الدّرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنيّة

المؤلف:

محمد إسماعيل الخواجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

(سورة النور)

* وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها ... [ الآية : ٣١ ]

روى الكليني في الكافي باسناده عن زرارة عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في قوله تعالى « الا ما ظهر منها » قال : الزينة الظاهر الكحل والخاتم (١).

وعن ابي بصير عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : سألته عن قول الله تعالى « ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها » قال : الخاتم والمسكة وهي القلب (٢).

وفي جوامع الجامع : فالظاهرة لا تجب سترها ، وهي الثياب الى قوله وعنهم ـ عليه السلام : الكفان والاصابع (٣).

وفي مجمع البيان : وفي تفسير علي بن ابراهيم الكفان والاصابع (٤).

وفي تفسير علي بن ابراهيم : وفي رواية ابي الجارود عن ابي جعفر ـ عليه السلام ـ في قوله « ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها » فهي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكف والسوار.

والزينة ثلاث : زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة للزوج ، فأما زينة الناس ،

____________

(١) فروع الكافي : ٥ / ٥٢١ ح ٣.

(٢) فروع الكافي : ٥ / ٥٢١ ح ٤.

(٣) جوامع الجامع : ٣١٤ ـ ٣١٥ ، الطبعة الحجرية.

(٤) مجمع البيان : ٤ / ١٣٨.

١٨١

فقد ذكرناها ، وأما زينة المحرم ، فوضع القلادة فما فوقها ، والدملج وما دونه ، والخلخال وما اسفل منه. وأما زينة الزوج ، فالجسد كله (١).

ويؤيد ذلك ما في الفقيه عن حفص بن البختري عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : لا ينبغي للمرأة ان تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية ، فانهن يصفن ذلك لازواجهن (٢).

فاذا لم يجز الانكشاف بين ايديهن للعلة المذكورة ، فعدم جوازه بين ايدي الاجانب من الرجال اولى ، ولاشتراك العلة وهي تهييج الميل وتحريك الشهوة وثوران الفتنة.

وقال البيضاوي في تفسيره : « وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن » فلا ينظرن الى ما لا يحل لهن النظر اليه من الرجال « ويحفظن فروجهن » بالتستر او التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لان النظر يريد الزنا « ولا يبدين زينتهن » كالحلي والثياب والاصباغ ، فضلا عن مواضعها لمن لا يحل ان تبدي له « الا ما ظهر منها » عند مزاولة الاشياء ، كالثياب والخاتم ، فان في سترها حرجاً.

وقيل : المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف ، او ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ، والمستثنى هو الوجه والكفان ، لانها ليست بعورة ، والاظهر ان هذا في الصلاة لا في النظر ، فان كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج ، والمحرم النظر الى شيء منها الا لضرورة ، كالمعالجة وتحمل الشهادة (٣) انتهى كلامه.

وهو حق كله لا شبة فيه ولا مرية تعتريه الا قوله « وتحمل الشهادة » اذ لا ضرورة فيه الى النظر ، كما بين في محله.

وأما ما ذكره في الكشاف في تفسير هذه الآية بقوله : الزينة ما تزينت به

____________

(١) تفسير القمي : ٢ / ١٠١.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٥٦١.

(٣) انوار التنزيل للبيضاوي : ٢ / ١٣٨.

١٨٢

المرأة من حلي او كحل او خضاب ، فما كان ظاهرا منها ، كالخاتم والفتخة وهي الحلقة من فضة لا فص لها ، والكحل والخضاب ، فلا بأس بابدائه للاجانب.

ثم قال : ان المراد من الزينة مواقعها ، والصحيح ان العضو كله لا المقدار الذي تلابسه الزينة منه ، كما فسرت مواقع الزينة الخفية (١) ، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة ، الوجه موقع الكحل في عينيه ، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه ، والغمرة في خديه ، والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة ، والخضاب بالحناء.

وانما تسومح في هذه المواضع ؛ لان سترها فيه حرج ؛ لان المرأة لا تجد بداً في مزاولة الاشياء بيديها ، ومن الحاجة الى كشف وجهها ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر الى المشي في الطرقات ، وظهور قدميها وخصوصا الفقيرات منهن ، وهذا معنى قوله « الا ما ظهر منها » يعني الا ما جرت العادة على ظهوره ، والاصل فيه الظهور (٢).

