الميزان في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

المغفرة فأمرهم يئول إلى أمر الله ما شاء وأراد فيهم فهو النافذ في حقهم.

وهذه الآية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم كالبرزخ بين المحسنين والمسيئين ، وإن ورد في أسباب النزول أن الآية نازلة في الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا فأنزل الله توبتهم على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيجيء إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فالآية تخفي ما يئول إليه عاقبة أمرهم وتبقيها على إبهامها حتى فيما ذيلت به من الاسمين الكريمين : العليم والحكيم الدالين على أن الله سبحانه يحكم فيهم بما يقتضيه علمه وحكمته ، وهذا بخلاف ما ذيل قوله : « وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ » حيث قال : « عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».

( بحث روائي )

في تفسير العياشي ، عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : « وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ـ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ » أيثيبهم عليه؟ قال : نعم.

وفيه ، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله سبق بين المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان ـ.

قلت : أخبرني عما ندب الله المؤمن من الإسباق إلى الإيمان. قال : قول الله تعالى : « سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ـ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ـ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ » وقال : « السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ».

وقال : « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ـ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ » فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم ـ ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين وأمرهم بإحسان ـ فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده.

وفي تفسير البرهان ، عن مالك بن أنس عن أبي صالح عن ابن عباس قال : « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ » نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وهو أسبق الناس كلهم بالإيمان وصلى على القبلتين ، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان ، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة ومن الحبشة إلى المدينة.

أقول : وفي معناها روايات أخر.

٣٨١

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي حدثني يحيى بن كثير والقاسم ومكحول وعبدة بن أبي لبابة وحسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقولون : لما أنزلت هذه الآية : « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ـ إلى قوله ـ وَرَضُوا عَنْهُ » قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا لأمتي كلهم ، وليس بعد الرضا سخط.

أقول : معناه أن من رضي الله عنهم ورضوا عنه هم الذين جمعتهم الآية لا أن الآية تدل على رضاه تعالى عن الأمة كلهم فهذا مما يدفعه الكتاب بالمخالفة القطعية ، وكذا قوله : « وليس بعد الرضا سخط » ، مراده ليس بعد الرضا المذكور في الآية سخط ، وقد قررناه فيما تقدم لا أنه ليس بعد مطلق رضى الله سخط فهو مما لا يستقيم البتة.

وفيه ، أخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال : قلت لمحمد بن كعب القرظي : أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنما أريد الفتن : فقال : إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت : وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال : ألا تقرأ : « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ » الآية ـ أوجب لجميع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الجنة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطا لم يشترطه فيهم ـ.

قلت : وما أشترط عليهم؟ قال : اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان يقول : يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر : فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك ، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب.

أقول : هو ـ كما ترى ـ يسلم أن في أعمالهم حسنة وسيئة وطاعة وفسقا غير أن الله رضي عنهم في جميع ذلك وغفرها لهم فلا يجازيهم بالسيئة سيئة ، وهو الذي ذكرنا في البيان المتقدم أن مقتضاه تكذيب آيات كثيرة قرآنية تدل على أن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين والظالمين وأنه لا يحبهم ولا يهديهم ، وتقيد آيات أكثر من ذلك وهي أكثر الآيات القرآنية الدالة على عموم جزاء الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة من غير مقيد وعليها تعتمد آيات الأمر والنهي وهي آيات الأحكام بجملتها.

ولو كان مدلول الآية هذا الذي ذكره لكانت الصحابة على عربيتهم المحضة واتصالهم بزمان النبوة ونزول الوحي أحق أن يفهموا من الآية ذلك ، ولو كانوا فهموا منها ذلك لما عامل بعضهم بعضا بما ضبطه النقل الصحيح.

٣٨٢

وكيف يمكن أن يتحقق كلهم بمضمون قوله : « رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ » ويفهموا ذلك منه ثم لا يرضى بعضهم عن بعض وقد رضي الله عنه ، والراضي عن الله راض عما رضي الله عنه ، ولا يندفع هذا الإشكال بحديث اجتهادهم فإن ذلك لو سلم يكون عذرا في مقام العمل لا مصححا للجمع بين صفتين متضادتين وجدانا وهما الرضا عن الله وعدم الرضا عما رضي الله عنه والكلام طويل.

وفيه ، أخرج أبو عبيد وسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاري : أن عمر بن الخطاب قرأ « والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان » فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في الذين فقال له زيد بن ثابت : والذين فقال عمر : الذين فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم فقال عمر : ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك ـ فقال أبي : والذين فقال عمر : فنعم إذن نتابع أبيا.

