الميزان في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

وفي الدر المنثور ، : في قوله تعالى : « فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ » أخرج الحاكم وصححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه رضي الله عنه قال : افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة ـ ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ـ ثم ارتحل غدوة وروحة ثم نزل ثم هجر.

ثم قال : أيها الناس إني لكم فرط ، وإني أوصيكم بعترتي خيرا موعدكم الحوض ، والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ـ ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا مني أو كنفسي ـ فليضربن أعناق مقاتلهم وليسبين ذراريهم. فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما ـ فأخذ بيد علي رضي الله عنه فقال : هذا.

أقول : يعني ص به الكفر.

وفي تفسير العياشي ، في حديث جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام : « فَإِنْ تابُوا » يعني فإن آمنوا فإخوانكم في الدين.

وفي تفسير القمي ، : في قوله تعالى : « وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ » الآية ـ قال : قال ، اقرأ عليه وعرفه ـ ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه.

وفي تفسير البرهان ، عن ابن شهرآشوب عن تفسير القشيري : أن رجلا قال لعلي يا ابن أبي طالب ـ فمن أراد منا أن يلقي رسول الله في بعض الأمر ـ من بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علي : بلى لأن الله قال : « وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ » الآية.

وفي الدر المنثور ، : في قوله تعالى : « وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ » الآية : أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه : أنهم ذكروا عنده هذه الآية ـ فقال : ما قوتل أهل هذه الآية بعد.

وفيه ، أخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن مردويه عن زيد بن وهب : في قوله : « فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ » قال : كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال : ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ـ ولا من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي : إنكم أصحاب محمد ـ تخبروننا بأمور لا ندري ما هي؟ فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلاقنا؟ قال : أولئك الفساق ، أجل لم يبق منهم إلا أربعة ـ أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده.

١٨١

وفي قرب الإسناد ، للحميري : حدثني عبد الحميد وعبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : دخل علي أناس من أهل البصرة ـ فسألوني عن طلحة والزبير ـ فقلت لهم : كانوا (١) من أئمة الكفر ـ أن عليا يوم البصرة لما صف الخيل ـ قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم ـ حتى أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم.

فقام إليهم فقال : يا أهل البصرة ـ هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا : لا. قال : فحيفا في قسم؟ قالوا : لا. قال : فرغبه في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم ـ فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا : لا ، قال فأقمت فيكم الحدود وعطلتها في غيركم؟ قالوا : لا. قال : فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث ـ إني ضربت الأمر أنفه وعينه ـ فلم أجد إلا الكفر أو السيف.

ثم ثنى إلى أصحابه فقال ـ إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : « وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ـ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ » فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ـ واصطفى محمدا بالنبوة ـ إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا مذ نزلت :

أقول : ورواه العياشي عن حنان بن سدير عنه عليه‌السلام.

وفي أمالي المفيد ، بإسناده عن أبي عثمان مؤذن بني قصي قال : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام حين خرج طلحة والزبير على قتاله : عذرني الله من طلحة والزبير ، بايعاني طائعين غير مكرهين ـ ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ـ ثم تلا هذه الآية : « وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ـ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ـ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ » أقول : ورواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن وأبي الطفيل والحسن البصري : مثله ، ورواه الشيخ في أماليه ، عن أبي عثمان المؤذن. وفي حديثه قال بكير : فسألت عنها أبا جعفر عليه‌السلام ـ فقال : صدق الشيخ هكذا قال علي. هكذا كان.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم

__________________

(١) كانا ظ.

١٨٢

والمسور بن مخرمة قال : كان في صلح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية بينه وبين قريش ـ أن من شاء أن يدخل في عقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعهده دخل فيه ، ومن شاء أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه ـ فتواثبت خزاعة فقالوا : ـ ندخل في عهد محمد وعقده. وتواثبت بنو بكر فقالوا : ندخل في عقد قريش وعهدهم ـ فمكثوا في تلك الهدنة ـ نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا.

ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم ـ وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعهده ـ ليلا بماء لهم يقال له : الوتير قريب من مكة ـ فقالت قريش ما يعلم بنا محمد وهذا الليل ـ وما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح ـ فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله ص.

وركب عمرو بن سالم ـ عند ما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير ـ حتى قدم المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأبيات أنشده إياها :

ـ يا رب (١) إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولدا وكنا والدا

ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

إن سيم خسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا

وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا (٢)

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نصرت يا عمرو بن سالم ـ فما برح حتى مرت غمامة في السماء ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن هذه السحابة لتشهد (٣) بنصر بني كعب ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس بالجهاد وكتمهم مخرجه ، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره ـ حتى يبغتهم في بلادهم.

__________________

(١) في الدر المنثور : لا هم.

(٢) الأبيات منقولة على ما يطابق نسخة السيرة لابن هشام لكثر ـ الغلط في نسخة الدر المنثور

(٣) لتستهل. نسخة سيرة النبي.

١٨٣

أقول : أورد الرواية في الدر المنثور ، بعد ما روي بطرق عن مجاهد وعكرمة أن قصة نقض قريش عهد الحديبية وإعانتهم بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو السبب لنزول قوله تعالى : « أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً » إلى قوله : « وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ » وهم خزاعة.

ولو كان الأمر على ما ذكروا كانت الآية : « أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ » ـ إلى تمام ثلاث آيات بل أربع ـ على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.

