الدّرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنيّة

المؤلف:

محمد إسماعيل الخواجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

يوافق القرآن فهو زخرف (١).

وعنه صلى الله عليه وآله : ستكثر من بعدي الاحاديث ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فانبذوه. (٢) الى غير ذلك من الاخبار.

وبالجملة مدار الاستدلال بالايات والروايات على الاحكام الشرعية من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر ، لما تقرر في الاصول من امتناع ان يخاطب اله بشيء يريد خلاف ظاهره من دون البيان.

والا لزم الاغراء بالجهل ، لان اطلاق اللفظ الظاهر الدلالة على معنى يوجب اعتقاد سامعه العالم بوضعه ارادة لافظه منه ذلك المعنى ، فاذا لم يكن ذلك المعنى مراداً للافظ كان اعتقاد السامع ارادته له جهلاً ، فاطلاقه مع عدم ارادته معناه الظاهر اغراء للسامع بذلك الاعتقاد الجهل ، ولانه بالنسبة الى غير ظاهره مهمل ، فتأمل.

____________

(١) اصول الكافي : ١ / ٦٩ ح ٣.

(٢) اصول الكافي : ١ / ٦٩ ح ٥ و ١.

٢٢١
٢٢٢

(سورة الشورى)

* قل لا أسألكم عليه أجراً الا المودة في القربى. [ الآية : ٢٣ ]

هذه الآية تدل على فضائل محبيهم اكثر مما يتصور ، لانه تعالى جعل مودتهم اجر الرسالة ، والاجر على قدر العمل ، فكما ان حقوق رسالته ـ صلى الله عليه وآله ـ لا يتناهى ، فكذا ثمرة مودتهم لا يعد ولا يحصى ، وظاهر ان المودة والمحبة بشرائطها لا تحصل الا للشيعة.

يصدق ذلك ما في صحيحة اسماعيل الجعفي ، قال قلت لابي جعفر ـ عليه السلام : رجل يحب امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ولا يتبرأ من عدوه ، ويقول : هو احب اليّ ممن خالفه ، قال : هذا مخلط وهو عدو ، فلا تصل خلفه ولا كرامة الا ان تتقيه (١).

أي : هو يلبس عليكم انه ليس من المعادين وهو منهم ، او انه مخلط بين المحبة والعداوة. ويفهم منه ان المؤمن من يتبرأ من اعدائهم ، بل التبرأ جزء منه ، كيف لا وحب علي ـ عليه السلام ـ عبادة ، والنظر الى علي ـ عليه السلام ـ عبادة ، ولا يقبل الله ايمان عبد الا بموالاته وبالبراءة من اعدائه.

وفي رواية اخرى : من اراد ان يحيى حياتي ويموت ميتتي ، ويدخل جنة عدن التي غرسها الله بيده ، فليتول علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ وليتول

____________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٨٠ ح ١١١٧.

٢٢٣

وليه ، وليعاد عدوه ، وليسلم للاوصياء من بعده (١).

فأمر اولاً بمحبته ، ثم بمحبة من يحبه وعداوة من يعاديه ، اذ بذلك تتم المحبة وتخلص المودة ، ولعله لذلك قدم هاتين الفقرتين على التسليم للاوصياء.

وفي ذلك تنبيه على ان محبتهم الواجبة التي امر الله بها وجعلها اجر الرسالة هي هذه ، فكما تجب على كافة البرايا محبتهم تجب عليهم محبة اوليائهم وعداوة اعدائهم ، كما وردت به روايات كثيرة.

وبالجملة لا تتم المحبة والمودة الا باستجماع مراتب الصداقة ، والاجتناب عما يوجب العداوة.

واعلم ان المحبة على ضربين : ما ركز في الطبع من الميل الجبلي الى مشتهيات النفس الامارة بالسوء ، وما جبل عليه العقل ونشأ من الايمان والاعتقاد ، ومن حب الله ورسله وملائكته واوليائه ، الى غير ذلك من مقتضيات النفس المطمئنة التي فطر الناس عليها.

واليه يشير قوله تعالى « ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم » (٢) وهذه المحبة كما انها ناشئة عن الايمان ، داعية الى الاستسلام والانقياد ، وهذا هو المراد بمحبة آل محمد ـ عليهم السلام.

