الاجتماعية فلو لا وجود قوانين وسنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم ويتسلمونها تفرق الجمع وانحل المجتمع.

وهذه السنن والقوانين قضايا كلية عملية صورها : يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز وهي أيا ما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع والمجتمع تترتب عليها تسمى مصالح الأعمال ومفاسدها.

٣ ـ قد عرفت أن الإنسان إنما ينال ما قدر له من كمال وسعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن وقوانين صالحة تضمن بلوغه ونيله سعادته التي تليق به وهذه السعادة أمر أو أمور كمالية تكوينية تلحق الإنسان الناقص الذي هو أيضا موجود تكويني فتجعله إنسانا كاملا في نوعه تاما في وجوده.

فهذه السنن والقوانين ـ وهي قضايا عملية اعتبارية ـ واقعة بين نقص الإنسان وكماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين وهي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات إنسانية ، وهذه الكمالات أمور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقية.

فحوائج الإنسان الحقيقية هي التي وضعت هذه القضايا العملية واعتبرت هذه النواميس الاعتبارية ، والمراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانية بأميالها وعزائمها ويصدقه العقل الذي هو القوة الوحيدة التي تميز بين الخير والنافع وبين الشر والضار دون ما تطلبه الأهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فإنه كمال حيواني غير إنساني.

فأصول هذه السنن والقوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقة التي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانية.

وقد عرفت أن الصنع والإيجاد قد جهز كل نوع من الأنواع ـ ومنها الإنسان ـ

١٩٢

من القوى والأدوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه ويسلك به سبيل الكمال ومنه يستنتج أن للجهازات التكوينية التي جهز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنين والقوانين التي بالعمل بها يستقر الإنسان في مقر كماله مثل السنن والقوانين الراجعة إلى التغذي المعتبرة بما أن الإنسان مجهز بجهاز التغذي والراجعة إلى النكاح بما أن الإنسان مجهز بجهاز التوالد والتناسل.

فتبين أن من الواجب أن يتخذ الدين ـ أي الأصول العلمية والسنن والقوانين العملية التي تضمن باتخاذها والعمل بها سعادة الإنسان الحقيقية ـ من اقتضاءات الخلقة الإنسانية وينطبق التشريع على الفطرة والتكوين ، وهذا هو المراد بكون الدين فطريا وهو قوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ».

٤ ـ قد عرفت معنى كون الدين فطريا فالإسلام يسمى دين الفطرة لما أن الفطرة الإنسانية تقتضيه وتهدي إليه.

ويسمى إسلاما لما أن فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه ، ومصداق الإرادة وهي صفة الفعل تجمع العلل المؤلفة من خصوص خلقة الإنسان وما يحتف به من مقتضيات الكون العام على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى : « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ».

ويسمى دين الله لأنه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك ، بما مر من معنى الإرادة.

ويسمى سبيل الله لما أنه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله وسعادته ، قال تعالى : « الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً » الأعراف : ٤٥.

وأما أن الدين الحق يجب أن يؤخذ من طريق الوحي والنبوة ولا يكفي فيه العقل فقد تقدم بيانه في مباحث النبوة وغيرها من مباحث الكتاب.

( ١٦ ـ الميزان ـ ١٣ )

١٩٣

( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) ).

( بيان )

هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة التي يحتج فيها بالأفعال الخاصة به وإن شئت فقل : بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء ونفي ربوبيتهم وألوهيتهم وعلى إثبات المعاد.

١٩٤

قوله تعالى : « اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ » إلخ ، اسم الجلالة مبتدأ و « الَّذِي خَلَقَكُمْ » خبره ، وكذا قوله : « مَنْ يَفْعَلُ » إلخ مبتدأ خبره « مِنْ شُرَكائِكُمْ » المقدم عليه والاستفهام إنكاري وقد ذكر في تركيب الآية احتمالات أخر.

والمعنى : أن الله سبحانه هو الذي اتصف بكذا وكذا وصفا من أوصاف الألوهية والربوبية فهل من الآلهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعني من الخلق والرزق والإماتة والإحياء وإذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم وربكم لا إله إلا هو.

ولعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق والإحياء والإماتة مع تكرر تقدم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق فالذي يخلق الخلق هو الذي يرزق الرزق.