أقول : ومقتضى قراءة عمر اختصاص المهاجرين بما يتضمنه قوله : « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ » من المنقبة ومنقبة أخرى وهي كونهم متبوعين للأنصار كما يشير إليه الحديث الآتي.

وفيه ، أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال : مر عمر برجل يقرأ « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ » فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا؟ قال : أبي بن كعب. قال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه ـ فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال : نعم ـ قال : وسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : نعم. قال : كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ـ.

فقال أبي : تصديق ذلك في أول سورة الجمعة : « وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ » وفي سورة الحشر : « وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ـ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ » وفي الأنفال : « وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ».

وفي الكافي ، بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « الذين ( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) » فأولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب ـ التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها ـ فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم.

٣٨٣

أقول : ورواه العياشي عن زرارة عنه عليه‌السلام إلا أن فيه « مذنبون » « مكان مؤمنون ».

وفي المجمع ، : في قوله تعالى : « وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ » الآية ـ قال : أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار : أبو كنانة بن عبد المنذر وثعلبة بن وديعة ـ وأوس بن حذام تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عند مخرجه إلى تبوك ـ فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيقنوا بالهلاك ـ وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلم يزالوا كذلك ـ حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسأل عنهم ـ فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم ـ حتى يكون رسول الله يحلهم ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأنا أقسم لا أكون أول من حلهم ـ إلا أن أومر فيهم بأمر ـ.

فلما نزل : « عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ » عمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم فحلهم فانطلقوا ـ فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها وتصدق بها عنا. قال : ما أمرت فيها ، فنزل : « خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً » الآيات.

أقول : وفي هذا المعنى روايات أخرى رواها في الدر المنثور بينها اختلاف في أسامي الرجال ، وفيها نزول آية الصدقة في خصوص أموالهم ، ويضعفها تظافر الروايات في نزول الآية في الزكاة الواجبة.

وفيه ، وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : أنها نزلت في أبي لبابة ولم يذكر غيره معه ـ وسبب نزولها فيه ما جرى منه في بني قريظة ـ حين قال : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح.

وفي الكافي ، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لما نزلت هذه الآية : « خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها » وأنزلت في شهر رمضان ـ فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مناديه فنادى في الناس : أن الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ـ ففرض الله عز وجل عليهم من الذهب والفضة ـ وفرض الصدقة من الإبل والبقر والغنم ، ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب ـ فنادى بهم بذلك في شهر رمضان ، وعفا لهم عما سوى ذلك ـ.

قال : ثم لم يفرض لشيء من أموالهم ـ حتى حال عليه الحول من قابل ـ فصاموا

٣٨٤

وأفطروا فأمر مناديه فنادى في المسلمين : أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل صلاتكم. قال : ثم وجه عمال الصدقة وعمال الطسوق.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أتي بصدقة قال : اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى.

وفي تفسير البرهان ، عن الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله تعالى : « وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ » قال : يقبلها من أهلها ويثيب عليها.

وفي تفسير العياشي ، عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال علي بن الحسين عليه‌السلام : ضمنت على ربي أن الصدقة لا تقع في يد العبد ـ حتى تقع في يد الرب ، وهو قوله : « هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ».

أقول : وفي معناه روايات أخرى مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وأبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام.

وفي بصائر الدرجات ، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألت عن الأعمال هل تعرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : ما فيه شك. قال : أرأيت قول الله « اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » فقال : لله شهداء في خلقه.

أقول : وفي معناه روايات متظافرة متكاثرة مروية في جوامع الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، وفي أكثرها : أن « الْمُؤْمِنُونَ » في الآية هم الأئمة ، وانطباقها على ما قدمناه من التفسير ظاهر.

وفي الكافي ، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قول الله « وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ » قال : قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفرا ـ وأشباههما من المسلمين ـ ثم إنهم دخلوا في الإسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم ـ فيكونوا من المؤمنين فيجب لهم الجنة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا ـ فيجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله ـ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم :

أقول : ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة عنه (ع) وفي معناه روايات أخر.

٣٨٥

وفي تفسير العياشي ، عن حمران قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المستضعفين قال : هم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار فهم المرجون لأمر الله.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن المنذر عن عكرمة : في قوله : « وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ » قال : هم الثلاثة الذين خلفوا :

أقول : وروي مثله عن مجاهد وقتادة وأن أسماءهم هلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج ، ولا تنطبق قصتهم على هذه الآية وسيجيء إن شاء الله تعالى.