ومنه يظهر سر ايجاب محبتهم ومودتهم ، فانها تدعو الى التسليم ، وهو الى الصراط المستقيم ، الموصل الى جنات النعيم.

وسر جعلها اجر الرسالة والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يقبل اجراً على رسالته ، هو ان فائدة هذا الاجر وثمرته تعود الى الامة ، فالله سبحانه لما علم من اهتمامه ـ صلى الله عليه وآله ـ بأمر امته ورأفته ورحمته بهم ، حتى كادت نفسه النفيسة وروحه الشريفة ان تذهب حسرات عليهم ، جعل ما يرجع نفعه اليهم

____________

(١) المناقب للخوارزمي : ٤٤ ط تبريز ، وكنز العمال : ١٢ / ١٠٣.

(٢) الحجرات : ٧.

٢٢٤

أجراً للرسالة.

ومن هنا علم انه ليس في الاسلام انفع من محبتهم ، اذ لو كان لكان اولى بأن يجعل اجر الرسالة ليعود نفعه الى الامة.

هذا والمراد بـ « آله » صلى الله عليه وآله عند الخاصة عترته الطاهرة من اهل العصمة صلوات الله عليهم ، ولا وجه لتخصيص الشهيد الثاني في شرحه على اللمعة بأصحاب الكساء ، وهم علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ ثم قال : ويطلق تغليبا على باقي الائمة ـ عليهم السلام.

وفي الحديث : لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد (١).

وسئل الصادق ـ عليه السلام ـ من الآل؟ فقال : ذرية محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ فقيل له : من الاهل؟ فقال : الائمة ، فقيل له : قوله تعالى : « ادخلوا آل فرعون اشد العذاب » (٢) قال : والله ما عني الا ذريته (٣).

وفي معاني الاخبار : سئل ـ عليه السلام ـ من آل محمد؟ فقال : ذريته ، فقيل : ومن اهل بيته؟ قال : الائمة ـ عليهم السلام ـ قيل : ومن عترته؟ قال : اصحاب العباء ، قيل : فمن امته؟ قال : المؤمنون (٤).

وللعامة في آله صلى الله عليه وآله اختلافات ، فقيل : آله امته ، وقيل : عشيرته ، وقيل : من حرم عليه الزكاة من بني هاشم وعبد المطلب.

وقال بعض العامة بعد قوله تعالى « قل لا أسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى » : ذكروا في معنى الآل اختلافاً كثيراً.

وأنا اقول : آل محمد هم الذين يؤول امرهم اليه ، فكل من كان مآل امرهم

____________

(١) كنز العمال : ٦ / ٤٥٩ ، نحوه.

(٢) غافر : ٤٦.

(٣) معاني الاخبار : ٩٤ مع تفاوت يسير.

(٤) معاني الاخبار : ٩٤ ح ٣.

٢٢٥

اليه اشد واكمل كانوا هم الآل ، ولا شك ان فاطمة وعلياً والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ كان التعلق بينهم وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ اشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب ان يكونوا هم الآل.

وايضا اختلفت الناس في الآل ، فقيل : هم الاقارب ، وقيل : هم امته ، فان حملناه على القرابة فهم الآل ، وان حملناه على الامة الذين قبلوا دعوته فهم ايضا آل ، فثبت على جميع التقديرات انهم آل. واما غيرهم يدخلون تحت لفظ الآل ، فمختلف فيه ، فثبت على جميع التقديرات انهم آل محمد ـ عليهم السلام.

وروى صاحب الكشاف انه لما نزلت هذه الآية ، قيل : يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما (١).

فثبت ان هؤلاء الاربعة اقارب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ واذا ثبت هذا وجب ان يكونوا مخصوصين لمزيد التعظيم ، ويدل عليه وجوه :

الاول : قوله تعالى « الا المودة في القربى » ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شك ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان يحب فاطمة ـ عليها السلام ـ قال : فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها (٢). وثبت بالنقل المتواتر عن محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ انه كان يحب عليا والحسن والحسين ، واذا ثبت ذلك وجب ان يجب على كل الامة مثله ، لقوله « فاتبعوني لعلكم تفلحون ».

