الميزان في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بلال الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا. قلت : وكيف لي بذلك؟ قال : إذا رزقت فلا تخبأ ، وإذا سئلت فلا تمنع ، قلت : وكيف لي بذلك؟ قال : هو ذاك وإلا فالنار.

( كلام في معنى الكنز )

لا ريب أن المجتمع الذي أوجده الإنسان بحسب طبعه الأولي إنما يقوم بمبادلة المال والعمل ، ولو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني ولا طرفة عين فإنما يتزود الإنسان من مجتمعة بأن يحرز أمورا من أوليات المادة الأرضية ويعمل عليها ما يسعه من العمل ثم يقتني من ذلك لنفسه ما يحتاج إليه ، ويعوض ما يزيد على حاجته من سائر ما يحتاج إليه مما عند غيره من أفراد المجتمع كالخباز يأخذ لنفسه من الخبز ما يقتات به ويعوض الزائد عليه من الثوب الذي نسجه النساج وهكذا فإنما أعمال المجتمعين في ظرف اجتماعهم بيع وشرى ومبادلة ومعاوضة.

والذي يتحصل من الأبحاث الاقتصادية أن الإنسان الأولي كان يعوض في معاملاته العين بالعين من غير أن يكونوا متنبهين لأزيد من ذلك غير أن النسب بين الأعيان كانت تختلف عندهم باشتداد الحاجة وعدمه ، وبوفور الأعيان المحتاج إليها واعوازها فكلما كانت العين أمس بحاجة الإنسان أو قل وجودها توفرت الرغبات إلى تحصيلها ، وارتفعت نسبتها إلى غيرها ، وكلما بعدت عن مسيس الحاجة أو ابتذلت بالكثرة والوفور انصرفت النفوس عنها وانخفضت نسبتها إلى غيرها وهذا هو أصل القيمة.

ثم إنهم عمدوا إلى بعض الأعيان العزيزة الوجود عندهم فجعلوها أصلا في القيمة تقاس إليه سائر الأعيان المالية بمالها من مختلف النسب كالحنطة والبيضة والملح فصارت مدارا تدور عليها المبادلات السوقية ، وهذه السليقة دائرة بينهم في بعض المجتمعات الصغيرة في القرى وبين القبائل البدوية حتى اليوم.

ولم يزالوا على ذلك حتى ظفروا ببعض الفلزات كالذهب والفضة والنحاس ونحوها فجعلوها أصلا إليه يعود نسب سائر الأعيان من جهة قيمها ، ومقياسا واحدا يقاس إليها غيرها فهي النقود القائمة بنفسها وغيرها يقوم بها.

٢٦١

ثم آل الأمر إلى أن يحوز الذهب المقام أول والفضة تتلوه ، ويتلوها غيرهما ، وسكت الجميع بالسكك الملوكية أو الدولية فصارت دينارا ودرهما وفلسا وغير ذلك بما يطول شرحه على خروجه من غرض البحث.

فلم يلبث النقدان حتى عادا أصلا في القيمة بهما يقوم كل شيء ، وإليهما يقاس ما عند الإنسان من مال أو عمل ، وفيهما يرتكز ارتفاع كل حاجة حيوية ، وهما ملاك الثروة والوجد كالمتعلق بهما روح المجتمع في حياته يختل أمره باختلال أمرهما ، إذا جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما ، وإذا وقفا وقفت.

وقد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحولة إليهما في المجتمعات الإنسانية من حفظ قيم الأمتعة والأعمال ، وتشخيص نسب بعضها إلى بعض ، الأوراق الرسمية الدائرة اليوم فيما بين الناس كالبوند والدولار وغيرهما والصكوك البنجية المنتشرة فإنها تمثل قيم الأشياء من غير أن تتضمن عينية لها قيمة في نفسها فهي قيم خالصة مجردة تقريبا.

فالتأمل في مكانة الذهب والفضة الاجتماعية بما هما نقدان حافظان للقيم ومقياسان يقاس إليهما الأمتعة والأموال بما لها من النسب الدائرة بينها تنور أنهما ممثلان لنسب الأشياء بعضها إلى بعض ، وإذ كانت بحسب الاعتبار ممثلات للنسب ـ وإن شئت فقل : نفس النسب ـ تبطل النسب ببطلان اعتبارها ، وتحبس بحبسها ومنع جريانها وتقف بوقوفها.

وقد شاهدنا في الحربين العالميين الأخيرين ما ذا أوجده بطلان اعتبار نقود بعض الدول؟ كالمنات في الدولة التزارية والمارك في الجرمن من البلوى وسقوط الثروة واختلال أمر الناس في حياتهم ، والحال في كنزهما ومنع جريانهما بين الناس هذا الحال.

وإلى ذلك يشير قول أبي جعفر عليه‌السلام في رواية الأمالي المتقدمة : « جعلها الله مصلحة لخلقه وبها يستقيم شئونهم ومطالبهم ».

ومن هنا يظهر أن كنزهما إبطال لقيم الأشياء وإماتة لما في وسع المكنوز منهما من إحياء المعاملات الدائرة وقيام السوق في المجتمع على ساقه ، وببطلان المعاملات وتعطل الأسواق تبطل حياة المجتمع ، وبنسبة ما لها من الركود والوقوف تقف وتضعف.

