الدّرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنيّة

المؤلف:

محمد إسماعيل الخواجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

على صحة مذهب من قال بأن تطويل المدة في لا اله الا الله مندوب اليه مستحسن.

لان المكلف في زمان التمديد يستحضر في ذهنه جميع ما سوى الله من الاضداد والانداد وينفيها ، ثم يعقب ذلك بقوله « الا الله » فيكون ذلك اقرب الى الكمال والاخلاص.

ومن الناس من يقول بأولوية ترك التمديد ، مستدلا بأنه ربما مات في زمان التلفظ بـ « لا » قبل الانتقال الى « الا ».

اقول : وهذا القول مع كونه مخالفا لقواعد التجويد ، ومناقضا لصريح الرواية. مدفوعة بأن من مات في زمن التلفظ بـ « لا » قبل الوصول الى « الا » لا شك انه مات مؤمناً ، لانه عقد بهذه الكلمة قلبه ، ثم اراد ان يخبر بما في ضميره ليكون ذلك دليلاً عليه ، فلم يجد مهلة ، فلم يلزم منه كفره ، وخاصة اذا كان المتلفظ بها مؤمناً.

وانما يلزم كفره او عدم انتقاله منه الى الايمان ان لو وجد من الفرصة ما امكنه ان يقول « الا الله » ثم لم يقل ومات.

وأما ما فصله الفخر الرازي ، واستحسنه الصدر الشيرازي ، واثنى عليه في رسالته المعمولة لتفسير آية الكرسي ، من ان المتلفظ بهذه الكلمة ان كان يتلفظ بها لينتقل من الكفر الى الايمان ، فترك التمديد اولى ، حتى يحصل الانتقال من الكفر الى الايمان بأسرع الوجوه.

وان كان مؤمناً وانما يذكرها للتجويد ، فالتمديد اولى ، لتحصل في زمانه سورة الاضداد في الخاطر وينفيها ، ثم يعقبها بقوله « الا الله » فيكون الاقرار بالالهية اصفى واكمل.

فهو مع كونه غير دافع لما سبق من اولوية ترك التمديد ، فما ذكره من

١٦١

أولويته معارض به. وانما يدفعه ما ذكرنا مخالف لمذهبه ، فان الانتقال من الكفر الى الايمان على مذهبه قد حصل بمجرد التصديق القلبي ، كما هو مذهب الاشاعرة وهو منهم « وانما جعل اللسان على الجنان دليلاً ».

فهو على مذهبه كاشف عن ايمانه السابق على زمن التلفظ بهذه الكلمة لا مصحح له ومتمم.

نعم ما ذكره يصح على مذهب من قال : ان التصديق وحده ليس بايمان ، بل الايمان هو التصديق بالقلب مع الاقرار بالشهادتين ، كما هو المنقول عن ابي حنيفة ، واليه مال صاحب التجريد.

وبالجملة فالتمديد بها مطلقاً ، كما هو ظاهر الرواية ، حيث رتب تناثر الذنوب على قول لا اله الا الله لا مطلقا بل مقيدا بمد الصوت بها ، ليشعر بعليته للحكم ، مستحسن اليه مندوب.

بل الظاهر عندي ان الغرض من التمديد مجرد اللفظ وتحسينه على ما تقتضيه القوانين التجويدية ، لا الاستحضار المذكور.

فان المتلفظ بالكلمة ان كان عالما بوضع الفاظها ، يستحضر الاضداد وينفيها ، ويثبت الاله الحق بمجرد الالتفات الى معانيها ، مد صوته في « لا » ام لا.

وان لم يكن عالماً ، او كان ولم يكن ملتفتا ، فلم يتسير له الاستحضار ، مد ام لم يمد ، فان المدة لا توجب الاستحضار ، كما لا يخفى علي ذوي الابصار.

واعلم ان ترتب الثواب على قول « لا اله الا الله » مشروط بشروط لا يتحقق بدونها. منها : ان يكون قلبه مواطئا للسانه ، كما ورد في خبر آخر نبوي : ان لا اله الا الله كلمة عظيمة كريمة على الله عز وجل من قالها مخلصاً استوجب الجنة ، ومن قالها كاذباً عصمت ماله ودمه ، وكان مصيره الى النار (١).

____________

(١) التوحيد : ٢٣ ح ١٨.

