الدّرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنيّة

المؤلف:

محمد إسماعيل الخواجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

(سورة فاطر)

* اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه. [ الآية : ١٠ ]

الضمير في « يرفعه » : اما ان يعود الى العمل الصالح ، اي : يتقبله. واما الى الكلم الطيب ، اي : العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.

وقيل : هو من القلب ، اي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح.

والظاهر من هذا الحديث هو الاول ، فالضمير المستكن في « يرفعه » وهو الضمير الفاعل يعود الى الكلم الطيب ، والبارز الى العمل الصالح ، اي : العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ، وهو ولايتنا اهل البيت ، فلا حاجة فيه الى القول بالقلب ، فافهم.

روى الكليني باسناده عن عمار الاسدي عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في قول الله عز وجل « اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه » ولايتنا اهل البيت ، واهوى بيده الى صدره ، فمن لم يتولنا لم يرفع الله له عملاً (١).

قيل : الظاهر ان قوله « ولايتنا » تفسير لعمل الصالح ، فالمستتر في قوله « يرفعه » راجع اليه والبارز الى الكلم ، والمراد به كلمة الاخلاص والدعاء والاذكار كلها ، وبصعوده بلوغه الى محل الاعلى والقبول ، اي : العمل الصالح وهو الولاية يرفع الكلم الطيب ويبلغه حد القبول ، والاظهر ما ذكرناه ، فتأمل.

____________

(١) اصول الكافي : ١ / ٤٣٠ ح ٨٥.

٢٠١

* وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج ... [ الآية : ١٢ ]

العذب : الطيب الذي لا ملوحة فيه.

وفي القاموس : العذب من الطعام والشراب كل مستساغ (١).

والاجاج : بالضم الماء الملح الشديد الملوحة.

والماء اذا كان لطيفاً خفيفاً وزنه لقلة ما يخالطه من الارضية ، وعدم ما يمازجه من الاوساخ المدنية ، والكيفيات المعدنية الموجبة لفسادها ، جارياً على تربة نقية غير قابلة للعفونة ، وخاصة الماء الجاري الى المشرق ؛ لان الرياح المشرقية معتدلة بين الحرارة والبرودة مائلة الى اليبوسة ، فتكون مصلحة له ، ولا سيما الماء المنحدر الى الاسفل ، فان حركته اسرع ، فيزيده لطافة ، وخاصة اذا بعد المنبع ؛ لانه حينئذ يكون الطف لكثرة حركته بطول المسافة.

يرقق (٢) لرقته ولطافته رطوبة الفم ، ويسيلها وينفذها في جرم اللسان وهو خال عن الطعوم ، وبذلك تحصل العذوبة ؛ لان طعم هذه الرطوبة مائل الى العذوبة ، كالبلغم الطبيعي.

والعذوبة او درجات الحلاوة ، ولذلك يخيل لشاربه انه حلو ، والا فالماء البسيط لا طعم له ولا رائحة ، بل ولا لون ، كما ثبت في محله.

____________

(١) القاموس المحيط : ١ / ١٠١.

(٢) خبر لقوله « والماء » ، « منه ».

٢٠٢

* انما يخشى الله من عباده العلماء [ الآية : ٢٨ ]

دل بمنطوقه على ان العلماء يخشون الله لعلمهم ، لان تعليق الحكم على الوصف يشعر بعليته ، وبمفهومه على ان غير العلماء لا يخشون الله لجهلهم.

والمراد من العلم في الآية هو علم الشريعة لشرفه ، ولانه هو العلم النافع ، فكأن العلم منحصر فيه ، كما دلت عليه الظواهر.

وأما تخصيصه بعلم الفروع ، فهو اصطلاح مستحدث حدث بعد الصحابة والتابعين ، وليس في كلام الاسلاف منه عين ولا اثر.

