الدّرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنيّة

المؤلف:

محمد إسماعيل الخواجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

( سورة الانعام )

* واذ قال ابراهيم لابيه آزر أتتخذ اصناماً آلهة اني أراك وقومك في ضلال مبين. [ الآية : ٧٤ ]

الذي كان أبا ابراهيم حقيقة اسمه تارخ ، وأما آزر فانما كان جده لامه او عمه ، على الخلاف فيه.

ولا شك ان اهل اللغة يطلقون اسم الاب على العم تارة ، وعلى الخال اخرى ، لقوله تعالى : « ورفع ابويه » (١) وكان يعقوب وخالته ، ماتت امه فتزوجها.

وعلى جد الام ، لانه اب احد الابوين ، ومنه قولهم يا بن رسول الله للحسنين وسائر الائمة ـ عليهم السلام.

واما صرنا الى ذلك لاجماعنا على ان آباء نبينا الى آدم كلهم مسلمون موحدون لقوله ـ صلى الله عليه وآله : لم يزل ينقلني الله من اصلاب الطاهرين الى ارحام المطهرات حتى اخرجني في عالمكم هذا. والكافر غير موصوف بالطهارة ، لقوله تعالى : « انما المشركون نجس » (٢).

والاقوى ان يستدل عليه بقوله « ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب » (٣) فانه صريح في ان ابويه لم يكونا كافرين ، لانه انما يسأل المغفرة لهما يوم القيامة ، فلو كانا كافرين لما سأل ذلك ، لقوله « فلما تبين له انه عدو الله

____________

(١) يوسف : ١٠٠.

(٢) التوبة : ٢٨.

(٣) ابراهيم : ٤١.

١٠١

تبرأ منه » (١).

ومن قال : أنه دعا لابيه ، لانه كان وعده ان يسلم ، فلما مات على الكفر تبرأ منه.

فقوله فاسد ؛ لان دعاءه هذا كان بعد الكبر ، وبعد ان وهب له اسماعيل واسحاق ، وقد تبين له وقتئذ عداوة ابيه الكافر ، لقوله « فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له اسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً » (٢) فلا يجوز ان يقصده بدعائه هذا.

وذهب ابو الصلاح الى ان آباء الانبياء كلهم يجب ان يكونوا على التوحيد والاسلام ، ولم يفرق بين نبينا وغيره في وجوب تنزيه آبائه على الشرك بالله.

ويؤيده قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ في حديث جابر بن عبد الله : ان الانبياء والاوصياء مخلوقون من نور عظمة الله جل ثناؤه ، ويودع الله انوارهم اصلابا طيبة وارحاما طاهرة ، يحفظها بملائكته ، ويربيها بحكمته ، ويغذوها بعلمه الحديث.

وهو كما يدل على اسلام آباء الانبياء وتوحيدهم ، كذلك يدل على اسلام آباء الاوصياء وتوحيدهم.

وظاهر كلام شيخنا البهائي قدس سره في مفتاح الفلاح (٣) انه يذهب مذهب ابي الصلاح ، ولكن قوله « عندنا » يدل على ان ذلك ايضا اجماعي ، وليس كذلك.

____________

(١) التوبة : ١١٤.

(٢) مريم : ٤٩.

(٣) مفتاح الفلاح : ٣١.

١٠٢

* الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون. [ الآية : ٨٢ ]

« الذين آمنوا » اي : صدقوا بحقائق الاشياء بعد تصوراتها على ما هي عليه في نفس الامر : اما البراهين والدلالات ، او بالرياضات والمجاهدات.

« ولم يلبسوا ايمانهم » وتصديقاتهم الحقة واعتقاداتهم اليقينية.

« بظلم » بما هو خلاف الواقع من الجهل المركب ؛ اذ الظلم انتقاص الحق ووضع الشيء على خلاف ما هو عليه. او لم يشوبوا تلك التصديقات بالظنون والاوهام والشكوك والشبهات المنافية لما عليه الامر في نفسه.

« أولئك » الموصوفون بتلك الصفات الفاضلة.

« لهم الامن » عن العقاب ، وهم المختصون بالامان عن كل ما يبعدهم او يشوشهم.

« وهم مهتدون » بعد تخلصهم عن العلائق الجسدانية ، والتنزه عن الهيئآت البدنية الى عالم القدس ، فيقعدون بعد مفارقتهم الابدان العنصرية في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً.