فليس لهم أن يقولوا : إن الرازق وكذا المحيي والمميت بعض آلهتنا كما ربما يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الإنسان بعض الآلهة ومدبر كل شأن من شئون العالم من الخيرات والشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق والإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلم ذلك ومن المسلم أن الرزق مثلا خلق وكذا سائر الشئون لا تنفك عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى ولم يبق لآلهتهم شأن من الشئون.

ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال : « سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ».

قوله تعالى : « ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » الآية بظاهر لفظها عامة لا تختص بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصة ، فالمراد بالبر والبحر معناهما المعروف ويستوعبان سطح الكرة الأرضية.

والمراد بالفساد الظاهر المصائب والبلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل وقطع الأمطار والسنين والأمراض السارية والحروب والغارات وارتفاع الأمن وبالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضي سواء كان

١٩٥

مستندا إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه. فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر مخل بطيب العيش الإنساني.

وقوله : « بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شرك أو معصية وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » ، الآية : الأعراف : ٩٦ وأيضا في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب أن بين أعمال الناس والحوادث الكونية رابطة مستقيمة يتأثر إحداهما من صلاح الأخرى وفسادها.

وقوله : « لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا » اللام للغاية ، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا وقد ظهر في صورة الوبال وإنما كان بعض ما عملوا لأن الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » الشورى : ٣٠.

والآية ناظرة إلى الوبال الدنيوي وإذاقة بعضه لأكله من غير نظر إلى وبال الأعمال الأخروي فما قيل : إن المراد إذاقة الوبال الدنيوي وتأخير الوبال الأخروي إلى يوم القيامة لا دليل عليه ولعله جعل تقدير الكلام : « ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا مع أن التقدير « ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا » ، لأن الذي يحوجنا إلى تقدير المضاف ـ لو أحوجنا ـ هو أن الراجع إليهم ثانيا في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالذي أذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا.

وقوله : « لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم ومعاصيهم إلى التوحيد والطاعة.

ووجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما احتج في الآية السابقة على التوحيد ونزهه عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك ـ وهو معصية ـ من الفساد في الأرض وإذاقة وبال السيئات فبين ذلك بيان عام.

ولهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكة وقول بعضهم : المراد بالبر القفار التي لا يجري فيها نهر وبالبحر كل قرية على شاطئ نهر عظيم ، وقول بعضهم : البر الفيافي ومواضع القبائل والبحر السواحل والمدن التي عند

١٩٦

البحر والنهر ، وقول بعضهم : البر البرية والبحر المواضع المخصبة الخضرة ، وقول بعضهم : إن هناك مضافا محذوفا والتقدير في البر ومدن البحر ، ولعل الذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أن الآية ناظرة إلى القحط الذي وقع بمكة إثر دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قريش لما لجوا في كفرهم وداموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلف.

وقول بعضهم : إن المراد بالفساد في البر قتل ابن آدم أخاه وفي البحر أخذ كل سفينة غصبا وهو كما ترى.

قوله تعالى : « قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ » أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار الذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم وعفت آثارهم وبادوا عن آخرهم وانقطع دابرهم بأنواع من النوائب والبلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد ، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.

قوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ » تفريع على ما تقدمه أي إذا كان الشرك والكفر بالحق بهذه المثابة وله وبال سيلحق بالمتلبس به فأقم وجهك للدين القيم.

وقوله : « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ » متعلق بقوله : « فَأَقِمْ » والمرد مصدر ميمي بمعنى الرد وهو بمعنى الراد واليوم الذي لا مرد له من الله يوم القيامة.

وقوله : « يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ » أصله يتصدعون ، والتصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق كما قيل ، والمراد به ـ كما قيل ـ تفرقهم يومئذ إلى الجنة والنار.

وقيل : المراد تفرق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى : « يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ». : القارعة : ٤ ولكل وجه ، ولعل الأظهر امتياز الفريقين كما سيأتي.

قوله تعالى : « مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » الظاهر أنه تفسير لقوله في الآية السابقة : « يَتَفَرَّقُونَ » وقوله : « مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » أي وبال

١٩٧

كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الذي سينقلب عليه نارا يخلد فيها وهذا أحد الفريقين.

