الميزان في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

إن المراد كون بعضهم أثر بعض ، وكذا ما قيل : إن المراد مجيئهم على أثر المسلمين بأن يكون مردفين بمعنى رادفين ، وكذا ما قيل : إن المراد إردافهم المسلمين بأن يتقدموا عسكر المسلمين فيلقوا في قلوب الذين كفروا الرعب.

قوله تعالى : « وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » الضميران في قوله : « جَعَلَهُ » وقوله : « بِهِ » للإمداد بالملائكة على ما يدل عليه السياق ، والمعنى أن الإمداد بالملائكة إنما كان لغرض البشرى واطمئنان نفوسكم لا ليهلك بأيديهم الكفار كما يشير إليه قوله تعالى بعد : « إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ».

وبذلك يتأيد ما ذكره بعضهم : أن الملائكة لم ينزلوا ليقتلوا المشركين ولا قتلوا منهم أحدا فقد قتل ثلث المقتولين منهم أو النصف علي عليه‌السلام والثلثين الباقين أو النصف سائر المسلمين. وإنما كان للملائكة تكثير سواد المسلمين حينما اختلطوا بالقوم وتثبيت قلوب المسلمين ، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وسيجيء بعض الكلام في ذلك.

وقوله : « وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى وأنه لو كان بكثرة العدد والقوة والشوكة كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة والقوة على المسلمين على ما بهم من القلة والضعف.

وقد علل بقوله : « إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » جميع مضمون الآية وما يتعلق به من الآية السابقة فبعزته نصرهم وأمدهم ، وبحكمته جعل نصره على هذه الشاكلة.

قوله تعالى : « إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ » إلى آخر الآية. النعاس أول النوم وهو خفيفة والتغشية الإحاطة ، والأمنة الأمان ، وقوله : « أَمَنَةً » أي من الله وقيل : أي من العدو ، والرجز هو الرجس والقذارة ، والمراد برجز الشيطان القذارة التي يطرأ القلب من وسوسته وتسويله.

ومعنى الآية : أن النصر والإمداد بالبشرى واطمئنان القلوب كان في وقت يأخذكم النعاس للأمن الذي أفاضه الله على قلوبكم فنمتم ولو كنتم خائفين مرتاعين لم

٢١

يأخذكم نعاس ولا نوم ، وينزل عليكم المطر ليطهركم به ويذهب عنكم وسوسة الشيطان وليربط على قلوبكم ويشد عليها ـ وهو كناية عن التشجيع ـ وليثبت بالمطر أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل أو بثبات القلوب.

والآية تؤيد ما ورد أن المسلمين سبقهم المشركون إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل ، وأصبحوا محدثين ومجنبين ، وأصابهم الضمأ ، ووسوس إليهم الشيطان فقال : إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء ، وأنتم تصلون مع الجنابة والحدث وتسوخ أقدامكم في الرمل فأمطر عليهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة ، وتطهروا به من الحدث ، وتلبدت به أرضهم ، وأوحلت أرض عدوهم.

قوله تعالى : « إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ » إلى آخر الآية حال الظرف في أول الآية كحال الظرف في قوله : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ » وقوله : « إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ » ومعنى الآية ظاهر.

وأما قوله : « فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ » فالظاهر أن يكون المراد بفوق الأعناق الرءوس وبكل بنان جميع الأطراف من اليدين والرجلين أو أصابع الأيدي لئلا يطيقوا حمل السلاح بها والقبض عليه.

ومن الجائز أن يكون الخطاب بقوله : « فَاضْرِبُوا » إلخ للملائكة كما هو المتسابق إلى الذهن ، والمراد بضرب فوق الأعناق وكل بنان ظاهر معناه ، أو الكناية عن إذلالهم وإبطال قوة الإمساك من أيديهم بالإرعاب ، وأن يكون الخطاب للمؤمنين والمراد به تشجيعهم على عدوهم بتثبيت أقدامهم والربط على قلوبهم ، وحثهم وإغراؤهم بالمشركين.

قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ » المشاقة المخالفة وأصله الشق بمعنى البعض كأن المخالف يميل إلى شق غير شق من يخالفه ، والمعنى أن هذا العقاب للمشركين بما أوقع الله بهم ، لأنهم خالفوا الله ورسوله وألحوا وأصروا على ذلك ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب.

قوله تعالى : « ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ » خطاب تشديدي للكفار يشير إلى ما نزل بهم من الخزي ويأمرهم بأن يذوقوه ، ويذكر لهم أن وراء ذلك عذاب النار.