لست أريد خزنهما في مخازن تختص بهما فإن حفظ نفائس الأموال وكرائم الأمتعة

٢٦٢

من الضيعة من الواجبات التي تهدي إليه الغريزة الإنسانية ويستحسنه العقل السليم فكلما جرت وجوه النقد في سبيل المعاملات كيفما كان فهو وإذا رجعت فمن الواجب أن تختزن وتحفظ من الضيعة وما يهددها من أيادي الغصب والسرقة والغيلة والخيانة.

وإنما أعني به كنزهما وجعلهما في معزل عن الجريان في المعاملات السوقية والدوران لإصلاح أي شأن من شئون الحياة ورفع الحوائج العاكفة على المجتمع كإشباع جائع وإرواء عطشان وكسوة عريان وربح كاسب وانتفاع عامل ونماء مال وعلاج مريض وفك أسير وإنجاء غريم والكشف عن مكروب والتفريج عن مهموم وإجابة مضطر والدفع عن بيضة المجتمع الصالح وإصلاح ما فسد من الجو الاجتماعي.

وهي موارد لا تحصى واجبة أو مندوبة أو مباحة لا يتعدى فيها حد الاعتدال إلى جانبي الإفراط والتفريط والبخل والتبذير ، والمندوب من الإنفاق وإن لم يكن في تركه مأثم ولا إجرام شرعا ولا عقلا غير أن التسبب إلى إبطال المندوبات من رأس والاحتيال لرفع موضوعها من أشد الجرم والمعصية.

اعتبر ذلك فيما بين يديك من الحياة اليومية بما يتعلق به من شئون المسكن والمنكح والمأكل والمشرب والملبس تجد أن ترك النفل المستحب من شئون الحياة والمعاش والاقتصار دقيقا على الضروري منها ـ الذي هو بمنزلة الواجب الشرعي ـ يوجب اختلال أمر الحياة اختلالا لا يجبره جابر ولا يسد طريق الفساد فيه ساد.

وبهذا البيان يظهر أن قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ » ليس من البعيد أن يكون مطلقا يشمل الإنفاق المندوب بالعناية التي مرت فإن في كنز الأموال رفعا لموضوع الإنفاق المندوب كالإنفاق الواجب لا مجرد عدم الإنفاق مع صلاحية الموضوع لذلك.

وبذلك يتبين أيضا معنى ما خاطب به أبو ذر عثمان بن عفان لما دخل عليه على ما تقدم في رواية الطبري حيث قال له : « لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف ، وقد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات ».

فإن لفظه كالصريح أو هو صريح في أنه لا يرى كل إنفاق فيما يفضل من المئونة

٢٦٣

بعد الزكاة واجبا ، وأنه يقسم الإنفاق في سبيل الله إلى ما يجب وما ينبغي غير أنه يعترض بانقطاع سبيل الإنفاق من غير جهة الزكاة وانسداد باب الخيرات بالكلية وفي ذلك إبطال غرض التشريع وإفساد المصلحة العامة المشرعة.

يقول : ليست هي حكومة استبدادية قيصرانية أو كسروانية ، لا وظيفة لها إلا بسط الأمن وكف الأذى بالمنع عن إيذاء بعض الناس بعضا ثم الناس أحرار فيما فعلوا غير ممنوعين عن ما اشتهوا من عمل أفرطوا أو فرطوا ، أصلحوا أو أفسدوا ، اهتدوا أو ضلوا وتاهوا ، والمتقلد لحكومتهم حر فيما عمل ولا يسأل عما يفعل.

وإنما هي حكومة اجتماعية دينية لا ترضى عن الناس بمجرد كف الأذى بل تسوق الناس في جميع شئون معيشتهم إلى ما يصلح لهم ويهيئ لكل من طبقات المجتمع من أميرهم ومأمورهم ورئيسهم ومرءوسهم ومخدومهم وخادمهم وغنيهم وفقيرهم وقويهم وضعيفهم ما يسع له من سعادة حياتهم فترفع حاجة الغني بإمداد الفقير وحاجة الفقير بمال الغني وتحفظ مكانة القوي باحترام الضعيف وحياة الضعيف برأفة القوي ومراقبته ، ومصدرية العالي بطاعة الداني وطاعة الداني بنصفة العالي وعدله ، ولا يتم هذا كله إلا بنشر المبرات وفتح باب الخيرات ، والعمل بالواجبات على ما يليق بها والمندوبات على ما يليق بها وأما القصر على القدر الواجب ، وترك الإنفاق المندوب من رأس فإن فيه هدما لأساس الحياة الدينية ، وإبطالا لغرض الشارع ، وسيرا حثيثا إلى نظام مختل وهرج ومرج وفساد عريق لا يصلحه شيء كل ذلك عن المسامحة في إحياء غرض الدين ، والمداهنة مع الظالمين إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

وكذلك قول أبي ذر لمعاوية فيما تقدم من رواية الطبري : « ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال : يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره قال : فلا تقله ».

فإن الكلمة التي كان يقولها معاوية وعماله ومن بعده من خلفاء بني أمية وإن كانت كلمة حق وقد رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويدل عليها كتاب الله لكنهم كانوا يستنتجون منه خلاف ما يريده الله سبحانه فإن المراد به أن المال لا يختص به أحد بعزة أو قوة أو سيطرة وإنما هو لله ينفق في سبيله على حسب ما عينه من موارد

٢٦٤

إنفاقه فإن كان مما اقتناه الفرد بكسب أو إرث أو نحوهما فله حكمة ، وإن كان مما حصلته الحكومة الإسلامية من غنيمة أو جزية أو خراج أو صدقات أو نحو ذلك فله أيضا موارد إنفاق معينة في الدين ، وليس في شيء من ذلك لوالي الأمر أن يخص نفسه أو واحدا من أهل بيته بشيء يزيد على لازم مئونته فضلا أن يكنز الكنوز ويرفع به القصور ويتخذ الحجاب ويعيش عيشة قيصر وكسرى.

