الميزان في تفسير القرآن - ج ١٦

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٦

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٥

وفي الدر المنثور ، أخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن قول الله : « وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ » قال : إلى الشدق.

وفي المجمع في قوله تعالى : « إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ » وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : هي العطسة المرتفعة القبيحة ـ والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا ـ إلا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن.

أقول : وفي جميع هذه المعاني وخاصة في العقوق روايات كثيرة متظافرة.

( كلام في قصة لقمان ونبذ من حكمه ، في فصلين )

١ ـ لم يرد اسم لقمان في كلامه تعالى إلا في سورة لقمان ولم يذكر من قصصه إلا ما في قوله عز من قائل : « وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ » وقد وردت في قصته وحكمه روايات كثيرة مختلفة ونحن نورد بعض ما كان منها أقرب إلى الاعتبار.

ففي الكافي ، عن بعض أصحابنا رفعه إلى هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : يا هشام ـ إن الله قال : « وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ » قال : الفهم والعقل.

وفي المجمع ، روى نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : حقا أقول لم يكن لقمان نبيا ـ ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين ـ أحب الله فأحبه ومن عليه بالحكمة ـ.

كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض ـ تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت إن خيرني ربي قبلت العافية ـ ولم أقبل البلاء وإن هو عزم علي فسمعا وطاعة ـ فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان؟ قال : لأن الحكم أشد المنازل وآكدها ـ يغشاه الظلم من كل مكان إن وفى فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا خير ـ من أن يكون في الدنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا ـ ومن تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة.

٢٢١

فعجبت الملائكة من حسن منطقه ـ فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ـ ثم كان يوازر داود بحكمته فقال له داود : طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتدرون ما كان لقمان؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : كان حبشيا.

٢ ـ وفي تفسير القمي ، بإسناده عن حماد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ـ عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عز وجل ، فقال : أما والله ما أوتي لقمان الحكمة ـ بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال.

ولكنه كان رجلا قويا في أمر الله ـ متورعا في الله ساكتا مستكينا ـ عميق النظر طويل الفكر حديد النظر ـ مستغن بالعبر لم ينم نهارا قط ـ ولم يره أحد من الناس علي بول ولا غائط ـ ولا اغتسال لشدة تستره وعموق نظره ـ وتحفظه في أمره ، ولم يضحك من شيء قط مخافة الإثم ـ ولم يغضب قط ، ولم يمازح إنسانا قط ، ولم يفرح بشيء أتاه من أمر الدنيا ـ ولا حزن منها على شيء قط ـ وقد نكح من النساء وولد له من الأولاد الكثير وقدم أكثرهم أفراطا فما بكى على موت أحد منهم.

ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما ـ ولم يمض عنهما حتى تحابا ، ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه ـ إلا سأل عن تفسيره وعمن أخذه ، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء ، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين ـ فيرثي للقضاة مما ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك ، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ـ ويحترز به من الشيطان يداوي قلبه بالفكر ـ ويداوي نفسه بالعبر ، وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه ـ فبذلك أوتي الحكمة ومنح العصمة.

وإن الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة ـ حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة ـ فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان : إن أمرني الله بذلك فالسمع والطاعة ـ لأنه إن فعل ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني ـ وإن هو خيرني قبلت العافية. مفقالت الملائكة : يا لقمان لم؟ قال : لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل ـ وأكثر

٢٢٢

فتنا وبلاء يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان ـ وصاحبه فيه بين أمرين إن أصاب فيه الحق ـ فبالحري أن يسلم وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد ـ من أن يكون حكما سريا شريفا ، ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما ـ تزول هذه ولا تدرك تلك.

قال : فتعجب الملائكة من حكمته ـ واستحسن الرحمن منطقه ـ فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل ـ أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه ـ وهو نائم وغطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ ـ وهو أحكم الناس في زمانه ، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبثها فيها.

قال : فلما أوتي الحكم بالخلافة ولم يقبلها ـ أمر الله عز وجل الملائكة فنادت داود بالخلافة فقبلها ـ ولم يشترط فيها بشرط لقمان ـ فأعطاه الله عز وجل الخلافة في الأرض وابتلي بها غير مرة كل ذلك يهوي في الخطإ ـ يقيله الله ويغفر له ، وكان لقمان يكثر زيارة داود عليه‌السلام ـ ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه ، وكان داود يقول له : طوبى لك يا لقمان ـ أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلية ـ وأعطي داود الخلافة وابتلي بالحكم والفتنة.

ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ـ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » قال : فوعظ لقمان ابنه بآثار (١) حتى تفطر وانشق.

وكان فيما وعظه به يا حماد أن قال : يا بني إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد. يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم فيمنعوك ، وخذ من الدنيا بلاغا ولا ترفضها ـ فتكون عيالا على الناس ، ولا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك ، وصم صوما يقطع شهوتك ـ ولا تصم صياما يمنعك من الصلاة ـ فإن الصلاة أحب إلى الله من الصيام.