* يا آيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. [ الآية : ٩٠ ]

١٠٣

قال جماعة : رجس خبر لمضاف محذوف ، وهو تعاطي هذه الاشياء. اذ الذي تستخبثه العقول وتعافه (١) ، تعاطيها على الوجوه المقتضية للمفاسد الظاهرة المشهورة والمتعلقة بها.

كشرب الخمر وما يتعلق بها من حفظها وبيعها وشرائها للشرب ، ولعب الميسر وما يتعلق به ، وعبادة الانصاب وتعظيمها وما يتعلق به ، والاستقسام بالازلام وما يتعلق به ، فلا تصح ارادة النجس منه.

وان جعل « رجس » خبراً للخمر ، وهو مرجوح ، وقدر خبر المذكورات ، فلا يصح حمله على النجس ايضا ؛ لاقتضائه كون المعنى في بعض الاخبار مختلفا ، مع ان الظاهر في امثاله الاتفاق. وكون المذكور قرينة على المحذوف ، وحمل الرجس على النجس وغيره على سبيل عموم المجاز او الاشتراك ، وارادة كل منهما بالنسبة الى البعض مع عدم القرينة ، في غاية البعد.

وكذا جعله خبراً للخمر ، وجعل خبر البواقي من عمل الشيطان بعيد.

وكذا حمله على النجس ، وجعله خبراً للكل وارتكاب التجوز في الاسناد بالنسبة الى بعض ؛ لان مقتضى اللفظ ان يكون المعنى والاسناد بالنسبة الى الجميع واحداً.

فاذن : اما ان يراد بالرجس المأثم ، او العمل المستقذر ، الذي تعاف منه العقول ، كما يوجد في كلام جماعة من المفسرين.

وبالجملة حمله على معناه الحقيقي ، وارتكاب بعض تلك الوجوه البعيدة ، مرجوح بالنسبة الى حمله على ما ذكرنا من المعاني مجازاً ، سلمنا التساوي ، لكن لابد للترجيح من دليل.

قال الفاضل الاردبيلي رحمه الله في ايات احكامه : لا دلالة في هذه الآية على نجاسة الخمر ، ولهذا قال الصدوق : ان الله عز وجل حرم شربها ، لا الصلاة

____________

(١) عاف الرجل الطعام او الشراب يعافه عيافاً ، اي : كرهه فلم يشربه ـ الصحاح.

١٠٤

في ثوب اصابته ، فتأمل.

والاخبار مختلفة في ذلك ، والاصل يؤيده. نعم ان ثبت كون الرجس بمعنى النجس الشرعي فقط ، لدلت عليه ، لكنه لم يثبت ، ثم نقل اقوال اللغويين.

الى ان قال : فالاجماع الذي نقله في التهذيب على كون الرجس بمعنى النجس غير معلوم ، وكتب في الحاشية : فيه تأمل.

لان مقصود الشيخ ان اجماع الفقهاء والمفسرين على ان الرجس في الآية بمعنى النجس ، فمخالفة اصل اللغة لا يضر باجماعه ، فهذا التفريع ليس بجيد ، فافهم.

ثم قال الاردبيلي رحمه الله : وبالجملة لا دلالة في الآية على نجاسة الخمر ، وهو ظاهر ، بل لا دلالة في الاخبار ايضا لاختلافها ، والجمع بحمل ما دل على وجوب الغسل على الاستحباب اولى من حمل ما يدل على عدمه على التقية (١).

اقول : وذلك لان الحمل على التقية في قوة الاطراح ، فلا ينبغي المصير اليه الا عند الضرورة. وحمل الاوامر والنواهي في اخبارنا على الاستحباب والكراهة شايع.

فالجمع بين الاخبار بهذا الوجه اوجه ، كما ذكره رحمه الله ، مع اعتضاد اخبار الطهارة بالاصل ، وكثرة الصحيح منها ، ووضوح دلالتها ، وبعد التأويل ، وبالعمومات الدالة ، على طهورية الماء على العموم ، ومن جملتها الملاقي للخمر ، بل بظاهر القرآن ايضا.

فانه اذا وجد ماءً ملاقياً للخمر ، يلزم بمقتضى القول بالتنجيس الاجتناب عنه ، ومقتضى الايات الوضوء والغسل به وعدم العدول الى التيمم.

أقول : ومرجع ضمير « فاجتنبوه » فيه وجوه :

____________

(١) زبدة البيان : ٤٢.