لكن القصة التي رواها ابن إسحاق والبيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة لا تصرح بنزول الآيات في ذلك ، وما رواها مجاهد وعكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف والانقطاع ، وسياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها واتصالها بها على ما لا يخفى.

والذي ذكر فيها من قوله : « نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » وإن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز أن تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش وجيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة وهم لاتحادهم مع قريش واتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.

واعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق أهل البيت عليه‌السلام تطبق الآيات على ظهور المهدي عليه‌السلام ، وهي من الجري.

( كلام في معنى العهد وأقسامه وو هي من أحكامه )

قدمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاما في معنى العقد والعهد ونستأنف البيان هاهنا في معنى ما تقدم وما يستتبعه من الأقسام والأحكام بتقرير آخر في فصول :

١ ـ قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الإنسان في مسير حياته لا يزال يصور أعماله وما يتعلق به أعماله من المادة تصور الأمور الكونية ويمثلها بها ويجري بينها أحكام الأمور الكونية وآثارها من القوانين العامة الجارية في الكون بحسب ما يناسب أغراضه الحيوية كما أنه يأخذ مثلا أصواتا متفرقة هي الزاي

١٨٤

والياء والدال ، ويؤلفها بشكل مخصوص ويعمل لفظ « زيد » ثم يفترض أنه زيد الإنسان الخارجي فيسميه به ثم كلما أراد أن يحضر زيدا في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ « زيد » فكان ممثلا لعين زيد عنده ، وحصل بذلك غرضه.

وإذا أراد أن يدير أمرا لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة وافترضهم واحدا كالإنسان الواحد ، وفرض واحدا منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الإنسان ويسميه رئيسا ، وفرض كلا من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذي الأعضاء ويسميه عضوا ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي ، وعلى العضو آثار العضو الخارجي وعلى هذا القياس.

وإلى هذا يئول جميع أفكار الإنسان الاجتماعية بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط من التصورات والتصديقات إذا حللت تحليلا صحيحا كما تئول إليه أنظاره الفردية فيما يرتبط بأعماله وأفعاله.

الإنسان شديد الاهتمام بعقد العقود وتمثيل العهود وما يرتبط بها من الحلف واليمين والبيعة ونحو ذلك ، والعامل الأولي في ذلك أن الإنسان لا هم له إلا التحفظ على حياته والوصول إلى مزاياها والتمتع بالسعادة التي تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.

فأي بغية من مبتغياته وجدها وسلط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من التمتع كالأكل والشرب وغيرهما بما جهز به من أدوات التمتع ، ودفع كل ما يمنعه من التمتع لو عرض هناك مانع عارض ورأى أنه إنما وفق لذلك في ضوء ما أوتيه من السلطة.

وقد أوتي الإنسان سلعة الفكر وبذلك يدبر أمر حياته ويصلح شأن معاشه فيعمل ليومه ويمهد لغده ، وأعماله التي هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك في عين أنها جميعا متوقفة على انبساط سلطته على الفعل وإحاطته بكل ما يتعلق به عمله ، مختلفة في أن بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء وهو جوعان فتناوله فأكله ، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل ، ولا على تمهيد وتقدمة.

وبعضها ـ وهو جل الأعمال الإنسانية الاجتماعية ـ يتوقف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته وعلى زمان قبله فقط أو على زمان قبله وبعده ، لحاجته

١٨٥

إلى مقدمات يمهدها له ، وتدبير سابق يقدمه لوجوده ، فما كل عمل يعمله الإنسان بصدفة ، بل جل الأمور الحيوية من شأنها أن يتهيأ الإنسان له قبل أوانه.

ومن التهيؤ له أن يتهيأ لجمع أسبابه ونظم الوسائل التي يتوسل بها إليه وأن يتهيأ لرفع موانعه التي من شأنها أن تزاحمه في وجوده وعند حصوله ، فالإنسان لا يوفق لعمل ولا ينجح في مسعاه إلا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه الموانع والمزاحمات.

والتنبه لهذه الحقيقة هو الذي بعث الإنسان إلى أن يأخذ أمنا من رقبائه في الحياة : أن يعينوه فيما يحتاج من الأمور إلى معين مشارك ، أو أن لا يمانعوه من العمل فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع وزوالها.

فالإنسان وهو يريد أن يتخذ لباسا يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف ، والأمر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزال والنساج والخياط ومن يصنع لهم أدوات الغزل والنسج والخياطة ، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس ولا ينجح سعيه إلا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء : أن يعملوا على ما يريده ولا يخلوه وحده فيخيب سعيه ويخسر في عمله.

وكذا الإنسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه إلا مع الأمن من ممانعة الناس ومزاحمتهم له في سكناه والتصرف فيه بما يصلح به لذلك.

وهذا هو الذي هدى الإنسان إلى اعتبار العقد وإبرام العهد ، فهو يأخذ ما يريده من العمل ويربطه بما يعينه عليه من عمل غيره ويعقدهما : يمثل به عقد الحبال الذي يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض وعدم تخلف بعضها عن بعض ، ومثله العهد الذي يعهده إليه غيره أن يساعده في ما يريده من الأمر أو أن لا يمانعه في ذلك.

وإلى ذلك يئول أمر عامة العقود لعقد النكاح وعقد البيع والشري وعقد الإجارة ، ويصدق عليها العهد بمعناها العام وهو أن يعطي الإنسان لغيره قولا أو كتابا أن يعينه على كذا أو أن لا يمنعه من كذا إلى أجل مضروب أو لا إلى أجل.