٢٢

( بحث روائي )

في المجمع ، قال ابن عباس : لما كان يوم بدر واصطف القوم للقتال قال أبو جهل : اللهم أولانا بالنصر فانصره ، واستغاث المسلمون فنزلت الملائكة ونزل قوله : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ » إلى آخره.

وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نظر إلى كثرة عدد المشركين ـ وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال : اللهم أنجز لي ما وعدتني ـ اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ـ فما زال يهتف ربه مادا يديه ـ حتى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ » الآية : عن عمر بن الخطاب والسدي وأبي صالح وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

قال : ولما أمسى رسول الله وجنه الليل ـ ألقى الله على أصحابه النعاس ـ وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل ـ لا تثبت فيه قدم فأنزل الله عليهم المطر رذاذا ـ حتى لبد الأرض وثبت أقدامهم ـ وكان المطر على قريش مثل العزالي ، وألقى الله في قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى : « سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ».

أقول : لفظ الآية : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ » إلخ لا يلائم نزولها يوم بدر عقيب استغاثتهم بل السياق يدل على نزولها مع قوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ » والآيات التالية له ، وهي تدل على حكاية حال ماضية وامتنانه تعالى على المسلمين بما أنزل عليهم من آيات النصر وتفاريق النعم ليشكروا له ويطيعوه فيما يأمرهم وينهاهم.

ولعل المراد من ذكر نزول الآية بعد ذكر استغاثتهم انطباق مضمون الآية على الواقعة ، وهو كثير النظير في الروايات المشتملة على أسباب النزول.

وفي تفسير البرهان ، عن ابن شهرآشوب : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العريش : اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم ـ لا تعبد بعد هذا اليوم فنزل : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ » فخرج يقول : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) ـ فأيده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، وكثرهم في أعين المشركين ، وقلل المشركين في أعينهم فنزل : « ( وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ) من الوادي خلف العقنقل ـ والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعدوة الدنيا عند القليب.

٢٣

أقول : والكلام فيه كالكلام في سابقه.

وفي المجمع ، : ذكر البلخي عن الحسن : أن قوله : « وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ » الآية ـ نزلت قبل قوله : « كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ » ـ وهي في القراءة بعدها.

أقول : وتقدم مدلول إحدى الآيتين على مدلول الأخرى بحسب الوقوع لا يلازم سبقها نزولا ، ولا دليل من جهة السياق يدل على ما ذكره.

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن يحيى الخثعمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله تعالى : « وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ـ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ » ـ فقال : الشوكة التي فيها القتال :

أقول : وروى مثله القمي في تفسيره.

وفي المجمع ، قال أصحاب السير وذكر أبو حمزة وعلي بن إبراهيم في تفسيرهما ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ : أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام ـ وفيها أموالهم وهي اللطيمة ، وفيها أربعون راكبا من قريش ـ فندب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه للخروج إليها ليأخذوها ، وقال : لعل الله أن ينفلكموها ـ فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ، ولم يظنوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلقى كيدا ولا حربا ـ فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان ـ والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم ـ.

فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ـ ويخبرهم أن محمدا قد تعرض لعيرهم في أصحابه ـ فخرج ضمضم سريعا إلى مكة ـ.

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم ـ قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال ـ أن رجلا أقبل على بعير له ينادي يا آل غالب ـ اغدوا إلى مصارعكم ثم وافى بجمله على أبي قبيس ـ فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل ـ فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة ـ فانتبهت فزعة من ذلك وأخبرت العباس بذلك ـ فأخبر العباس عتبة بن ربيعة ـ فقال عتبة : هذه مصيبة تحدث في قريش ، وفشت الرؤيا فيهم وبلغ ذلك أبا جهل ـ فقال : هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب ، واللات والعزى

٢٤

لننظرن ثلاثة أيام ـ فإن كان ما رأت حقا وإلا لنكتبن كتابا بيننا : أنه ما من أهل بيت من العرب ـ أكذب رجالا ونساء من بني هاشم ـ.

فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت : يا آل غالب يا آل غالب. اللطيمة اللطيمة. العير العير. أدركوا وما أراكم تدركون ـ إن محمدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا ـ يتعرضون لعيركم فتهيئوا للخروج ، وما بقي أحد من عظماء قريش ـ إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش ، وقالوا من لم يخرج نهدم داره ، وخرج معهم العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وعقيل بن أبي طالب ، وأخرجوا معهم القيان يضر بن الدفوف ـ.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ـ فلما كان بقرب بدر أخذ عينا للقوم فأخبره بهم ، وفي حديث أبي حمزة : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا عينا له على العير اسمه عدي ـ فلما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره أين فارق العير ـ نزل جبرائيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأخبره بنفير المشركين من مكة ـ فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير ـ فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله ـ إنها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلت منذ عزت ، ولم نخرج على هيئة الحرب ؛ وفي حديث أبي حمزة : أنا عالم بهذا الطريق فارق عدي العير بكذا وكذا ، وساروا وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر ـ يوم كذا وكذا كأنا فرسا رهان ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجلس فجلس. ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجلس فجلس ـ.

ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله ـ إنها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا أن ما جئت به حق ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ـ ولكنا نقول : امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون ، فجزاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خيرا على قوله ذاك ـ.

ثم قال : أشيروا علي أيها الناس ـ وإنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم ، ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : إنا برآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ـ ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا ونساءنا ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته ـ إلا على من دهمه بالمدينة من عدو ، وأن ليس عليهم أن ينصروه خارج المدينة ـ.

٢٥

فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا. فقال : نعم. قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ـ إنا قد آمنا بك وصدقناك ـ وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، واترك منها ما شئت ، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ـ ولعل الله عز وجل أن يريك منا ما تقر به عينك ـ فسر بنا على بركة الله.

ففرح بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : ـ سيروا على بركة الله ـ فإن الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين ـ ولن يخلف الله وعده ، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام ـ وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان (١).

وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرحيل ، وخرج إلى بدر وهو بئر ، وفي حديث أبي حمزة الثمالي : بدر رجل من جهينة ـ والماء ماؤه فإنما سمي الماء باسمه ، وأقبلت قريش وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء ـ فأخذهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : نحن عبيد قريش. قالوا : فأين العير؟ قالوا : لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلي فانفتل من صلاته ـ وقال : إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم ، فأتوه بهم فقال لهم : من أنتم؟ قالوا : يا محمد نحن عبيد قريش ، قال : كم القوم؟ قالوا : لا علم لنا بعددهم ، قال : كم ينحرون في كل يوم من جزور؟ قالوا : تسعة إلى عشرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : القوم تسعمائة إلى ألف رجل ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم فحبسوا ـ وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم ـ.

ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام ـ فقال : أما ترى هذا البغي ـ والله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا ـ وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا ، والله ما أفلح قوم بغوا قط ، ولوددت أن ما في العير من أموال بني عبد مناف ـ ذهبت ولم نسر هذا المسير ، فقال له أبو البختري ، إنك سيد من سادات قريش ـ فسر في الناس وتحمل العير التي أصابها محمد وأصحابه ـ بنخلة (٢) ودم ابن الحضرمي فإنه حليفك ـ.

__________________

(١) وقد كان صلى الله عليه وآله يشير بذلك إلى لقاء النفير وهم يرجون لقاء العير ـ.

(٢) وقد تقدمت الروايات في قصته في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل قوله قوله تعالى : « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » الآية ، البقرة آية ٢١٧.

٢٦

فقال له : علي ذلك ، وما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعني أبا جهل ـ فصر إليه وأعلمه أني حملت العير ـ ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلي عقله ـ.

قال : فقصدت خباءه وأبلغته ذلك ، فقال : إن عتبة يتعصب لمحمد ـ فإنه من بني عبد مناف وابنه معه ـ يريد أن يخذل بين الناس لا واللات والعزى ـ حتى نقحم عليهم يثرب أو نأخذهم أسارى ـ فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك ، وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

وكان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش : قد نجى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمدا والعرب ، وادفعوه بالراح ما اندفع ، وإن لم ترجعوا فردوا القيان ـ فلحقهم الرسول في الجحفة ، فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم ـ وردوا القيان من الجحفة ـ.

قال : وفزع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لما بلغهم كثرة قريش ، واستغاثوا وتضرعوا ، فأنزل الله عز وجل : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ » وما بعده ـ.

قال الطبرسي : ولما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر عبا أصحابه ، فكان في عسكره فرسان : فرس للزبير بن عوام ، وفرس للمقداد بن الأسود ، وكان في عسكره سبعون جملا كانوا يتعاقبون عليها ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي ـ يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبي مرثد ، وكان في عسكر قريش أربعمائة فرس ، وقيل : مائتا فرس ـ.

فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال أبو جهل : ما هم إلا أكلة رأس ـ لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد ، فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمينا أو مددا؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارسا شجاعا ـ فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثم رجع فقال : ليس لهم كمين ولا مدد ـ ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع ـ أما ترونهم خرسا لا يتكلمون ـ ويتلمظون تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم ، وما أراهم يولون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم ، فقال له أبو جهل : كذبت وجبنت ـ.