وأما هؤلاء فإنما كانوا يقولونه دفعا لاعتراض الناس عليهم في صرف مال المسلمين في سبيل شهواتهم وبذله فيما لا يرضى الله ، ومنعه أهلية ومستحقيه أن المال للمسلمين تصرفونه في غير سبيلهم! فيقولون : إن المال مال الله ونحن أمناءه نعمل فيه بما نراه فيستبيحون بذلك اللعب بمال الله كيف شاءوا ويستنتجون به صحة عملهم فيه بما أرادوا وهو لا ينتج إلا خلافه ، ومال الله ومال المسلمين بمعنى واحد ، وقد أخذوهما لمعنيين اثنين يدفع أحدهما الآخر.

ولو كان مراد معاوية بقوله : « المال مال الله » هو الصحيح من معناه لم يكن معنى لخروج أبي ذر من عنده وندائه في الملإ من الناس : بشر الكانزين بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور.

على أن معاوية قد قال لأبي ذر إنه يرى أن آية الكنز خاصة بأهل الكتاب وربما كان من أسباب سوء ظنه بهم إصرارهم عند كتابة مصحف عثمان أن يحذفوا الواو من قوله : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ » إلخ حتى هددهم أبي بالقتال إن لم يلحقوا الواو فألحقوها وقد مرت الرواية.

فالقصة في حديث الطبري عن سيف عن شعيب وإن سيقت بحيث تقضي على أبي ذر بأنه كان مخطئا في ما اجتهد به كما اعترف به الطبري في أول كلامه غير أن أطراف القصة تقضي بإصابته.

وبالجملة فالآية تدل على حرمة كنز الذهب والفضة فيما كان هناك سبيل لله يجب إنفاقه فيه وضرورة داعية إليه لمستحقي الزكاة مع الامتناع من تأديتها ، والدفاع الواجب مع عدم النفقة وانقطاع سبيل البر والإحسان بين الناس.

ولا فرق في تعلق وجوب الإنفاق بين المال الظاهر الجاري في الأسواق وبين

٢٦٥

الكنز المدفون في الأرض غير أن الكنز يختص بشيء زائد وهو خيانة ولي الأمر في ستر المال وغروره كما تقدم ذكره في البيان المتقدم.

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاتَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧).

( بيان )

في الآيتين بيان حرمة الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب الفرد وتثبيت حرمتها وإلغاء نسيء الجاهلية ، وفيها الأمر بقتال المشركين كافة.

قوله تعالى : « إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » الشهر كالسنة والأسبوع مما يعرفه عامة الناس منذ أقدم أعصار الإنسانية ، وكان لبعضها تأثيرا في تنبههم للبعض فقد كان الإنسان يشاهد تحول السنين ومرورها بمضي الصيف والشتاء والربيع والخريف وتكررها بالعود ثم العود ثم تنبهوا لانقسامها إلى أقسام هي أقصر منها مدة حسب ما ساقهم إليه مشاهدة اختلاف أشكال القمر من الهلال إلى الهلال ، وينطبق على ما يقرب من ثلاثين يوما وتنقسم بذلك السنة إلى اثني عشر شهرا.

والسنة التي ينالها الحس شمسية تتألف من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وبعض

٢٦٦

يوم لا تنطبق على اثني عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما تقريبا إلا برعاية حساب الكبيسة غير أن ذلك هو الذي يناله الحس وينتفع به عامة الناس من الحاضر والبادي والصغير والكبير والعالم والجاهل.

ثم قسموا الشهر إلى الأسابيع وإن كان هو أيضا لا ينطبق عليها تمام الانطباق لكن الحس غلب هناك أيضا الحساب الدقيق ، وهو الذي أثبت اعتبار الأسبوع وأبقاه على حاله من غير تغيير مع ما طرأ على حساب السنة من الدقة من جهة الإرصاد ، وعلى حساب الشهور من التغيير فبدلت الشهور القمرية شمسية تنطبق عليها السنة الشمسية تمام الانطباق.

وهذا بالنسبة إلى النقاط الاستوائية وما يليها من النقاط المعتدلة أو ما يتصل بها من الأرض إلى عرض سبع وستين الشمالي والجنوبي تقريبا ، وفيها معظم المعمورة وأما ما وراء ذلك إلى القطبين الشمالي والجنوبي فيختل فيها حساب السنة والشهر والأسبوع ، والسنة في القطبين يوم وليلة ، وقد اضطر ارتباط بعض أجزاء المجتمع الإنساني ببعض سكان هذه النقاط ـ وهم شرذمة قليلون ـ أن يراعوا في حساب السنة والشهر والأسبوع واليوم ما يعتبره عامة سكان المعمورة فحساب الزمان الدائر بيننا إنما هو بالنسبة إلى جل سكان المعمورة من الأرض.

على أن هذا إنما هو بالنسبة إلى أرضنا التي نحن عليها ، وأما سائر الكواكب فالسنة ـ وهي زمان الحركة الانتقالية من الكوكب حول الشمس دورة واحدة كاملة ـ فيها تختلف وتتخلف عن سنتنا نحن ، وكذلك الشهر القمري فيما كان له قمر أو أقمار منها على ما فصلوه في فن الهيئة.