والكلام في المقام في العهد الذي لم يختص باسم خاص كعقد البيع والنكاح وغيرهما من عقود المعاملات فهي خارجة من غرضنا ولها في المجتمعات الإنسانية أحكام

١٨٦

خاصة وآثار وخواص مخصوصة بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الإنسان لغيره من الإعانة أو عدم الممانعة في متفرقات المقاصد الاجتماعية ، وما يجعله لذلك من الآثار كمن يعاهد غيره أن يعطيه كل سنة كذا مالا ليستعين به على حوائجه ، ويأخذ منه كذا مالا أو نفعا ، أو يعاهده أن لا يزاحمه في عمله أو لا يمانعه في مسيره إلى أجل كذا أو لا إلى أجل ، وهو نوع إحكام وإبرام لا ينتقض إلا بنقض أحد الطرفين أو بنقضهما معا.

وربما زيد على إحكام العهد بالحلف وهو أن يقيد المعاهد ما يعطيه من العهد ويربطه بأمر عظيم شأنه يقدسه ويحترمه كأنه يجعل ما له من الحرمة والعزة رهنا يرهن به عهده يمثل به أنه لو نقضه فقد أذهب حرمته يقول المعاهد : والله لا أخوننك ، ولعمري لأساعدنك ، وأقسم لأنصرنك ، يمثل به أنه لو أخلف وعده ونقض عهده فقد أبطل حرمة ربه ، أو حرمة عمره أو حرمة قسمه فلا مروة له.

وربما أبرم العهد والميثاق بالبيعة والصفقة يضع المعاهد يده في يد معاهده يمثل به أنه أعطاه يده التي بها يفعل ما يفعل فلا يفعل ما يكره معاهده لأن يده قبضة يده.

٢ ـ العهود والمواثيق كما تمسها حياة الإنسان الذي هو فرد المجتمع كذلك تمسها حياة المجتمع فليس المجتمع إلا المجتمع من أفراد الإنسان ، حياته مجموع حياة أجزائه ، وأعماله الحيوية مجموع أعمال أجزائه وله من الخير والشر والنفع والضر والصحة والسقم والنشوء والرشد والاستقامة والانحراف والسعادة والشقاوة والبقاء والزوال مجموع ما لأجزائه من ذلك.

فالمجتمع إنسان كبير له من مقاصد الحياة ما للإنسان الصغير ، ونسبة المجتمع إلى المجتمع تقرب من نسبة الإنسان الفرد إلى الإنسان الفرد فهو يحتاج في ركوب مقاصده وإتيان أعماله من الأمن والسلامة إلى مثل ما يحتاج إليه الإنسان الفرد بل الحاجة فيه أشد وأقوى لأن العمل يعظم بعظمة فاعله وعظمة غرضه ، والمجتمع في حاجة إلى الأمن والسلام من قبل أجزائه لئلا يتلاشى ويتفرق ، وإلى الأمن والسلام من قبل رقبائه من سائر المجتمعات.

وعلى هذا جرى ديدن المجتمعات الإنسانية على ما بأيدينا من تاريخ الأمم والأقوام الماضية ، وما نسمعه أو نشاهده من الملل الحاضرة فلم يزل ولا يزال المجتمع من المجتمعات الإنسانية في حاجة قائمة إلى أن يعاهد غيره في بعض شئون حياته السياسية والاقتصادية

١٨٧

أو الثقافية أو غيرها ، فلا يصفو الجو للإقدام على شيء من مقاصد الحياة أو التقدم في شيء من مآربها إلا بالاعتضاد بالأعضاد والأمن من معارضة الموانع.

٣ ـ الإسلام بما أنه متعرض لأمر المجتمع كالفرد ، ويهتم بإصلاح حياة الناس العامة كاهتمامه بإصلاح حياة الفرد الخاصة قنن فيه كليات ما يرجع إلى شئون الحياة الاجتماعية كالجهاد والدفاع ومقاتلة أهل البغي والنكث والصلح والسلم والعهود والمواثيق وغير ذلك.

والعهد الذي نتكلم فيه قد اعتبره اعتبارا تاما وأحكمه إحكاما يعد نقضه من طرف أهله من أكبر الإثم إلا أن ينقضه المعاهد الآخر فيقابل بالمثل فإن الله سبحانه أمر بالوفاء بالعهود والعقود ، وذم نقض العهود والمواثيق ذما بالغا في آيات كثيرة جدا قال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » المائدة : ـ ١ ، وقال : « وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ـ إلى أن قال ـ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ » الرعد : ـ ٢٥ ، وقال : « وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً » إسراء : ـ ٣٤ إلى غير ذلك.

ولم يبح نقض العهود والمواثيق إلا فيما يبيحه حق العدل وهو أن ينقضه المعاهد المقابل نقضا بالبغي والعتو أو لا يؤمن نقضه لسقوطه عن درجة الاعتبار ، وهذا مما لا اعتراض فيه لمعترض ولا لوم للائم ، قال تعالى : « وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ » الأنفال : ـ ٥٨ فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة ولم يرض بالنقض من غير إخبارهم به واغتيالهم وهم غافلون دون أن قال : « فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ » فأوجب أن يخبروهم بالنقض المتقابل احترازا من رذيلة الخيانة.

وقال : « بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ » براءة : ـ ٢ فلم يرض بالبراءة دون أن وسع عليهم أربعة أشهر حتى يكونوا على مهل من التفكر في أمرهم والتروي في شأنهم فيروا رأيهم على حرية من الفكر فإن شاءوا آمنوا ونجوا وإن لم يشاءوا قتلوا وفنوا ، وقد كان من حسن أثر هذا التأجيل أن آمنوا فلم يفنوا.