١٠٥

منها : ان يكون راجعا الى المحذوف ، وهو التعاطي ، اختاره الكشاف (١).

وان يكون عائداً الى عمل الشيطان ، ذكره الطبرسي (٢).

وان يكون راجعاً الى الرجس ، واحتمله الطبرسي (٣).

وان يكون عائداً الى المذكورات بتأويل ما ذكر.

وفهم الاجتناب المنهي عنه على وجه يمكن جعله دليلاً للنجاسة ، انما يتم على بعض تلك الوجوه ، ولا ترجيح له على غيره ، فلا يتم الاستدلال.

على ان الظاهر ان المراد الاجتناب في الجميع على نسق واحد ، مع ان الظاهر من الاجتناب في الخمر الشرب وما اشبهه ، كتحريم الامهات.

* فالق الاصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم. [ الآية : ٩٦ ]

الاصباح مصدر سمي به الصبح.

قيل : المراد فالق ظلمة الاصباح ، وهو الغبش في اخر الليل ، وكأن الافق كان بحراً مملواً من الظلمة ، ثم انه تعالى شق ذلك البحر المظلم ، بأن اجرى فيه جدولاً من النور. فالمعنى : فالق ظلمة الاصباح بنور الاصباح. وحسن الحذف للعلم به.

او المراد فالق الصباح بضياء النهار واسفاره ، ومنه قولهم انشق عمود الفجر وانصدع.

او المراد مظهر الاصباح بواسطة فلق الظلمة ، فذكر السبب واراد المسبب.

____________

(١) الكشاف : ١ / ٦٤٢.

(٢ ـ ٣) مجمع البيان : ٢ / ٢٣٩.

١٠٦

او الفالق بمعنى الخالق ، وعن ابن عباس والضحاك : الفلق بالسكون بمعنى الخلق. واما الفلق بالتحريك ، فهو ضوء الصبح ، لانه بمعنى مفعول.

* قل انني هداني ربي الى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. [ الآية : ١٦١ ]

قال راغب الاصفهاني في مفرداته : الملة كالدين ، وهما اسمان (١) لما شرع الله لعباده على لسان الانبياء ، ليتوصلوا بها الى جوار الله.

والفرق بينها وبين الدين ، ان الملة لا تضاف الا الى النبي الذي تستند اليه ، نحو « اتبع ملة ابراهيم » (٢).

ولا تكاد توجد مضافة الى الله ، ولا الى آحاد امة النبي ، ولا تستعمل الا في جملة الشرائع دون آحادها ، فلا يقال للصلاة : ملة الله ، كما يقال : دين الله ، واصل الملة ، من امللت الكتاب (٣) انتهى.

ويرد عليه ما في الصحيفة السجادية الملقبة بزبور آل محمد ـ صلى الله عليه وآله : اللهم وثبت على طاعتك نيتي ـ الى قوله ـ عليه السلام : وتوفني على ملتك وملة نبيك محمد اذا توفيتني.

حيث اضاف الملة الى الله تعالى. الا ان يقال : المراد انها لا تضاف الى خصوص لفظة الجلالة ، وهو عن السياق بعيد.

____________

(١) في المصدر : وهو اسم.

(٢) النحل : ١٢٣.

(٣) مفردات الراغب : ٤٧١ ـ ٤٧٢.

١٠٧

وفي نهاية ابن الاثير : الملة الدين ، كملة الاسلام واليهودية والنصرانية. وقيل : هي معظم الدين ، وجملة ما يجيء به الرسل (١).

أقول : فظهر ان ما ورد في كلامهم من قولهم ـ عليهم السلام ـ « على ملة ابراهيم ودين محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ » مجرد تفنن في العبارة ، اريد بهما معنى واحد من غير ملاحظة امر آخر.

أو يقال : ان الذين لما كان اعم واشرف باضافته احيانا الى الله والى آحاد امة النبي ايضا ، وكان محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ اشرف المخلوقات واتم الموجودات ، وكان مبعوثا على كافة اهل الارض ، وكانت ملته البيضاء اشرف الملل واعمها واتمها.

كان المناسب ان يضاف الدين اليه تشريفا لمنزلته ، واجلالا لمرتبته ، والملة الى ابراهيم قضاءاً لحق العبارة ، وجرياً في مقام الفصاحة والبلاغة.