فقوله تعالى : « إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً » إلخ ناظر إلى الشهور القمرية التي تتألف منها السنون وهي التي لها أصل ثابت في الحس وهو التشكلات القمرية بالنسبة إلى أهل الأرض.

والدليل على كون المراد بها الشهور القمرية ـ أولا ـ قوله بعد : « مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ » لقيام الضرورة على أن الإسلام لم يحرم إلا أربعة من الشهور القمرية التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، والأربعة من القمرية دون الشمسية.

٢٦٧

وثانيا : قوله : « عِنْدَ اللهِ » وقوله : « فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » فإن هذه القيود تدل على أن هذه العدة لا سبيل للتغير والاختلاف إليها لكونها عند الله كذلك ولا يتغير علمه ، وكونها في كتاب الله كذلك يوم خلق السماوات والأرض فجعل الشمس تجري لمستقر لها ، والقمر قدره منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين ، ولا معقب لحكمه تعالى.

ومن المعلوم أن الشهور الشمسية وضعية اصطلاحية وإن كانت الفصول الأربعة والسنة الشمسية على غير هذا النعت فالشهور الاثنا عشر التي هي ثابتة ذات أصل ثابت هي الشهور القمرية.

فمعنى الآية إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا تتألف منها السنون ، وهذه العدة هي التي في علم الله سبحانه ، وهي التي أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والأرض وأجرى الحركات العامة التي منها حركة الشمس وحركة القمر حول الأرض وهي الأصل الثابت في الكون لهذه العدة.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بكتاب الله في الآية القرآن أو كتاب مكتوب فيه عدة الشهور على حد الكتب والدفاتر التي عندنا المؤلفة من قراطيس وأوراق يضبط فيها الألفاظ بخطوط خاصة وضعية.

قوله تعالى : « مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ » الحرم جمع حرام وهو الممنوع منه ، والقيم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة أمور حياتهم وحفظ شئونها.

وقوله : « مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ » هي الأشهر الأربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بالنقل القطعي ، والكلمة كلمة تشريع بدليل قوله : « ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » إلخ.

وإنما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حرما ليكف الناس فيها عن القتال وينبسط عليهم بساط الأمن ، ويأخذوا فيها الأهبة للسعادة ، ويرجعوا إلى ربهم بالطاعات والقربات.

وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم ، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية

٢٦٨

حينما كانوا يعبدون الأوثان غير أنهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو أزيد منها بالنسيء الذي تتعرض له الآية التالية.

وقوله : « ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » ، الإشارة إلى حرمة الأربعة المذكورة ، والدين كما تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى أن تحريم الأربعة من الشهور القمرية هو الدين الذي يقوم بمصالح العباد. كما يشير إليه في قوله : « جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ » الآية : المائدة : ـ ٩٧ وقد تقدم الكلام فيه في الجزء السادس من الكتاب.

وقوله : « فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ » الضمير إلى الأربعة إذ لو كان راجعا إلى « اثْنا عَشَرَ » المذكور سابقا لكان الظاهر أن يقال « فيها » كما نقل عن الفراء ، وأيضا لو كان راجعا إلى « اثْنا عَشَرَ » وهي تمام السنة لكان قوله : « فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ » كما قيل في معنى قولنا : فلا تظلموا أبدا أنفسكم ، وكان الكلام متفرعا على كون عدة الشهور عند الله اثني عشر شهرا ، ولا تفرع له عليه ظاهرا فالمعنى لما كانت هذه الأربعة حرما تفرع على حرمتها عند الله أن تكفوا فيها عن ظلم أنفسكم رعاية لحرمتها وعظم منزلتها عند الله سبحانه.

فالنهي عن الظلم فيها يدل على عظم الحرمة وتأكدها لتفرعها على حرمتها أولا ولأنها نهي خاص بعد النهي العام كما يفيده قولنا : لا تظلم أبدا ولا تظلم في زمان كذا.

والجملة أعني قوله : « فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ » وإن كانت بحسب إطلاق لفظها نهيا عن كل ظلم ومعصية لكن السياق يدل على كون المقصود الأهم منها النهي عن القتال في الأشهر الحرم.

قوله تعالى : « وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » قال الراغب في المفردات ، : الكف كف الإنسان وهي ما بها يقبض ويبسط ، وكففته أصبت كفه ، وكففته أصبته بالكف ودفعته بها ، وتعورف الكف بالدفع على أي وجه كان ، بالكف كان أو غيرها حتى قيل : رجل مكفوف لمن قبض بصره.

وقوله : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ » أي كافا لهم عن المعاصي ، والهاء فيه للمبالغة كقولهم : راوية وعلامة ونسابة ، وقوله : « وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ

٢٦٩

كَافَّةً » قيل : معناه كافين لهم كما يقاتلونكم كافين وقيل معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة ، وذلك أن الجماعة يقال لهم : الكافة كما يقال لهم : الوازعة لقوتهم باجتماعهم ، وعلى هذا قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً » انتهى.

وقال في المجمع ، : كافة بمعنى الإحاطة مأخوذ من كفة الشيء وهي طرفه وإذا انتهى الشيء إلى ذلك كف عن الزيادة ، وأصل الكف المنع. انتهى.

وقوله : « كَافَّةً » في الموضعين حال عن الضمير الراجع إلى المسلمين أو المشركين أو في الأول عن الأول وفي الثاني عن الثاني أو بالعكس فهناك وجوه أربعة ، والمتبادر إلى الذهن هو الوجه الرابع للقرب اللفظي الذي بين الحال وذي الحال حينئذ ، ومعنى الآية على هذا : وقاتلوا المشركين جميعهم كما يقاتلونكم جميعكم.