وقد تمم سبحانه هذه الفائدة أحسن إتمام بقوله بعد إعلام البراءة : « وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ » التوبة : ـ ٦.

وقال مستثنيا الموفين بعهدهم من المشركين : « كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ

١٨٨

اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ » التوبة : ـ ٨ وقد علل الاستقامة لمن استقام بأنه من التقوى ـ ذاك التقوى الذي لا دعوة في الدين إلا إليه ـ وإن الله يحب المتقين ، وهذا تعليل حي إلى يوم القيامة.

وقال تعالى : « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » البقرة : ـ ١٩٤ وقال : « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ » المائدة : ـ ٢.

وأما النقض الابتدائي من غير نقض من العدو المعاهد فلا مجوز له في هذا الدين الحنيف أصلا ، وقد تقدم قوله تعالى : « فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ » الآية وقال : « وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » البقرة : ـ ١٩٠.

وعلى ذلك جرى عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيام حياته فقد عاهد بني قينقاع وبني قريظة وغيرهم من اليهود ولم ينقض إلا بعد ما نقضوا ، وعاهد قريشا في الحديبية ولم ينقض حتى نقضوا بإظهار بني بكر على خزاعة وقد كانت خزاعة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبنو بكر في عهد قريش.

وأما النقض من غير نقض فلا مبيح له في الإسلام وإن كان الوفاء مما يفوت على المسلمين بعض منافعهم ، ويجلب إليهم بعض الضرر وهم على قدرة من حفظ منافعهم بالبأس والقوة أو أمكنهم الاعتذار ببعض ما تصور لهم الحجة ظاهرا وتصرف عنهم اللوم والعذل فإن مدار الأمر على الحق ، والحق لا يستعقب شرا ولا ضرا إلا على من انحرف عنه وآوى إلى غيره.

٤ ـ المجتمعات الإنسانية سيما الراقية المتمدنة منها غير المجتمع الديني لا هدف لاجتماعهم ولا غرض لسننهم الجارية إلا التمتع من مزايا الحياة المادية ما قدروا عليه فلا موجب لهم للتحفظ على شيء أزيد مما بأيديهم من القوانين العملية الناظمة لشتات مقاصدهم الحيوية.

ومن الضروري أن الظرف الذي هذا شأنه لا قيمة فيها للمعنويات إلا بمقدار

١٨٩

ما يوافق المقاصد الحيوية المادية فالفضائل والرذائل المعنوية كالصدق والفتوة والمروة ونشر الرحمة والرأفة والإحسان وأمثال ذلك لا اعتبار لها إلا بمقدار ما درت بها منافع المجتمع ، ولم يتضرروا بها لو لم تعتبر ، وأما فيما ينافي منافع القوم فلا موجب للعمل بها بل الموجب لخلافها.

ولذلك ترى المؤتمرات الرسمية وأولياء الأمور في المجتمعات لا يرون لأنفسهم وظيفة إلا التحفظ على منافع المجتمع الحيوية ، وما يعقد فيها من العهود والمواثيق إنما يعقد على حسب مصلحة الوقت ، ويوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوة والعدة ، وما عليه المعاهد المقابل من القوة والعدة في نفسه وبما يضاف إليه من سائر المقتضيات المنضمة إليه المعينة له.

فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله ، وإذا مالت كفة الميزان للدولة المعاهدة على خصمه أبطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة واتهامات مفتعلة للتوسل إلى نقضه ، وإنما يراد بتقديم الأعذار أن يتحفظ على ظاهر القوانين العالمية التي لا عقبى لنقضها والتخلف عنها إلا ما يهدد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم ، ولو لا ذلك لم يكن ما يمنع النقض ولو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوى الحيوية.

وأما الكذب أو الخيانة أو التعدي لما يتخذه الغير منافع لنفسه فليس مما يمنع مجتمعا من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعا لشأنه إذ الأخلاق والمعنويات لا أصالة لها عندهم وإنما تعتبر على حسب ما تقدره غاية المجتمع وغرضه الحيوي وهو التمتع من الحياة.

وأنت إذا تتبعت الحوادث العامة بين المجتمعات سابقها ولاحقها وخاصة الحوادث العالمية الجارية في هذا العصر الأخير عثرت على شيء كثير من العهود الموثقة ونقوضها على ما وصفناه.

وأما الإسلام فلم يعد حياة الإنسان المادية حياة له حقيقية ، ولا التمتع من مزاياها سعادة له واقعية ، وإنما يرى حياته الحقيقية حياته الجامعة بين المادة والمعنى ، وسعادته الحقيقية اللازم إحرازها ما يسعده في دنياه وأخراه.

ويستوجب ذلك أن يبنى قوانين الحياة على الفطرة والخلقة دون ما يعده الإنسان صالحا لحال نفسه ، ويؤسس دعوته الحقة على اتباع الحق والاهتداء به دون اتباع الهوى

١٩٠

والاقتداء بما يميل إليه الأكثرية بعواطفهم وإحساساتهم الباطنة قال تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » : الروم : ـ ٣٠ وقال : « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ (١) الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » التوبة : ـ ٣٣ ، وقال : « بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ » المؤمنون : ـ ٩٠ ، وقال : « وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ » المؤمنون : ـ ٧١.

ومن لوازم ذلك أن يراعى حق الاعتقاد وفضيلة الخلق وصالح العمل جميعا فلا غنى للمادة عن المعنى ولا غنى للمعنى عن المادة فمن الواجب رعاية جانب الفضائل الإنسانية نفعت أو ضرت والتجنب عن الرذائل نفعت أو ضرت لأن ذلك من اتباع الحق ، وحاشا أن يضر إلا من انحرف عن ميزانه وتخطى ما يخط له الحق.