يا بني : إن الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير ـ فاجعل سفينتك فيها الإيمان واجعل شراعها التوكل ، واجعل زادك فيها تقوى الله ـ فإن نجوت فبرحمة الله وإن

__________________

(١) بآثار ابنه والتفطر والانشقاق كناية عن كمال التأثر.

٢٢٣

هلكت فبذنوبك.

يا بني : إن تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا ـ ومن عنى بالأدب اهتم به ، ومن اهتم به تكلف علمه ومن تكلف علمه اشتد له طلبه ـ ومن اشتد له طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة ـ فإنك تخلف في سلفك وينتفع به من خلفك ـ ويرتجيك فيه راغب ويخشى صولتك راهب ، وإياك والكسل عنه بالطلب لغيره ـ فإن غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة وإذا فاتك طلب العلم في مظانه ـ فقد غلبت على الآخرة ـ واجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيبا في طلب العلم ـ فإنك لن تجد له تضييعا أشد من تركه ـ ولا تمارين فيه لجوجا ـ ولا تجادلن فقيها ولا تعادين سلطانا ، ولا تماشين ظلوما ولا تصادقنه ـ ولا تؤاخين فاسقا ولا تصاحبن متهما ـ واخزن علمك كما تخزن ورقك.

يا بني : خف الله عز وجل خوفا ـ لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك وارج الله رجاء ـ لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك.

فقال له ابنه : يا أبت ـ كيف أطيق هذا وإنما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان : يا بني : لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران ـ نور للخوف ونور للرجاء ـ لو وزنا لما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرة ـ فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عز وجل ـ ومن يصدق ما قال الله يفعل ما أمر الله ، ومن لم يفعل ما أمر الله لم يصدق ما قال الله ـ فإن هذه الأخلاق يشهد بعضها لبعض.

فمن يؤمن بالله إيمانا صادقا يعمل لله خالصا ناصحا ـ ومن يعمل لله خالصا ناصحا فقد آمن بالله صادقا ـ ومن أطاع الله خافه ، ومن خافه فقد أحبه ، ومن أحبه فقد اتبع أمره ـ ومن اتبع أمره استوجب جنته ومرضاته ، ومن لم يتبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه ـ نعوذ بالله من سخط الله.

يا بني : لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها ـ فما خلق الله خلقا هو أهون عليه منها ـ ألا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين ـ ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين.

وفي قرب الإسناد : هارون عن ابن صدقة عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام : قيل للقمان : ما الذي أجمعت عليه من حكمتك؟ قال : لا أتكلف ما قد كفيته ولا أضيع ما وليته.

وفي البحار ، عن قصص الأنبياء بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان

٢٢٤

فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال : يا بني : إن تك في شك من الموت ـ فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك ـ وإن كنت في شك من البعث ـ فارفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك ـ فإنك إذا فكرت في هذا ـ علمت أن نفسك بيد غيرك ـ وإنما النوم بمنزلة الموت ـ وإنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت ، وقال : قال لقمان لابنه : يا بني لا تقترب فيكون أبعد لك ولا تبعد فتهان ، كل دابة تحب مثلها وابن آدم (١) لا يحب مثله. لا تنشر (٢) بزك إلا عند باغيه ، وكما ليس بين الكبش والذئب خلة ، كذلك ليس بين البار والفاجر خلة ، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه ـ كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرفه ، من يحب المراء يشتم ، ومن يدخل مدخل السوء يتهم ، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم ، ومن لا يملك لسانه يندم.

وقال يا بني صاحب مائة ولا تعاد واحدا ، يا بني إنما هو خلاقك وخلقك فخلاقك دينك وخلقك بينك وبين الناس ـ فلا تبغضن إليهم وتعلم محاسن الأخلاق.

يا بني كن عبدا للأخيار ولا تكن ولدا للأشرار. يا بني أد الأمانة تسلم دنياك وآخرتك ـ وكن أمينا فإن الله لا يحب الخائنين. يا بني لا تر الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر.

وفي الكافي ، بإسناده عن يحيى بن عقبة الأزدي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان فيما وعظ به لقمان لابنه ـ يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم ـ فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له ، وإنما أنت عبد مستأجر ـ قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجرا ـ فأوف عملك واستوف أجرك ، ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة ـ وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت ـ فكان حتفها عند سمنها ، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها فتركتها ـ ولم ترجع إليها آخر الدهر أخربها ـ ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها.

واعلم أنك ستسأل غدا ـ إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع : شبابك فيما

__________________

(١) أي أن ابن آدم لا يجب أن يكافيه غيره في مزية من المزايا

(٢) أي لا تظهر متاعك إلا عند طالبه.

( ١٦ ـ الميزان ـ ١٥ )

٢٢٥

أبليته ، وعمرك فيما أفنيته ، ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته ، فتأهب لذلك وأعد له جوابا ـ ولا تأس على ما فاتك من الدنيا ـ فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه ـ وكثيرها لا يؤمن بلاؤه فخذ حذرك ، وجد في أمرك ، واكشف الغطاء عن وجهك ، وتعرض لمعروف ربك ، وجدد التوبة في قلبك ، وأكمش في فراقك قبل أن يقصد قصدك ، ويقضى قضاؤك ، ويحال بينك وبين ما تريد.