١٦٢

فمن آمن بالله واليوم الاخر وبما جاء به الرسل ، ثم قال : لا اله الا الله ، ترتب عليه ثوابه. فالمطلق مقيد ، او العام مخصص.

وهذا مما انعقد عليه اجماع الامة ، ودل عليه الكتاب والسنة ، قال الله تعالى « ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً » (١).

وفي صحيح البخاري : عن وهب بن منبه قيل له : اليس لا اله الا الله مفتاح الجنة ، قال : بلى ولكن ليس مفتاح الا وله اسنان ، فان جئت بمفتاح له اسنان فتح لك والا لم يفتح.

ومنها : الولاية لاهل الولاية ، كما يدل عليه قول الرضا ـ عليه السلام ـ بعد ان روى عن جده عن جبرئيل عن الله جل جلاله : لا اله الا الله حصني ، فمن دخل حصني امن من عذابي ، بشروطها وانا من شروطها (٢).

وقال ابو سعيد الخدري : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ذات يوم جالسا وعنده نفر من اصحابه فيهم علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ اذ قال : من قال لا اله الا الله دخل الجنة ، فقال رجلان من اصحابه : فنحن نقول لا اله الا الله ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : انما تقبل شهادة ان لا اله الا الله من هذا وشيعته الذين اخذ ربنا ميثاقهم (٣).

وفي الكافي عن ابان بن تغلب عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال : يا أبان اذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث من شهد ان لا اله الا الله وجبت له الجنة.

قال قلت : انه يأتيني من كل صنف من الاصناف ، أفأروي لهم هذا الحديث؟

____________

(١) الاسراء : ١٩.

(٢) التوحيد : ٢٥ ح ٢٣.

(٣) بحار الانوار : ٩٣ / ٢٠٢ ح ٤٠ ، عن ثواب الاعمال.

١٦٣

قال : نعم يا أبان ، انه اذا كان يوم القيامة وجمع الله الاولين والاخرين فيسلب لا اله الا الله منهم الا من كان على هذا الامر (١).

ومنها ومن نظائرها يظهر ان من لم يكن موالياً لصاحب الولاية جعلت له الفداء ومن بعده من الائمة سلام الله عليهم ، تسلب منه ثمرة لا اله الا الله ، ويكون توحيده وتهليله في الدنيا مجرد تحريك لسان لا ينتفع به في الاخرة.

فلا اشكال ولا منافاة بين الاخبار المطلقة الدالة على ان من قال لا اله الا الله فله الجنة ، او دخل الجنة. والدالة على عدم دخول مخالفينا الجنة ، وان بذلوا جهدهم وبالغوا في العبادات بين الركن والمقام ، حتى صاروا كالشن البالي ، فانهم ليسوا من اهل التوحيد المنتفعين بتوحيدهم في الاخرة ، لما فاتهم من الولاية ، الشديدة الحاجة اليها في تحقق الايمان ، الموجب لدخول الجنة ، فالمطلق بهذا الوجه ايضا مقيد.

ومنها : ان يكون الموحد تاركا للدنيا وزاهدا عنها ، فعن حذيفة عن النبي عليه وعلى آله السلام قال : لا يزال لا اله الا الله ترد غضب الرب جل جلاله عن العباد ما كانوا لا يبالون ما انتقص من دنياهم اذا سلم دينهم ، فاذا كانوا لا يبالون ما انتقص من دينهم اذا سلم دنياهم ثم قالوها ردت عليهم ، وقيل : كذبتم ولستم بها صادقين (٢).

وهذا بعينه حال ابناء دهرنا هذا ، نعوذ بالله منهم اجمعين.

ومنها : الموافاة على التوحيد ، كما تدل عليه رواية ابي ذر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله : ما من عبد قال لا اله الا الله ، ثم مات على ذلك الا دخل الجنة (٣).

____________

(١) أصول الكافي : ٢ / ٥٢٠ ـ ٥٢١.

(٢) بحار الانوار : ٩٣ / ١٩٧ ح ٢٣ ، عن ثواب الاعمال.

(٣) كنز العمال : ١ / ٤٦ ح ١٢٠ وص : ٥٧ ح ١٨٣.