الثالث : ان الدعاء للآل منصب عظيم ، وكذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلوات ، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكل ذلك يدل على ان حب آل محمد واجب.

والظاهر ان مراد صاحب الكشاف بالآل احد المعنيين الاخيرين لا ما

____________

(١) الكشاف : ٣ / ٤٦٧.

(٢) رواه جماعة من اعلام السنة راجع احقاق الحق : ١٠ / ١٨٧ ـ ٢٢٨.

٢٢٦

ذكرناه اولا ، فانه ناصبي لا يقول به.

وبالجملة المراد بآله الذين يترتب على مودتهم ومحبتهم هذا النفع الذي لا يتصور فوقه نفع ، وعلى مبغضهم هذا الضرر الذي لا يتصور فوقه ضرر ، المعصومون من اهل بيته وعترته الهادون لامته ، لا امته ولا مطلق قرابته وعشيرته.

كما يشير الى ذلك صحيحة اسماعيل بن عبد الخالق ، قال : سمعت ابا عبد الله ـ عليه السلام ـ يقول لابي جعفر الاحول وانا اسمع : اتيت البصرة؟ فقال : نعم ، قال : كيف رأيت مسارعة الناس الى هذا الامر ودخولهم فيه ، قال : والله انهم لقليل ، ولقد فعلوا وان ذلك لقليل ، فقال : عليك بالاحداث فانهم اسرع الى كل خير.

ثم قال : ما يقول اهل البصرة في هذه الآية « قل لا أسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى » قال : جعلت فداك انهم يقولون : انها لاقارب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : كذبوا ، انما نزلت فينا خاصة في اهل البيت في علي وفاطمة والحسن والحسين اصحاب الكساء ـ عليهم السلام (١).

____________

(١) روضة الكافي : ٨ / ٩٣ ح ٦٦.

٢٢٧
٢٢٨

(سورة محمد)

* ولا يسألكم اموالكم * ان يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج اضغانكم. [ الايتان : ٣٦ ـ ٣٧ ]

المعروف من مذهب علمائنا الاماميين ان الزكاة انما تجب في الغلاة الاربع على ما يحصل في ايدي اربابها من النماء والفائدة ، بعد وضع جميع المؤونات واخراج حق السلطان ، وهو الاقوى.

واستدل عليه بقوله تعالى : « ولا يسألكم اموالكم * ان يسألكموها » الآية ، فانه صريح في انه لم يقع التكليف ببذل عامة الاموال ، وان الاحفاء والمبالغة فيه يقضي الى تعذر الامتثال وانتفاء الانقياد.

فمقتضى الحكمة الاقتصار على جزء يسير منها ، كالعشر ونصف العشر وربع العشر ، على ما اختاره جماعة من المفسرين وغيرهم من العامة والخاصة.

قال في مجمع البيان : ان يسألكم جميع ما في ايديكم تبخلوا ، ويظهر بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله ، ولكنه فرض عليكم ربع العشر (١).

وفي جوامع الجامع : اي لا يسألكم جميعها في الصدقة ، وان اوجب عليكم الزكاة في بعضها واقتصر منه على القليل (٢).

وقال في الكشاف : الاحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء ، يقال : احفأه

____________

(١) مجمع البيان : ٥ / ١٠٨.

(٢) جوامع الجامع : ٤٥١.

٢٢٩

في المسألة اذا لم يترك شيئاً من الالحاح ، واحفى شاربه اذا استأصله (١).

فيدل على نفي احتساب المؤونات على ارباب الاموال اذا ادى الى اجحاف واحفاء ، كما وقع في ما تكثر مؤوناته من السقي بالقنوات مع ايجاب العشر فيه ، واذا انتفى في بعض الصور ثبت مطلقاً ، اذ لا قائل بالفرق.

وبوجه آخر لطيف : لو قلنا بعدم استثناء المؤمن مطلقا لزم احتسابها عليهم وان اجحف بجميع المال او اكثره ، وهو مناف لما نطق به الكتاب العزيز ، فيكون باطلاً ، فيبطل ملزومه ، وعلى هذا لا حاجة الى تجشم مؤونة انتفاء القول بالفصل.