وهذا الاصطلاح المستحدث لم يثبت في العلم ، كما ثبت في الفقه ، وكأن الوجه فيه ان الفقه لما اعتبر في مفهومه لغة ثم عرفاً تدقيق النظر واستعمال الفطنة ، خص بعلم الفروع بتلك المناسبة ، لاحتياجه الى مزيد تدقيق واستعمال فطنة ، بخلاف العلم ، فانه لم يعتبر ذلك في مفهومه لا لغة ولا عرفاً.

وانت خبير بأن في الآية جعل العلم موجباً للخشية ، ومعناه كما قيل : ان الخشية لا توجد بدون العلم ، لا كلما وجد العلم وجدت الخشية ، ليلزم ان ما لا خشية فيه لا يكون علماً.

وقال الطبرسي رحمه الله : ومتى قيل قد نرى من العلماء من لا يخاف الله ويركب المعاصي ، فالجواب انه لا بد من ان يخافه مع العلم به ، وان كان ربما يؤثر المعصية عند غلبة الشهوة لعاجل اللذة (١).

والظاهر من كلامه هذا ان العلم بالله لا ينفك عن الخشية له ، كما ان الخشية له لا تنفك عن العلم به ، فهما متلازمان ، فكل ما تحقق احدهما تحقق الاخر ، كما اشار اليه الغزالي.

____________

(١) مجمع البيان : ٤ / ٤٠٧.

٢٠٣

ولما كان مدار الخشية على معرفة المخشى ، كانت الخشية له تعالى على حسب العلم بنعوت كماله وصفات جلاله ، فمن كان اعلم به كان اخشى له.

وفي الحديث : اعلمكم بالله اشدكم خشية له (١).

وقال بعض الفضلاء : المراد بالعلم قريب مما يراد من الفقه ، لا المعاني المصطلحة المستحدثة ، كحصول الصورة ، او الصورة الحاصلة عند العقل ، او ملكة تقتدر بها على ادراكات جزئية وما اشبه ذلك ، فان العلماء ورثة الانبياء ، وليس شيء من هذه المعاني ميراث الانبياء.

اقول : قد روي عن الصادق ـ عليه السلام ـ انه قال : ان الانبياء انما اورثوا الاحاديث من احاديثهم ، فمن اخذ بشيء منها فقد اخذ حظاً وافراً (٢).

وعلى هذا فالمراد بالعلماء هم المحدثون العاملون بها ، لقوله ـ عليه السلام ـ في حديث آخر : يعني بالعلماء من صدق فعله قوله ، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم (٣).

ثم قال هذا الفاضل : وقد قال الله تعالى : « انما يخشى الله من عباده العلماء » فقد جعل العلم موجباً للخشية والخوف ، لتعليق الحكم على الوصف ، فجميع ما ارتسم في ذهنك من التصورات والتصديقات التي لا توجب لك الخشية والخوف ، وان كانت في كمال الدقة والغموض ، فليست من العلم في شيء بمقتضى الآية الكريمة ، بل هي جهل محض ، بل الجهل خير منها. انتهى كلامه.

وفيه ان العلم عبارة عن انكشاف المعلوم على العالم : اما بذاته ، او بصورته من غير ان يعتبر فيه افادة الخشية وعدمها. نعم لو كان المعلوم مما له هيبة ، فربما

____________

(١) نفس المصدر.

(٢) اصول الكافي : ١ / ٣٢ ح ٢.

(٣) اصول الكافي : ١ / ٣٦ ح ٢.

٢٠٤

يوجب العلم به خشية وخوفاً اذا تصور من تلك الجهة.

والآية لا تدل على ان العلم بغير الله ايضا يوحب الخشية ، حتى يلزم من انتفائها انتفاؤه ، وانما تدل على ان العلم بالله وبصفاته يوجب ذلك ، وهو كذلك ، كما اشار اليه علي بن الحسين صلوات الله عليهما « سبحانك اخشى خلقك لك اعلمهم بك ».

٢٠٥
٢٠٦

(سورة يس)

* ألم يروا كم اهلكنا قبلهم من القرون انهم اليهم لا يرجعون. [ الآية : ٣١ ]

استدل صاحب الكشاف بهذه الآية الكريمة على انكار الرجعة وقال : وهذا مما يرد قول اهل الرجعة (١).