١٦٤

وبالجملة المراد بالموحد الذي لا يعذب بالنار اذا كان محسناً ، بأن يكون توحيده يحجزه عما حرم الله ، وهو علامة اخلاصه ، او يدخل الجنة ولو بعد تعذيب برزخي اذا كان مسيئاً ، هو من كان موالياً ثم مات على ذلك ، والا فتسلب عنه فوائد لا اله الا الله.

فالاخبار المطلقة الواردة في هذا الباب ، كقوله ـ صلى الله عليه وآله : من مات ولم يشرك بالله شيئا احسن او اساء دخل الجنة. (١) وقول الصادق ـ عليه السلام : ان الله حرم اجساد الموحدين على النار. (٢) وما شاكل ذلك مقيدة بما ذكرنا. فلا اشكال ولا تدافع.

ثم لما كان مبدأ الكمالات وجوب الوجود ، كما ان منشأ النقائص امكان الوجود ، فالمعبود بالحق هو الذي ثبت له وجوب الوجود وانتفى عنه الامكان.

فمعنى « لا اله الا انت » لا واجب الوجود الا انت ، فحينئذ يصح تقدير الممكن والموجود في خبر « لا » النافية للجنس.

اما الاول ، فلان مفهومه ان الله يمكن ان يكون واجب الوجود ، فحينئذ يندفع فساده المشهور ، وهو ان اللازم امكان وجوده تعالى لا ثبوت وجوده ، فلا يتم التوحيد ، بأن ما يمكن ان يكون واجب الوجود ، فهو واجب الوجود ، والا يكون : اما ممتنع الوجود او ممكنه ، وعلى التقديرين لا يكون واجب الوجود ، والا لزم الانقلاب.

وأما الثاني ، فلان فساده وهو ان اللازم نفي وجود الشريك لا نفي امكانه ، مندفع بأن نفي وجوب الوجود عما سواه يستلزم نفي امكان وجوب الوجود ايضا ، والا لثبت له نقيضه ، وهو امكان وجوب الوجود ، فيثبت له وجوب الوجود كما سبق ، هذا خلف.

____________

(١) التوحيد : ٣٠ ح ٣٢.

(٢) التوحيد : ٢٠ ح ٧.

١٦٥

وأما ما قيل من عدم الحاجة الى الخبر وان « الا الله » مبتدأ وخبره « لا اله » اذ كان اصل الله اله ، فلما اريد الحصر زيد لا والا ، ومعناه الله معبود بالحق لا غيره.

ففيه انه مع كونه مخالفا لما عليه النحاة من وجوب تقدير الخبر ، يرد عليه ان الاعتراض باق على حاله ، اذ لا معنى لرفع ذات الاله ، بل لا بد من نفي وجوده او امكانه.

ومنهم من قال : ان هذه الكلمة نقلت شرعا الى نفي الامكان والوجود عن اله سوى الله ، مع الدلالة على وجوده تعالى ، وان لم يدل عليه لغة.

وفيه ان هذه الكلمة مشهورة بكلمة التوحيد ، فمن قالها فهو موحد ، وان لم يعلم او يثبت عنده الحقائق الشرعية ، وكذا تقدير مستحق للعبادة لا يدل على نفي التعدد مطلقا ، بل على نفي المستحق فقط.

والصوفية لما رأوا دلالتها مفهوما على وجود غيره تعالى وراموا التفصي عنه اولوها بحمل كلمة « الا » على معنى الغير ، وجعلوها بدلاً عن محل اله المنفي ، فصار المعنى : انتفى غيره تعالى مطلقا لا في صفة الالوهية.

وهذا هو التوحيد العامي الذي هو نفي الشرك الاعظم الجلي ، المثبت بالدليل المعقول والمنقول ، قالوا : والمناقشة بأنه لا يلزم من انتفاء غيره ثبوته ، مندفعة ؛ اذ لا شك في وجود موجود ما.

وما ذهب اليه السوفسطائية ، من انه لا موجود في الحقيقة ، بل هو خيال ووهم. فهو خيال موهوم ، وامر بطلانه معلوم.

وأنت وكل من له ادنى بصيرة اذا صرف بصيرته نحو هذا الكلام يعرف ان الغرض منه نفي الوهية ما سوى الله واثبات الوهيته ، لا نفي ما سواه بالكلية واثبات وجوده فقط.