وبطريق ثالث : هو ان الظاهر من الآية عدم تعلق الطلب بالاموال مطلقا ، فيقتصر على ما يقطع بوقوع التكليف به ، وهو العشر او نصفه فيما يبقى ، ويتوقف الزائد عليه على دليل.

قال السيد المرتضى في الانتصار : المعنى انه لا يوجب حقوقا في اموالكم ، لانه تعالى لا يسألنا الا على هذا الوجه ، وهذا الظاهر يمنع من وجوب حق في الاموال ، فما اخرجناه عنه فهو بالدليل القاطع (٢).

وفي الناصريات : ظاهر هذه الآية يقتضي انه لا حق في المال على العموم ، وانما اوجبنا ما اوجبناه من ذلك بدليل اضطررنا الى تخصيص العموم (٣) انتهى كلامه ولكن عمومات ايجاب العشر ونصف العشر غير وافية به.

وهاهنا تقرير رابع : هو انه يستفاد من الآية بمعونة المقام انه لا يطلب الا النذر اليسير ، وهو ينافي نفي الاستثناء.

ويمكن ان يقال : مطلق احتساب المؤونة على المالك احفاء واجحاف به ،

____________

(١) الكشاف : ٣ / ٥٣٩.

(٢) الانتصار : ٧٥.

(٣) الناصريات : ٢٤٠ مسألة ١١٧.

٢٣٠

كما قال في المختلف : ان المؤونة تخرج وسطاً ، ثم يزكي الباقي والا لزم الضرر.

وبعبارة اخرى اوردها في المعتبر : هي ان الزام المالك من دون الشركاء حيف عليه واضرار به ، فيكون منفياً ، لقوله تعالى : « ولايسألكم اموالكم » (١).

وحاصله انه يفهم من الآية نفي الاضرار في التكليف المالي المحض بخصوصه ، فيترتب عليه الحكم بصحة الاستثناء ، وعليه يحمل ايضا ما تمسك به في المنتهى من ان الزام المالك بالمؤونة كلها حيف عليه واضرار به ، فيكون منفياً ، على معنى ان الاجحاف في طلب الاموال بالحيف على المالك منفي بهذه الآية وما يجري مجراها ، او بأن الاضرار في خصوص الزكاة منفي ، الا ان مبناها على المسامحة ، فانها مؤاساة ، فلا تتعقب الضرر كما صرح به.

فاندفع ما اجاب به عنه صاحب المدارك (٢) ، وحكاه في الذخيرة ، من ان مثل هذا الاضرار غير ملتفت اليه في نظر الشرع ، والا سقطت التكاليف كلها.

فانه ان اراد بهذا الاضرار خصوص الاضرار المالي المحض ، فالالتفات الى مثله لا يوجب سقوط التكاليف البدنية ، كالطهارة والصلاة والصيام ، لا ما يشوبه المال كالحج والجهاد مما ينفق فيه على اربابه ، ويجعل ذريعة لتحصيله ولا يتكرر كل عام.

وأما الخمس ، فمثل هذا الاضرار فيه منتف ايضا ، لانه بعد المؤونة.

واذا اريد نفي الاضرار في خصوص الزكاة ، فأظهر.

وان اراد به الاعم من المالي ، فلا نقض ، اذ الاستدلال خاص ، على انه لا ينتقض بالتكاليف ، وان احتج بالعام حيث اطلق ، بمعنى ان مطلق الاضرار منفي بما ثبت في الشريعة السمحة السهلة من انتفاء العسر والحرج والضيق والضرر.

لانه يعتبر في الضرر المنفي كونه بحيث لا يتحمله الجمهور عادة ، وظاهر

____________

(١) المعتبر : ٢ / ٥٤١.

(٢) مدارك الاحكام : ٥ / ١٤٤.

٢٣١

انه لا يجزىء في سائر التكاليف ، بخلاف الاجحاف في الاموال المؤدي الى البغضاء ، وكراهة الدين المنجر الى الانكار.

قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى : « ويخرج اضغانكم » اي : تضطغنون على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وتضيق صدوركم لذلك ، واظهرتم كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم (١).

وقال قتادة : علم الله ان في مسألة الاموال خروج الاضغان ، وهي الاحقاد التي في القلوب والعداوة الباطنة ، كذا في المجمع (٢).

وفيه تنبيه على ان مقتضى اللطف ، وهو ما يقرب الى الطاعة ويبعد عن المعصية ، الاعراض عن هذا التكليف المقتضي للعصيان ، والا اختل امر الفلاحة ، كما هو المشاهد ، فلا يصدر من اللطيف الرؤوف العليم ما يؤدي الى اختلاف نظم المعاش والمعاد.

الا يرى انه جل سلطانه سامح ارباب الاموال ، وأمر بالعفو والتخفيف وتفويض الامر اليهم ، وعلى المصدق ان يصدقهم في مواضع شتى ، فكيف يشدد عليهم بايجاب ما يذهب بها.

لا يقال : قد حكى الطبرسي رحمه الله عن ابي مسلم تفسير الاحفاد باللطف ، قال : فيلطف في السؤال بأن يعد عليه الثواب الجزيل. وعن بعضهم ان المعنى لا يسألكم الرسول على اداء الرسالة اموالكم. وفسره اخر بأن لا يسألكم اموالكم ، لان الاموال كلها له ، فهو املك بها ، وهو المنعم باعطائها.

لانا نقول : يستفاد منها نفي طلب جميع الاموال على كل حال ، قضية للجمع المضاف ، كما في قوله عز وجل : « خذ من اموالهم صدقة » (٣) فالمعنى انه لا

____________

(١) الكشاف : ٣ / ٥٣٩.

(٢) مجمع البيان : ٥ / ١٠٨.

(٣) التوبة : ١٠٣.

٢٣٢

يسأل جميع امواله التي عندكم ، ومن ثم سماها اموالهم ، وان سألها مع اللطف ووعد الثواب الجزيل ، كما قال عز من قائل « وآتوهم من مال الله الذي آتاكم » (١) بخلتهم بها واظهرتهم الحقد فكيف بدونه.

وبالجملة فجميعها غير مسؤول ، سواء كان على اداء الرسالة او مطلقا ، وانما المسؤول والمأخوذ والمأمور باتيانه واعطائه البعض ، كما افاده « من » التبعيضية ايضا ، على ان تلك التفاسير كلها خلاف الظاهر ، كالقول بأن المعنى ان الله جل سلطانه لا يسألكم اموالكم.

وانما يوجب عليكم ايتاء بعضكم بعضا ، مع انه لا يلائم ذلك ما بعده ، ولهذا لم يرتضها المحققون ، كالطبرسي وعلم الهدى والمحقق وصاحب الصافي والزمخشري والبيضاوي وغيرهم.

____________

(١) النور : ٣٣.

٢٣٣
٢٣٤

(سورة الرحمن)

* والسماء رفعها ووضع الميزان * الا تطغوا في الميزان * واقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان. [ الايات : ٧ ـ ٩ ]

عبر بالميزان عن العدل ، لانه من اثره ومن اظهر افعاله للحاسة ، اذ كان العدل مراعاة الاستقامة على حاق الوسط في طرفي الافراط والتفريط اللذين هما ككفتي الميزان ، مهما رجحت احداهما فالنقصان لازم والخسران قائم.

وقال ـ عليه السلام : بالعدل قامت السموات والارض.

اذ لو كان شيء من موجودات العالم واصولها زائداً على الآخر افراطاً ، او ناقصا عنه تفريطا ، لم يكن منتظماً ، هذا النظام.

وبيان ذلك : ان مقادير العناصر لو لم تكن متكافئة متعادلة بحسب الكمية والكيفية ، لاستولى الغالب على المغلوب ، وانتقلت الطبائع كلها الى طبيعة الجرم الغالب.

ولو كان بعد الشمس من الارض اقل مما هو عليه الآن ، لاحترق كل ما في العالم ، ولو كان اكثر لاستولى البرد والجمود.

وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطوءها ، فان كلاً منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه.