( كلام في الزكاة وسائر الصدقة )

الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية وسائر الأبحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة المجتمع من حيث إنه مجتمع إلى مال يختص به ويصرف لرفع حوائجه العامة في صف البديهيات التي لا يشك فيها شاك ولا يداخلها ريب فكثير من المسائل الاجتماعية والاقتصادية ـ ومنها هذه المسألة ـ كانت في الأعصار السالفة مما يغفل عنها عامة الناس ولا يشعرون بها إلا شعورا فطريا إجماليا وهي اليوم من الأبجديات التي يعرفها العامة والخاصة.

غير أن الإسلام بحسب ما بين من نفسية الاجتماع وهويته وشرع من الأحكام المالية الراجعة إليها ، والأنظمة والقوانين التي رتبها في أطرافها ومتونها له اليد العليا في ذلك.

فقد بين القرآن الكريم أن الاجتماع يصيغ من عناصر الأفراد المجتمعين صيغة جديدة فيكون منهم هوية جديدة حية هي المجتمع ، وله من الوجود والعمر والحياة والموت والشعور والإرادة والضعف والقوة والتكليف والإحسان والإساءة والسعادة والشقاوة أمثال أو نظائر ما للإنسان الفرد وقد نزلت في بيان ذلك كله آيات كثيرة قرآنية كررنا الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة.

وقد عزلت الشريعة الإسلامية سهما من منافع الأموال وفوائدها للمجتمع كالصدقة الواجبة التي هي الزكاة وكالخمس من الغنيمة ونحوها ولم يأت في ذلك ببدع فإن القوانين والشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي وقوانين الروم القديم يوجد فيها

٣٨٦

أشياء من ذلك بل سائر السنن القومية في أي عصر ، وبين أية طائفة دارت لا يخلو عن اعتبار جهة مالية لمجتمعها فالمجتمع كيفما كان يحس بالحاجة المالية في سبيل قيامه ورشده.

غير أن الشريعة الإسلامية تمتاز في ذلك من سائر السنن والشرائع بأمور يجب إمعان النظر فيها للحصول على غرضها الحقيقي ونظرها المصيب في تشريعها وهي :

أولا : أنها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات المالية على كينونة الملك وحدوثه موجودا ولم يتعد ذلك ، وبعبارة أخرى إذا حدثت مالية في ظرف من الظروف كغلة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أو نحو ذلك بادرت فوضعت سهما منها ملكا للمجتمع وبقية السهام ملكا لمن له رأس المال أو العمل مثلا ، وليس عليه إلا أن يرد مال المجتمع وهو السهم إليه.

بل ربما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى : « خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً » البقرة : ـ ٢٩ وقوله : « وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً » النساء : ـ ٥ أن الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها ثم اختص سهم منها للفرد الذي نسميه المالك أو العامل ، وبقي سهم أعني سهم الزكاة أو سهم الخمس في ملك المجتمع كما كان فالمالك الفرد مالك في طول مالك وهو المجتمع ، وقد تقدم بعض البحث عن ذلك في تفسير الآيتين.

وبالجملة فالذي وضعته الشريعة من الحقوق المالية كالزكاة والخمس مثلا إنما وضعته في الثروة الحادثة عند حدوثها فشركت المجتمع مع الفرد من رأس ثم الفرد في حرية من ماله المختص به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير أن يعترضه في ذلك معترض إلا أن يدهم المجتمع من المخاطر العامة ما يجب معه صرف شيء من رءوس الأموال في سبيل حفظ حياته كعدو هاجم يريد أن يهلك الحرث والنسل ، والمخمصة العامة التي لا تبقي ولا تذر.

وأما الوجوه المالية المتعلقة بالنفوس أو الضياع والعقار أو الأموال التجارية عند حصول شرائط أو في أحوال خاصة كالعشر المأخوذ في الثغور ونحو ذلك فإن الإسلام لا يرى ذلك بل يعده نوعا من الغصب وظلما يوجب تحديدا في حرية المالك في ملكه.

ففي الحقيقة لا يأخذ المجتمع من الفرد إلا مال نفسه الذي يتعلق بالغنيمة والفائدة عند أول حدوثه ويشارك الفرد في ملكه على نحو يبينه الفقه الإسلامي

٣٨٧

مشروحا ، وأما إذا انعقد الملك واستقر لمالكه فلا اعتراض لمعترض على مالك في حال أو عند شرط ، يوجب قصور يده وزوال حريته.