فالآية توجب قتال جميع المشركين فتصير نظيره قوله تعالى : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » الآية ينسخ هذه ما ينسخ تلك وتتخصص أو تتقيد بما تخصص أو تقيد به هي.

والآية مع ذلك إنما تتعرض لحال القتال مع المشركين وهم عبدة الأوثان غير أهل الكتاب فإن القرآن وإن كان ربما نسب الشرك تصريحا أو تلويحا إلى أهل الكتاب لكنه لم يطلق المشركين على طريق التوصيف إلا على عبدة الأوثان ، وأما الكفر فعلا أو وصفا فقد نسب إلى أهل الكتاب وأطلق عليهم كما نسب وأطلق إلى عبدة الأوثان.

فالآية أعني قوله : « وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً » الآية لا هي ناسخة لآية أخذ الجزية من أهل الكتاب ، ولا هي مخصصة أو مقيدة بها. وقد قيل في الآية بعض وجوه أخر تركناه لعدم جدوى في التعرض له.

وقوله : « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » تعليم وتذكير وفيه حث على الاتصاف بصفة التقوى يترتب عليه من الفائدة : أولا : الوعد الجميل بالنصر الإلهي والغلبة والظفر فإن حزب الله هم الغالبون.

وثانيا : منعهم أن يتعدوا حدود الله في الحروب والمغازي بقتل النساء والصبيان ومن ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مرأة فأرسل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينهاه عن ذلك وقتل رجالا من بني جذيمة وقد أسلموا فوداهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتبرأ إلى

٢٧٠

الله من فعله ثلاثا (١) ، وقتل أسامة يهوديا أظهر له الإسلام فنزل قوله تعالى : « وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ » النساء : ـ ٩٤ وقد تقدم.

قوله تعالى : « إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ » إلى آخر الآية يقال : نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة ونسيئا إذا أخره تأخيرا ، وقد يطلق النسيء على الشهر الذي أخر تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهلية فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره وأما أنه كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسرين كأهل التاريخ.

والذي يظهر من خلال الكلام المسرود في الآية أنه كانت لهم فيما بينهم سنة جاهلية في أمر الأشهر الحرم وهي المسماة بالنسيء ، وهو يدل بلفظه على تأخير الحرمة من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرمة الذي بعده ، وأنهم إنما كانوا يؤخرون الحرمة ولا يبطلونها برفعها من أصلها لإرادتهم بذلك أن يتحفظوا على سنة قومية ورثوها عن أسلافهم عن إبراهيم عليه‌السلام.

فكانوا لا يتركون أصل التحريم لغي وإنما يؤخرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد ليواطئوا عدة ما حرم الله ، وهي الأربعة ثم يعودون ويعيدون الحرمة إلى مكانها الأول.

وهذا نوع تصرف في الحكم الإلهي بعد كفرهم بالله باتخاذ الأوثان شركاء له تعالى وتقدس ، ولذا عده الله سبحانه في كلامه زيادة في الكفر.

وقد ذكر الله سبحانه من الحكم الخاص بحرمة الأشهر الحرم النهي عن ظلم الأنفس حيث قال : « فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ » وأظهر مصاديقه القتال كما أنه المصداق الوحيد الذي استفتوا فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فحكاه الله سبحانه بقوله : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ » الآية : البقرة : ـ ٢١٧ وكذا ما في معناه من قوله : « لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ » المائدة : ـ ٢ وقوله : « جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ » المائدة : ـ ٩٧.

وكذلك الأثر الظاهر من حرمة البيت أو الحرم هو جعل الأمن فيه كما قال : « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » آل عمران : ـ ٩٧ وقال : « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً » القصص : ـ ٥٧.

فالظاهر أن النسيء الذي تذكره الآية عنهم إنما هو تأخير حرمة الشهر الحرام.

__________________

(١) القصتان الأوليان مذكرتان في كتب السير والمغازي والثالثة تقدمت في تفسير الآية سابقا.

٢٧١

للتوسل بذلك إلى قتال فيه لا لتأخير الحج الذي هو عبادة دينية مختصة ببعضها.

وهذا كله يؤيد ما ذكروه أن العرب كانت تحرم هذه الأشهر الحرم ، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل عليه‌السلام ، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يعود التحريم إلى المحرم ، ولا يفعلون ذلك أي إنساء حرمة المحرم إلى صفر إلا في ذي الحجة.

وأما ما ذكره بعضهم أن النسيء هو ما كانوا يؤخرون الحج من شهر إلى شهر فمها لا ينطبق على لفظ الآية البتة ، وسيجيء تفصيل الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. ولنرجع إلى ما كنا فيه.

فقوله تعالى : « إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ » أي تأخير الحرمة التي شرعها الله لهذه الأشهر الحرم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر لأنه تصرف في حكم الله المشروع وكفر بآياته بعد الكفر بالله من جهة الشرك فهو زيادة في الكفر.

وقوله : « يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا » أي ضلوا فيه بإضلال غيرهم إياهم بذلك ، وفي الكلام إشعار أو دلالة على أن هناك من يحكم بالنسيء ، وقد ذكروا أن المتصدي لذلك كان بعض بني كنانة ، وسيجيء تفصيله في البحث الروائي إن شاء الله.