فأنزل الله تعالى : « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها » ـ فبعث إليهم رسول الله

٢٧

ص فقال : يا معشر قريش ـ إني أكره أن أبدأ بكم فخلوني والعرب وارجعوا ـ فقال عتبة : ما رد هذا قوم قط فأفلحوا ، ثم ركب جملا له أحمر فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر ـ وإن يطيعوه يرشدوا ـ.

وخطب عتبة فقال في خطبته : يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ـ إن محمدا له آل وذمة وهو ابن عمكم ـ فخلوه والعرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به ـ وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره ـ فغاظ أبا جهل قوله وقال له : جبنت وانتفخ سحرك ـ فقال : يا مصفر استه مثلي يجبن؟ وستعلم قريش أينا ألأم وأجبن؟ وأينا المفسد لقومه ـ.

ولبس درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد ، وقال : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش ـ فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم ـ فقالوا : ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش ـ فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ـ وكان له يومئذ سبعون سنة ـ فقال : قم يا عبيدة ، ونظر إلى حمزة ـ فقال : قم يا عم ثم نظر إلى علي بن أبي طالب ـ فقال : قم يا علي ـ وكان أصغر القوم ـ فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم ـ فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها ـ تريد أن تطفئ نور الله ـ ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ثم قال : يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة ، وقال لحمزة عليك بشيبة ، وقال لعلي : عليك بالوليد ـ.

فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا : أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة ـ فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته ، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها فسقطا جميعا ، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما ، وحمل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام على الوليد ـ فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه ـ قال علي : لقد أخذ الوليد يمينه بيساره ـ فضرب بها هامتي ـ فظننت أن السماء وقعت على الأرض ـ.

ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون : يا علي أما ترى أن الكلب قد نهز عمك ـ فحمل عليه علي عليه‌السلام ثم قال : يا عم ـ طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة ـ فأدخل حمزة رأسه في صدره ـ فضربه علي فطرح نصفه ، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه ـ.

٢٨

وفي رواية أخرى أنه برز حمزة لعتبة ، وبرز عبيدة لشيبة ، وبرز علي للوليد فقتل حمزة عتبة ، وقتل عبيدة شيبة ، وقتل علي عليه‌السلام الوليد. فضرب شيبة رجل عبيدة ـ فقطعها فاستنقذه حمزة وعلي ، وحمل عبيدة حمزة وعلي حتى أتيا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فاستعبر فقال : يا رسول الله ألست شهيدا؟ قال : بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي ـ.

وقال أبو جهل لقريش : لا تعجلوا ـ ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة ـ عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا ، وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة ـ فنعرفهم ضلالتهم التي هم عليها ـ.

وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ـ فقال لهم : أنا جار لكم ادفعوا إلي رايتكم ـ فدفعوا إليه راية الميسرة ، وكانت الراية مع بني عبد الدار ـ فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لأصحابه : غضوا أبصاركم ، وعضوا على النواجذ ، ورفع يده فقال : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ـ ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلك العرق عن وجهه ـ فقال : هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين.

وفي الأمالي ، بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سافر إلى بدر في شهر رمضان ـ وافتتح مكة في شهر رمضان.

أقول : وعلى ذلك أطبق أهل السير والتواريخ ، قال اليعقوبي في تاريخه : وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد مقدمه ص ـ يعني إلى المدينة ـ بثمانية عشر شهرا.

وقال الواقدي : ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان فبعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو يتجسسون على الماء فوجدوا روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم وأفلت بعضهم وأتوا بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قائم يصلي فسألهم المسلمون فقالوا : نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهم فلما أن لقوهم بالضرب قالوا : نحن لأبي سفيان ونحن في العير ، وهذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم. فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من صلاته ثم قال : إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم.

٢٩

فلما أصبحوا عدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصفوف وخطب المسلمين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه ، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ـ فإن الله عظيم شأنه ، يأمر بالحق ، ويحب الصدق ، ويعطي على الخير أهله على منازلهم عنده ـ به يذكرون ، وبه يتفاضلون ، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق ـ لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه ، وإن الصبر في مواطن البأس ـ مما يفرج الله به الهم وينجي به من الغم ـ تدركون به النجاة في الآخرة ، فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم ـ فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شيء من أمركم ـ يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول : ( لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) ـ انظروا في الذي أمركم به من كتابه ، وأراكم من آياته وما أعزكم به بعد الذلة ـ فاستكينوا له يرض ربكم عنكم ، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرا ـ تستوجبوا به الذي وعدكم من رحمته ومغفرته ـ فإن وعده حق ، وقوله صدق ، وعقابه شديد ، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم ، إليه ألجأنا ظهورنا ، وبه اعتصمنا ، وعليه توكلنا ، وإليه المصير ، ويغفر الله لي وللمسلمين.