وثانيا : أن الإسلام يعتبر حال الأفراد في الأموال الخاصة بالمجتمع كما يعتبر حال المجتمع بل الغلبة في ما يظهر من نظره لحالهم على حاله فإنه يجعل السهام في الزكاة ثمانية لا يختص بسبيل الله منها إلا سهم واحد وباقي السهام للأفراد كالفقراء والمساكين والعاملين والمؤلفة قلوبهم وغيرهم ، وفي الخمس ستة لم يجعل لله سبحانه إلا سهم واحد والباقي للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

وذلك أن الفرد هو العنصر الوحيد لتكون المجتمع ، ورفع اختلاف الطبقات الذي هو من أصول برنامج الإسلام ، وإلقاء التعادل والتوازن بين قوى المجتمع المختلفة وتثبيت الاعتدال في مسيره بأركانه وأجزائه لا يتم إلا بإصلاح حال الأجزاء أعني الأفراد وتقريب أحوالهم بعضهم من بعض.

وأما قصر مال المجتمع في صرفه في إيجاد الشوكة العامة والتزيينات المشتركة ورفع القصور المشيدة العالية والأبنية الرفيعة الفاخرة وتخلية القوي والضعيف أو الغني والفقير على حالهما لا يزيدان كل يوم إلا ابتعادا فلتدل التجربة الطويلة القطعية أنه لا يدفع غائلا ولا يغني طائلا.

وثالثا : أن للفرد من المسلمين أن يصرف ما عليه من الحق المالي الواجب كالزكاة مثلا في بعض أرباب السهام كالفقير والمسكين من دون أنه يؤديه إلى ولي الأمر أو عامله في الجملة فيرده هو إلى مستحقيه.

وهذا نوع من الاحترام الاستقلالي الذي اعتبره الإسلام لأفراد مجتمعة نظير إعطاء الذمة الذي لكل فرد من المسلمين أن يقوم به لمن شاء من الكفار المحاربين وليس للمسلمين ولا لولي أمرهم أن ينقض ذلك.

نعم لولي الأمر إذا رأى في مورد أن مصلحة الإسلام والمسلمين في خلاف ذلك أن ينهى عن ذلك فيجب الكف عنه لوجوب طاعته.

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ

٣٨٨

الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠).

( بيان )

تذكر الآيات طائفة أخرى من المنافقين بنوا مسجد الضرار وتقيس حالهم إلى حال جماعة من المؤمنين بنوا مسجدا لتقوى الله.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً » إلى آخر الآية ، الضرار والمضارة إيصال الضرر ، والإرصاد اتخاذ الرصد والانتظار والترقب.

وقوله : « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً » إن كانت الآيات نازلة مع ما تقدمها من الآيات النازلة في المنافقين فالعطف على من تقدم ذكرهم من طوائف المنافقين المذكورين بقوله : ومنهم ، ومنهم أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.

وإن كانت مستقلة بالنزول فالوجه كون الواو استئنافية وقوله : « الَّذِينَ اتَّخَذُوا » مبتدأ خبره قوله : « لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً » ويمكن إجراء هذا الوجه على التقدير السابق أيضا ، وقد ذكر المفسرون في إعراب الآية وجوها أخرى لا تخلو عن تكلف تركناها.

وقد بين الله غرض هذه الطائفة من المنافقين في اتخاذ هذا المسجد وهو الضرار بغيرهم والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد لمن حارب الله ورسوله ، والأغراض المذكورة خاصة ترتبط إلى قصة خاصة بعينها ، وهي على ما اتفق عليه أهل النقل أن

٣٨٩

جماعة من بني عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا وسألوا النبي أن يصلي فيه فصلى فيه فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف وهم منافقون فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به ويفرقوا المؤمنين منه وينتظروا لأبي عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة ، وأمرهم أن يستعدوا للقتال معهم.

ولما بنوا المسجد أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتجهز إلى تبوك وسألوه أن يأتيه ويصلي فيه ويدعو لهم بالبركة فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة فنزلت الآيات.

فكان مسجدهم لمضارة مسجد قبا ، وللكفر بالله ورسوله ، ولتفريق المؤمنين المجتمعين في قبا ، ولإرصاد أبي عامر الراهب المحارب لله ورسوله من قبل ، وقد أخبر الله سبحانه عنهم إنهم ليحلفن إن أردنا من بناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى وهو التسهيل للمؤمنين بتكثير معابد يعبد فيها الله ، وشهد تعالى بكذبهم بقوله : « وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ».