وقوله : « يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ » في موضع التفسير للإنساء ، والضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام أي وهو أنهم يحلون الشهر الحرام الذي نسئوه بتأخير حرمته عاما ويحرمونه عاما ، أي يحلونه عاما بتأخير حرمته إلى غيره ، ويحرمونه عاما بإعادة حرمته إليه.

وإنما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة والإثبات أخرى ليواطئوا ويوافقوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله في حال حفظهم أصل العدد أي إنهم يريدون التحفظ على حرمة الأشهر الأربعة بعددها مع التغيير في محل الحرمة ليتمكنوا مما يريدونه من الحروب والغارات مع الاستنان بالحرمة.

وقوله : « زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ » المزين هو الشيطان كما وقع في آيات من الكتاب ، وربما نسب إلى الله سبحانه كما في آيات أخر ،

٢٧٢

ولا ينسب الشر إليه سبحانه إلا ما قصد به الجزاء على الشر كما قال تعالى : « يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » البقرة : ـ ٢٦.

وذلك بأن يفسق العبد فيمنعه الله الهداية فيكون ذلك إذنا لداعي الضلال وهو الشيطان أن يزين له سوء عمله فيغويه ويضله ، ولذلك قال تعالى : « زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ » ثم عقبه بقوله : « وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ » كأنه لما قيل : زين لهم سوء أعمالهم قيل : كيف أذن الله فيه ولم يمنع ذلك قيل : إن هؤلاء كافرون والله لا يهدي القوم الكافرين.

( بحث روائي )

في تفسير العياشي ، عن أبي خالد الواسطي في حديث ثم قال ـ يعني أبا جعفر عليه‌السلام ـ حدثني أبي عن علي بن الحسين عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما ثقل في مرضه ـ قال : أيها الناس إن السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ـ ثم قال بيده : رجب مفرد ـ وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاث متواليات.

أقول : وقد ورد في عدة روايات تأويل الشهور الاثني عشر ، بالأئمة الاثني عشر ، وتأويل الأربعة الحرم بعلي أمير المؤمنين وعلي بن الحسين وعلي بن موسى وعلي بن محمد عليه‌السلام ، وتأويل السنة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانطباقها على الآية بما لها من السياق لا يخلو عن خفاء.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب في حجته فقال : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته ـ يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ـ ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان.

أقول : وهي من خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المشهورة ، وقد رويت بطرق أخرى عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعن أبي حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة وغيرهم.

والمراد باستدارة الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض استقرار الأحكام الدينية على ما تقتضيه الفطرة والخلقة وتمكن الدين القيم من الرقابة في أعمال الناس ، ومن

٢٧٣

ذلك حرمة الأشهر الأربعة الحرم وإلغاء النسيء الذي هو زيادة في الكفر.

وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعقبة ـ فقال : إن النسيء من الشيطان زيادة في الكفر ـ يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ـ ويحرمونه عاما فكانوا يحرمون المحرم عاما ـ ويحرمون صفر عاما ويستحلون وهو النسيء.

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان جنادة بن عوف الكناني يوفي الموسم كل عام ـ وكان يكنى أبا ثمادة فينادي : ألا إن أبا ثمادة لا يخاف ولا يعاب ـ ألا إن صفر الأول حلال ـ.

وكان طوائف من العرب ـ إذا أرادوا أن يغيروا على بعض عدوهم أتوه ـ فقالوا : أحل لنا هذا الشهر يعنون صفر ، وكانت العرب لا تقاتل في الأشهر الحرم فيحله لهم عاما ، ويحرمه عليهم في العام الآخر ، ويحرم المحرم في قابل ليواطئوا عدة ما حرم الله يقول : ليجعلوا الحرم أربعة ـ غير أنهم جعلوا صفر عاما حلالا وعاما حراما.

وفيه ، أخرج ابن المنذر عن قتادة : في قوله : « إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ » الآية ـ قال : عمد أناس من أهل الضلالة فزادوا صفر في الأشهر الحرم ، وكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول : إن آلهتكم قد حرمت صفر فيحرمونه ذلك العام ـ وكان يقال لهما الصفران.

وكان أول من نسأ النسيء بنو مالك من كنانة ، وكانوا ثلاثة أبو ثمامة صفوان بن أمية ـ وأحد بني فقيم بن الحارث ، ثم أحد بني كنانة.

وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي : في الآية قال : كان رجل من بني كنانة ـ يقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أمامة ينسئ الشهور ، وكانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر ـ لا يغير بعضهم على بعض ـ فإذا أراد أن يغير على أحد قام يوما بمنى ـ فخطب فقال : إني قد أحللت المحرم ـ وحرمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرم ـ فإذا كان صفر عمدوا ووضعوا الأسنة ـ ثم يقوم في قابل فيقول : إني قد أحللت صفر وحرمت المحرم ـ فيواطئوا أربعة أشهر فيحلوا المحرم.

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس : في قوله : « يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً » قال : هو صفر كانت هوازن وغطفان يحلونه سنة ويحرمونه سنة.

٢٧٤

أقول : محصل الروايات ـ كما ترى ـ أن العرب كانت تدين بحرمة الأشهر الحرم الأربعة رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم ثم إنهم ربما كانوا يتحرجون من القعود عن الحروب والغارات ثلاثة أشهر متواليات فسألوا بعض بني كنانة أن يحل لهم ثالث الشهور الثلاثة فقام فيهم بعض أيام الحج بمنى وأحل لهم المحرم ونسأ حرمته إلى صفر فذهبوا لوجههم عامهم ذلك يقاتلون العدو ثم رد الحرمة إلى مكانه في قابل وهذا هو النسيء.