وفي المجمع : ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس وغيره : أن جبرائيل قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ـ خذ قبضة من تراب فارمهم بها ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما التقى الجمعان لعلي : أعطني قبضة من حصا الوادي ـ فناوله كفا من حصا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم ـ وقال : شاهت الوجوه ـ فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ـ ومنخريه منها شيء ـ ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم.

وفي الأمالي ، بإسناده عن ابن عباس قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على قتلى بدر فقال : جزاكم الله من عصابة شرا ـ لقد كذبتموني صادقا وخونتم أمينا ، ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ـ إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحد الله ، وإن هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى.

وفي المغازي ، للواقدي : وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر بالقليب أن تغور ـ ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف ـ فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه ـ فلما

٣٠

أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اتركوه ، فأقروه وألقوا عليه من التراب ـ والحجارة ما غيبه ـ.

ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ـ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ـ بئس القوم كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس. فقالوا يا رسول الله أتنادي قوما قد ماتوا؟ فقال : لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق ، وفي رواية أخرى : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ـ ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

قال : وكان انهزام قريش حين زالت الشمس ـ فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ببدر ـ وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها ، وأمر نفرا من أصحابه أن يعينوه ـ فصلى العصر ببدر ثم راح ـ فمر بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به وبات ، وبأصحابه جراح وليست بالكثيرة ، وأمر ذكوان بن عبد قيس أن يحرس المسلمين ـ حتى كان آخر الليل فارتحل.

وفي تفسير القمي ، في خبر طويل : وخرج أبو جهل من بين الصفين وقال : اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة ـ فأنزل الله على رسوله : « إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ـ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ـ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ـ وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ».

ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفا من حصى ـ ورمى به في وجوه قريش وقال : شاهت الوجوه ـ فبعث الله رياح تضرب في وجوه قريش ـ فكانت الهزيمة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم لا يفلتن فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام ـ فقتل منهم سبعين ، وأسر منهم سبعين ـ.

والتقى عمرو بن الجموع مع أبي جهل ـ فضرب عمرو أبا جهل على فخذه ـ وضرب أبو جهل عمرا على يده ـ فأبانها من العضد فتعلقت بجلده ـ فاتكى عمرو على يده برجله ثم تراخى إلى السماء ـ حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده ـ.

وقال عبد الله بن مسعود : انتهيت إلى أبي جهل ـ وهو يتشحط بدمه فقلت :

٣١

الحمد لله الذي أخزاك فرفع رأسه ـ فقال : إنما أخزى الله عبدا ، ابن أم عبد لمن الدبرة ويلك؟ قلت : لله ولرسوله وإني قاتلك ، ووضعت رجلي على عنقه فقال : ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم ـ أما إنه ليس شيء أشد من قتلك إياي في هذا اليوم ـ ألا تولى قتلي رجل من المطلبيين ـ أو رجل من الأحلاف؟ فاقتلعت بيضة كانت على رأسه ـ فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقلت : يا رسول الله البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام ـ فسجد لله شكرا.

وفي الإرشاد للمفيد ، : ثم بارز أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه ـ فلم يلبث أن قتله ، وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله ، وبرز إليه بعده طعيمة بن عدي فقتله ، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش ، ولم يزل يقتل واحدا منهم بعد واحد ـ حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين رجلا ، تولى كافة من حضر بدرا من المسلمين ـ مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين ـ قتل الشطر منهم ، وتولى أمير المؤمنين عليه‌السلام قتل الشطر الآخر وحده.

وفي الإرشاد ، : أيضا : قد أثبتت رواة العامة والخاصة معا ـ أسماء الذين تولى أمير المؤمنين عليه‌السلام قتلهم ببدر ـ من المشركين على اتفاق فيما نقلوه من ذلك ـ واصطلاح فكان ممن سموه : الوليد بن عتبة كما قدمنا ـ وكان شجاعا جريا وقاحا فتاكا تهابه الرجال ، والعاص بن سعيد وكان هولا عظيما تهابه الأبطال ، وهو الذي حاد عنه عمر بن الخطاب ـ وقصته فيما ذكرناه مشهورة نحن نبينها فيما نورده ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ـ وكان من رءوس أهل الضلال ، ونوفل بن خويلد وكان من أشد المشركين عداوة ـ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت قريش تقدمه وتعظمه وتطيعه ، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بمكة ـ وأوثقهما بحبل وعذبهما يوما إلى الليل ـ حتى سئل في أمرهما ، ولما عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حضوره بدرا ـ سأل الله أن يكفيه أمره ـ فقال : اللهم اكفني نوفل بن خويلد ـ فقتله أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ.