ففي اكثره بعد منع ، اذ لا ضرورة داعية الى كشف وجهها في الشهادة والنكاح ، لان المدار بالعلم ، وهو قد يحصل بدون ذلك ، نعم ما ذكره صحيح على مذهبهم.

وايضا لا شبهة بعد كون الوجه موقع الكحل ، والوسمة كونها في شاربيها. مع انا نقول : في حالة الضرورة والحاجة يجوز ابداء الزينة الباطنة ، فضلا عن الزينة الظاهرة ، كالعلاج للطبيب والمحاكمة وغير ذلك ، فان الضرورات تبيح

____________

(١) المراد بالزينة الخفية السواد للزند ، والخلخال للساق ، والدملج للعضد ، والقلادة للعنق ، والوشاح للرأس ، والقرط للأذن. ومذهب صاحب الكشاف ان المراد بمواقعها جميع العضو ، لا خصوص المقدار الذي يلامسه الزينة منه. ويحتمل اختصاص محلها فقط ، فلا يتعدى الى غيرها ، خصوصاً المواضع الخفية في اكثر الحالات والقريبة من العورة ، فتأمل « منه ».

(٢) تفسير الكشاف : ٣ / ٦١.

١٨٣

المحذورات ، وانما كلامنا في حالة الاختيار دون الاضطرار.

وايضا ان نظر الى العادة والظاهر ، خصوصا الفقيرات ، فالعادة ظهور الرقبة ، بل الصدر والعضدين والساقين وغير ذلك ، فكلامه كما ترى في اكثر هذه المواضع خارج عن محل النزاع ، فتأمل.

وبالجملة يظهر منه ان الاجنبية ، وان كانت شابة جميلة عيناه صبيحة الوجه ، يسوغ لها ان تكتحل في عينيها ، وتتوسم في حاجبيها وشاربيها ، كما هو عادة نساء العرب ، وتغتمر في خديها ووجنتيها ، وتتخضب في يديها ورجليها ، وتتختم في اصبيعها ، وتتفتح بفتحة لابسة الثياب الفاخرة.

ثم تبرز مع هذه الهيئآت والحالات المشوقة والمعشقة للاجانب ، كاشفة الوجه واليدين ، بارزة الثياب والرجلين ، كأنها تساق من بيت الى بيت بعلها ليبني عليها.

ان هذا لشيء عجيب ، وصدور مثله عن مثله أمر غريب ، فان العقل السليم يأباه ، والطبع المسقيم لا يرضاه ، فأين غيرة الله؟ مع كونه اغير من رسوله ، ومن غيرته حرم المحرمات ، كما ورد في الخبر (١).

مع ان صاحب الكشاف قد ذكر في تفسير كريمة « وقل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم » (٢) ان الاجنبية ينظر الى وجهها وكفيها وقدميها في احدى الروايتين (٣).

وهو كما ترى ينادي بأعلى صوته ان في طريقهم ايضا رواية تدل على عدم جواز النظر الى وجهها ، الا ان الجواز فيما بينهم اكثر واشهر ، وميلهم اليه اشد

____________

(١) في الكافي عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : ان الله تبارك وتعالى غيور يحب كل غيور ، ولغيرته حرم الفواحش ظاهرها وباطنها « منه ».

(٢) النور : ٣٠.

(٣) الكشاف : ٣ / ٦٠.

١٨٤

وأظهر ، كما يظهر بالتتبع.

وقال شيخنا المقداد في كنزالعرفان : وانما قدم غض الطرف على حفظ الفرج ، لكونه مقدما عليه وداعيا الى الجماع. وأما ابداء الزينة ، فقيل : المراد مواقعها على حذف المضاف لا نفس الزينة ، لان ذلك يحل النظر اليه ، كالحلي والثياب والاصباغ.

وقيل : المراد نفسها ، وانما حرم النظر اليها اذ لو ابيح لكان وسيلة الى النظر الى مواضعها. وأما ما ظهر منها ، فليس بمحرم للزوم الحرج المنفي في الدين.