او يقال : الغرض هنا هو الاشعار بأن ما يجب على هذه الامة بالاضافة الى ما جاء به خليل الرحمن هو التصديق بجملة ما جاء به اجمالا ، من غير حاجة الى التصديق بآحاد شرائعه تفصيلاً.

بخلافه بالنسبة الى ما جاء به حبيب الرحمن ، فانه يجب على امته ان يصدقوه تفصيلا فيما علم تفصيلا واجمالا فيما علم اجمالا مع الاقرار باللسان ، وهذا هو الايمان عند اكثر الامامية ، هذا ما خطر بالبال ، والله اعلم بحقيقة الحال.

____________

(١) نهاية ابن الاثير : ٤ / ٣٦٠.

١٠٨

( سورة الاعراف )

* واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون. [ الآية : ٢٠٤ ]

ظاهر الآية الشريفة وان كان وجوب الاستماع والانصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغيرها ، اماماً كان او مأموماً ، الا انهم نقلوا عدم وجوبهما بالاجماع ، الا في الصلاة للمأموم حال قراءة الامام ، فيجب عليه ترك القراءة في الجهرية وما يسمع ولو همهمة ، واليه ذهب ابن حمزة.

على ما نقله عن الشهيد في الذكرى ، قال : واوجب الانصات لقراءة الامام على ظاهر الآية ، ثم قال : وحمله الاكثر على الندب (١).

اقول : ولعله خصها بذلك مع عمومها ، لصحيحة زرارة عن الباقر ـ عليه السلام ـ قال : وان كنت خلف امام فلا تقرأن شيئا في الاولتين وانصت لقراءته ، ولا تقرأن شيئا في الاخيرتين ، فان الله عز وجل يقول للمؤمنين « واذا قرىء القرآن » يعني في الفريضة خلف الامام « فاستمعوا له وانصتوا » فالاخيريان تبعتا للاولتين (٢).

ولعله ـ عليه السلام ـ اشار بذلك الى سبب النزول ، او الى ان « اذا » الشرطية ليست للعموم ، فانها من سور المهملة.

ودعواهم ان المستعملة في الايات الاحكامية ، نحو « اذا قمتم الى

____________

(١) الذكرى : ٢٧٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٩٢.

١٠٩

الصلاة » (١) « فاذا قرأت القرآن فاستعذ » (٢) « واذا حييتم بتحية » (٣) تفيد العموم عرفا وتكون بمعنى « متى » و « كلما » ممنوعة ، وعموم الاوقات في الايات على تقدير التسليم ، ليس لدلالتها عليه ، بل للاجماع والاخبار.

وفي الكشاف : انهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، فأمروا باستماع قراءة الامام (٤).

فاللام للعهد ، والمعهود القرآن الذي يقرأه الامام حال الصلاة ، واطلاقه على الكل والجزء شايع ، وسيأتي في حديث ابن الكواء.

وحينئذ فيمكن حمل الامر على الوجوب فقط ، كما هو اصله ، وذهب اليه ابن حمزة ، وعلى الندب كما هو رأي الاكثر ، وعلى الرجحان المطلق الشامل لهما.

وبما قررناه يندفع ما اورده الفاضل الاردبيلي رحمه الله على ابن حمزة بقوله : انه بعيد من جهة اطلاق عام كثير الافراد وارادة فرد خاص قليل (٥).

ولعل مراده ان دلالة الآية عليه بانفرادها من دون انضمام الاخبار ، وسبب النزول بعيد ، وهو كذلك ، الا ان ما قلناه غير بعيد عن سنن التوجيه ، فافهم.

وانما اوجب الانصات واريد به القراءة لاستلزامه له ، كما سنشير اليه ، فلا بعد فيه من هذه الجهة ايضا ، كما ظنه قدس سره ، ولا سيما اذا كانت على طبقه رواية صحيحة مفسرة له بذلك.

ثم قال طاب مثواه : ويمكن حمل الآية على عموم رجحان الاستماع

____________

(١) المائدة : ٦.

(٢) النحل : ٩٨.

(٣) النساء : ٨٦.

(٤) الكشاف : ٢ / ١٣٩.

(٥) زبدة البيان : ١٣٠.

١١٠

والانصات ، ويكون التفصيل بالوجوب في بعض اوقات الصلاة ، وبالاستحباب في الباقي معلوما من غيرها. او يحمل على استحبابهما ، للاجماع على عدم وجوبهما الا ما اخرجه الدليل ، وهو الاخبار الدالة على وجوب ترك قراءة المأموم في موضعه (١).