وقوله : « وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » مهد الفراش بسطه وإيطاؤه ، وهؤلاء الفريق الآخر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقد جيء بالجزاء « فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » جمعا نظرا إلى المعنى ، كما أنه جيء به مفردا في الشرطية السابقة « فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » نظرا إلى اللفظ ، واكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح ولم يذكر الإيمان معه لأن العمل إنما يصلح بالإيمان على أنه مذكور في الآية التالية.

والمعنى : والذين عملوا عملا صالحا ـ بعد الإيمان ـ فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون به ويستقرون عليه.

قوله تعالى : « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ » قال الراغب : الجزاء الغناء والكفاية ، قال الله تعالى : « لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً » ، وقال : « لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً » والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، يقال : جزيته كذا وبكذا. انتهى.

وقوله : « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ » اللام للغاية ولا ينافي عد ما يؤتيهم جزاء ـ وفيه معنى المقابلة ـ عده من فضله وفيه معنى عدم الاستحقاق وذلك لأنهم بأعيانهم وما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لأنفسهم شيئا حتى يستحقوا به أجرا ، وأين العبودية من الملك والاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق.

لكنه سبحانه بفضله ورحمته اعتبر لهم ملكا لأعمالهم في عين أنه يملكهم ويملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقا يستحقونه ، وجعل ما ينالونه من الجنة والزلفى أجرا مقابلا لأعمالهم وهذا الحق المجعول أيضا فضل آخر منه سبحانه.

ومنشأ ذلك حبه تعالى لهم لأنهم لما أحبوا ربهم أقاموا وجوههم للدين القيم واتبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبهم الله كما قال : « قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ » آل عمران : ٣١.

ولذا كانت الآية تعد ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء وفيه معنى المقابلة والمبادلة

١٩٨

وتعد ذلك من فضله نظرا إلى أن نفس هذه المقابلة والمبادلة فضل منه سبحانه ومنشؤه حبه تعالى لهم كما يومئ إليه تذييل الآية بقوله : « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ».

ومن هنا يظهر أن قوله : « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ » ، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي النفي والإثبات جميعا أي أنه تعالى يخص المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل ويحرم الكافرين منه لأنه يحب هؤلاء ولا يحب هؤلاء.

قوله تعالى : « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » ، المراد بكون الرياح مبشرات تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله.

وقوله : « وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ » عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى التعليل والتقدير يرسل الرياح لتبشركم وليذيقكم من رحمته والمراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار ودفع العفونات وتصفية الأجواء وغير ذلك مما يشمله إطلاق الجملة.

وقوله : « وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ » أي لجريان الرياح وهبوبها. وقوله : « وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » أي لتطلبوا من رزقه الذي هو من فضله.

وقوله : « وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » ، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل غايات صورية ، والشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظي عليه بذكر إنعامه ، وينطبق بالأخرة على عبادته ولذلك جيء بلعل المفيدة للرجاء فإن الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ » قال الراغب : أصل الجرم ـ بالفتح فالسكون ـ قطع الثمرة عن الشجر ـ إلى أن قال ـ وأجرم صار ذا جرم نحو أثمر وأتمر وألبن وأستعير ذلك لكل اكتساب مكروه ، ولا يكاد يقال في عامة كلامهم للكيس المحمود انتهى.

والآية كالمعترضة وكأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم وهو نصرهم في الدنيا والآخرة ومنه الانتقام من المجرمين ، وهذا الحق مجعول من قبله تعالى لهم على

١٩٩

نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما لغيره.

وقوله : « فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا » الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم وأجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين وكان حقا علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب وإهلاك مخالفيهم ، وفي الآية بعض الإشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنه من النصر.

( بحث روائي )

في تفسير القمي في قوله تعالى : « ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » قال : في البر فساد الحيوان إذا لم يمطر ـ وكذلك هلاك دواب البحر بذلك.

وقال الصادق عليه‌السلام : حياة دواب البحر بالمطر ـ فإذا كف المطر ظهر الفساد في البر والبحر ، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي.

أقول : وهو من الجري.

وفي روضة الكافي ، بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ـ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ » فقال : عنى بذلك أي انظروا في القرآن ـ فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم ».

وفي المجمع في قوله : « وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » روى منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة ـ فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.

وفيه ، وجاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ما من امرئ يرد عن عرض أخيه ـ إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ : « وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ».

أقول : ورواه في الدر المنثور ، عن ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء.

٢٠٠