وفي البحار ، عن القصص بإسناده عن حماد عن الصادق عليه‌السلام قال : قال لقمان : يا بني إياك والضجر وسوء الخلق وقلة الصبر ـ فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب ، وألزم نفسك التؤدة (١) في أمورك ـ وصبر على مئونات الإخوان نفسك ، وحسن مع جميع الناس خلقك.

يا بني إن عدمك ما تصل به قرابتك ـ وتتفضل به على إخوانك ـ فلا يعدمنك حسن الخلق وبسط البشر ـ فإن من أحسن خلقه أحبه الأخيار وجانبه الفجار ، واقنع بقسم الله ليصفو عيشك ـ فإن أردت أن تجمع عز الدنيا ـ فاقطع طمعك مما في أيدي الناس ـ فإنما بلغ الأنبياء والصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم.

أقول : والأخبار في مواعظه كثيرة اكتفينا منها بما أوردناه إيثارا للاختصار.

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ

٢٢٦

مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ

__________________

(١) التؤدة ـ بضم التاء كهمزة ـ السكون والرزانة.

٢٢٧

والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤) ).

( بيان )

رجوع إلى ما قبل القصة من آيات الوحدانية ونفي الشريك وأدلتها المنتهية إلى قوله : « هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ».

قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً » رجوع إلى ما قبل قصة لقمان وهو الدليل على أن الخطاب للمشركين وإن كان ذيل الآية يشعر بعموم الخطاب.

وعليه فصدر الآية من تتمة كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتصل بقوله : « هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ » ولا التفات في قوله : « أَلَمْ تَرَوْا ».

وعلى تقدير كونه من كلامه تعالى ففي قوله : « أَلَمْ تَرَوْا » التفات من سياق الغيبة الذي في قوله : « بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » إلى الخطاب ، والالتفات في مثل هذه الموارد يكون لاشتداد وجد المتكلم وتأكد غيظه من جهل المخاطبين وتماديهم في غيهم بحيث لا ينفعهم دلالة ولا ينجح فيهم إشارة فيواجهون بذكر ما هو بمرأى منهم ومسمع لعلهم يتنبهوا عن نومتهم وينتزعوا عن غفلتهم.

وكيف كان فالمراد بتسخير السماوات والأرض للإنسان وهم يرون ذلك ما نشاهده من ارتباط أجزاء الكون بعضها ببعض في نظام عام يدبر أمر العالم عامة والإنسان خاصة لكونه أشرف أجزاء هذا العالم المحسوس بما فيه من الشعور والإرادة فقد سخر الله الكون لأجله.

٢٢٨

والتسخير قهر الفاعل في فعله بحيث يفعله على ما يستدعيه القاهر ويريده كتسخير الكاتب القلم للكتابة وكما يسخر المولى عبده والمخدوم خادمه في أن يفعل باختياره وإرادته ما يختاره ويريده المولى والمخدوم والأسباب الكونية كائنة ما كانت تفعل بسببيتها الخاصة ما يريده الله من نظام يدبر به العالم الإنساني.

ومما مر يظهر أن اللام في « لَكُمْ » للتعليل الغائي والمعنى لأجلكم والمسخر بالكسر هو الله تعالى دون الإنسان ، وربما احتمل كون اللام للملك والمسخر بالكسر هو الإنسان بمشية من الله تعالى كما يشاهد من تقدم الإنسان بمرور الزمان في تسخير أجزاء الكون واستخدامه لها في سبيل مقاصده لكن لا يلائمه تصدير الكلام بقوله : « أَلَمْ تَرَوْا ».

وقوله : « وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً » الإسباغ الإتمام والإيساع أي أتم وأوسع عليكم نعمه ، والنعم جمع نعمة وهو في الأصل بناء النوع وغلب عليه استعماله في ما يلائم الإنسان فيستلذ منه ، والمراد بالنعم الظاهرة والباطنة بناء على كون الخطاب للمشركين النعم الظاهرة للحس كالسمع والبصر وسائر الجوارح والصحة والعافية والطيبات من الرزق والنعم الغائبة عن الحس كالشعور والإرادة والعقل.

وبناء على عموم الخطاب لجميع الناس الظاهرة من النعم هي ما ظهر للحس كما تقدم وكالدين الذي به ينتظم أمور دنياهم وآخرتهم والباطنة منها كما تقدم وكالمقامات المعنوية التي تنال بإخلاص العمل.

وقوله : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ » رجوع الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما كان في السياق السابق ، والمجادلة المخاصمة النظرية بطريق المغالبة ، والمقابلة بين العلم والهدى والكتاب تلوح بأن المراد بالعلم ما هو مكتسب من حجة عقلية ، وبالهدى ما يفيضه الله بالوحي أو الإلهام ، وبالكتاب الكتاب السماوي المنتهي إليه تعالى بالوحي النبوي ولذلك وصفه بالمنير فهذه طرق ثلاث من العلم لا رابع لها.