واراد بهم اصحابنا الامامية رضوان الله عليهم ، فان القول بالرجعة والايمان بها مما تفردوا به ، ونقلوا فيه اخباراً كثيرة.

منها : ان الله سيعيد قوماً عند قيام المهدي ـ عليه السلام ـ ممن تقدم مودتهم من اوليائه وشيعته ممن محض الايمان محضاً ، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ، ويبتهجوا بظهور دولته ، ويعيد ايضا قوما من اعدائه ممن محض الكفر محضا لينتقم منهم ، وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب في القتل على ايدي شيعته ، او الذل والخزي بما يشاهدونه من علو كلمته (٢).

وهذا ـ اي : تفردهم بذلك ـ هو المشهور بين اصحابنا.

ولكن يظهر من ابن الاثير في نهايته ان القول بالرجعة ليس من متفرداتهم ، حيث قال : ان الرجعة مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم ، ومذهب طائفة من فرق المسلمين من اولي البدع والاهواء ، يقولون : ان الميت يرجع الى الدنيا ويكون فيها حياً كما كان.

____________

(١) الكشاف : ٣ / ٣٢١.

(٢) بحار الانوار : ٥٣ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

٢٠٧

ومن جملتهم طائفة من الرافظة يقولون : ان علي بن ابي طالب مستقر في السحاب ، فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء اخرج مع فلان ، ويشهد لهذا المذهب السوء قوله تعالى : « حتى اذا جاء احدهم الموت قال رب ارجعون لعلي اعمل صالحاً » يريد الكفار ، نحمد الله على الهداية والايمان (١) انتهى.

وهذا منهم افتراء وبهتان عظيم على الرافضة ، فانهم وان قالوا برجعته ـ عليه السلام ـ ولكن لم يقل به احد منهم بحياته واستقراره في السحاب ، بل القول بحياته قول طائفة من الغلاة ليس الا.

اقول : وفيما ذكره الكشاف نظر ؛ اذ غاية ما دلت عليه الآية ان القرون الهالكة الخالية لا يرجعون بصورهم الاصلية الى العباد المستهزئين للرسل مدة حياتهم.

وأما أنهم لا يرجعون ابداً لا اليهم ولا الى غيرهم ، او ان غير هؤلاء الهالكين لا يرجع قبل يوم القيامة الى الدنيا بصورته التي كان عليها ، فلا دلالة لها عليه بشيء من الدلالات.

ثم أية منافاة بين رجوع علي ـ عليه السلام ـ الى الدنيا ، وبين نكاح نسائه وقسمة ميراثه ؛ اذا كان ذلك جائزاً في الشرع.

فما حكاه عن ابن عباس انه قيل له : ان قوماً يزعمون ان علياً ـ عليه السلام ـ مبعوث قبل يوم القيامة ، فقال : بئس القوم نحن ، ان نكحنا نساؤه وقسمنا ميراثه (٢).

فمع انه فرية لا مرية فيها لا يدل على عدم الجواز ، فان كثيرا من القرون الماضية وغيرهم ماتوا ونكح نساؤهم وقسم اموالهم ، ثم رجعوا الى الدنيا وعاشوا

____________

(١) نهاية ابن الاثير : ٢ / ٢٠٢.

(٢) الكشاف : ٣ / ٣٢١.

٢٠٨

فيها ما شاء الله ، ثم ماتوا بآجالهم.

ثم كيف يصير قول ابن عباس ـ على فرض ثبوته وصحته ـ دافعاً لقول امير المؤمنين سلام الله عليه في حديث ابي الطفيل في الرجعة :

هذا علم يسع (١) الامة جهله ورد علمه الى الله. قال : وقرأ علي بذلك قراءة كثيرة ، وفسره تفسيراً شافياً ، حتى صرت ما انا بيوم القيامة اشد يقيناً مني بالرجعة الحديث (٢).