ثم قال وقيل : المراد بالظاهرة الثياب فقط. وهو الاصح عندي ، لاطباق الفقهاء على ان بدن المرأة كله عورة ، الا على الزوج والمحارم ، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار والقرط وجميع ما هو مباشر للبدن ، ويستلزم نظره نظر البدن.

وأما باقي الاقوال في ذلك ، فهي انه الوجه والكفان والكحل والخضاب والخاتم ، وانما سومح فيها للحاجة الى كشفها ، فضعيفة لا تحقق لها ، فانه ان حصل ضرورة لزم حرج ، فذلك هو المبيح لا الآية ، والا فلا وجه لذلك (١) انتهى كلامه زيد اكرامه.

والأصح عندي ايضا ما هو الأصح عنده وعند القاضي البيضاوي وقد عرفته.

* ليجزيهم الله احسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب. [ الآية : ٣٨ ]

____________

(١) كنز العرفان : ٢ / ٢٢٢.

١٨٥

قوله تعالى « بغير حساب » اي : بغير طلب وكسب ، او بغير ان يعرف سبيل رزقه ، ويجعله منسوبا في عداد وجه معايشه ، او بغير تقتير وتقدير ، او بما لا يأتي عليه الحساب ، فيوسع في الدنيا على من توجب الحكمة التوسعة عليه : اما استدراجا ، او ابتلاءً.

أو المراد انه يعطي ولا يحاسب عليه ، وذلك اما لاختلاف استعداد الاشخاص ، او العلم بأنه اصلح بحاله واوفق بمآله ، كما يشير اليه : وان من عبادي من لا يصلحه الا الغنى ، ولو افقرته لافسده.

ثم الارزاق نوعان : ظاهرة للابدان كالاقوات ، وباطنة للقلوب كالمعارف والعلوم. والرزق بالكسر اسم للمرزوق.

وفي الصحاح : انه ما ينتفع به (١).

____________

(١) صحاح اللغة : ٤ / ١٤٨١.

١٨٦

(سورة الشعراء)

* واجعل لي لسان صدق في الاخرين. [ الآية : ٨٤ ]

قال في مجمع البيان : اي ثناء حسنا في آخر الامم ، وذكراً جميلاً وقبولاً عاماً في الذين يأتون بعدي الى يوم القيامة ، والعرب تضع اللسان موضع القول على الاستعارة ؛ لان القول يكون بها ، ويقولون : جاءني لساني فلان ، اي : مدحه وذمه ، قال

اني أتتني لساناً لا أسر بها

من علو لا عجب منها ولا سخر

وقيل : ان معناه واجعل لي ولد صدق في آخر الامم يدعو الى الله ويقوم بالحق ، وهو محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ (١) انتهى.

والمراد بالصدق في مقام استعمال الآية الشريفة في الادعية مطلق الجودة والحسن ، لا الصدق في الحديث ، وان كان أصله ذلك ؛ لان الصدق في الحديث مستحسن جيد عندهم ، حتى صاروا يستعملونه في مطلق الجودة ، فيقال : رجل صدق ، وقدم صدق ، ومقعد صدق ، ومعنى كل ذلك جيد مستحسن.

وقال الرضي : والاضافة في نحو رجل صدق للملابسة ، وهم كثيراً ما يضيفون الموصوف الى مصدر الصفة ، نحو خير السوء ، اي : الخير السيء.

____________

(١) مجمع البيان : ٤ / ١٩٤.

١٨٧
١٨٨

(سورة القصص)

* ولا تدع مع الله الهاً آخر لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون. [ الآية : ٨٨ ]

قال الطبرسي : رحمه الله : المعنى كل شيء فان بائد الا ذاته ، وهذا كما يقال : هذا وجه الرأي ووجه الطريق.

ثم قال : وفي هذا دلالة على ان الاجسام تفنى ثم تعاد ، على ما قاله الشيوخ في الفناء والاعادة. وعن ابن عباس : اي كل شيء هالك الا ما اريد به وجهه ، فانه يبقى ثوابه (١).

وقيل : ان المعنى كل شيء هالك ، وانما وجوده وبقاؤه وكماله بالجهة المنسوبة اليه سبحانه ، فانه علة لوجود كل شيء وبقائه وكماله ، ومع قطع النظر عن هذه الجهة ، فهي فانية باطلة هالكة.