أقول : وأما ما رواه الشيخ في التهذيب ، عن معاوية بن وهب ، عن الصادق ـ عليه السلام ـ انه قال : ان علياً ـ عليه السلام ـ كان في صلاة الفجر ، فقرأ ابن الكواء وهو خلفه « ولقد اوحى اليك والى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين » (٢).

فانصت علي ـ عليه السلام ـ تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية ، ثم عاد في قراءته ، ثم اعاد ابن الكواء الآية ، فأنصت علي ـ عليه السلام ـ ايضا ، ثم قرأ فأعاد ابن الكواء.

فأنصت علي ـ عليه السلام ـ ثم قال « فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون » (٣) ثم أتم السورة ثم ركع. (٤)

فمحمول على الاستحباب ، توفيقاً بينه وبين صحيحه زرارة ، ويشعر به ايضا قوله ـ عليه السلام ـ « تعظيماً للقرآن » مع ما مر من الاجماع على عدم وجوب الانصات في هذه الصورة.

ثم من الظاهر ان استحباب الاستماع ان يكون فيما اذا لم يستلزم السكوت الطويل المخرج عن كونه قارئا ، والا فلا استحباب بل يحرم ، لوجوب الموالاة في القراءة المأمور بها. وذهب الشيخ الى القول بعدم المنافاة بيني الانصات للقراءة

____________

(١) زبدة البيان : ١٣٠.

(٢) الزمر : ٦٥.

(٣) الروم : ٦٠.

(٤) تهذيب الاحكام : ٣ / ٣٦ ح ٣٩.

١١١

والقراءة.

قال : ولا يمتنع ان يجب على من يصلي خلف من لا يقتدى به ان ينصت للقراءة ، ومع هذا تلزمه القراءة لنفسه (١).

وغرضه انه يمكن القراءة مع الاستماع والانصات ، كما ذهب اليه الاردبيلي ايضا. وفيه تأمل.

أما أولاً ، فلما في الصحاح : انصت له وانصته اي سكت واستمع كلامه (٢).

وفي نهاية ابن الاثير : انصت انصاتاً اذا سكت سكوت مستمع (٣).

وأما ثانياً ، فلان انصاته ـ عليه السلام ـ الى فراغ ابن الكواء من الآية ، ثم عوده الى القراءة ، وهكذا الى تمام المرات الثلاث ، صريح في ان المراد به ترك القراءة والتوجه الى سماعه والتدبر فيه ، فتدبر فيه.

وأما ثالثاً ، فلان حمل الآية على التأسيس خير من حملها على التأكيد ، كما يلزم مما ذكراه ، فتأمل.

____________

(١) تهذيب الاحكام : ٣ / ٣٥.

(٢) صحاح اللغة : ١ / ٢٦٨.

(٣) نهاية ابن الاثير : ٥ / ٦٢.

١١٢

( سورة التوبة )

* يا ايها الذين آمنوا انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ... [ الآية : ٢٨ ]

قال الفاضل الاردبيلي بعد تفسير كريمة « انما المشركون نجس » : ويستفاد من الآية احكام منها : كون الكفار مكلفين بالفروع. ومنها : عدم تمكين المسلمين لهم ، بمعنى منعهم عن دخوله ، بل قيل : هو المراد من النهي الى آخر ما افاده هناك (١).

أقول : انهم اختلفوا في ان الكفار هل هم مكلفون بالفروع مع انتفاء شرطها وهو الايمان حتى يعذبوا بها كما يعذبون بالايمان ام لا؟ فالاكثر على الاول.

قالوا : لا شرط في التكليف بفعل حصول شرطه الشرعي ، بل يجوز التكليف به وان لم يحصل شرطه شرعا ، خلافا لجمهور الحنفية ، وابي حامد الاسفرائني من فقهاء الشافعية ، وتبعهم على ذلك بعض متأخرينا كالقاساني في تفسيره الصافي (٢).

قالوا : لو كلف الكافر بها لصحت منه ، اذ الصحة موافقة الامر ، واللازم منتف.

واجيب بأنه غير محل النزاع ؛ اذ لا نريد انه مأمور بفعلها حالة كفره.

نعم يصح منه بأن يؤمن ويفعل ، كالجنب والمحدث حالة الجنابة امرا به بعد التطهير.