ولهذا المعنى وصف الله بالعدل ، اذا كان معنى عدله وضعه لكل موجود في مرتبة وهيئة له ما يستحقه من غير زيادة ونقصان مضبوطاً بنظام الحكمة.

٢٣٥
٢٣٦

(سورة الحديد)

* هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير. [ الآية : ٢ ]

روى الكليني رحمه الله في اصول الكافي باسناده عن ابن ابي يعفور ، قال : سألت ابا عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ عن قوله عز وجل « هو الأول والآخر » وقلت : اما الاول فقد عرفناه ، واما الاخر فبين لنا تفسيره.

فقال : انه ليس شيء الا يبيد او يتغير ، او يدخله التغير والزوال ، او ينتقل من لون الى لون ، ومن هيئة الى هيئة ، ومن صفة الى صفة ، ومن زيادة الى نقصان ، ومن نقصان الى زيادة ، الا رب العالمين ، فانه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة.

هو الاول قبل كل شيء ، وهو الاخر على ما لم يزل ، لا يختلف عليه الصفات والاسماء ، كما تختلف على غيره ، مثل الانسان الذي يكون تراباً مرة ، ومرة لحماً ، ومرة دماً ، ومرة رفاتاً ورميماً ، وكالتمر (١) الذي يكون مرة بلحاً ، ومرة بسراً ، ومرة رطباً ، ومرة تمراً ، فتتبدل عليه الاسماء والصفات ، والله عز وجل بخلاف ذلك (٢).

وقال الفاضل العالم الرباني محمد باقر بن محمد تقي المجلسي نور الله

____________

(١) في الكافي : وكالبسر.

(٢) اصول الكافي : ١ / ١١٥ ح ٥.

٢٣٧

مرقديهما في شرحه (١) على الصحيفة الكاملة الملقبة بزبور آل محمد ـ عليهم السلام ـ اعلم ان اوليته تعالى وآخرتيه فسرتا بوجوه :

الاول : ان يكون المراد الاسبقية بحسب الزمان ، وهذا انما يتم اذا كان الزمان امراً موهوماً ، كما ذهب اليه المتكلمون ، او بحسب الزمان التقديري ، كما ذكره الطبرسي في مجمع البيان.

اي : لو فرضنا وقدرنا قبل حدوث الزمان زماناً اخر ، كان الواجب تعالى اسبق واقدم ؛ اذ لو قيل بزمان موجود قديم ، يلزم اثبات قديم سوى الواجب ، وهو خلاف ما ذهب اليه المليون من المسلمين وغيرهم ، والاخبار المتواترة من طرق العامة والخاصة ، بل هو من ضروريات الدين ، وجاحده كافر.

وعلى هذا فالمراد بالاخرية انه الموجود بعد الاشياء بأحد المعنيين ، وهذا يدل على انه تعالى ينفي الاشياء جميعاً ثم يوجدها ، كما يدل عليه صريح كلام امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في بعض خطب نهج البلاغة ، فلا عبرة بما يقال من امتناع اعادة المعدوم ، فان دلائلهم مدخولة ضعيفة ، لا تعارض بها النصوص الجلية الواضحة.

اقول : وفيه نظر. اما اولاً ، فلان هذا الكلام من ذلك العلام : اما مبني على انه لا يقول بتجرد النفس ومغايرتها للبدن ، وهو من مثله بعيد ، كيف لا وتجردها مما لا ينبغي ان يشك فيه عاقل ، لكونه مما قد قامت عليه البراهين العقلية ، واشارت اليه الكتب السماوية ، وشهدت له الاخبار النبوية.

او على انه يقول به ، ولكنه يقول : انها تفنى بفناء البدن ، وهو ايضا منه بعيد بل ابعد ؛ لان كل من قال بتجردها ومغايرتها للبدن ، قال : بأنها لا تفنى بفنائه ، ومع ذلك فهو مخالف لكثير من الايات والروايات الدالة على بقائها بعد خرابه ما دامت في عالم البرزخ.

____________

(١) المسمى بالفرائد الطريفة في شرح الدعاء الاول « منه » وهذا الكتاب مطبوع بتحقيقنا.