ومن هنا ما نرى أن الله سبحانه ينقض عهد المشركين لنقضهم عهده ويستعمل الرحمة بإمهالهم أربعة أشهر ، ويأمر بالاستقامة لمن استقام في عهده من المشركين وقد استذلهم الحوادث يومئذ وضعفوا دون شوكة الإسلام ، وكذا يأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله إن خاف من قوم خيانة أن ينقض عهدهم لكن يأمره بإعلامهم ذلك ويعلله بأنه لا يحب الخيانة.

( كلام في نسبة الأعمال إلى الأسباب طولا )

تقدم في مواضع من هذا الكتاب أن الذي تنتجه الأبحاث العقلية أن الحوادث كما أن لها نسبة إلى أسبابها القريبة المتصلة بها كذلك لها نسبة إلى أسبابها القصوى التي هي أسباب لهذه الأسباب فالحوادث أفعال لها في عين أنها من أفعال أسبابها القريبة المباشرة للعمل فإن الفعل كالحركة مثلا يتوقف على فاعله المحرك ويتوقف على محرك محركه بعين ما يتوقف على محركه ، نظير العجلة المحركة للأخرى المحركة لثالثة وليست من الحركة بالعرض.

فللفعل نسبة إلى فاعله ، وله انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة التي إلى فاعله لا بنسبة أخرى منفصلة عنها مستقلة بنفسها غير أنه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل عاد الفاعل القريب بمنزلة الإله بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها

__________________

(١) ظاهر الآية كون الإضافة حقيقية لا من إضافة الموصوف إلى صفته.

١٩١

في العمل بمعنى أنه لا يستغني في تأثيره عن فاعل الفاعل إذ فرض عدمه يساوق انعدام الفاعل وانعدام أثره.

وليس من شرط الواسطة أن تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة فإن الشعور الذي يؤثر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه وإنما أوجده فيه فاعله الذي أوجد الفاعل وشعوره ، وكذلك الاختيار لم يوجده الفاعل المختار لنفسه وإنما أوجده الفاعل الذي أوجد الفاعل المختار ، وكما يتوقف الفعل في غير موارد الشعور والاختيار إلى فاعله ، ويتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله ، كذلك يتوقف الفعل الشعوري والفعل الاختياري إلى فاعله ويتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله الذي أوجد لفاعله الشعور والاختيار.

ففاعل الفاعل الشاعر أو المختار أراد من الفاعل الشاعر أو المختار أن يفعل من طريق شعوره فعلا كذا أو يفعل باختياره فعلا اختياريا كذا فقد أريد الفعل من طريق الاختيار لأنه أريد الفعل وأهمل الاختيار الذي ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا تزل قدم بعد ثبوتها.

وعلى هذه الحقيقة يجري الناس بحسب فهمهم الغريزي فينسبون الفعل إلى السبب البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما أنه أثر مترشح منه يقال : بنى فلان دارا ، وحفر بئرا وإنما باشر ذلك البناء والحفار ، ويقال : جلد الأمير فلانا ، وقتل فلانا ، وأسر فلانا ، وحارب قوما كذا ، وإنما باشر الجلد جلاده ، والقتل سيافه ، والأسر جلاوزته ، والمحاربة جنده ، ويقال ، أحرق فلان ثوب فلان ، وإنما أحرقه النار ، وشفى فلان مريضا كذا وإنما شفاه الدواء الذي ناوله وأمره بشربه واستعماله.

ففي جميع ذلك يعتبر أمر الآمر أو توسل المتوسل تأثيرا منه في الفاعل القريب ثم ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد ، وليس أصل النسبة إلا نسبة حقيقة من غير مجاز قطعا.

ومن قال من علماء الأدب وغيرهم إن ذلك كله من المجاز في الكلمة لصحة سلب الفعل عن الفاعل البعيد فإن مالك البناء لم يضع لبنة على لبنة وإنما هو شأن البناء الذي باشر العمل! إنما أراد الفعل بخصوصية صدوره عن الفعل المباشر ومن المسلم أن المباشرة إنما هو شأن الفاعل القريب ، ولا كلام لنا فيه ، وإنما الكلام فيما يتصور له

١٩٢

من الوجود المتوقف إلى فاعل موجد ، وهذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل.

واعتبار هذه النكتة هو الذي أوجب لهم أن يميزوا بين الأعمال وينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب والبعيد معا ، ولا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة والاتصال بالعمل كالأكل بمعنى الالتقام والبلع والشرب بمعنى المص والتجرع والقعود بمعنى الجلوس ونحو ذلك لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاء كذا ويشرب شرابا كذا ويقعد على كرسي كذا ، قيل : أكل الخادم وشرب وقعد ولا يقال : أكله سيده وشربه وقعد عليه ، وإنما يقال : تصرف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا ونحو ذلك لما ذكرناه.

وأما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة والحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل والأسر والإحياء والإماتة والإعطاء والإحسان والإكرام ونظائر ذلك فإنها تنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السوية بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجودا وأشد سلطة وإحاطة.

فهذا ما ينتجه البحث العقلي ويجري عليه الإنسان بفهمه الغريزي ، والقرآن الكريم يصدق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى في الآيات السابقة : « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ » الآيتان. حيث نسب التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه بجعل أيديهم بمنزلة الآلة.