____________

(١) زبدة البيان : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) تفسير الصافي : ٤ / ٣٥٣.

١١٣

قالوا : لو وقع التكليف بالفروع لوجب القضاء ولا يجب.

واجيب بمنع الملازمة ؛ اذ القضاء انما يجب بأمر جديد ، وليس بينه وبين وقوع التكليف ولا صحته ربط عقلي ، فلا يستلزم احدهما.

ثم من الدليل على انهم مكلفون قوله سبحانه « ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين » صرح بتعذيبهم بتركهم الصلاة ، ولا يحمل على المسلمين ، اذ « ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين » (١) ينفيه.

وقوله تعالى : « فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى » (٢) ذمه على ترك الجميع ومنه الصلاة ، فيكون مذموماً بتركها.

وقوله عز وجل « لا يدعون مع الله الهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة » (٣) حيث جعل العذاب المضاعف جزاءً لهم على الافعال المذكورة ، ومنها قتل النفس والزنا.

وقوله « يا أيها الناس اعبدوا ربكم » (٤) « وان اعبدوني هذا صراط مستقيم » (٥) ونحوهما من الاوامر العامة بالعبادات ، فان الكفار مندرجون تحتها ، فوجب عليهم هذه العبادات وجوبها على غيرهم.

وتخصيص العبادة المأمور بها فيهما بالايمان لصدقها عليه ، مع انه خلاف الاصل والظاهر مما لا مخصص له سوى الاحتمال ، وهو لا يصلح للتخصيص.

____________

(١) المدثر : ٤٢ ـ ٤٥.

(٢) الحاقة : ٣١ ـ ٣٢.

(٣) الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩.

(٤) البقرة : ٢١.

(٥) يس : ٦١.

١١٤

واذ قد تقرر هذا فنقول : يمكن استفادة الحكم الاول ، وهو كون الكفار مكلفين بالفروع من توجه صريح النهي في « لا يقربوا » اليهم ، فنهوا ان يقربوه ، وهو تكليف لهم.

الا انهم لما لم يكونوا قابلين للخطاب لبعدهم عن ساحة عز الحضور ، خص المؤمنين به تنبيها على ذلك ، فالمؤمنون يبلغون ذلك النهي اليهم ، ويقولون : انتم انجاس ، والانجاس لا يجوز دخولهم المسجد ، والتكليف لا يستلزم كون المكلف مخاطبا به خطاب مشافهة ، بل يجوز ان يخاطب اخر بتبليغه الى المكلف ، كما في كثير من التكاليف الشرعية ، ويدل عليه قول علي ـ عليه السلام ـ حين نادى ببراءة الا يحج بعد عامنا هذا مشرك.

وأما استفادة الحكم الثاني ، وهو عدم تمكين المؤمنين لهم من النهي ، فمبني على جعله من باب الكناية ، كما في « يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان » (١) نهاه عنه ، والمراد نهيهم عن اتباعه والافتتان به ، لانهم لو اتبعوه لامتحنهم ، والكناية لا تنافي الحقيقة ، فيجوز ارادة المعنى وهو نهي المشركين ان يقربوه ، مع ارادة لازمه ، وهو نهي المسلمين عن تمكينهم منه ؛ لانه لو مكنوهم لدخلوه ، كما كانوا يدخلونه.

والفرق ان ارادة اللازم اصل ، وارادة المعنى تبع ، كما أومأنا اليه ، وذلك غير ارادة مجموع المعنيين ، بل ارادة كل واحد منهما معاً ، كما بين في الاصول.

لا يقال : ان اللفظ اذا دل بأقوى الدلالتين لا يدل بأضعفهما ؛ لان القوة والضعف متنافيان.

لانا نقول : لا نسلم ذلك ، وانما يكون كذلك لو كانت الدلالة الضعيفة والقوية من جهة واحدة ، وهما فيما نحن فيه ممنوع ، ضرورة انهما من جهتين مختلفتين : احداهما بالمطابقة ، والاخرى بالالتزام.

____________

(١) الاعراف : ٢٧.

١١٥

فظهرت ثمرة الخطاب وفائدته من غير ان يكون فيه تعسف ولا جمع بين الحقيقة والمجاز ، وكذلك ليس فيه ما يجري مجرى التكليف بالمحال ، لانهم يتمكنون من امتثاله حال الكفر ، لتحقق شرط الامتثال ، وهو فهم المكلف التكليف ، وهو الذي جعلوه شرطا لصحته ، كما فصلناه في بعض رسائلنا ، وليس بشرط في التكليف بفعل حصول شرطه الشرعي ، وهو هنا الايمان ، بل يجوز التكليف به وان لم يحصل شرطه.