وكان عامر بن واثلة الكناني ابو الطفيل هذا آخر من مات ممن رأى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما في الاستيعاب ، قال : وقد روى عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ نحو اربعة احاديث ، وكان محبا في علي ـ عليه السلام ـ وكان من اصحابه في مشاهده ، وكان ثقة مأموناً ، يعترف بفضل الشيخين ، الا انه كان يقدم علياً ـ عليه السلام (٣).

ويقال (٤) : انه ادرك من حياة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ثمان سنين ، وكان مولده في يوم احد ، ومات سنة مائة او نحوها انتهى.

وفي مختصر الذهبي : وكان ابو الطفيل من محبي علي ، وبه ختم الصحابة في الدنيا ، مات سنة عشر ومائة (٥) انتهى.

وهذان الكتابان ، وهما الاستيعاب والمختصر من كتب رجال العامة.

وفي الكشي في ترجمة عامر بن واثلة ابي الطفيل هذا باسناده الى شهاب

____________

(١) في البحار : هذا علم خاص لا يسع.

(٢) بحار الانوار : ٥٣ / ٦٩.

(٣) الاستيعاب : ٣ / ١٥ ، المطبوع على هامش الاصابة.

(٤) والقائل هو ابن الاثير في جامع الاصول ، راجع التعليقة على اختيار معرفة الرجال : ١ / ٣٠٩ والشيخ في رجاله : ٤٧.

(٥) راجع تهذيب التهذيب لابن حجر : ٥ / ٨٢.

٢٠٩

ابن عبد ربه ، قال قلت لابي عبد الله ـ عليه السلام : كيف اصبحت جعلت فداك؟ قال : اصبحت اقول كما قال ابو الطفيل يقول :

وان لاهل الحق لابد دولة

على الناس اياها أرجى وأرقب

ثم قال : انا والله ممن يرجي ويرقب ، وكان يقول : ما بقي من السبعين غيري (١).

واراد بهم الذين قتلوا مع الحسين ـ عليه السلام ـ ويظهر منه انه كان من اصحابه ـ عليه السلام ـ ايضا. ومن كلامه :

وبقيت سهماً من النكاية واحداً

سترمي به او يكسر السهم كاسرة (٢)

وكان يحفظ الاحاديث على ما يكون ، ولا يخلي دخول الغلط فيها.

ثم من العجب ان هذا الرجل المعتزلي الاصول حنفي الفروع صاحب التفسير يفّوه بكل ما خطر بباله من غير مبالاة.

ولعله ذهب عنه ما نقلوه في كتبهم انه اذا خرج المهدي ـ عليه السلام ـ نزل عيسى بن مريم فصلى خلفه ، ونزوله الى الارض رجوعه الى الدنيا بعد موته ، لقوله تعالى فيه « اني متوفيك ورافعك الي » (٣).

الا يرى الى قوله تعالى : « الم تر الى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم احياهم » (٤) فهؤلاء ماتوا ورجعوا الى الدنيا.

وقال تعالى في قصة عزير اوارميا على اختلاف القولين « فأماته الله مائة عام ثم بعثه » (٥) قال هذا الرجل المنكر للرجعة في تفسيره : انه كان كافراً

____________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) آل عمران : ٥٥.

(٤) البقرة : ٢٤٣.

(٥) البقرة : ٢٥٩.

٢١٠

بالبعث ، وهو الظاهر ، لانتظامه مع نمرود في سلك ، ثم قال وقيل : هو عزير او الخضر (١).

اقول : وعلى اي الاقوال فهذا مات مائة عام ، ثم رجع الى الدنيا وبقي فيها ، ثم مات بأجله.

قال هذا المنكر بعد قوله تعالى : « ولنجعلك آية للناس » قيل : اتى قومه راكب حماره ، وقال : انا عزير ، فكذبوه ، فقال : هاتوا التوراة ، فأخذها يهذها هذا عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب ، فما خرم حرفا ، فقالوا : هو ابن الله ، ولم يقرأ التوراة ظاهراً احد قبل عزير ، فذلك كونه آية. وقيل : رجع الى منزله ، فرأى اولاده شيوخاً وهو شاب ، فاذا حدثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة (٢) انتهى.