وهل يليق بالحكيم العليم ان يقول في كتابه العزيز الى رسوله الكريم

١٦٦

« فاعلم انه لا اله الا الله » (١) ويريد به وحدته في الوجود؟! وهو يفيد وحدته في الالوهية.

وهم بمثل هذا التأويل المستكره يضلون ويضلون ، فطوبى للذين هم كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله : يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين (٢).

وعلى تأويلهم هذا ، فمعنى كون هذه الكلمة توحيد انها تفيد ان الوجود واحد ، ويلزم منه ان يكون الاله واحداً ، فتكون دلالتها على وحدة الوجود مطابقة ، وعلى وحدة الاله التزاماً.

وهذا كما ترى صرف للكلام عن وجهه ، بل ابطال له بالكلية. وانما صرفوه الى ذلك ، وهم يعلمون قطعاً انه ليس المراد به ذلك ، لتغرير الناس في دعوتهم الى مذاهبهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة ، فنزلوا القرآن على طبق رأيهم ومذهبهم ، وفسروه بأهوائهم واشتهائهم ، على علم منهم قطعاً انه غير مراد به ، فذرهم وما يشتهون.

ومنهم من رام ان يصرف عنه ، ويذب ما يرد عليه ، وهو يقول بالوحدة ، فقال : اعلم ان الذكر القلبي من اعظم علامات المحبة ، لان من احب احداً ذكره دائماً أو غالباً.

وان اصل الذكر عند الطاعة والمعصية سبب لفعل الطاعة وترك المعصية ، وهما سببان لزيادة الذكر ورسوخه ، وهكذا يتبادلان الى ان يستولي المذكور ، وهو الله سبحانه على القلب ويتجلى فيه.

فالذاكر حينئذ يحبه حباً شديداً ، ويغفل عن جميع ما سواه حتى نفسه ، اذ الحب المفرط يمنع عن مشاهدة غير المحبوب.

____________

(١) محمد : ١٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ١ / ١٠.

١٦٧

وهذا المقام يسمى مقام الفناء في الله ، والواصل الى هذا المقام لا يرى في الوجود الا هو ، وهذا معنى وحدة الوجود ، لا بمعنى انه تعالى متحد مع الكل ، لانه محال وزندقة ، بل بمعنى ان الموجود في نظر الفاني هو لا غيره ، لانه تجاوز عن عالم الكثرة ، وجعله وراء ظهره وغفل عنه فافهم انتهى.

ولنا على ابطال وحدة الوجود رسالة مفردة وجيزة ، نقلنا فيها زبدة اقوالهم وعمدة ما تشبثوا به عليها ، واشرنا فيها الى ما فيه وعليه ، فليطلب من هناك.

١٦٨

(سورة الحج)

* هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم. [ الآية : ١٩ ]

قال في نهاية ابن الاثير : فيه « ان رجلاً أتاه وعليه مقطعات له » أي : ثياب قصار ، لانها قطعت عن بلوغ التمام.

وقيل : المقطع من الثياب كلما يفصل ويخاط من قميص وغيره ، وما لا يقطع كالارز والاردية.

ومن الاول حديث ابن عباس في وقت صلاة الضحى « اذا تقطعت الظلال » أي : قصرت ، لانها تكون بكرة ممتدة ، فكلما ارتفعت الشمس قصرت.

ومن الثاني حديث ابن عباس في صفة نخل الجنة « منها مقطعاتهم وحللهم » ولم يكن يصفها بالقصر لانه عيب.

وقيل : المقطعات لا واحد لها ، فلا يقال للجبة القصيرة مقطعة ، ولا للقميص مقطع ، وانما يقال لجملة الثياب القصار مقطعات واحد ثوب (١) انتهى.

وانما قصرت ثياب اهل النار وقطعت دون بلوغ التمام ، لتناسب هيئآتهم صورهم في القباحة والشناعة ؛ لان الثياب القصار عن بلوغ التمام عيب تحدث في لابسها قباحة المنظر وكراهة المحضر.

وظني ان هذا الوجه اعذب مما افاده الشيخ البهائي في الاربعين ، حيث قال :

____________

(١) نهاية ابن الاثير : ٤ / ٨١ ـ ٨٢.

١٦٩

ولعل السر في ثياب اهل النار مقطعات ، كونها اشد اشتمالاً على البدن ، فالعذاب بها اشد (١).