فمعنى قوله : ( يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ ) كذا وكذا أنه يجادل في وحدانيته تعالى في الربوبية والألوهية بغير حجة يصح الركون إليها بل عن تقليد.

قوله تعالى : « وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ

٢٢٩

آباءَنا » إلخ ، ضمائر الجمع راجعة إلى « مِنَ » باعتبار المعنى كما أن ضمير الإفراد في الآية السابقة راجع إليه باعتبار اللفظ.

وقوله : « وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ » في التعبير بما أنزل الله من غير أن يقال : اتبعوا الكتاب أو القرآن إشارة إلى كون الدعوة دعوة ذات حجة لا تحكم فيها لأن نزول الكتاب مؤيد بحجة النبوة فكأنه قيل : وإذا دعوا إلى دين التوحيد الذي يدل عليه الكتاب المقطوع بنزوله من عند الله سبحانه ، وبعبارة أخرى إذا ألقى إليهم القول مع الحجة قابلوه بالتحكم من غير حجة فقالوا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.

وقوله : « أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ » أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعوهم بهذا الاتباع إلى عذاب السعير؟ فالاستفهام للإنكار ولو وصلية معطوفة على محذوف مثلها والتقدير أيتبعونهم لو لم يدعهم الشيطان ولو دعاهم.

ومحصل الكلام : أن الاتباع إنما يحسن إذا كانوا على الحق وأما لو كانوا على الباطل وكان اتباعا يدعوهم به إلى الشقاء وعذاب السعير وهو كذلك فإنه اتباع في عبادة غير الله ولا معبود غيره.

قوله تعالى : « وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ » استئناف ويحتمل أن يكون حالا من مفعول « يَدْعُوهُمْ » وفي معنى الجملة الحالية ضمير عائد إليهم ، والمعنى : أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى كذا والحال أن من أسلم وجهه إلى الله كذا فقد نجا وأفلح والحال أن عاقبة الأمور ترجع إلى الله فيجب أن يكون هو المعبود.

وإسلام الوجه إلى الله تسليمه له وهو إقبال الإنسان بكليته عليه بالعبادة وإعراضه عمن سواه. والإحسان الإتيان بالأعمال الصالحة عن إيقان بالآخرة كما فسره به في أول السورة « هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ » والعروة الوثقى المستمسك الذي لا انفصام له.

والمعنى : ومن وحد الله وعمل صالحا مع اليقين بالمعاد فهو ناج غير هالك البتة في عاقبة أمره لأنها إلى الله وهو الذي يعده بالنجاة والفلاح.

ومن هنا يظهر أن قوله : « وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ » في مقام التعليل لقوله :

٢٣٠

« فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى » بما أنه استعارة تمثيلية عن النجاة والفلاح.

قوله تعالى : « وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ـ إلى قوله ـ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ » تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتطييب لنفسه أن لا يغلبه الحزن وهم بالآخرة راجعون إليه تعالى فينبؤهم بما عملوا أي يظهر لهم حقيقة أعمالهم وتبعاتها وهي النار.

وقوله : « نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ » كشف عن حقيقة حالهم ببيان آخر فإن البيان السابق « إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا » ربما أوهم أنهم ما داموا متنعمين في الدنيا خارجون من قدرة الله ثم إذا ماتوا أو بعثوا دخلوا فيما خرجوا منه فانتقم منهم بالعذاب جيء بهذا البيان للدلالة على أنهم غير خارجين من التدبير قط وإنما يمتعهم في الدنيا قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ فهم مغلوبون مقهورون على كل حال وأمرهم إلى الله دائما لن يعجزوا الله في حال التنعم ولا غيرها.

قوله تعالى : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ » إشارة إلى أنهم مفطورون على التوحيد معترفون به من حيث لا يشعرون ، فإنهم إن سئلوا عمن خلق السماوات والأرض اعترفوا بأنه الله عز اسمه وإذا كان الخالق هو هو فالمدبر لها هو هو لأن التدبير لا ينفك عن الخلق ، وإذا كان مدبر الأمر والمنعم الذي يبسط ويقبض ويرجى ويخاف هو فالمعبود هو هو وحده لا شريك له فقد اعترفوا بالوحدة من حيث لا يعلمون.

ولذلك أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحمد الله على اعترافهم من حيث لا يشعرون فقال : « قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ » ثم أشار إلى أن كون أكثرهم لا يعلمون معنى اعترافهم أن الله هو الخالق وما يستلزمه فقال : « بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ » نعم قليل منهم يعلمون ذلك ولكنهم لا يطاوعون الحق بل يجحدونه وقد أيقنوا به كما قال تعالى : « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ » النمل : ١٤.

قوله تعالى : « لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » لما كان اعترافهم بأن الخالق هو الله سبحانه إنما يثبت التوحد بالربوبية والألوهية إذا كان التدبير والتصرف إليه تعالى وكان نفس الخلق كافيا في استلزامه اكتفى به في تمام الحجة واستحمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واستجهل القوم لغفلتهم.