وفي قصة المختارين من قوم موسى لميقات ربه « ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون » (٣) فأحياهم فرجعوا الى الدنيا ، فأكلوا وشربوا ونكحوا وولد لهم الاولاد وبقوا فيها ، ثم ماتوا بآجالهم.

وكذلك جميع الموتى الذين احياهم الله لعيسى ـ عليه السلام ـ رجعوا الى الدنيا وبقوا فيها ثم ماتوا. وقصة اصحاب الكهف معروفة.

والرواية النبوية : كل ما كان في الامم السالفة يكون في هذه الامة مثله حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. (٤) مشهورة وسائر الاقاصيص في محالها مسطورة.

وليس ينبغي ان يعجب من ذلك ، فضلا عن ان ينكر ، فان الامور المجهولة

____________

(١) الكشاف : ١ / ٣٨٩.

(٢) الكشاف : ١ / ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٣) البقرة : ٥٦.

(٤) مسند احمد بن حنبل : ٢ / ٣٢٥ و ٣٢٧ و ٣٣٦ وغيرها.

٢١١

العلل لا يعجب منها. الا يرى الى قول سيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وقد سبق : هذا علم يسع الناس جهله ورد علمه الى الله (١).

على ان بعض علله ، كفوز الاولياء بثواب النصرة والمعونة وبهجتهم بظهور الدولة والسلطنة ، والانتقام من الاعداء ، ونيلهم بعض ما يستحقونه من العقاب والعذاب في الدنيا ، الى غير ذلك من البواعث في الحكمة في الاخبار مذكور وفي الاثار مسطور. وقد سبق في الخبر الاول ، وله نظائر لا يسع ذكرها المقام.

والصلاة على محمد وآله خير البرية والانام.

____________

(١) بحار الانوار : ٥٣ / ١٢٩.

٢١٢

(سورة الصافات)

* وان من شيعته لابراهيم. [ الآية : ٨٣ ]

الشيعة : بالكسر الاتباع والاعوان والانصار ، مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار التي تشعل بالنار ، وتعين الحطب الكبار على ايقاد النار ، وكل قوم اجتمعوا على امر فهم شيعة ، ثم صارت الشيعة اسما لجماعة مخصوصة.

وفي القاموس : شيعة الرجل بالكسر اتباعه وانصاره ، والفرقة على حدة ، وتقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته ، حتى صار اسماً لهم خاصاً (١).

وفي نهاية أبن الأثير : أصل الشيعة الفرقة من الناس ، وتقع على الواحد والأثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد ، وغلب هذا الأسم على من يزعم أنه يوالي علياً وأهل بيته ، حتى صار لهم إسما خاصا ، فاذا قيل : فلان من الشيعة عرف انه منهم ، من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة (٢) انتهى كلامه.

وفي مجمع البيان في فصل اللغة : الشيعة الجماعة التابعة لرئيس لهم ، وصار بالعرف عبارة عن شيعة علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ الذين كانوا معه على اعدائه ، وبعده مع من قام مقامه من ابنائه ـ عليهم السلام.

وفي موثقة ابي بصير عن ابي جعفر ـ عليه السلام ـ انه قال : ليهنئكم الاسم ، قلت : وما هو جعلت فداك؟ قال : « وان من شيعته لابراهيم » وقوله

____________

(١) القاموس المحيط : ٣ / ٤٧.

(٢) نهاية ابن الاثير : ٢ / ٥١٩ ـ ٥٢٠.

٢١٣

عز وجل : « فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه » فليهنئكم الاسم.

هكذا وجد في ثلاث نسخ معتبرة من تفسير علي بن ابي ابراهيم (١) ، والظاهر انه سقط هنا منه شيء.

والصحيح ما في مجمع البيان : روى ابو بصير عن ابي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : ليهنئكم الاسم ، قلت : وما هو؟ قال : الشيعة ، قلت : الناس يعيروننا بذلك ، قال : اما تسمع قول الله سبحانه « وان من شيعته لابراهيم » وقوله « فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه » (٢) انتهى ما في مجمع البيان.