وزمعة بن الأسود (١) والحارث بن زمعة ، والنضر بن الحارث بن عبد الدار ، وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم عم طلحة بن عبيد الله ، وعثمان ومالك ابنا عبيد الله

__________________

(١) في بعض النسخ : وعقيل بن الأسود فيه فذلك ستة وثلاثون.

٣٢

أخوا طلحة بن عبيد الله ، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه بن المغيرة ـ وحذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة ، و [ أبو ] قيس (١) بن الوليد بن المغيرة ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وعمرو بن مخزوم ، وأبو منذر بن أبي رفاعة ، ومنبه بن الحجاج السهمي ، والعاص بن منبه ، وعلقمة بن كلدة ، وأبو العاص بن قيس بن عدي ، ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص ، ولوذان بن ربيعة ، وعبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة ، ومسعود بن أمية بن المغيرة ، وحاجب بن السائب بن عويمر ، وأوس بن المغيرة بن لوذان ، وزيد بن مليص ، وعاصم بن أبي عوف ، وسعيد بن وهب حليف بني عامر ، ومعاوية بن [ عامر بن ] عبد القيس ، وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد ، والسائب بن مالك ، وأبو الحكم بن الأخنس ، وهشام بن أبي أمية بن المغيرة ـ.

فذلك خمسة وثلاثون رجلا ـ سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين عليه‌السلام فيه غيره ـ وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه.

أقول : وذكر غيره كما في المجمع أنه قتل يوم بدر سبعة وعشرين رجلا ، وذكر الواقدي : أن الذي اتفق عليه قول النقلة والرواة من قتلاه تسعة رجال والباقي مختلف فيه.

لكن البحث العميق عن القصة وما يحتف بها من أشعارهم والحوادث المختلفة التي حدثت بعدها تسيء الظن بهذا الاختلاف ، وقد نقل عن محمد بن إسحاق أن أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي عليه‌السلام.

وقد عد الواقدي فيما ذكره ابن أبي الحديد من قتلى المشركين في وقعة بدر اثنين وخمسين رجلا ونسب قتل أربعة وعشرين منهم إليه عليه‌السلام ممن انفرد بقتله أو شارك غيره.

ومن شعر أسيد بن أبي إياس يحرض مشركي قريش على علي عليه‌السلام على ما في الإرشاد والمناقب قوله :

__________________

(١) هو أخو خالد بن الوليد ، والثلاثة الذين قتلوا أبناء أعمامه.

٣٣

في كل مجمع غاية أخزاكم

جزع أبر على المذاكي القرح

لله دركم ألما تنكروا

قد ينكر الحر الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم

ذبحا وقتله قعصة لم تذبح

أعطوه خرجا واتقوا تضريبه

فعل الذليل وبيعه لم تربح

أين الكهول وأين كل دعامة

في المعضلات وأين زين الأبطح

أفناهم قعصا وضربا يفتري

بالسيف يعمل حدة لم يصفح

وفي الإرشاد ، روى شعبة عن أبي إسحاق عن حارث بن مضرب قال : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : لقد حضرنا بدرا ـ وما فينا فارس غير المقداد بن الأسود ، ولقد رأيتنا ليلة بدر ـ وما فينا إلا من نام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فإنه كان منتصبا في أصل شجرة ـ يصلي فيها ويدعو حتى الصباح.

أقول : والروايات في قصة بدر كثيرة جدا وقد اقتصرنا منها على ما يتضح به فهم مضامين الآيات ، ومن الأخبار ما سيأتي إن شاء الله في تضاعيف البحث عن الآيات التالية المشيرة إلى بعض أطراف القصة.

( فهرس أسماء شهداء بدر رض )

في البحار ، عن الواقدي قال : حدثني عبد الله بن جعفر قال : سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر؟ قال : أربعة عشر : ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار ـ.