وكان يسمى المحرم صفر الأول وصفر الثاني وهما صفران كالربيعين والجماديين والنسيء إنما ينال صفر الأول ولا يتعدى صفر الثاني فلما أقر الإسلام الحرمة لصفر الأول عبروا عنه بشهر الله المحرم ثم لما كثر الاستعمال خففت وقيل : المحرم ، واختص اسم صفر بصفر الثاني فالمحرم من الألفاظ الإسلامية كما ذكره السيوطي في المزهر.

وفيه ، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد : في قوله : « إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ » قال : ـ فرض الله الحج في ذي الحجة ، وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة والمحرم ـ وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ـ ورجب وشعبان ورمضان وشوال ـ وذا القعدة وذا الحجة ثم يحجون فيه ـ.

ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ـ ثم يعودون فيسمون صفر صفر ـ ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ـ ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال ، ويسمون ذا القعدة شوال ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ـ ثم يسمون المحرم ذا الحجة ـ ثم يحجون فيه واسمه عندهم ذو الحجة ـ.

ثم عادوا إلى مثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عاما ـ حتى وافق حجة أبي بكر الآخرة من العام في ذي القعدة ـ ثم حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حجته التي حج فيها فوافق ذو الحجة ـ فذلك حين يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض.

أقول : ومحصله على ما فيه من التشويش والاضطراب أن العرب كانت قبل الإسلام يحج البيت في ذي الحجة غير أنهم أرادوا أن يحجوا كل عام في شهر فكانوا يدورون بالحج الشهور شهرا بعد شهر وكل شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سموه ذا الحجة وسكتوا عن اسمه الأصلي.

٢٧٥

ولازم ذلك أن يتألف كل سنة فيها حجة من ثلاثة عشر شهرا وأن يتكرر اسم بعض الشهور مرتين أو أزيد كما يشعر به الرواية ، ولذا ذكر الطبري أن العرب كانت تجعل السنة ثلاثة عشر شهرا ، وفي رواية اثني عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما.

ولازم ذلك أيضا أن تتغير أسماء الشهور كلها ، وأن لا يواطئ اسم الشهر نفس الشهر إلا في كل اثنتي عشرة سنة مرة إن كان التأخير على نظام محفوظ ، وذلك على نحو الدوران.

ومثل هذا لا يقال له الإنساء والتأخير فإن أخذ السنة ثلاثة عشر وتسمية آخرها ذا الحجة تغيير لأصل التركيب لا تأخير لبعض الشهور بحسب الحقيقة.

على أنه مخالف لسائر الأخبار والآثار المنقولة ولا مأخذ لذلك إلا هذه الرواية وما ضاهاها كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كانت العرب يحلون عاما شهرا وعاما شهرين ، ولا يصيبون الحج إلا في كل ستة وعشرين سنة مرة ـ وهو النسيء الذي ذكر الله تعالى في كتابه ـ فلما كان عام الحج الأكبر ـ ثم حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من العام المقبل ـ فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وهو في الاضطراب كخبر مجاهد.

على أن الذي ذكره من حجة أبي بكر في ذي القعدة هو الذي ورد من طرق أهل السنة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل أبا بكر أميرا للحج عام تسع فحج بالناس ، وقد ورد في بعض روايات أخر أيضا أن الحجة عامئذ كانت في ذي القعدة.

وهذه الحجة على أي نعت فرضت كانت بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمضائه ، ولا يأمر بشيء ولا يمضي أمرا إلا ما أمر به ربه تعالى ، وحاشا أن يأمر الله سبحانه بحجة في شهر نسيء ثم يسميها زيادة في الكفر.

فالحق أن النسيء هو ما تقدم أنهم كانوا يتحرجون من توالي شهور ثلاثة محرمة فينسئون حرمة المحرم إلى صفر ثم يعيدونها مكانها في العام المقبل.

وأما حجهم في كل شهر سنة أو في كل شهر سنتين أو في شهر سنة وفي شهر سنتين فلم يثبت عن مأخذ واضح يوثق به ، وليس من البعيد أن تكون عرب الجاهلية مختلفين في ذلك لكونهم قبائل شتى وعشائر متفرقة كل متبع لهوى نفسه غير أن الحج كان عبادة ذات موسم لا يتخلفون عنه لحاجتها إلى أمن لنفوسهم وحرمة لدمائهم ،

٢٧٦

وما كانوا يتمكنون من ذلك لو كان أحل الشهر بعضهم وحرمه آخرون على اختلاف في شاكلة التحريم ، وهو ظاهر.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ

٢٧٧

فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨).

( بيان )

تعرض للمنافقين وفيه بيان لجمل أوصافهم وعلائمهم ، وشرح ما لقي الإسلام والمسلمون من كيدهم ومكرهم وما قاسوه من المصائب من جهة نفاقهم ، وفي مقدمها عتاب المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد ، وحديث خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة وذكر الغار.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ » الآية ( اثَّاقَلْتُمْ ) أصله تثاقلتم على وزان اداركوا وغيره ، وكأنه أشرب معنى الميل ونحوه فعدي بإلى وقيل : اثاقلتم إلى الأرض أي ملتم إلى الأرض متثاقلين أو تثاقلتم مائلين إلى الأرض والمراد بالنفر في سبيل الله الخروج إلى الجهاد.