٢٣١

ثم احتج عليه ثانيا من طريق انحصار الملك الحقيقي فيه تعالى لكونه غنيا محمودا مطلقا وتقريره أنه تعالى مبدئ كل خلق ومعطي كل كمال فهو واجد لكل ما يحتاج إليه الأشياء فهو غني على الإطلاق إذ لو لم يكن غنيا من جهة من الجهات لم يكن مبدئا له معطيا لكماله هذا خلف ، وإذا كان غنيا على الإطلاق كان له ما في السماوات والأرض فهو المالك لكل شيء على الإطلاق فله أن يتصرف فيها كيف شاء فكل تدبير وتصرف يقع في العالم فهو له إذ لو كان شيء من التدبير لغيره لا له كان مالكه ذلك الغير دونه وإذا كان التدبير والتصرف له تعالى فهو رب العالمين والإله الذي يعبد ويشكر إنعامه وإحسانه.

وهذا هو الذي يشير إليه قوله : « لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ » فقوله : « لِلَّهِ ما فِي » إلخ ، حجة على وحدانيته وقوله : « إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ » تعليل للملك.

وأما قوله : « الْحَمِيدُ » أي المحمود في أفعاله فهو مبدأ آخر للحجة وذلك أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري وكل جميل في العالم فهو له سبحانه فإليه يعود الثناء فيه فهو حميد على الإطلاق ولو كان شيء من هذا التدبير المتقن الجميل من غيره تعالى من غير انتساب إليه لكان الحمد والثناء لغيره تعالى لا له فلا يكون حميدا على الإطلاق وبالنسبة إلى كل شيء وقد فرض أنه حميد على الإطلاق هذا خلف.

قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ » إلخ ، « مِنْ شَجَرَةٍ » بيان للموصول والشجرة واحد الشجر وتفيد في المقام ـ وهي في سياق « لَوْ » الاستغراق أي كل شجرة في الأرض ، والمراد بالبحر مطلق البحر ، وقوله : « يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ » أي يعينه بالانضياف إليه سبعة أمثاله والظاهر أن المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد والكلمة هي اللفظ الدال على معنى ، وقد أطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره تعالى ، وقد قال : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » يس : ٨٢ وقد أطلق على المسيح عليه‌السلام الكلمة في قوله : « وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ » النساء : ١٧١.

فالمعنى : ولو جعل أشجار الأرض أقلاما وأخذ البحر وأضيف إليه سبعة أمثاله وجعل المجموع مدادا فكتب كلمات الله ـ بتبديلها ألفاظا دالة عليها ـ بتلك

٢٣٢

الأقلام من ذلك المداد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لكونها غير متناهية.

ومن هنا يظهر أن في الكلام إيجازا بالحذف وأن قوله : « إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » في مقام التعليل ، والمعنى : لأنه تعالى عزيز لا يعزه ولا يقهره شيء فهذه الكتابة لا ينفد بها ما هو من عنده حكيم لا يفوض التدبير إلى غيره.

والآية متصلة بما قبلها من حيث دلالته على كون تدبير الخلق له سبحانه لا لغيره فسيقت هذه الآية للدلالة على سعة تدبيره وكثرة أوامره التكوينية في الخلق والتدبير إلى حيث ينفد البحر الممدود بسبعة أمثاله لو جعل مدادا وكتبت به أشجار الأرض المجعولة أقلاما قبل أن ينفد أوامره وكلماته.

قوله تعالى : « ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ » سوق للكلام إلى إمكان الحشر وخاصة من جهة استبعادهم المعاد لكثرة عدد الموتى واختلاطهم بالأرض من غير تميز بعضهم من بعض.

فقال تعالى : « ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ » في الإمكان والتأتي فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ولا يعجزه كثرة ولا يتفاوت بالنسبة إليه الواحد والجمع ، وذكر الخلق مع البعث للدلالة على عدم الفرق بين البدء والعود من حيث السهولة والصعوبة بل لا يتصف فعله بالسهولة والصعوبة.

ويشهد لما ذكر إضافة الخلق والبعث إلى ضمير الجمع المخاطب والمراد به الناس ثم تنظيره بالنفس الواحدة ، والمعنى : ليس خلقكم معاشر الناس على كثرتكم ولا بعثكم إلا كخلق نفس واحدة وبعثها فأنتم على كثرتكم والنفس الواحدة سواء لأنه لو أشكل عليه بعث الجميع على كثرتهم والبعث لجزاء الأعمال فإنما يشكل من جهة الجهل بمختلف أعمالكم على كثرتها واختلاط بعضها ببعض لكنه ليس يجهل شيئا منها لأنه سميع لأقوالكم بصير بأعمالكم وبعبارة أخرى عليم بأعمالكم من طريق المشاهدة.

وبما مر يندفع الاعتراض على الآية بأن المناسب لتعليل كون خلق الكثير وبعثهم كنفس واحدة أن يعلل بمثل قولنا : إن الله على كل شيء قدير أو قوي عزيز أو ما يشبه ذلك لا بمثل السميع البصير الذي لا ارتباط له بالخلق والبعث.