وبما قررناه لا يتوجه اليه ما اورده عليه محمد بن عبد الفتاح التنكابني المشهور بالسراب بقوله : النهي في « لا يقربوه » اما متعلق بالمسلمين بمعنى منع المسلمين المشركين عن الدخول ، واما متعلق بالمشركين.

فعلى الاول كون الكفار مكلفين بالفروع ليس من احكام الآية ، وعلى الثاني ليس عدم تمكين المسلمين لهم من احكامها ، فعدهما من الاحكام لا وجه له.

ثم قال : فان قيل : منع المسلمين اياهم عن الدخول انما هو بمقتضى النهي عن المنكر ، فليس عدم التمكين حينئذ من الاحكام المستفادة من الآية ، والقول بأن مراده من جعل كل واحد من الامرين من احكام الآية انما هو على تقدير خارج عن اسلوب الكلام انتهى.

وذلك لانا نختار ان النهي متعلق بهما معا ، ولكن تعلقه بالمؤمنين اصالة وبالذات وبالمشركين تبعا وبالعرض ، نظيره ما قالوه في طويل النجاد ، انه يجوز ارادة طول النجاد مع ارادة طول القامة.

وفي كلام صاحب المفتاح ما يدل على ان اللفظ المستعمل في الحقيقة والمجاز ، حقيقة باعتبار معناه الحقيقي ، فان الحقيقة قسمان : قسم يراد به معناه الحقيقي ، ولازمه وهو الكناية.

وذهب الحاجبي الى انه مجاز ؛ لان المعنى الحقيقي هو المفهوم بقيد الانفراد ، فاذا استعمل اللفظ في المجموع يبطل معناه الحقيقي ، فيكون اللفظ

١١٦

مستعملاً في المجموع بوضع ثان ، كما في عموم المجاز.

والحق ان اللفظ موضوع لمفهوم الحقيقة مطلقا ، مع قطع النظر عن الانفراد والاجتماع ، فاذا استعمل في معناه الحقيقي والمجازي لم يبطل معناه الحقيقي ، لكن يكون مجازا في ارادة كل منهما ، لتجاوزه عن معناه الحقيقي ، وقد بين ذلك في الاصول.

وكذلك لا يرد على البيضاوي ما اورده عليه ملا ميرزا محمد بن الحسن الشيرواني بقوله : من الاوهام الفاضحة والاغلاط الواضحة ما ذكره في تفسير هذه الآية.

حيث قال : وفيه دليل على ان الكفار مخاطبون بالفروع ، ولا يخفى ان سياقها ظاهر في انها تكليف للمؤمنين بمنعهم من المسجد ، وما بعدها وهو « وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله » ايضا دليل عليه.

ثم قال : وانت خبير بأنه لو كان المراد نهي الكفار وخطابهم وتكليفهم مع قطع النظر عن المؤمنين ، ولم يكن له تعلق بالمؤمنين ، لم يكن للخطاب بالمؤمنين حاصل وثمرة ، الا ان يكون المراد خطابهم اياهم وتبليغهم لهم.

وفيه تعسف ، وحمل الآية على تكليف المؤمنين بالمنع ، وعلى تكليف المشركين بعدم القرب معاً ، قريب من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، على ان تكليف الكفار بما يشترط فيه الكفار ويتوقف عليه ، يجري مجرى تكليف المحال ؛ لانهم لا يتمكنون من امتثاله حالة الكفر ولا حالة الايمان لو وقع بدل الكفر ، بخلاف سائر الفروع ، فان الكافر لو بدل الكفر بالايمان وقت الزوال لتمكن من ايقاع الصلاة الصحيحة الشرعية ، الى هنا كلامه.

وانت خبير بأن علاوته هذه مع انها واهية في نفسها لما عرفته ، منقوضة بكون الجنب مثلا منهيا عن دخوله المسجد.

لانا نقول : تكليفه بما يشترط فيه الجنابة ويتوقف عليها ، يجري مجرى تكليف المحال ؛ لانه لا يتمكن من امتثاله حالة الجنابة ولا حالة الطهارة لو وقعت

١١٧

بدل الجنابة ، فما هو جوابه عن هذا فهو جوابنا عن ذاك.