ونظيره قوله تعالى : « وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ » الصافات : ـ ٩٦ فإن المراد بما تعملون إما الأصنام التي كانوا يعملونها من الحجارة أو الأخشاب أو الفلزات فإنما أريد به المادة بما عليها من عمل الإنسان ففيه نسبة الخلق إلى الأعمال كنسبته إلى فواعلها ، وأما نفس الأعمال فالأمر أوضح.

ويقرب من ذلك قوله تعالى : « وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ »

١٩٣

الزخرف ـ ١٢ ، ففيه نسبة الخلق إلى الفلك والفلك بما هي من عمل الإنسان.

هذا فيما نسب فيه الخلق إلى الأعمال الصادرة عن الشعور والإرادة ، وأما الأفعال التي لا تتوقف في صدورها على شعور وإرادة كالأفعال الطبيعية فقد ورد نسبتها إلى الله سبحانه في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إحصائها كإحياء الأرض وإنبات النبات وإخراج الحب وإمطار السماء وإجراء الأنهار وتسيير الفلك التي تجري في البحر بأمره إلى غير ذلك.

ولا منافاة في جميع هذه الموارد بين انتساب الأمر إليه تعالى وانتسابه إلى غيره من الأسباب والعلل الطبيعية وغيرها إذ ليست النسبة عرضية تزاحم إحدى النسبتين الأخرى بل هي طولية لا محذور في تعلقها بأزيد من طرف واحد.

وقد تقدم في مطاوي أبحاثنا السابقة دفع ما اشتبه على الماديين من إسناد الحوادث العامة كالسيول والزلازل والجدب والوباء والطاعون إلى الله سبحانه مع الحصول على أسبابها الطبيعية اليوم حيث خلطوا بين العلل والأسباب العرضية والطولية ، وحسبوا أن استنادها إلى عللها الطبيعية يبطل ما أثبته الكتاب العزيز وأذعن به الإلهيون من استنادها إلى مسبب الأسباب الذي إليه يرجع الأمر كله.

وللأشاعرة والمعتزلة بحث غريب في الآية السابقة : « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ » وما يناظرها من الآيات ، أورده الرازي في تفسيره نورده ملخصا.

قال : استدلت الأشاعرة بقوله تعالى : « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ » الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله ، وأن الناس مجبرون في أفعالهم غير مختارين فإن الله سبحانه يخبر فيها أنه هو الذي يعذب المشركين بقتل بعضهم وجرح آخرين بأيدي المؤمنين ويدل ذلك على أن أيدي المؤمنين كسيوفهم ورماحهم آلات محضة لا تأثير لها أصلا وإنما الفعل لله سبحانه ، وأن الكسب الذي يعد مناطا للتكليف اسم لا مسمى له.

وهذه الآية أقوى دلالة على المطلوب من دلالة مثل قوله تعالى : « وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى » إذ فيه إثبات الرمي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وإن كان مع ذلك نفي عنه ـ وإثبات لإسناده إلى الله سبحانه لكن الآية أعني قوله : « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ » إثبات للتعذيب على الله سبحانه وجعل أيدي المؤمنين التي لهم آلات

١٩٤

في الفعل لا تأثير لها وفيها أصلا.

وأجاب عنه الجبائي من المعتزلة : بأنه لو جاز أن يقال : إن الله يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين بحقيقة ما ادعي له من المعنى لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين ، وأنه تعالى يكذب أنبياءه بألسنتهم ، ويلعن المؤمنين ويسبهم بأفواههم لأنه تعالى خالق لذلك كله ، وإذ لم يجز ذلك علمنا أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد ، وإنما أعمالهم خلق أنفسهم.

وبذلك يعلم أن إسناد التعذيب في الآية إليه تعالى بنوع من التوسع لأنه إنما تحقق عن أمره ولطفه كما أنه تعالى ينسب جميع الطاعات والحسنات إلى نفسه لتحققها عن أمره وتوفيقه.

وأجاب عنه الرازي بأن أصحابنا يلتزمون جميع ما ألزم به الجبائي وأصحابه من لزوم إسناد القبائح إليه تعالى ويعتقدون به لبا وإن كانوا لا ينطقون به لسانا أدبا مع الله سبحانه ، انتهى ملخصا.

والأبحاث التي قدمناها في هذا الكتاب حول هذه المعاني تكفي لإيضاح الحق وإنارته في هذا المقام ، والكشف عما وقع فيه الفريقان جميعا.

أما ما ذكرته الأشاعرة والتزموا به فإنما أوقعهم في ذلك ما ذهبوا إليه من نفي رابطة العلية والمعلولية من بين الأشياء وقصرها فيما بينه تعالى وبين خلقه عامة فلا سبب في الوجود لا استقلالا ولا بالوساطة غيره تعالى ، وأما رابطة السببية التي بين الأشياء أنفسها فإنما هي سببية بالاسم فقط لا بالحقيقة ، وإنما هي العادة الإلهية جرت بإيجاد ما نسميها مسببات عقيب ما نسميها أسبابا فما بينها وبينه تعالى سببية حقيقية ، وما بينها أنفسها يعود إلى الاتفاق الدائم أو الأكثري.

ولازم ذلك إبطال العلية والسببية من أصلها ، وببطلانها يبطل ما أثبتوه من انحصار السببية فيه تعالى إذ لو جاز أن يكون نسبة كل شيء إلى كل شيء نسبة واحدة من غير اختلاف بالتأثير والتأثر لم يبق للإنسان ما يتنبه به لأصل معنى السببية فلا سبيل له إلى إثبات سببيته تعالى لكل شيء.