وفي تفسير علي بن ابراهيم في ذيل كريمة « فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار » في صحيحة ابي بصير عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ حديث يذكر فيه شدة عذاب جهنم ، نعوذ بالله منه : ولو ان سربالاً من سرابيل اهل النار علق بين السماء والارض ، لمات اهل الارض من ريحه ووهجه (٢).

* ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وان الله سميع بصير. [ الآية : ٦١ ]

ايلاجه تعالى الليل في النهار وبالعكس ، ادخاله احدهما في الاخر : اما بالتعقيب بأن يأتي به بدلاً مكانه وذلك كلي ، او بالزيادة والنقصان وهذا اكثري.

بيانه : ان كل ما زاد في النهار نقص من الليل وبالعكس ، واطول ما يكون من النهار يوم سابع عشر حزيران عند حلول الشمس آخر الجوزاء ، فيكون النهار حينئذ خمس عشر ساعة والليل تسع ساعات ، وهو اقصر ما يكون من الليل.

ثم يأخذ في النقصان والليل في الزيادة الى ثامن عشر ايلول عند حلول الشمس آخر السنبلة ، فيستوي الليل والنهار ، ويسمى الاعتدال الخريفي ، فيصير كل منهما اثنتا عشر ساعة.

ثم ينقص النهار ويزيد الليل الى سابع عشر من كانون الاول عند حلول

____________

(١) الاربعون : ٥٨ ح ٥.

(٢) تفسير القمي : ٢ / ٨١.

١٧٠

الشمس آخر القوس ، فيصير الليل خمس عشر ساعة ، والنهار تسع ساعات ، فتكون الليل في غاية الطول ، والنهار في غاية النقصان.

ثم يأخذ الليل في النقصان والنهار في الزيادة الى سادس عشر آذار عند حلول الشمس آخر الحوت ، فيستوي الليل والنهار ، ويسمى الاعتدال الربيعي. ثم يستأنف.

قال الشيخ البهائي قدس سره في تفسير قوله ـ عليه السلام ـ « يولج كل واحد منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه » اي : يدخل كلاً من الليل والنهار في الاخر ، بأن ينقص من احدهما شيئا ويزيده في الاخر ، كنقصان نهار الشتاء وزيادة ليله ، وزيادة نهار الصيف ونقصان ليله.

فان قلت : هذا المعنى يستفاد من قوله ـ عليه السلام ـ « يولج كل واحد منهما في صاحبه ، فأي فائدة في قوله ـ عليه السلام ـ « ويولج صاحبه فيه »؟.

قلت : مراده ـ عليه السلام ـ التنبيه على أمر مستغرب ، وهو حصول الزيادة والنقصان معاً في كل من الليل والنهار في وقت واحد ، وذلك بحسب اختلاف البقاع ، كالشمالية عن خط الاستواء ، والجنوبية عنه ، سواء كانت مسكونة اولا.

فان صيف الشمالية شتاء الجنوبية وبالعكس ، فزيادة النهار ونقصانه واقعان في وقت واحد لكن في بقعتين ، وكذلك زيادة الليل ونقصانه.

ولو لم يصرح ـ عليه السلام ـ بقوله « ويولج صاحبه فيه » لم يحصل التنبيه على ذلك ، بل كان الظاهر من كلامه ـ عليه السلام ـ وقوع زيادة النهار في وقت ونقصانه في آخر ، وكذا الليل ، كما هو محسوس معروف للخاص والعام.

فالواو في قوله ـ عليه السلام ـ « ويولج صاحبه فيه » واو الحال باضمار مبتدأ ، كما هو المشهور بين النحاة (١) انتهى.

أقول : كون الواو للحال مبني على تقدير المبتدأ ، كما في نجوت وارهنهم

____________

(١) مفتاح الفلاح : ١٠٧ ـ ١٠٨.

١٧١

مالكاً ، وقمت واصك وجهه.

وحاصل الجواب : ان معنى الجهة الحالية وان كان مفهوماً من الاولى ، فيكون تأكيداً ، الا انها ذكرت للتنبيه.

وأنت خبير بأن ايلاج كل واحد منهما في صاحبه يتضمن حصول الزيادة والنقصان معاً في كل واحد منهما بحسب اختلاف البقاع ؛ اذ لا يمكن ايلاج الليل في النهار في بقعة إلا حال إيلاج النهار في الليل في بقعة اخرى وبالعكس ، وزيادة النهار يتضمن نقصانه حال زيادته ، وكذلك الليل في بقعتي الشمالية والجنوبية عن خط الاستواء ، فالتنبيه حاصل بدون ذكرها.