وقيل : ان المعنى كل شيء هالك ، اي : باطل ، الا دينه الذي يتوجه به اليه سبحانه ، وكل ما امر به من طاعته ، وقد وردت اخبار كثيرة على هذا الوجه.

وقيل : ان المراد بالوجه الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام ـ لان الوجه ما يواجه به عباده ويخاطبهم بهم ـ عليهم السلام ـ واذا اراد العباد التوجه اليه تعالى يتوجهون اليهم ، وبه ايضا وردت اخبار كثيرة.

وقيل : ان الضمير راجع الى الشيء ، اي : كل شيء بجميع جهاته باطل وفان ، الا وجهه الذي به يتوجه الى ربه ، وهو روحه وعقله ومحل معرفة الله منه التي

____________

(١) مجمع البيان : ٤ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

١٨٩

تبقى بعد فناء جسمه وشخصه ، وهو ايضا مروي عنهم ـ عليهم السلام ـ (١).

وقال البيضاوي : « كل شيء هالك الا وجهه » الا ذاته ، فان ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم.

وحاصله آيل الى ان المراد بهلاك كل شيء ، انه هالك في حد ذاته ، لضعف الوجود الامكاني ، فالتحقق بالهالك المعدوم ، كما تدل عليه صيغة الفاعل ، فانها ليست بمعنى الاستقبال على معنى انه سيهلك ، بل هو على حقيقته من معنى الحال ، فان سلسلة الممكنات لضعف وجوداتها الغيرية هالكة في حدود ذواتها ازلاً وابداً.

وقد اشار اليه بهمنيار في التحصيل وغيره ، حيث قال : كل ممكن بالقياس الى ذاته باطل ، وبه تعالى حق ، كما يرشد اليه قوله تعالى « كل شيء هالك الا وجهه ».

فهو آناً فآناً يحتاج الى ان يقول له الفاعل الحق : كن ، ويفيض عليه الوجود ، بحيث لو امسك عنه هذا القول والافاضة طرفة عين ، لعاد الى البطلان الذاتي والزوال الاصلي ، كما ان ضوء الشمس لو زال عن سطح المستضيء لعاد الى ظلمته الاصلية ، فله الحمد انه مالك هو باق وغيره هالك.

وفي كتاب التوحيد : عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في « كل شيء هالك الا وجهه » قال : من اتى الله بما امر به من طاعة محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ والائمة من بعده ، فهو الوجه الذي لا يهلك ، ثم قرأ « من يطع الرسول فقد اطاع الله » (٢).

وفيه : عنه ـ عليه السلام ـ انه سئل عن الآية ، قال : كل شيء هالك الا من

____________

(١) هذه الوجوه كلها ذكرها العلامة المجلسي في مرآة العقول : ٢ / ١١٢.

(٢) التوحيد : ١٤٩ ح ٣.

١٩٠

اخذ طريق الحق (١).

وفي المحاسن مثله ، الا ان في آخره : من اخذ الطريق الذي انتم عليه (٢).

وفي الكافي عن الحارث بن المغيرة النصري ، قال : سئل ابو عبد الله ـ عليه السلام ـ عن قوله « كل شيء هالك الا وجهه » فقال : ما يقولون فيه؟ قلت : يقولون يهلك كل شيء الا وجه الله ، فقال : سبحانه الله لقد قالوا قولاً عظيما ، انما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه (٣).

قيل : لما كان مرادهم فناء كل شيء غير ذاته ، فاستعظمه وانكره ـ عليه السلام ـ اذ من المخلوقات ما لا يفنى ، وهو بعيد (٤).

لان الظاهر من الآية على ما فسره الامام ـ عليه السلام ـ ان اهل كل مذهب من المذاهب الباطلة هالك الا اهل مذهب الحق ، وهم الذين توجهوا الى الله بارشاد الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام ـ فانهم وجه الله الذي من توجه اليه توجه الى الله ، وصار من اهل النجاة.

فالمراد بالهلاك ما يقابل النجاة ، كما يقال : فرقة ناجية ، وفرقة هالكة ، لا ما يقابل الحياة وهو الموت. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على بقاء شيء ولا على فنائه.

وأما وصفه ـ عليه السلام ـ قولهم بالعظم ، فالظاهر انه لا ثباتهم له سبحانه وجهاً كوجوه البشر ، ومن قال ذلك فقد كفر ، والله تعالى اعلم وابصر.