وذلك أن الإشكال الذي تعرضت الآية لدفعه هو أن البعث لجزاء الأعمال وهي

٢٣٣

على كثرتها واندماج بعضها في بعض كيف تتميز حتى تجزى عليها فالإشكال متوجه إلى ما ذكره قبل ثلاث آيات بقوله : « فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا » وقد أجيب بأنه كيف يخفى عليه شيء من الأقوال والأعمال وهو سميع بصير لا يشذ عن مشاهدته قول ولا فعل.

وقد كان ذيل قوله السابق : « فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا » بقوله : « إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » وهو مبني على أن الجزاء على حسب ما يحمله القلب من الحسنة والسيئة كما يشير إليه قوله : « وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » البقرة : ٢٨٤ وجواب عن هذا الإشكال لو وجه إلى ما تحمله القلوب على كثرته فيجاب عنه أن الله عليم بذات الصدور ولو وجه إلى نفس الأعمال الخارجية من الأقوال والأفعال فالجواب عنه بما في هذه الآية التي نحن فيها : « إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ » ، فالإشكال والجواب بوجه نظير ما وقع في قوله تعالى : « قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى » طه : ٥٢ ، فافهم.

وقد أجابوا عن الاعتراض بأجوبة أخرى غير تامة من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.

قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » إلخ ، استشهاد لما تقدم في الآية السابقة من علمه بالأعمال بأن التدبير الجاري في نظام الليل والنهار حيث يزيد هذا وينقض ذاك وبالعكس بحسب الفصول المختلفة وبقاع الأرض المتفرقة في نظم ثابت جار على اختلافه ، وكذا التدبير الجاري في الشمس والقمر على اختلاف طلوعهما وغروبهما واختلاف جريانهما ومسيرهما بحسب الحس وكل منهما يجري لأجل مسمى ولا اختلاف ولا تشوش في النظام الدقيق الذي لهما فهذا كله مما يمتنع من غير علم وخبرة من مدبرها.

فالمراد بإيلاج الليل في النهار أخذ الليل في الطول وإشغاله بعض ساعات النهار من قبل وبإيلاج النهار في الليل عكس ذلك ، والمراد بجريان الشمس والقمر المسخرين إلى أجل مسمى انتهاء كل وضع من أوضاعهما إلى وقت محدود مقدر ثم عودهما إلى بدء فمن شاهد هذا النظام الدقيق الجاري وأمعن فيه لم يشك في أن مدبره إنما يدبره عن علم لا يخالطه جهل وليس ذلك عن صدفة واتفاق.

٢٣٤

وقوله : « وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » عطف على موضع « أَنَّ اللهَ يُولِجُ » والتقدير ألم تر أن الله بما تعملون خبير وذلك لأن من شاهد نظام الليل والنهار والشمس والقمر لم يكد يغفل عن كون صانعه عليما بجلائل أعماله ودقائقها ، كذا قيل.

وفيه أن استنتاج العلم بالأعمال من العلم بالنظام الجاري في الليل والنهار والشمس والقمر وإن صح في نفسه فهو علم حدسي لا مصحح لتسميتها رؤية وهو ظاهر.

ولعل المراد من مشاهدة خبرته تعالى بالأعمال أن الإنسان لو أمعن في النظام الجاري في أعمال نفسه بما أنها صادرة عن العالم الإنساني موزعة من جهة إلى الأعمال الصادرة عن القوى الظاهرة من سمع وبصر وشم وذوق ولمس والصادرة عن القوى الباطنة المدركة أو الفعالة أو من جهة إلى بعض القوى والأدوات أو كلها ومن جهة إلى جاذبة ودافعة ومن جهة إلى سني العمر من طفولية ورهاق وشباب وشيب إلى غير ذلك.

ثم في ارتباط بعضها ببعض واستخدام بعضها لبعض واهتداء النفس إلى وضع كل في موضعه الذي يليق به وحركته بهذه القافلة من القوى والأعمال نحو غايتها من الكمال وسعادتها في المال وتورطها في ورطات عالم المادة وموطن الزينة والفتنة فمن ناج أو هالك.

فإذا أمعن في هذا النظام المحير للأحلام لم يرتب أنه تقدير قدره ربه ونظام نظمه صانعه العليم القدير ومشاهدة هذا النظام العلمي العجيب مشاهدة أنه بما يعملون خبير ، والله العالم.

قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ » لما ذكر سبحانه أن منه بدء كل شيء فيستند إليه في وجوده وتدبير أمره وأن إليه عود كل شيء من غير فرق بين الواحد والكثير وأنه ليس إلى من يدعون من دونه خلق ولا أمر جمع الجميع تحت بيان واحد جامع فقال مشيرا إلى ما تقدم : « ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ » إلخ.

توضيحه أن الحق هو الثابت من جهة ثبوته والباطل يقابل الحق فهو اللاثابت من جهة عدم ثبوته ، وقوله : « بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ » بما فيه من ضمير الفصل وتعريف

٢٣٥

الخبر باللام يفيد القصر أعني حصر المبتدإ في الخبر.