٢٣٨

او على انه يقول ببقائها مدة البرزخ ، كما يظهر منه في بعض كتبه ، ولكنه يقول بفنائها عند النفخة الاولى ، وهو ابعد من سابقيه.

واما ثانيا ، فلانه لما قال ببقائها بعد فناء البدن وتعلقها في عالم البرزخ بأجساد مثالية ، فلابد من القول بتجردها ، ولذا قال الشهيد : دل القرآن العزيز على بقاء النفس بعد الموت ، وتعلقها بأبدان مثالية بناءً على تجردها.

وأما ثالثاً : فلان القول بالزمان الموهوم مخالف للشرع ، على ما يدل عليه ظاهر بعض الاخبار.

ومنها : الخطبة المستدل بها لقوله ـ عليه السلام : وانه يعود سبحانه بعد فناء العالم وحده ، لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والاوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء الا الله (١).

فان الزمان الموهوم لو كان شيئا في نفس الامر ، لتكون الاولية والآخرية بحسبه ، لكان قبل ابتداء الدنيا ، وكذلك بعد فنائها زمان. وقوله ـ عليه السلام : « كما كان قبل ابتدائها » الى اخره ينفيه ، وان لم يكن شيئا في نفس الامر.

وبالجملة الظاهر ان ما ذكره الطبرسي من الزمان التقديري هو الاظهر بالنظر الى الشرع الانور.

وأما رابعاً ، فلانه لما فرض ان المراد بالاولية الاسبقية بحسب الزمان ، فحينئذ لا معنى لقوله « اذ لو قيل بزمان موجود قديم يلزم اثبات قديم سوى الواجب » فانه صريح في ان الزمان لو كان موجوداً قديماً لتم القول بالاسبقية الزمانية.

لكن يلزم اثبات قديم سوى الواجب ، وليس كذلك ، اذ للزمان وراسمه وما هو موضوع للراسم وغيرها على هذا الفرض معية ازلية مع الواجب ، والا لزم

____________

(١) نهج البلاغة : ٢٧٦ ط ١٨٦.

٢٣٩

حدوث الزمان ، وهو خلاف الفرض.

نعم لو كان المراد بالاسبقية الاسبقية الذاتية دون الزمانية ، لكان له وجه ، وليس فليس ، فكان الواجب ان يقول : اذ لو قيل بزمان موجود قديم ، لا يتصور الاسبقية بحسب الزمان ، مع انه يلزم اثبات قديم سوى الواجب.

والحاصل يمكن ان يكون المراد انه تعالى يصير بعد فناء العالم الجسماني واحداً ، لا شيء معه في ذلك العالم ، كما كان قبل ابتدائه ، بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان.

كذلك يكون بعد فنائه ، لان انعدام ما هو موضوع لما هو راسم للزمان يستلزم انعدامه ، واذا انعدم انعدمت الآجال والاوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء من هذا العالم موجوداً الا الله ، فالحصر اضافي.

ثم قال قدس سره : او المراد البقاء ذاتاً وصفة ، بحيث لا يتطرق اليه تغير وتحول من هيئة الى هيئة ، ومن حال الى حال ، ومن صفة الى صفة ، وكل من سواه في معرض الزوال والفناء والتغير ، ويدل عليه صحيحة ابن ابي يعفور التي رواها ثقة الاسلام والصدوق رحمهما الله ، عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ وغيرها من الاخبار.

اقول : هذا هو الصحيح ، وبه يجمع بين الآيات والروايات المتعارضة بحسب الظاهر ، وقد مرت صحيحة ابن ابي يعفور في اول البحث.

وهو قدس سره قال في شرحه على الاصول : ان الغرض منها ان دوام الجنة والنار واهلهما وغيرها لا ينافي آخريته تعالى ، واختصاصها به ، فان هذه الشياء دائماً في التغير ، وهو تعالى باق من حيث الذات والصفات ازلاً وابداً (١).

ثم قال : الوجه الثاني : ان يكون المراد الاول القديم ، لا الاسبق ، وبالآخر الابدي ، وبه فسرهما اكثر المحققين ، وعلى هذا لا ينافي ابدية الجنة واهلها.

____________

(١) مرآة العقول : ٢ / ٤١.

٢٤٠