أقول : ويستفاد من بعض الاخبار ان تسمية الشيعة بهذا الاسم باعتبار ان نور نبينا وروحه هو الذي تشعبت منه انوار اوصيائه المعصومين ـ عليهم السلام ـ ثم خلقت من شعاعها ارواح شيعتهم من الاولين والاخرين ، فلذلك سموا بهذا الاسم.

واليه يشير ما روي عن المفضل بن عمر ، قال قلت لمولانا الصادق ـ عليه السلام ـ ما كنتم قبل ان يخلق الله السموات والارض؟ قال : كنا انواراً حول العرش نسبح الله ونقدسه حتى خلق الله الملائكة ، فقال لهم الله : سبحوا ، فقالوا : اي رب لا علم لا ، فقال لنا : سبحوا فسبحنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ، الا انا خلقنا انواراً (٣) ، وخلقت شيعتنا من شعاع تلك الانوار ، فلذلك سميت شيعة ، فاذا كان يوم القيامة التحقت السفلى بالعليا ، ثم قرب ما بين اصبعيه (٤).

وفيه من بشارة الشيعة والدلالة على جلالة قدرهم ما لا يخفى.

____________

(١) تفسير القمي : ٢ / ٢٢٣. أقول : والرواية في تفسير القمي المطبوع تطابق ما في مجمع البيان من دون سقط شيء.

(٢) مجمع البيان : ٣ / ٤٤٨ ـ ٤٤٩.

(٣) في البحار : خلقنا من نور الله.

(٤) بحار الانوار : ٢٥ / ٢١ ح ٣٤.

٢١٤

فان قلت : ما معنى قول ابي بصير الناس يعيروننا بذلك؟

قلت : هو اشارة الى قول المخالفين ان اصل التشيع اليهودية.

قال الكشي في كتاب الرجال : ذكر بعض اهل العلم ان عبد الله بن سبأ كان يهودياً ، فأسلم ووالى علياً ـ عليه السلام ـ وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى على نبينا وآله وعليه السلام بالغلو ، فقال في اسلامه بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في علي ـ عليه السلام ـ مثل ذلك.

وكان اول من شهر بالقول بفرض امامة علي ـ عليه السلام ـ واظهر البراءة من اعدائه ، وكاشف مخالفيه وكفرهم ، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة : ان اصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية (١) انتهى.

اقول : وكان في زمن نوح النبي على نبينا وآله وعليه السلام طائفة من قومه قد آمنوا به يقال لهم : الشيعة ، وقوم آخرون في مقابلهم قد كفروا به يقال لهم : العامة.

وقد نالت الشيعة منهم شدة شديدة ، واشتدت عليهم البلوى ، وعظمت فيهم الرزية ، وكانوا منتظرين للفرج مدة مديدة وازمنة طويلة ، الى ان اهلك الله اعداءهم بالطوفان. وقريب منه ما يجري في هذه الازمان.

روى الصدوق رحمه الله في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى عبد الله بن الفضل الهاشمي ، قال قال الصادق جعفر بن محمد ـ عليهما السلام : لما اظهر الله تبارك وتعالى نبوة نوح ـ عليه السلام ـ وايقن الشيعة بالفرج ، اشتدت البلوى وعظمت الرزية (٢) ، الى ان آل الامر الى شدة شديدة نالت الشيعة ، والوثوب الى نوح (٣) بالضرب المبرح.

____________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١ / ٣٢٤.

(٢) في المصدر : الفرية.

(٣) في المصدر : على نوح.

٢١٥

حتى مكث ـ عليه السلام ـ في بعض الاوقات مغشيا عليه ثلاثة ايام يجري الدم من اذنه ، ثم افاق ، وذلك بعد ثلاثمائة سنة من مبعثه ، وهو في خلال ذلك يدعوهم ليلاً ونهاراً فيهربون ، ويدعوهم سراً فلا يجيبون ، ويدعوهم علانية فيولون.