على أن الإنسان يترقب حوادث من حوادث أخرى ، ويقطع بالنتائج عن

١٩٥

مقدماتها ويبني حياته على التعليم والتربية ، وعلى تقديم الأسباب طمعا في مسبباتها سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف ، ولا يتم له شيء من ذلك إلا عن إذعان فطري بأصل العلية والمعلولية ، ولو أجازت الفطرة الإنسانية بطلان ذلك وجريان الحوادث على مجرد الاتفاق اختل نظام حياته ببطلان سعيه الفكري والعملي ، وانسد طريق إثبات سبب ما فوق طبيعة الحوادث.

على أن الكتاب العزيز يجري في بياناته على تصديق أصل العلية والمعلولية ، وينسب كل حسنة إليه تعالى وينفي استناد السيئات والمعاصي إليه ويسميه بكل اسم أحسن ويصفه بكل وصف جميل ، وينفي عنه كل هزل وعبث ولغو ولهو وجزاف ، ولا يتم شيء من ذلك إلا على أصل العلية والمعلولية ، وقد تقدم في الأبحاث السابقة ما يتبين به ذلك كله.

وقد ذهب طائفة من الماديين وخاصة أصحاب المادية المتحولة إلى عين ما ذهب إليه الأشاعرة من ثبوت الجبر ونفي الاختيار عن الأفعال الإنسانية ، وإنما الفارق بين قولي الطائفتين هو أن الأشاعرة بنوا ذلك على سببية الواجب تعالى المنحصرة واستنتجوا من ذلك بطلان السببية الاختيارية وانتفاءها عن الإنسان ، والماديون بنوه على معلولية الأفعال الإنسانية لمجموع الحوادث المحتفة بالفعل التي هي علة حدوثه ، ولا معنى للعلية إلا بالإيجاب ، فالإنسان موجب في فعله مجبر عليه.

وقد فات منهم أن الذي نسبة المعلول إليه بالإيجاب إنما هو العلة التامة ، وهي مجموع الحوادث المتقدمة على المعلول التي لا يتوقف هو في وجوده على شيء وراءها ، وبوجودها جميعا لا يبقى له إلا أن يوجد ، وأما بعض أجزاء العلة التامة فإنما نسبة المعلول إليه بالإمكان لا بالوجوب لتوقف وجوده على أشياء أخر وراءه فلا يتحقق بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقف عليه وجوده حتى يعود واجبا وجوده.

والأفعال الإنسانية يتوقف في وجودها على الإنسان وإرادته وعلى أمور غير محصورة أخرى من المادة والشرائط الزمانية والمكانية فهي إذا نسب إليها جميعا كانت النسبة الحاصلة نسبة الوجوب والضرورة ، وأما إذا نسبت إلى الإنسان وحده أو إلى الإنسان المريد فقد نسبت إلى جزء العلة التامة وعادت النسبة إلى الإمكان دون الوجوب ، فالأفعال الإرادية الإنسانية اختيارية أي أنه يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل فإن فعل

١٩٦

فبمشيته وإرادته ، وإن لم يفعل فلم يختره ولم يرده وإنما اختار وأراد شيئا آخر ، لكنها لا تقع في الخارج إلا واجبة لاستنادها حينئذ إلى جميع أجزاء عللها.

فهؤلاء خلطوا في كلامهم بين النسبتين فوضعوا النسبة الوجوبية التي للفعل إلى مجموع أجزاء علتها التامة موضع النسبة الإمكانية التي للفعل إلى بعض أجزاء علته التامة وهي التي تسمى في الإنسان بالاختيار على نحو من العناية.

وأما ما ذكره المعتزلة أنه لو جاز كونه تعالى هو الفاعل للفعل الذي أتى به المؤمنون وهو التعذيب ، وليس لهم إلا مقام الآلية المحضة من غير تأثير لجاز إسناد تعذيب الكفار للمؤمنين وتكذيبهم للأنبياء ولعنهم المؤمنين أيضا إليه ، وهو باطل قطعا فأفعال العباد مخلوقة لهم لا صنع لله تعالى فيها.

ففيه أن الملازمة حقة لكن بطلان التالي لا يستلزم كون الأفعال مخلوقة لهم لا نسبة لها إلى الله سبحانه أصلا لجواز كونها منسوبة إليه تعالى بعين ما ينتسب به إليهم فإنهم فاعلون لها وهو فاعل الفاعلين فينتسب إليهم بالصدور عن الفاعل المباشر ، وينتسب إليه بالصدور عن الفاعل الذي هو فاعله والنسبتان في الحقيقة نسبة واحدة مختلفة بالقرب والبعد وانتفاء الواسطة وثبوتها ، ولا يستلزم ذلك اجتماع فاعلين مستقلين على فعل واحد لكونهما طوليين لا عرضيين.

فإن قلت : فيبقى محذور استناد الحسنات والسيئات والإيمان والكفر إليه تعالى في محله.

قلت : كلا وإنما ينتسب إليه أصل وجودها ، وأما عنوان الفعل الذي يشير إلى جهة قيام الحركة والسكون بالموضوع المتحرك كالنكاح والزنا والأكل المحرم والمحلل فإنما ينسب إلى الإنسان لكونه هو الموضوع المادي الذي يتحرك بهذه الحركات : وأما الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركته وليس بنفسه متحركا بها وإنما يوجدها إيجادا إذا تمت شرائطها وأسبابها فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بالإنسان.