قوله تعالى : « لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً » إلى آخر الآية ، بدأ بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أن يقوم فيه ثم ذكر مسجد قبا ورجح القيام فيه بعد ما مدحه بقوله : « لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ » فمدحه بحسن نية مؤسسيه من أول يوم وبنى عليه رجحان القيام فيه على القيام في مسجد الضرار.

والجملة وإن لم تفد تعين القيام في مسجد قبا حيث عبر بقوله : « أحق ، غير أن سبق النهي عن القيام في مسجد الضرار يوجب ذلك ، وقوله تعالى : « فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا » تعليل للرجحان السابق ، وقوله : « وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ » متمم للتعليل المذكور ، وهذا هو الدليل على أن المراد بقوله : « لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ » إلخ هو مسجد قبا لا مسجد النبي أو غيره.

ومعنى الآية : لا تقم أي للصلاة في مسجد الضرار أبدا ، أقسم ، لمسجد قبا الذي هو مسجد أسس على تقوى الله من أول يوم أحق وأحرى أن تقوم فيه للصلاة وذلك أن فيه رجالا يحبون التطهر من الذنوب أو من الأرجاس والأحداث والله يحب المطهرين وعليك أن تقوم فيهم.

وقد ظهر بذلك أن قوله : « لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ » إلخ ، بمنزلة التعليل لرجحان المسجد على المسجد وقوله : « فِيهِ رِجالٌ » إلخ ، لإفادة رجحان أهله على أهله ، وقوله

٣٩٠

الآتي : « أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ » إلخ ، لبيان الرجحان الثاني.

قوله تعالى : « أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ » إلى آخر الآية شفا البئر طرفه ، وجرف الوادي جانبه الذي انحفر بالماء أصله وهار الشيء يهار فهو هائر وربما يقال : هار بالقلب وأنهار ينهار انهيارا أي سقط عن لين فقوله : « عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ » استعارة تخييلية شبه فيها حالهم بحال من بنى بنيانا على نهاية شفير واد لا ثقة بثباتها وقوامها فتساقطت بما بني عليه من البنيان وكان في أصله جهنم فوقع في ناره ، وهذا بخلاف من بنى بنيانه على تقوى من الله ورضوان منه أي جرى في حياته على اتقاء عذاب الله وابتغاء رضاه.

وظاهر السياق أن قوله : « أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى » إلخ ، وقوله : « أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ » إلخ ، مثلان يمثل بهما بنيان حياة المؤمنين والمنافقين وهو الدين والطريق الذي يجريان عليه فيها فدين المؤمن هو تقوى الله وابتغاء رضوانه عن يقين به ، ودين المنافق مبني على التزلزل والشك.

ولذلك أعقبه الله تعالى وزاد في بيانه بقوله : « لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ » يعني المنافقين « الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً » وشكا « فِي قُلُوبِهِمْ » لا يتعدى إلى مرحلة اليقين « إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ » فتتلاشى الريبة بتلاشيها « وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » ولذلك يضع هؤلاء ويرفع أولئك.

( بحث روائي )

في المجمع ، قال المفسرون : إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا ، وبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم فأتاهم وصلى فيه ـ فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف ـ فقالوا : نبني مسجدا فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد ، وكانوا اثني عشر رجلا ، وقيل : خمسة عشر رجلا ، منهم : ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ـ ونبتل بن الحارث فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ـ.

فلما بنوه أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتجهز إلى تبوك ـ فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا ـ لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية ، ـ وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا ـ وتدعو بالبركة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني على جناح سفر ـ ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه ، فلما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك ـ نزلت

٣٩١

عليه الآية في شأن المسجد ـ.

قال : فوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قدومه من تبوك ـ عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم ـ وكان مالك من بني عمرو بن عوف فقال لهما : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأهدماه وحرقاه ، وروي أنه بعث عمار بن ياسر ووحشيا فحرقاه ، وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف.

أقول : وفي رواية القمي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث لذلك مالك بن دخشم الخزاعي ـ وعامر بن عدي أخا بني عمرو بن عوف ـ فجاء مالك وقال لعامر : انتظرني حتى أخرج نارا من منزلي ، فدخل وجاء بنار وأشعل في سعف النخل ـ ثم أشعله في المسجد فتفرقوا ، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية ـ ثم أمر بهدم حائطه.

والقصة مروية بطرق كثيرة من طرق أهل السنة ، والروايات متقاربة إلا أن في أسامي من بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اختلافا.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن إسحاق قال : كان الذين بنوا مسجد الضرار اثني عشر رجلا : خذام بن خالد بن عبيد بن زيد ، وثعلبة بن حاطب وهلال بن أمية ، ومعتب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وعباد بن حنيف ، وجارية بن عامر وابناه مجمع وزيد ، ونبتل بن الحارث ، وبخدج بن عثمان (١) ووديعة بن ثابت.