فقوله : « بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ » قصر له تعالى في الثبوت ، أي هو ثابت لا يشوب ثبوته بطلان وبعبارة أخرى هو ثابت من جميع الجهات وبعبارة ثالثة هو موجود على كل تقدير فوجوده مطلق غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط فوجوده ضروري وعدمه ممتنع وغيره من الموجودات الممكنة موجود على تقدير وهو تقدير وجود سببه وهو الوجود المقيد الذي يوجد بغيره من غير ضرورة في ذاته.

وإذا كان حقية الشيء هو ثبوته فهو تعالى حق بذاته وغيره إنما يحق ويتحقق به.

وإذا تأملت هذا المعنى حق تأمله وجدت أولا : أن الأشياء بأجمعها تستند في وجودها إليه تعالى وأيضا تستند في النظام الجاري فيها عامة وفي النظامات الجزئية الجارية في كل نوع من أنواعها وكل فرد من أفرادها إليه تعالى.

وثانيا : أن الكمالات الوجودية التي هي صفات الوجود كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والوحدة والخلق والملك والغنى والحمد والخبرة ـ مما عد في الآيات السابقة أو لم يعد ـ صفات قائمة به تعالى على حسب ما يليق بساحة كبريائه وعز قدسه لأنها صفات وجودية والوجود قائم به تعالى فهي إما عين ذاته كالعلم والقدرة وإما صفات خارجة عن ذاته منتزعة عن فعله كالخلق والرزق والرحمة.

وثالثا : أن قبول الشريك في ذاته أو في تدبيره وكل ما يحمل معنى الفقد والنقص مسلوب عنه تعالى وهذه هي الصفات السلبية كنفي الشريك ونفي التعدد ونفي الجسم والمكان والزمان والجهل والعجز والبطلان والزوال إلى غيرها.

فإن إطلاق وجوده وعدم تقيده بقيد ينفي عنه كل معنى عدمي أي إثبات الوجود مطلقا فإن مرجع نفي النفي إلى الإثبات.

ولعل قوله : « وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ » يفيد ثبوت الصفات له بكلتا مرحلتيها بناء على أن اسم « الْعَلِيُ » يفيد معنى تنزهه عن ما لا يليق بساحته فهو مجمع الصفات السلبية والكبير يفيد سعته لكل كمال وجودي فهو مجمع الصفات الثبوتية.

وأن صدر الآية برهان على ذيلها وذيلها برهان على استجماعه تعالى الصفات الثبوتية والسلبية جميعا على ما تقدم تقريره فهو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال

٢٣٦

فهو الله عز اسمه.

وقوله : « وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ » يجري فيه ما جرى في قوله : « ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ » فالذي يدعونه من الآلهة ليس لهم من الحقيقة شيء ولا إليهم من الخلق والتدبير شيء لأن الشريك في الألوهية والربوبية باطلا لا حق فيه وإذ كان باطلا على كل تقدير فلا يستند إليه خلق ولا تدبير مطلقا.

والحق والعلي والكبير ثلاثة من الأسماء الحسنى وقد تحقق مما تقدم أن الحق في معنى الواجب الوجود وأن العلي من الصفات السلبية والكبير من الصفات الثبوتية قريب المعنى من قولنا : المستجمع لصفات الكمال.

قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ » إلخ ، الباء في « بِنِعْمَتِ اللهِ » للسببية وذكر النعمة كالتوطئة لآخر الآية وفيه تلويح إلى وجوب شكره على نعمته لأن شكر المنعم واجب.

والمعنى : ألم تر أن الفلك تجري وتسير في البحر بسبب نعمة الله وهي أسباب جريانها من الريح ورطوبة الماء وغير ذلك.

واحتمل بعضهم أن الباء للتعدية أو المعية والمراد بالنعمة ما تحمله السفن من الطعام وسائر أمتعة الحياة.

وقد تمم الآية بقوله : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ » والصبار الشكور أي كثير الصبر عند الضراء وكثير الشكر عند النعماء كناية عن المؤمن على ما قيل.

قوله تعالى : « وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » إلخ ، قال الراغب : الظلة سحابة تظل وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره ، قال : « كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ » « عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ » انتهى.

والمعنى : وإذا غشيهم وأحاط بهم في البحر موج كقطع السحاب انقطعوا إلى الله ودعوه للنجاة حال كونهم مخلصين له الدين أي وفي ذلك دليل على أن فطرتهم على التوحيد.

وقوله : « فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ » المقتصد سألك القصد أي الطريق المستقيم والمراد به التوحيد الذي دلتهم عليه فطرتهم إذ ذلك ، وفي التعبير بمن التبعيضية

٢٣٧

استقلال عدتهم أي فلما نجا الله سبحانه هؤلاء الداعين بالإخلاص إلى البر فقليل منهم المقتصدون.

وقوله : « وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ » الختار مبالغة من الختر وهو شدة الغدر وفي السياق دليل على الاستكثار والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ » لما ساق الحجج والمواعظ الشافية الوافية جمعهم في خاتمتها في خطاب عام يدعوهم إلى التقوى وينذرهم بيوم القيامة الذي لا يغني فيه مغن إلا الإيمان والتقوى.