وانما ذكرت للتصريح بما علم ضمناً ؛ لانه لما كان أمراً مستغرباً لم يكتف في الدلالة عليه بالتضمنية ، بل دل عليه بالدلالتين التضمنية والتصريحية ايماء لطيفاً الى شأن الامر.

ثم أقول : اختلاف البقاع في العرض الشمالي والجنوبي وانتقال الشمس عن مدار من المدارات اليومية بحركتها الخاصة ، يوجب ان يدخل بعض زمان الليل في زمان النهار وبالعكس في البقاع الشمالية عن خط الاستواء والجنوبية عنه ، في كل يوم بليلته من ايام السنة في جميع الافاق الا في المستقيم والرحوي ، وهذا معنى قوله « يولج كل واحد منهما في صاحبه ».

وكذا اختلاف طول البقاع مع الحركة الاولى ففي حال زيادة زمان النهار ونقصان الليل وبالعكس في البقاع المذكورة بحسب الاختلافات العرضية ، يدخل بعض زمان الليل في النهار وبالعكس في الاماكن الشمالية عن خط الاستواء المختلفة في الطول ، وكذا الجنوبية عنه المختلفة فيه بحسب هذا الاختلاف ، وهذا معنى قوله « يولج صاحبه فيه ».

فالحالية تأسيس ؛ لانها اشارة الى نوع آخر من الزيادة والنقصان ، وعليه يتفرع وجوب صوم احد وثلاثين يوماً في صورة ، وثمانية وعشرين في اخرى ، على المسافر من بلد الى آخر بعيد عنه بعد رؤية الهلال.

١٧٢

ويحتمل عكس ذلك ، بأن يكون الاولى اشارة الى ما يكون بالاختلافات العرضية مع الحركة الخاصة الشمسية.

ويحتمل ان يكون معنى الاولى ادخال كل من الليل والنهار مكان الاخر بدلاً منه في كل البقاع ، فعبر عن احداث النهار مع امتلاء العالم بالليل وبالعكس بالايلاج. ومعنى الثانية ادخال بعض زمان كل منهما في زمان الاخر في كل يوم بليلته في كل البقاع بحسب اختلافاتها العرضية والطولية في حال الادخال الاول.

ويحتمل العكس ، وعليه فالحالية تأسيس ، ومعنى الجملتين اكثر مما سبق ، ويتحقق معناهما في كل الافاق حتى في الرحوي في بعض ايامه.

ثم الحكمة في نقصان كل منهما وزيادة الاخر على التدريج ظاهرة ، اذ لو كان دخول احدهما على الاخر ، وذلك بحركة الشمس بغتة لأضر بالابدان والثمار وغيرهما ، كما ان الخروج من حمام حار الى موضع بارد دفعة يضر البدن ويسقمه.

١٧٣
١٧٤

(سورة المؤمنون)

* قد افلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون. [ الايتان : ١ ـ ٢ ]

الخشوع في الصلاة خشية القلب ، والزام البصر موضع السجود. وبالجملة هو حضور القلب وتأثره وخوفه وطمعه.

ويظهر ذلك بالتوجه التام الى الصلاة ، والى الله تعالى ، بحيث يظهر اثر البكاء في العين ، والاضطراب في القلب ، واستعمال الاعضاء الظاهرة على الوجه المندوب.

وترك المكروهات ، مثل العبث بثيابه وجسده ، والالتفات يميناً وشمالاً ، بل النظر الى غير المسجد حال القيام ، والتمطي ، والتثأب ، والفرقعة ، وغير ذلك مما بين في الفروع وورد في الاصول.

في مجمع البيان : عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ انه رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

ثم قال الشيخ : وفي هذا دلالة على ان الخشوع في الصلاة يكون بالقلب والجوارح. فأما بالقلب ، فهو ان يفرغ قلبه بجمع الهمة لها والاعراض عما سواها ، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود. وأما بالجوارح ، فهو غض البصر والاقبال عليها ، وترك الالتفات والعبث (١).