وفي المجمع ، : في قوله : « وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ » قال : هو أبو عامر الراهب ، قال وكان من قصته أنه كان قد ترهب في الجاهلية ـ ولبس المسوح فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة حسده ، وحزب عليه الأحزاب ـ ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف ـ فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، وخرج إلى الروم وتنصر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة ـ الذي قتل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد ـ وكان جنبا فغسلته الملائكة ـ.

وسمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا عامر الفاسق ، وكان قد أرسل إلى المنافق أن استعدوا وابنوا مسجدا ـ فإني أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود ، وأخرج محمدا من المدينة ـ فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر ـ فمات قبل أن يبلغ ملك الروم.

أقول : وفي معناه عدة من الروايات.

__________________

(١) وفي السيرة : بجاد بن عثمان وهو الصحيح ( ب ).

٣٩٢

وفي الكافي ، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن المسجد الذي أسس على التقوى ـ فقال : مسجد قبا :

أقول : ورواه العياشي في تفسيره ، وروي هذا المعنى أيضا في الكافي ، بإسناده عن معاوية بن عمار عنه عليه‌السلام.

وقد روي في الدر المنثور ، بغير واحد من الطرق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : هو مسجدي هذا ، وهو مخالف لظاهر الآية وخاصة ـ قوله : « فِيهِ رِجالٌ » إلخ ، فإن الكلام موضوع في القياس بين المسجدين : ـ مسجد قبا ومسجد الضرار والقياس بين أهليهما ـ ولا غرض يتعلق بمسجد النبي ص.

وفي تفسير العياشي ، عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : « فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا » قال : الذين يحبون أن يتطهروا نظف الوضوء ـ وهو الاستنجاء بالماء وقال : قال نزلت هذه في أهل قبا.

وفي المجمع ، : في الآية قال : يحبون أن يتطهروا بالماء عن الغائط والبول : وهو المروي عن السيدين : الباقر والصادق (ع) ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لأهل قبا : ما ذا تفعلون في طهركم ـ فإن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا : نغسل أثر الغائط. فقال : أنزل الله فيكم : « وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ».

وفيه ، : في قراءة قوله : « إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ » وقرأ يعقوب وسهل : « إلى أن » على أنه حرف الجر ، وهو قراءة الحسن وقتادة والجحدري وجماعة : ورواه البرقي عن أبي عبد الله (ع).

إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ

٣٩٣

السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ

٣٩٤

اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣).

( بيان )

آيات في أغراض متفرقة يجمعها غرض واحد مرتبط بغرض الآيات السابقة فإنها تتكلم حول القتال فمنها ما يمدح المؤمنين ويعدهم وعدا جميلا على جهادهم في سبيل الله ومنها ما ينهى عن التودد إلى المشركين والاستغفار لهم ، ومنها ما يدل على توبته تعالى للثلاثة المخلفين عن غزوة تبوك ، ومنها ما يفرض على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يخرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد الخروج إلى قتال ولا يتخلفوا عنه ، ومنها ما يفرض على الناس أن يلازم بعضهم البيضة للتفقه في الدين ثم تبليغه إلى قومهم إذا رجعوا إليهم ومنها ما يقضي بقتال الكفار ممن يلي بلاد الإسلام.

قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » إلى آخر الآية ، الاشتراء هو قبول العين المبيعة بنقل الثمن في المبايعة.

والله سبحانه يذكر في الآية وعده القطعي للذين يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم بالجنة ، ويذكر أنه ذكر ذلك في التوراة والإنجيل كما يذكره في القرآن.

وقد قلبه سبحانه في قالب التمثيل فصور ذلك بيعا ، وجعل نفسه مشتريا

٣٩٥

والمؤمنين بائعين ، وأنفسهم وأموالهم سلعة ومبيعا ، والجنة ثمنا ، والتوراة والإنجيل والقرآن سندا للمبايعة ، وهو من لطيف التمثيل ثم يبشر المؤمنين ببيعهم ذلك ، ويهنئهم بالفوز العظيم.