وقوله : « أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ » كان الرضا أشرب معنى القناعة فعدي بمن كما يقال : رضيت من المال بطيبه ، ورضيت من القوم بخلة فلان ، وعلى هذا ففي الكلام نوع من العناية المجازية كأن الحياة الدنيا نوع حقير من الحياة الآخرة قنعوا بها منها ، ويشعر بذلك قوله بعده : « فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ».

فمعنى الآية : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لم يصرح باسمه صونا وتعظيما ـ اخرجوا إلى الجهاد أبطأتم كأنكم لا تريدون الخروج أقنعتم بالحياة الدنيا راضين بها من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة إلا قليل.

٢٧٨

وفي الآية وما يتلوها عتاب شديد للمؤمنين وتهديد عنيف وهي تقبل الانطباق على غزوة تبوك كما ورد ذلك في أسباب النزول.

قوله تعالى : « إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ » إلى آخر الآية العذاب الذي أنذروا به مطلق غير مقيد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الآخرة بل هو على إبهامه ، وربما أيد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا والآخرة جميعا.

وقوله : « يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ » أي يستبدل بكم قوما غيركم لا يتثاقلون في امتثال أوامر الله والنفر في سبيل الله إذا قيل لهم : انفروا ، والدليل على هذا المعنى قرينة المقام.

وقوله : « وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً » إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد أن يذهب بهم ويأتي بآخرين فإن الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لأنفسهم فضررهم على أنفسهم ، وقوله : « وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » تعليل لقوله : « يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ».

قوله تعالى : « إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ » ثاني اثنين أي أحدهما ، والغار الثقبة العظيمة في الجبل ، والمراد به غار جبل ثور قرب مني وهو غير غار حراء الذي ربما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأوي إليه قبل البعثة للأخبار المستفيضة ، والمراد بصاحبه هو أبو بكر للنقل القطعي.

وقوله : « إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا » أي لا تحزن خوفا مما تشاهده من الوحدة والغربة وفقد الناصر وتظاهر الأعداء وتعقيبهم إياي فإن الله سبحانه معنا ينصرني عليهم.

وقوله : « فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها » أي أنزل الله سكينته على رسوله وأيد رسوله بجنود لم تروها يصرفون القوم عنهم بوجوه من الصرف بجميع العوامل التي عملت في انصراف القوم عن دخول الغار والظفر به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد روي في ذلك أشياء ستأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

والدليل على رجوع الضمير في قوله : « فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ » إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولا : رجوع الضمائر التي قبله وبعده إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله كقوله : « إِلَّا تَنْصُرُوهُ » و « نَصَرَهُ » و « أَخْرَجَهُ » و « يَقُولُ » و « لِصاحِبِهِ » و « أَيَّدَهُ » فلا سبيل إلى رجوع ضمير « عَلَيْهِ » من بينها وحده إلى غيره من غير قرينة قاطعة تدل عليه.

٢٧٩

وثانيا : أن الكلام في الآية مسوق لبيان نصر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث لم يكن معه أحد ممن يتمكن من نصرته إذ يقول تعالى : « إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ » الآية وإنزال السكينة والتقوية بالجنود من النصر فذاك له صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة.

ويدل على ذلك تكرار « إِذْ » وذكرها في الآية ثلاث مرات كل منها بيان لما قبله بوجه فقوله « إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا » بيان لوقت قوله : « فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ » وقوله : « إِذْ هُما فِي الْغارِ » بيان لتشخيص الحال الذي هو قوله : « ثانِيَ اثْنَيْنِ » وقوله : « إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ » بيان لتشخيص الوقت الذي يدل عليه قوله : « إِذْ هُما فِي الْغارِ ».

وثالثا : أن الآية تجري في سياق واحد حتى يقول : « وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا » ولا ريب أنه بيان لما قبله ، وأن المراد بكلمة الذين كفروا هي ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإطفاء نور الله ، وبكلمة الله هي ما وعده من نصره وإتمام نوره ، وكيف يجوز أن يفرق بين البيان والمبين وجعل البيان راجعا إلى نصره تعالى إياه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمبين راجعا إلى نصره غيره.

فمعنى الآية : إن لم تنصروه أنتم أيها المؤمنون فقد أظهر الله نصره إياه في وقت لم يكن له أحد ينصره ويدفع عنه وقد تظاهرت عليه الأعداء وأحاطوا به من كل جهة وذلك إذ هم المشركون به وعزموا على قتله فاضطر إلى الخروج من مكة في حال لم يكن إلا أحد رجلين اثنين ، وذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لصاحبه وهو أبو بكر : لا تحزن مما تشاهده من الحال إن الله معنا بيده النصر فنصره الله.

حيث أنزل سكينته عليه وأيده بجنود غائبة عن أبصاركم ، وجعل كلمة الذين كفروا ـ وهي قضاؤهم بوجوب قتله وعزيمتهم عليه ـ كلمة مغلوبة غير نافذة ولا مؤثرة ، وكلمة الله ـ وهي الوعد بالنصر وإظهار الدين وإتمام النور ـ هي العليا العالية القاهرة والله عزيز لا يغلب حكيم لا يجهل ولا يغلط في ما شاءه وفعله.

وقد تبين مما تقدم أولا أن قوله : « فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ » متفرع على قوله : « فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ » في عين أنه متفرع على قوله : « إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ » فإن الظرف ظرف للنصرة على ما تقدم ، والكلام مسوق لبيان نصره تعالى إياه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا غيره فالتفريع تفريع على الظرف بمظروفه الذي هو قوله : « فَقَدْ نَصَرَهُ

٢٨٠