وأورد عليه : ان اقبال الجوارح الى العبادة ليس له معنى ظاهر ؛ لان الاقبال

____________

(١) مجمع البيان : ٤ / ٩٩.

١٧٥

انما يكون بالقلب.

ويمكن ان يجاب عنه : بأن اقبال الجوارح عبارة عن النظر الى موضع السجود ، الى آخر ما هو المشهور ، وعدم الالتفات يميناً وشمالاً ، وعدم العبث ، الى غير ذلك ، كما سبق اليه الايماء ، فتأمل.

* والذين هم لفروجهم حافظون * الا على ازواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. [ الآيات : ٥ ـ ٧ ]

ظاهر الآيات الشريفة انحصار سبب الاباحة في الزوجية وملك اليمين على سبيل الانفصال الحقيقي ، بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فتحليل الامة بلفظ الاباحة والتحليل محتاج الى الدليل.

فان كان هو النص عن الائمة ـ عليهم السلام ـ فهم لا ينصون على خلاف الكتاب. كيف؟ وهم صرحوا بأن : اذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط (١).

فأخبار تحليل الامة : فاما متروك الظاهر ، كما هو مذهب السيد في الانتصار ، حيث قال في مقام دفع تشنيع العامة عن الخاصة : معنى قوله « يجوز للرجل ان يبيح مملوكته لغير » انه يعقد عليها عقد النكاح الذي فيه معنى الاباحة ، ولا يقتضي ذلك ان النكاح ينعقد بلفظ الاباحة (٢).

وكونه مبنياً على اصله من عدم العمل بالاخبار الاحاد اشبه.

____________

(١) اصول الكافي : ١ / ٦٩.

(٢) الانتصار : ١١٨.

١٧٦

او متروك العمل ، ولذا ذهب كثير من اصحابنا المتقدمين الى عدم استباحه بلفظ الاباحة والتحليل ، وهو المشهور بين الجمهور ، والاحتياط يقتضيه ، وان كان الاقوى انها يستباح بذلك.

أما أولاً ، فلأصالة الاباحة ، والآية تدفعها.

وأما ثانياً ، فلشمول الآية لها ، فان الملك يشمل العين والمنفعة ؛ اذ مقتضاه اباحة التصرف على سائر الوجوه ، وهو مشترك بين العين والمنفعة ، وملك المنفعة اعم من ان يكون تابعاً لملك الاصل او منفرداً ، والتحليل تمليك منفعة.

ويؤيده « او ما ملكت » اذ لو اريد العين لقيل « أو من ملكت » وبذلك يظهر عدم المخالفة بين الخبر والكتاب.

وأما ثالثاً ، فلان الامة بحكم اصل الكفر محل لقبول تملك كل مسلم ، فاذا ملكها مالك منع غيره من الانتفاع بها ، فاذا اباح وطأها زال المانع ، فبقيت على حكم الاصل.

وانما لم يجز تحليلها بلفظ الهبة والاجارة ونحوهما ؛ لان الاباحة والحرمة ليس مدارهما على مجرد العقل ، ولا على معنى يدرك في ذات المباح يقتضي اباحته ، وفي المحرم يقتضي حرمته ، بل هما تعبد محض متلقى من الشارع والشارع انما حللها بلفظ التحليل ، لا بالهبة والاجارة ونحوهما.

ثم لا يذهب عليك ان الآية تدل على ان المتمتع بها زوجة ، والا لكانت محرمة ، لعدم دخولها في ملك اليمين.

وبالجملة انهم لما حكموا باباحة المتعة وتحليل الامة وجب دخولهما في المنفصلة ، والا لكانا باطلين ، فالمتعة داخلة في الازواج.

قال في الكشاف : فان قلت : هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ قلت : لا ؛ لان المنكوحة نكاح المتعة من جملة الازواج اذا صح النكاح (١).

____________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٦ ـ ٢٧.

١٧٧

وأما التحليل ، فقال بعضهم : انه داخل في الازواج ، وجعله كالعقد المنقطع ، فيفتقر الى مهر وتقدير مدة ، والاصل خلافه ، بل هو داخل في ملك اليمين ، فلا صداق فيه ولا اجل.

وجعله بعضهم قسماً آخر بنفسه ، وخص الآية بغيره. قال : فانه غير عزيز ، على ما اشتهر انه ما من عام الا وقد خص حتى هذا.