قوله تعالى : « التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ » إلى آخر الآية ، يصف سبحانه المؤمنين بأجمل صفاتهم ، والصفات مرفوعة بالقطع أي المؤمنون هم التائبون العابدون إلخ ، فهم التائبون لرجوعهم من غير الله إلى الله سبحانه العابدون له ويعبدونه بألسنتهم فيحمدونه بجميل الثناء ، وبأقدامهم فيسيحون ويجولون من معهد من المعاهد الدينية ومسجد من مساجد الله إلى غيره ، وبأبدانهم فيركعون له ويسجدون له.

هذا شأنهم بالنسبة إلى حال الانفراد وأما بالنسبة إلى حال الاجتماع فهم آمرون بالمعروف في السنة الدينية وناهون عن المنكر فيها ثم هم حافظون لحدود الله لا يتعدونه في حالتي انفرادهم واجتماعهم خلوتهم وجلوتهم ، ثم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يبشرهم وقد بشرهم تعالى نفسه في الآية السابقة ، وفيه من كمال التأكيد ما لا يقدر قدره.

وقد ظهر بما قررنا أولا : وجه الترتيب بين الأوصاف التي عدها لهم فقد بدأ بأوصافهم منفردين وهي التوبة والعبادة والسياحة والركوع والسجود ثم ذكر ما لهم من الوصف الخاص بهم المنبعث عن إيمانهم مجتمعين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وختم بما لهم من جميل الوصف في حالتي انفرادهم واجتماعهم وهو حفظهم لحدود الله ، وفي التعبير بالحفظ مضافا إلى الدلالة على عدم التعدي دلالة على الرقوب والاهتمام.

وثانيا : أن المراد بالسياحة ـ ومعناه السير في الأرض ـ على ما هو الأنسب بسياق الترتيب هو السير إلى مساكن ذكر الله وعبادته كالمساجد ، وأما القول بأن المراد بالسياحة الصيام أو السياحة في الأرض للاعتبار بعجائب قدرة الله وما جرى على الأمم الماضية مما تحكيه ديارهم وآثارهم أو المسافرة لطلب العلم أو المسافرة لطلب الحديث خاصة فهي وجوه غير سديدة.

أما الأول : فلا دليل عليه من جهة اللفظ البتة ، وأما الوجوه الأخر فإنها وإن كانت ربما استفيد الندب من مثل قوله تعالى : « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » المؤمن : ـ ٨٢ ، وقوله : « فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ » الآية ـ ١٢٢ من السورة إلا أن إرادتها من قوله :

٣٩٦

« السَّائِحُونَ » تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثا : أن هذه الصفات الشريفة هي التي يتم بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعي بالجنة المستتبع للبشارة الإلهية والنبوية وهي الملازمة للقيام بحق الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحق على نفسه.

قوله تعالى : « ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى » إلى آخر الآيتين ، معنى الآية ظاهر غير أنه تعالى لما ذكر في الآية الثانية التي تبين سبب استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا أنه تبرأ منه بعد ذلك لما تبين له أنه عدو لله ، فدل ذلك على أن تبين كون المشركين أصحاب الجحيم إنما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازما لكونهم أعداء لله فإذا تبين للنبي والذين آمنوا أن المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروري وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغوا لا يترتب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنه تارة يفرض الله تعالى عدوا للعبد مبغضا له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذللا غير مستكبر ، وتارة يفرض العبد عدوا لله محاربا له مستكبرا مستعليا كأرباب الجحود والعناد من المشركين ، والعقل الصريح حاكم بأنه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبس بلباس الذلة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول ، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلا الهزء بمقام الربوبية واللعب بمقام العبودية وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفي الجواز بنفي الحق بدليل قوله : « ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا » أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبين لهم كذا وكذا ، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى : « ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ » الآية ـ ١٧ من السورة أن حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحق.

والمعنى أن النبي والذين آمنوا بعد ما ظهر وتبين بتبيين الله لهم أن المشركين أعداء لله مخلدون في النار لم يكن لهم حق يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى منهم ، وأما استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنه ظن أنه ليس بعدو

٣٩٧

معاند لله وإن كان مشركا فاستعطفه بوعد وعدها إياه فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله معاند على شركه وضلاله تبرأ منه.

وقوله : « إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ » تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنه تحمل جفوة أبيه ووعده وعدا حسنا لكونه حليما واستغفر له لكونه أواها ، والأواه هو الكثير التأوه خوفا من ربه وطمعا فيه.

قوله تعالى : « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ » إلى آخر الآيتين الآيتان متصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهي عن الاستغفار للمشركين.