____________

(١) التوحيد : ١٤٩ ح ٢.

(٢) المحاسن : ١٩٩ ح ٣٠.

(٣) اصول الكافي : ١ / ١٤٣ ح ١.

(٤) مرآة العقول : ٢ / ١١٢.

١٩١
١٩٢

(سورة الاحزاب)

* انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. [ الآية : ٣٣ ]

قال القاضي البيضاوي في تفسيره : وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما ، لما روي انه خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر اسود فجلس ، فأتت فاطمة فأدخلها فيه ، ثم جاء علي فأدخله فيه ، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه ، ثم قال : انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً.

والاحتجاج بذلك على عصمتهم ، وكون اجماعهم حجة ، ضعيف ؛ لان التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضي انهم اهل البيت لا انه ليس غيرهم (١).

أقول : وانت خبير بأن ما ذكره ضيعف. أما الاول ، فلان القرآن نزل على اسلوب لغة العرب ، ومن عادتهم انهم يذهبون من خطاب الى خطاب ، ثم يعودون اليه ، فكون ما قبل الآية وما بعدها في ازواج النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لا ينافي كون وسطها فيهم ، اذ الخروج من حكم الى آخر في القرآن كثير جداً.

فكثير ما تنزل الآية اولها في شيء ، واوسطها في اخر ، وآخرها في آخر ، ولو اريد بالوسط النساء لقيل : عنكن ويطهركن دون عنكم ويطهركم ، فهذا

____________

(١) انوار التنزيل : ٢ / ٢٧٢.

١٩٣

قرينة على المراد. والقول بالتغليب سيظهر ضعفه.

وأما الثاني ، فلما قال ابو سعيد الخدري (١) ، وانس بن مالك (٢) ، وواثلة بن الاسقع (٣) ، وعائشة (٤) ، وأم سلمة (٥) ، من ان الآية مختصة برسول الله وعلي وفاطمة والحسنين ـ عليهم السلام.

وفي تفسير الثعلبي عن أم سلمة ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان في بيتها ، فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة ، فقال لها : ادعي زوجك وابنيك ، قالت : فجاء علي وحسن وحسين ، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة ، وهو وهم على منام واحد له على دكان تحته كساء خيبري.

قالت : وانا في الحجرة اصلي ، فأنزل الله تعالى « انما يريد الله » الآية ، فأخذ فضل الكساء فغشاهم به ، ثم اخرج يده فألوى بها الى السماء ، ثم قال : اللهم ان هؤلاء اهل بيتي وحامتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. فأدخلت رأسي البيت وقلت : وانا معكم يا رسول الله؟ قال : انك الى خير.

وباسناده قال مجمع : دخلت امي على عائشة ، فسألتها امي أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت : انها كانت قدراً من الله ، فسألتها عن علي ، فقالت : تسأليني عن احب الناس كان الى رسول الله وزوج احب الناس كانت الى رسول الله.

لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً قد جمع رسول الله بثوب عليهم ، ثم قال : اللهم ان هؤلاء اهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم

____________

(١) جامع البيان : ٢٢ / ٦.

(٢) مسند احمد بن حنبل : ٣ / ٢٥٩.

(٣) مستدرك الحاكم : ٢ / ٤١٦.

(٤) نظم درر السمطين : ١٣٣.

(٥) مسند احمد بن حنبل : ٦ / ٣٩٨.

١٩٤

تطهيراً ، قالت فقلت : يا رسول الله انا من اهلك؟ قال : تنحي انك الى خير (١).

وروى الترمذي في الجامع عن عمر بن ابي سلمة ربيب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : نزلت « انما يريد الله » الآية في بيت ام سلمة ، فدعا النبي فاطمة وحسناً وحسيناً ، فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ، ثم قال : هؤلاء اهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت ام سلمة : وانا معهم يا رسول الله؟ قال : انك على مكانك وانت على خير (٢).

وفي صحيح ابي داود السجستاني وهو كتاب السنن قالت ام سلمة : وانا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله الست من اهل البيت؟ فقال : انك الى خير انك من ازواج النبي (٣).