وهو بعيد ؛ لان انواع النكاح على ما ورد في رواية حسن بن زيد عن الصادق ـ عليه السلام ـ منحصرة على ثلاثة اوجه : نكاح بميراث ، ونكاح بلا ميراث ، ونكاح بملك يمين (١).

وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وآله : ايها الناس احل لكم الفروج على ثلاثة معان : فرج موروث وهو البتات ، وفرج غير موروث وهو المتعة ، وملك ايمانكم (٢).

وقد سبق ان المتعة داخلة في الازواج ، فلا بد ان يكون التحليل : اما داخلاً فيها ، او في ملك الايمان ، فلا يكون قسماً آخر ، والا لكان باطلا.

والاخبار الصحيحة المستفيضة الصريحة في جوازه تنافيه ، ولذلك سلم الاصحاب الحصر في الآية ، وادخلوا التحليل في احدهما ، والاخبار الواردة فيه ـ وهي العمدة ـ اكثر من ان تحصى ، بل نقلوا الاجماع قبل ظهور المخالف وبعده على جوازه.

ولكنه ليس لنا حجة على خصومنا ، فانهم لا يقبلون اجماعنا ولا اخبارنا وبالعكس ، وانما الحجة عليهم ما سبق من اصالة الاباحة ، وشمول الآية ، وكون الامة في الاصل محلاً لقبول تملك كل مسلم.

وبذلك يندفع تشنيعهم علينا في تلك المسألة.

____________

(١) الخصال : ١١٩ ، التهذيب : ٧ / ٢٤١ ح ٢.

(٢) تهذيب الاحكام : ٧ / ٢٤١ ح ٣.

١٧٨

بل نقول : لما ثبت بالعقل والنقل عصمة ائمتنا وطهارتهم وشرف اصولهم وعدالتهم ، وان النبي قرنهم بالكتاب العزيز الذي يجب اتباعه ، وهذا يدل على علمهم.

ثبت ان قولهم حجة وجب قبوله واتباعه ، قبل او لم يقبل ، فان عدم قبول قول من قوله حجة لا ينفي حجيته ، والا لزم ان تكون اخبار الانبياء واقوالهم حجة على من لم يقبلها ، واللازم باطل بالاتفاق.

فاذن لا شناعة على من قبل قول من وجب قبوله ، وان انكر غيره تبعاً للآخرين ، وهذا بعينه حال السابقين علينا من المؤمنين والكافرين.

هذا وفي رواية جميل عن فضيل ، قال قلت لابي عبد الله ـ عليه السلام : جعلت فداك ان بعض اصحابنا روى عنك انك قلت اذا احل الرجل لاخيه المؤمن جاريته ، فهي له حلال.

فقال : نعم يا فضيل.

قلت له : فما تقول في رجل عنده جارية نفيسة وهي بكراً احل لاخ له ما دون الفرج أله ان يقتضيها؟

قال : لا ليس له الا ما احل له منها ، ولو احل له منها قبلة لم يحل له ما سوى ذلك.

قلت : أرأيت ان هو احل له ما دون الفرج فغلبته الشهوة فاقتضها؟

قال : لا ينبغي له ذلك.

قلت : فان فعل ذلك ايكون زانياً؟

قال : لا ، ولكن خائناً ويغرم لصاحبها عشر قيمتها (١).

والظاهر ان تحليل القبلة يستلزم تحليل المس ، فالمراد انه لم يحل له ما سوى ذلك من الاقتضاض والوطىء والخدمة وغيرها ؛ لان الضابط في تحليل الامة

____________

(١) تهذيب الاحكام : ٧ / ٢٤٤ ح ١٦.

١٧٩

الاقتصار على ما تناوله اللفظ فما دونه.

فان قلت : ان الزنا عبارة عن وطىء المرأة قبلاً أو دبراً بغير عقد ولا ملك ولا شبهة ، بل عمداً عالماً بالتحريم ، وها هنا كذلك ، فينبغي ان يكون زانياً لا خائناً فقط.

قلت : انه لم يحل له ما دون الفرد الا وقد علم انه ينجر الى ذلك ، فكأنه أحل له ذلك ضمناً ، ولكنه لما لم يصرح به وقد تصرف في ملكه بما لا اذن له فيه صريحاً كان خائناً ، فتأمل فيه.

١٨٠