وحله : كما سبق ان الامتثال لا يتوقف على الايمان ولا يمنعه الكفر ، والا يلزم منه الدور فيما اذا كان المأمور به هو الايمان ، وانما هو موقوف على قدرة المكلف وتمكنه وفهمه التكليف.

ولا شك ان الكافر حالة كفره متمكن من الامتثال بهذا المعنى ؛ اذ هو قادر عليه ، فيصح منه كف النفس عن الدخول ، فيكون ممتثلاً وعاملاً بمقتضى النهي وعدمه ، فيكون عاصياً وتاركاً لمقتضاه.

نعم لا يترتب عليه اثر الصحة بمجرد موافقة الامر ، بل لا بد وان يكون مسبوقا بالايمان ، وهو امر آخر لا ينفعه رحمه الله.

نعم يرد على البيضاوي ان الآية ليست دليلاً على كونهم مخاطبين بالفروع ، بل غاية الامر استفادته منها ، كما اومأ اليه الفاضل الاردبيلي ، وذلك لانهم انما يطلقون الدليل على ما هو نص او ظاهر ، لا على ما هو متساوي الاحتمالين ، او خلاف الظاهر.

ولعله اراد بالدليل هنا غير ما يفهم من هذا اللفظ بحسب العرف ، بل ما يندرج فيه الاحتمال ، وان لم يكن معروفا فيهم ؛ لانه يبعد عن مثله الغفلة عن عدم كونها دليلا عليه بالمعنى المتعارف.

كيف لا؟ وهو قد رأى ان صاحب الكشاف نقل عن عطا انه قال : نهى المشركين ان يقربوه راجع الى نهي المسلمين عن تمكينهم منه ، واقتصر عليه ولم يذكر احتمالا اخر كما اومأ اليه الاردبيلي بقوله : بل قيل : هو المراد من النهي.

ثم الظاهر ان صاحب الكشاف انما اقتصر على مجرد نقل قول عطا ، ولم يحتمل في الآية ما احتمله البيضاوي وغيره ، لانه حنفي الفروع ، وابو حنيفة زعم ان الكفار غير مكلفين بالفروع كما سبق في اول المسألة ، وقد نقله عنه ايضا شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله في شرحه على اللمعة.

وأما البيضاوي ، فلما كان شافعي الفروع ، والشافعي يقول بكونهم مكلفين

١١٨

بها ، كما هو مذهب الاكثر ، حمل الآية ردا على الكشاف ، وزعماً منه انه الظاهر منها ، حتى انه جعلها دليلاً عليه.

والظاهر ان ذلك انما صدر منه لحرصه على المذهب وتعصبه على تصحيحه كما هو دأبهم ، وقد قيل : ان حبك الشيء يعمي ويصم.

وبالجملة هما على طرفي الافراط والتفريط. وأما الفاضل الاردبيلي رحمه الله ، فلما امعن النظر في الآية ورأى انها تحتملهما معاً ، لانتفاء منع الجمع ، حملها عليه رداً عليهما ، وهو الحق ، كذلك يفعل الرجل البصير.

اقول : وفي دلالة الآية الشريفة على نجاستهم العينية مناقشتان :

الاولى : انها تتوقف على اثبات ان لفظ « النجس » حقيقة شرعية في المعنى المعهود بين الفقهاء ، او ساعد على ذلك عرف يعلم وجوده في زمن الخطاب ، وكلاهما في حيز المنع.

والثانية : ان النجس مصدر ، فلا يصح وصف الجثة به الا مع تقدير كلمة « ذو » ولا دلالة معه ، لجواز ان يكون الوجه في نسبتهم الى النجس عدم انفكاكهم من النجاسات العرضية ، لانهم لا يتطهرون ولا يغسلون ، والمدعى نجاسة ذواتهم.

والجواب : ان المصادر يصح الوصف بها اذا كثرت معانيها في الذات ، كما يقال : زيد عدل ، فالوصف بالمصدر صحيح.

لكن منهم من قدر كلمة « ذو » وجعل الوصف بها مضافة الى المصدر.

ومنهم من جعله وارداً على جهة المبالغة باعتبار تكثير الوصف في الموصوف ، حتى كأنه تجسم منه ، والظاهر كونه ارجح من الاول ، وعليه تعويل المحققين.

١١٩
١٢٠