قال : فمن بني المطلب بن عبد مناف ، عبيدة بن الحارث قتله عتبة ـ وفي غير رواية الواقدي قتله شيبة ـ فدفنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصفراء ، ومن بني زهرة عمير بن أبي وقاص ـ قتله عمرو بن عبد ود فارس الأحزاب ، وعمير بن عبد ود ذو الشمالين حليف لبني زهرة ـ قتله أبو أسامة الجشمي ، ومن بني عدي عاقل بن أبي البكير ـ حليف لهم من بني سعد قتله مالك بن زهير ، ومهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي ـ ويقال : إن مهجعا أول من قتل من المهاجرين ، ومن بني الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء ـ قتله طعيمة بن عدي ـ.

٣٤

ومن الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف ، مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور ، وسعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبد ود ، ويقال : طعيمة بن عدي ، ومن بني عدي بن النجار حارثة بن سراقة ـ رماه حنان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله ، ومن بني مالك بن النجار ـ عوف ومعوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل ، ومن بني سلمة عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الأعلم ، ويقال : إنه أول قتيل قتل من الأنصار ، وقد روي : أن أول قتيل منهم حارثة بن سراقة ، ومن بني زريق رافع بن المعلى ـ قتله عكرمة بن أبي جهل ، ومن بني الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث ـ قتله نوفل بن معاوية فهؤلاء الثمانية من الأنصار.

وروي عن ابن عباس : أن أنسة مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل ببدر ، وروي : أن معاذ بن ماعص جرح ببدر ـ فمات من جراحته بالمدينة ، وابن عبيد بن السكن جرح ـ فاشتكى جرحه فمات منه.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا

٣٥

كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩).

( بيان )

أوامر ونواه متعلقة بالجهاد الإسلامي مما يناسب سوق القصة ، وحث على تقوى الله وإنذار وتخويف من مخالفة الله ورسوله والتعرض لسخطه سبحانه ، وفيها إشارة إلى بعض ما جرى في وقعة بدر من منن الله وأياديه على المؤمنين.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ

٣٦

الْأَدْبارَ » اللقاء مصدر لقي يلقى من المجرد ولاقى يلاقي من المزيد فيه ، قال الراغب في مفردات القرآن ، : اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته معا ، وقد يعبر به عن كل واحد منهما يقال : لقيه يلقاه لقاء ولقيا ولقية ، ويقال ذلك في الإدراك بالحس وبالبصر وبالبصيرة قال : ( لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ ) ، وقال : ( لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ) ، وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ ) ، وقال : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ ) ، واللقاء الملاقاة ، قال : ( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ) ، وقال : ( إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ). انتهى.

وقال في المجمع ، : اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لأن الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الأعراض في المحل الواحد. انتهى.

وقال فيه : الزحف الدنو قليلا قليلا ، والتزاحف التداني يقال : زحف يزحف زحفا وأزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم وثبت لهم. قال الليث الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة وجمعه زحوف. انتهى.

وتولية الأعداء الأدبار جعلهم يلونها وهو استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة.

وخطاب الآية عام غير خاص بوقت دون وقت ولا غزوة دون غزوة فلا وجه لتخصيصها بغزوة بدر وقصر حرمة الفرار من الزحف بها كما يحكى عن بعض المفسرين. على أنك عرفت أن ظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد غزوة بدر لا يومها ، وأن الآيات ذيل ما في صدر السورة من قوله : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ » الآية ، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : « وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ » إلى آخر الآية. التحرف. الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف وهو طرف الشيء وهو أن ينحرف وينعطف المقاتل من جهة إلى جهة أخرى ليتمكن من عدوه ويبادر إلى إلقاء الكيد عليه ، والتحيز هو أخذ الحيز وهو المكان ، والفئة القطعة من جماعة الناس ، والتحيز إلى فئة أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم.

والبواء الرجوع إلى مكان واستقرار فيه ، ولذا قال الراغب : أصل البواء

٣٧

مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الأجزاء. انتهى فمعنى قوله : ( باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) أي رجع ومعه غضب من الله.

فمعنى الآيتين : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين للقتال فلا تفروا منهم ومن يفر منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع ومعه غضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير إلا أن يكون فراره للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة فلا بأس به.

قوله تعالى : « فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى » إلى آخر الآية ، التدبر في السياق لا يدع شكا في أن الآية تشير إلى وقعة بدر وما صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من رميهم بكف من الحصى ، والمؤمنون بوضع السيف فيهم وقتلهم القتل الذريع ، وذيل الآية أعني قوله : ( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ) يدل على أن الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى ، وقد أثبت تعالى عين ما نفاه في جملة واحدة أعني قوله : « وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ».

فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله : « فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى » نفي أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة ، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روي إلا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف ، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالأفراس والأسلحة والرجال والزاد والراحلة ، هم أضعافهم عدة ولا يقاسون بهم قوة وشدة ، وأسباب الغلبة عندهم ، وعوامل البأس معهم ، والموقف المناسب للتقدم لهم.

إلا أن الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين ، وألقى الهزيمة بما رماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا وأسرا فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم وسكنت أجراسهم.

فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدي المؤمنين والرمي الذي شتت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين.

فما في الآية من النفي جار مجرى الدعوى بنوع من العناية ، بالنظر إلى استناد

٣٨

القتل بأطرافها إلى سبب إلهي غير عادي ، ولا ينافي ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله راميا لما رماه من الحصاة.

وقوله : « وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً » الظاهر أن ضمير « مِنْهُ » راجع إلى الله تعالى ، والجملة لبيان الغاية وهي معطوفة على مقدر محذوف ، والتقدير : إنما فعل الله ما فعل من قتلهم ورميهم لمصالح عظيمة عنده ، وليبلي المؤمنين ويمتحنهم بلاء وامتحانا حسنا أو لينعم عليهم بنعمة حسنة ، وهو إفناء خصمهم وإعلاء كلمة التوحيد بهم وإغناؤهم بما غنموا من الغنائم.

وقوله : « إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » تعليل لقوله : « وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ » أي إنه تعالى يبليهم لأنه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاء حسنا.

والتفريع الذي في صدر الآية : « فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ » إلخ متعلق بما يتضمنه الآيات السابقة : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ » إلى آخر الآيات من المعنى ، فإنها تعد منن الله عليهم من إنزال الملائكة وإمدادهم بهم وتغشية النعاس إياهم وإمطار السماء عليهم وما أوحي إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله : « فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ».

وعلى هذا فقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ » إلى قوله : « وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » معترضة متعلقة بقوله : « فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ » أو بمعناه المفهوم من الجمل المسرودة ، وقوله : « فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ » إلخ متصل بما قبله بحسب النظم.

وربما يذكر في نظم الآية وجهان آخران :

أحدهما : أن الله سبحانه لما أمرهم بالقتل في الآية المتقدمة ذكر عقيبها أن ما كان من الفتح يوم بدر وقهر المشركين إنما كان بنصرته ومعونته تذكيرا للنعمة. ذكره أبو مسلم.

والثاني : أنهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول : أنا قتلت فلانا وأنا فعلت كذا نزلت الآية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم. وربما قيل : إن الفاء في

٣٩

قوله : « فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ » لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض. والوجه ما قدمناه.

قوله تعالى : « ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ » قال في المجمع ، : « ذلِكُمْ » موضعه رفع ، وكذلك « أَنَّ اللهَ » في موضع رفع ، والتقدير : الأمر ذلكم والأمر أن الله موهن ، وكذلك الوجه فيما تقدم من قوله : « ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ » ، ومن قال : إن « ذلِكُمْ » مبتدأ و « فَذُوقُوهُ » خبره فقد أخطأ لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدإ ، ولا يجوز : زيد فمنطلق ، ولا : زيد فاضربه إلا أن تضمر « هذا » تريد : هذا زيد فاضربه. انتهى. فمعنى الآية : الأمر ذلكم الذي ذكرناه والأمر أن الله موهن كيد الكافرين.

قوله تعالى : « إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ » إلى آخر الآية. ظاهر الآية بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله : « وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » وقوله : « وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ » إلخ أن تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام على الالتفات للتهكم ، وهو المناسب لقوله في الآية السابقة :« وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ».

فالمعنى : إن طلبتم الفتح وسألتم الله أيها المشركون أن يفتح بينكم وبين المؤمنين فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحق يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم ، وإن تنتهوا عن المكيدة على الله ورسوله فهو خير لكم وإن تعودوا إلى مثل ما كدتم نعد إلى مثل ما أوهنا به كيدكم ، ولن تغني عنكم جماعتكم شيئا ولو كثرت كما لم تغن في هذه المرة وإن الله مع المؤمنين ولن يغلب من هو معه.

وبهذا يتأيد ما ورد أن أبا جهل قال يوم بدر حين اصطف الفريقان أو حين التقى الفئتان : اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصر عليه ، وفي بعض الروايات ـ وهو الأنسب ـ كما في المجمع ، عن أبي حمزة : قال أبو جهل : اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم.

وذكر بعضهم : أن الخطاب في الآية للمؤمنين ووجهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه الذوق السليم، ولا جدوى للإطالة بذكرها والمناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطولات.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ » الضمير على ما يفيده السياق راجع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمعنى ، ولا تولوا عن الرسول

٤٠