فهم بعد ثلاثمائة سنة بالدعاء عليهم ، وجلس بعد صلاة الفجر للدعاء ، فهبط اليه وفد من السماء السابعة وهم املاك فسلموا عليه ، ثم قالوا : يا نبي الله لنا حاجة ، قال : وما هي؟ قالوا : تؤخر الدعاء على قومك ، فانها اول سطوة الله عز وجل في الارض ، قال : قد اخرت الدعاء عليهم ثلاثمائة سنة اخرى.

وعاد اليهم فصنع ما كان يصنع ، ويفعلون ما كانوا يفعلون ، حتى انقضت ثلاثمائة سنة اخرى ، ويئس من ايمانهم ، جلس في وقت ضحى النهار للدعاء ، فهبط عليه وفد من السماء السادسة وهم ثلاثة املاك فسلموا عليه ، وقالوا : نحن وفد من السماء السادسة خرجنا بكرة وجئناك ضحوة ، ثم سألوه مثل ما سأله وفد السماء السابعة ، فأجابهم الى مثل ما اجاب اولئك اليه.

وعاد الى قومه يدعوهم ، فلا يزيدهم دعاؤه الا فراراً ، حتى انقضت ثلاثمائة اخرى تتمة تسعمائة سنة ، فصارت الشيعة اليه وشكوا ما ينالهم من العامة والطواغيت ، وسألوه الدعاء بالفرج.

فأجابهم الى ذلك وصلى ودعا ، فهبط عليه جبرئيل ـ عليه السلام ـ فقال له : ان الله تبارك وتعالى قد اجاب دعوتك ، فقل للشيعة يأكلون (١) التمر ويغرسون (٢) النوى ، ويراعونه (٣) حتى يثمر ، فاذا اثمرت فرجت عنهم.

فحمد الله واثنا عليه ، وعرفهم ذلك فاستبشروا به ، فأكلوا التمر وغرسوا

____________

(١) في المصدر : يأكلوا.

(٢) في المصدر : ويغرسوا.

(٣) في المصدر : ويراعوه.

٢١٦

النوى ، وراعوه حتى اثمر ، ثم صاروا الى نوح ـ عليه السلام ـ بالثمرة (١) ، وسألوه ان ينجز لهم بالوعد.

فسأل الله عز وجل في ذلك ، فأوحى الله اليه قل لهم كلوا هذا التمر واغرسوا النوى ، فاذا اثمر فرجت عنكم ، فلما ظنوا ان الخلف قد وقع عليهم ارتد منهم الثلث وثبت الثلثان.

فأكلوا التمر وغرسوا النوى ، حتى اذا اثمر اتوا به نوحاً ـ عليه السلام ـ فأخبروه وسألوه ان ينجز لهم الوعد ، فسأل الله عز وجل في ذلك ، فأوحى الله اليه قل لهم : كلوا هذا التمر واغرسوا النوى ، فاذا اثمر فرجت عنكم ، فارتد الثلث الاخر وبقي الثلث.

فأكلوا التمر وغرسوا النوى ، فلما اثمر اتوا به نوحاً ـ عليه السلام ـ فقالوا له : لم يبق منا الا القليل ، ونحن نتخوف على انفسنا بتأخير الفرج ان نهلك.

فصلى نوح ـ عليه السلام ـ فقال : يا رب لم يبق من اصحابي الا هذه العصابة ، واني اخاف عليهم الهلاك ان تأخر عنهم الفرج ، فأوحى الله عز وجل اليه قد اجبت دعاءك فاصنع الفلك ، وكان بين اجابة الدعاء وبين الطوفان خمسون سنة (٢).

فظهر مما نقلناه ان هذا الاسم وهو الشيعة ، كان شايعاً في زمن نوح النبي ـ عليه السلام ـ وكان يطلق على كل من اتبعه في طريق الحق.

ولذلك قال الله تبارك وتعالى « وان من شيعته لابراهيم » اي : وان من شيعة نوح ابراهيم ـ عليهما السلام ـ يعني : انه كان على منهاجه وسنته في التوحيد والعدل واتباع الحق.