نعم هناك عناوين عامة لا تستتبع معنى الحركة والمادة ، لا مانع من إسنادها إلى الإنسان وإليه سبحانه إذا لم يستلزم محذورا كالهداية والإضلال إذا لم يكن إضلالا ابتدائيا ، وكالتعذيب والابتلاء ، فقتل المؤمن للكافر تعذيب إلهي للكافر ، وقتل

١٩٧

الكافر للمؤمن بلاء حسن للمؤمن يستوجب به أجرا حسنا عند الله ، وعلى هذا القياس.

على أن الذي ذهب إليه المعتزلة يوقعهم فيما وقعت فيه الأشاعرة وهو انسداد طريق إثبات الصانع عليهم فإنه لو جاز أن يوجد في العالم حادث من الحوادث عن سبب له وينقطع عما وراء سببه ذلك انقطاعا تاما لا تأثير له فيه جاز في كل ما فرض من الحوادث أن يستند إلى ما يليه من غير أن يرتبط بشيء آخر وراءه ، ومن الجائز أن يفنى الفاعل ويبقى أثره فمن الجائز أن يستند كل ما فرض معلولا إلى فاعل له غير واجب الوجود ومن الجائز أن يستند كل عالم مفروض إلى عالم قبله هو فاعله وقد فنى قبله على ما هو المشهود من حوادث هذا العالم المولد بعضها بعضا : والمتولد بعضها من بعض ، ولا يلزم محذور التسلسل لعدم تحقق سلسلة ذات أجزاء في وقت من الأوقات إلا في الذهن.

وفي كلامهم مفاسد كثيرة أخرى مبينة في المحل المربوط به ، وقد تقدم في الكلام على نسبة الخلق إليه تعالى في الجزء السابع من الكتاب ما ينفع في هذا المقام.

وكيف يسع لمسلم موحد أن يثبت مع الله سبحانه خالقا آخر بحقيقة معنى الخلق والإيجاد وقد قال الله سبحانه : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » : المؤمن : ـ ٦٢ وقد كرر ذلك في كلامه ، وليس في تجاهه إلا نسبة أفعال الإنسان إليه من غير قطع رابطتها إليه تعالى بل مع إثبات النسبة بدليل آيات القدر ودلالة العقل على أن لفعل الفاعل نسبة إلى فاعل فاعله بحسب ما يليق بساحته.

فالحق أن للأفعال الإنسانية نسبة إلى فواعلها بالمباشرة ، ونسبة إليه تعالى بما يليق بساحة قدسه ، قال تعالى : « كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » إسراء : ـ ٢٠.

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ

١٩٨

وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤).

( بيان )

آيات تبين أن الأعمال إنما تكون حية مرضية إذا صدرت عن حقيقة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وإلا فإنما هي حبط لا تهدي صاحبها إلى سعادة ، وإن من لوازم الإيمان بحقيقته قصر الولاية والحب والوداد في الله ورسوله.

وهي ظاهرة الاتصال والارتباط فيما بينها أنفسها ، وأما اتصالها بما تقدمها من الآيات فليس بذاك الوضوح ، وما ذكره بعض المفسرين في وجه اتصالها بما قبلها لا يخلو من تكلف.

١٩٩

قوله تعالى : « ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ » العمارة ضد الخراب يقال : عمر الأرض إذا بنى بها بناء ، وعمر البيت إذا أصلح ما أشرف منها على الفساد ، والتعمير بمعناه ومنه العمر لأنه عمارة البدن بالروح ، والعمرة بمعنى زيارة البيت الحرام لأن فيها تعميره.

والمسجد اسم مكان بمعنى المحل الذي يتعلق به السجدة كالبيت الذي يبنى ليسجد فيه الله تعالى ، وأعضاء السجدة التي تتعلق بها السجدة نوع تعلق وهي الجبهة والكفان والركبتان ورءوس إبهامي القدمين.

وقوله : « ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ » الآية لنفي الحق والملك فإن اللام للملك والحق ، والنفي الحالي للكون السابق يفيد أنه لم يتحقق منهم سبب سابق يوجب لهم أن يملكوا هذا الحق وهو حق أن يعمروا مساجد الله ويرموا ما استرم منها أو يزوروها كقوله تعالى : « ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى » الأنفال : ـ ٦٧ وقوله : « وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ » آل عمران : ـ ١٦١.

والمراد بالعمارة في قوله : « أَنْ يَعْمُرُوا » إصلاح ما أشرف على الخراب من البناء ورم ما استرم منه دون عمارة المسجد بالزيارة فإن المراد بمساجد الله هي المسجد الحرام وكل مسجد لله ولا عمرة في غير المسجد الحرام ، والدخول في المساجد للعبادة فيها وإن أمكن أن يسمى عمارة وزيارة لكن التعبير المعهود من القرآن فيه الدخول.

على أن في قوله في الآية الآتية : « أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » تأييدا ما لكون المراد بالعمارة هو إصلاح البناء دون زيارة البيت الحرام.

والمراد بمساجد الله بيوت العبادة المبنية لله لكن السياق يدل على أن المراد نفي جواز عمارتهم للمسجد الحرام ، ويؤيده قراءة من قرأ « أن يعمروا مسجد الله » بالإفراد.

ولا ضير في التعبير بالجمع والمقصود الأصيل بيان حكم فرد خاص من أفراده لأن الملاك عام ، والتعليل الوارد في الآية غير مقيد بخصوص المسجد الحرام فالكلام في معنى : ما كان لهم أن يعمروا المسجد الحرام لأنه مسجد والمساجد من شأنها ذلك.

وقوله : « شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ » المراد بالشهادة أداؤها وهو الاعتراف إما قولا كمن يعترف بالكفر لفظا ، وإما فعلا كمن يعبد الأصنام ويتظاهر بكفره

٢٠٠