أما الآية الأولى أعني قوله : « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَ » إلخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتقوا ما بين الله لهم أن يتقوه ويجتنبوا منه ، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أن المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودد إليهم فعلى المؤمنين أن يتقوا ذلك وإلا فهو الضلال بعد الهدى ، وعليك أن تذكر ما قدمناه في تفسير قوله تعالى : « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ » المائدة : ـ ٣ في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » الأنفال : ـ ٥٣ وما في معناه من الآيات ، وهي جميعا تهتف بأن من السنة الإلهية أن تستمر على العبد نعمته وهدايته حتى يغير هو ما عنده بالكفران والتعدي فيسلب الله منه النعمة والهداية.

وأما الآية الثانية أعني قوله : « إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ » فذيلها بيان لعلة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهي عن تولي أعداء الله أو وجوب التبري منهم إذ لا ولي ولا نصير حقيقة إلا الله سبحانه وقد بينه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولي عليه تعالى أو من أذن في توليهم له من أوليائه وليس لهم أن تعتدوا ذلك إلى تولي أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أن الله سبحانه هو الذي يملك كل شيء وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كل أمر فهو الولي لا ولي غيره.

٣٩٨

وقد ظهر من عموم البيان والعلة في الآيات الأربع أن الحكم عام وهو وجوب التبري أو حرمة التولي لأعداء الله سواء كان التولي بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدو مشركا أو كافرا أو منافقا أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بآيات الله أو المصرين على بعض الكبائر كالمرابي المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى : « لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ » إلى آخر الآيتين ، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الذي تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشق معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حر شديد أو غير ذلك ، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحق ، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أن المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرجا من العسرة والمشقة التي واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف ـ على ما في المجمع ، ـ تأخير الشيء عمن مضى فأما تأخير الشيء عنك في المكان فليس بتخليف ، وهو من الخلف الذي هو مقابل لجهة الوجه يقال خلفه أي جعله خلفه فهو مخلف. انتهى والرحب هو السعة التي تقابل الضيق ، وبما رحبت أي برحبها فما مصدرية.

والآيتان وإن كانت كل واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الأخرى فالأولى تبين التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار والثانية تبين توبة الثلاثة المخلفين مضافا إلى أن نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الأولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضا ومدلولا غير أن السياق يدل على أنهما مسوقتان لغرض واحد ومتصلتان كلاما واحدا تبين فيه توبته تعالى للنبي والمهاجرين والأنصار والثلاثة الذين خلفوا ، ومن الدليل عليه قوله : « لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ إلى أن قال : وَعَلَى الثَّلاثَةِ » إلخ فالآية الثانية غير مستقلة عن الأولى بحسب اللفظ وإن استقلت عنها في المعنى ، وذلك يستدعي نزولهما معا وتعلق غرض خاص بهذا الاتصال والامتزاج.

ولعل الغرض الأصلي بيان توبة الله سبحانه لأولئك الثلاثة المخلفين وقد ضم إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لتطيب قلوبهم بخلطهم

٣٩٩

بغيرهم وزوال تميزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتى يعود الجميع على نعت واحد وهو أن الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإن الله سبحانه يبدأ بذكر توبته على النبي والمهاجرين والأنصار ثم يقول : « ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ » وعلى الثلاثة الذين خلفوا ثم يقول : « ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا » فليس إلا أن الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالا ثم أشير إلى حال كل من الفريقين على حدته فذكرت عند ذلك توبته الخاصة به.

ولو كانت كل واحدة من الآيتين ذات غرض مستقل من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكرارا من غير نكتة ظاهرة.

على أن في الآية الأولى دلالة واضحة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن له في ذلك ذنب ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإن في الكلام مدحا للمهاجرين والأنصار باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتى صار متبعا يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيئول معنى الآية إلى أن الله ـ أقسم لذلك ـ تاب ورجع برحمته رجوعا إلى النبي والمهاجرين والأنصار والثلاثة الذين خلفوا فأما توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنهم اتبعوا النبي في ساعة العسرة وزمانها وهو أيام مسيرهم إلى تبوك ـ اتبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحق بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتبعوه تاب الله عليهم إنه بهم لرءوف رحيم.

وأما الثلاثة الذين خلفوا فإنهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت ـ وكان ذلك بسبب أن الناس لم يعاشروهم ولا كلموهم حتى أهلهم فلم يجدوا أنيسا يأنسون به ـ وضاقت عليهم أنفسهم ـ من دوام الغم عليهم ـ وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه بالتوبة والإنابة فلما كان ذلك كله تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم أنه هو التواب ـ كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثم بقبول تلك التوبة ـ والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبين بذلك كله أولا : أن المراد بالتوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله محض الرجوع

٤٠٠