____________

(١) في المصدر : بالتمر.

(٢) كمال الدين : ١٣٣ ـ ١٣٤.

٢١٧
٢١٨

(سورة فصلت)

* وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم كافرون. [ الايتان : ٦ ـ ٧ ]

قال الفاضل الاردبيلي قدس سره بعد نقله في آيات الاحكام كريمة « وويل للمشركين » الآية : فيها دلالة على وجوب الزكاة على الكفار ؛ لانه يفهم منها ان للوصف بعدم ايتاء الزكاة دخلاً في ثبوت الويل لهم ، ولكن علم من الاجماع وغيره عدم الصحة منهم الا بعد الاسلام (١) ، الى هنا كلامه طاب منامه.

فان قلت : « الذين لا يؤتون الزكاة » صفة كاشفة على طريقة الالمعي الذي يظن بك الظن ، فيدل على ان المراد بالمشركين من لا يؤتي الزكاة ، واطلاقه عليه من باب المبالغة ، كاطلاق الكافر على تارك الحج في قوله « ومن كفر » وكذلك حصر الكافرين بالاخرة فيهم ، للمبالغة والاشارة الى غاية اهتمامه تعالى بشأن الزكاة ووجوب اخراجها.

ويدل عليه بعض الروايات ، كرواية ابي بصير عن ابي عبد الله ـ عليه السلام : من منع قيراطاً من الزكاة ، فليس بمؤمن ولا مسلم (٢).

وقوله « وهم بالاخرة هم كافرون » جملة حالية تعليلية ، اي : عدم ايتائهم الزكاة ، لانهم غير مؤمنين بالاخرة ، اذ الايمان بها يقتضي ايتائها ، فعدمه دليل على عدمه.

____________

(١) زبدة البيان : ١٨٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٢.

٢١٩

فدلت الآية على شرك الموصوفين بعدم الايتاء المعلل بعدم الايمان بالاخرة ، ولا دلالة فيها على وجوب الزكاة على الكفار ، ليثبت به تكليفهم بالفروع.

قلت : فيها دلالة على ان ترك الزكاة من صفات الكفار ، وفي تعليق الويل على الوصف بعدم الايتاء اشعار بعليته لثبوتها لهم ، فتدل على وجوبها عليهم ، ويلزم منه كونهم مكلفين بها.

قال القاساني قدس سره في الصافي بعد نقله ما رواه القمي عن ابان بن تغلب ، قال : قال ابو عبد الله ـ عليه السلام : يا ابان اترى ان الله طلب من المشركين زكاة اموالهم وهم يشركون به ، حيث يقول « وويل للمشركين » الآية ، قلت له : جعلت فداك فسره لي ، فقال : ويل للمشركين الذين اشركوا بالامام الاول وهم بالائمة كافرون : يا ابان انما دعا الله العباد الى الايمان ، فاذا آمنوا بالله وبرسوله افترض عليهم الفرائض.

هذا الحديث يدل على ما هو التحقيق عندي من ان الكفار غير مكلفين بالاحكام الشرعية ما داموا على الكفر (١).

وفيه ان هذا الحديث بظاهره لما كان مخالفاً للمذهب المشهور المنصور ، ولظاهره هذه الآية وظواهر كثير من الايات ، وجب تأويله على تقدير امكانه ، اورده على تقدير عدمه.

لما ورد عن الصادقين ـ عليهم السلام ـ في كثير من الاخبار : اذا جاءكم عنا حديث ، فاعرضوه على كتاب الله ، فاذا وافقه فخذوه ، وان خالفه فردوه واضربوا به عرض الحائط (٢).

وفي الكافي بسند صحيح عن الصادق ـ عليه السلام : ان الحديث الذي لا

____________

(١) تفسير الصافي : ٤ / ٣٥٣.

(٢) تهذيب الاحكام : ٦ / ٣٠٢ ، مضمون الحديث ، واصول الكافي : ١ / ٦٩ ح ٢.

٢٢٠