قال الراغب : الجزاء الغنى والكفاية ، وقال : يقال : غررت فلانا أصبت غرته ونلت منه ما أريد والغرة غفلة في اليقظة والغرار غفلة مع غفوة ، إلى أن قال : فالغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل : الدنيا تغر وتضر وتمر انتهى.

فمعنى الآية : « يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ » وهو الله سبحانه « وَاخْشَوْا يَوْماً » وهو يوم القيامة « لا يَجْزِي » لا يغني « والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ » مغن كاف « عَنْ والِدِهِ » شَيْئاً « إِنَّ وَعْدَ اللهِ » بالبعث « حَقٌ » ثابت لا يخلف « فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا » بزينتها الغارة « وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ » أي جنس ما يغر الإنسان من شئون الحياة الدنيا أو خصوص الشيطان.

قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » الغيث المطر ومعنى جمل الآية ظاهر.

وقد عد سبحانه أمورا ثلاثة مما تعلق به علمه وهي العلم بالساعة وهو مما استأثر الله علمه لنفسه لا يعلمه إلا هو ويدل على القصر قوله : « إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ » وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام ويختصان به تعالى إلا أن يعلمه غيره.

وعد أمرين آخرين يجهل بهما الإنسان وبذلك يجهل كل ما سيجري عليه من الحوادث وهو قوله : « وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً » وقوله : « وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ».

٢٣٨

وكان المراد تذكرة أن الله يعلم كل ما دق وجل حتى مثل الساعة التي لا يتيسر علمها للخلق وأنتم تجهلون أهم ما يهمكم من العلم فالله يعلم وأنتم لا تعلمون فإياكم أن تشركوا به وتتمردوا عن أمره وتعرضوا عن دعوته فتهلكوا بجهلكم.

( بحث روائي )

في كمال الدين ، بإسناده إلى حماد بن أبي زياد قال : سألت سيدي موسى بن جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً » فقال : النعمة الظاهرة الإمام الظاهر ، والباطنة الإمام الغائب.

أقول : هو من الجري والآية أعم مدلولا.

وفي تفسير القمي ، بإسناده عن جابر قال : قال رجل عند أبي جعفر عليه‌السلام : « وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً » قال : أما النعمة الظاهرة فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وما جاء به من معرفة الله عز وجل وتوحيده ـ وأما النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت وعقد مودتنا. الحديث.

أقول : هو كسابقه.

وفي المجمع في قوله تعالى : « وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ » الآية ، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه فقال : يا ابن عباس أما ما ظهر فالإسلام ـ وما سوى الله من خلقك وما أفاض عليك من الرزق ـ وأما ما بطن فستر مساوي عملك ولم يفضحك به ، يا ابن عباس إن الله تعالى يقول : ثلاثة جعلتهن للمؤمن ولم يكن له : صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله ، وجعلت له ثلث ماله أكفر به عنه خطاياه ، والثالث سترت مساوي عمله ولم أفضحه بشيء منه ـ ولو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم.

أقول : روى ما يقرب منه في الدر المنثور ، بطرق عن ابن عباس ، والحديث كسابقيه من الجري.

وفي التوحيد ، بإسناده عن عمر بن أذينة عن أبي جعفر عليه‌السلام : في حديث : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله خالقه ـ فذلك قوله عز وجل : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ».

٢٣٩

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ » قال : السفن تجري في البحر بقدرة الله.

وفيه في قوله : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ » قال : الذي يصبر على الفقر والفاقة ـ ويشكر الله عز وجل على جميع أحواله.

وفي المجمع في الآية وفي الحديث : الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر.

أقول : وهو مأخوذ من الآية فقد مر أنه كناية عن المؤمن.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ » قال : الختار الخداع وفي قوله : « إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ » قال : ذلك القيامة.

وفي إرشاد المفيد من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام لرجل ـ سمعه يذم الدنيا من غير معرفة بما يجب أن يقول في معناها : الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرحمة ، وربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمها؟ وقد آذنت ببينها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها ، فشوقت بسرورها إلى السرور ، وحذرت ببلائها البلاء تخويفا وتحذيرا وترغيبا وترهيبا.

فيا أيها الذام للدنيا والمغتر بتغريرها متى غرتك؟ أبمصارع آبائك في البلى أم بمصارع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك ومرضت بيديك تبتغي لهم الشفاء ـ واستوصفت لهم الأطباء ، وتلتمس لهم الدواء ، لم تنفعهم بطلبك ولم تشفعهم بشفاعتك مثلت بهم الدنيا مصرعك ومضجعك ـ حيث لا ينفعك بكاؤك ولا تغني عنك أحباؤك.

وفي الخصال ، عن أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال : ألا أخبركم بخمسة لم يطلع الله عليها أحدا من خلقه؟ قال : قلت : بلى قال : « إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ـ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ـ وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ».

أقول : هناك روايات كثيرة جدا عن النبي والأئمة عليهم‌السلام تخبر عن مستقبل حالهم وعن زمان موتهم ومكانه وهي تقيد هذه الرواية وما في معناها من الروايات بالتعليم الإلهي لكن بعض الروايات يأبى التقييد ولا يعبأ بأمرها.

٢٤٠