فهذه الاخبار وامثالها الكثيرة الواردة في طريق القاضي تقضي بكونهم المراد بأهل البيت دون غيرهم من ازواج النبي ونسائه المذكورات فيما قبل الآية وما بعدها.

وبالجملة ما ذكروه واحتملوه من التغليب ، وكون الآية تعليلا لامرهن ونهيهن على الاستئناف ، ومن كون الحكم عاماً وتخصيص الشيعة اهل البيت بهؤلاء والاحتجاج بذلك ، وكون اجماعهم حجة ضعيفا الى غير ذلك ، اجتهاد في مقابل النص الصحيح والبيان الصريح ، فغير مسموع ذلك منهم ، بل هو عين العناد واللداد الموجب للخلود في نار جهنم ، نعوذ بالله تعالى منها.

نعم لولا ورود تلك الروايات الصحيحات الصريحات من الطرفين في بيانها ، لكان لما ذكروه واحتملوه وجه.

____________

(١) احقاق الحق عنه : ٩ / ١٠.

(٢) صحيح الترمذي : ١٣ / ٢٠٠.

(٣) راجع تفصيل الروايات الواردة في ذلك عن طريق العامة الى احقاق الحق : ٢ / ٥٠١ ـ ٥٦٢ و ٣ / ٥١٣ ـ ٥٣١ و ٩ / ١ ـ ٦٩ و ١٤ / ٤٠ ـ ١٠٥ و ١٨ / ٣٥٩ ـ ٣٨٣.

١٩٥

واذ قد ثبت ان المراد بأهل البيت في الآية هؤلاء المذكورون ثبت ان اجماعهم بل قول كل منهم حجة قاطعة ، لان اذهاب الرجس ووقوع التطهير ملزوم عدم العصيان والمخالفة لاوامر الله ونواهيه ، فوقوع الخطأ منهم مأمون ، فالاقتداء بهم والاخذ بقولهم وفعلهم دون من لم يؤمن وقوعه منه وتطرق الرجس اليه واجب.

ومن اعجب العجب ان هذا القاضي يقضي على خلاف ما ورد عليه من طرقه ، فيذكر من الاخبار ما يقبل التأويل الى ما يوافق دينه ومذهبه ، ويترك ويتناسى مما هو ناص بالباب.

ولعل عدوله عن طريق الصواب ، لعدم عثوره على الاخبار الواردة في الباب ، او لغفلته عنها ، او لتغافله ، او لتقيته ، او لعصبيته وعناده ، او لانه اتبع هواه فأضله الله على علم وختم على قلبه.

حتى انه لم يتأمل فيما رواه ايضا ، فانه ايضا يفيد حصر اهل البيت في آل العباء لمن تأمله ، اذ لو كان احد غيرهم داخلاً في اهل البيت المراد من الآية ، لما كان لإدخالهم بخصوصهم في الكساء ، ثم تلاوة الآية عليهم والسكوت عن غيرهم مدة العمر ، والا لنقل هذا ولتمسكت به السنة ، كما نقل ذاك وتمسكت به الشيعة ، وجه ، ففعله هذا وقوله ذاك برهانان وبيانان لاهل البيت.

فهو وان كان عاماً مفهوماً ، الا انه خاص بياناً ، وكيف يتصور منه ـ عليه السلام ـ ان يسميهم خاصة بأهل البيت عقيب نزول الآية ، ويسكت عن غيرهم ويهمله ، وهو داخل فيهم في الحكم المذكور في الآية.

اقول : والطهارة النقاء من الدنس والنجس ، والطاهر النقي.

وفي اصطلاح ارباب العرفان : الطاهر من عصمه الله عن المخالفات ، وهو ينقسم :

الى طاهر الظاهر ، وهو من عصمه الله من المعاصي.

وطاهر الباطن ، وهو من عصمه الله عن الوسواس والهواجس.

١٩٦

وطاهر السر ، وهو من لا يزيغ عن الله طرفة عين.

وطاهر السر والعلانية ، وهو من قام بتوفيقه حقوق الحق والخلق جميعاً ، لسعته برعاية الجانبين.

ولا خفاء في المراد به هنا لا يعم جميع هذه الاقسام ، وهذه النعوت لهم ـ عليهم السلام ـ عين الحق ونفس الواقع ، كيف لا وهم مصداق الحقيقي للاية الشريفة.

قال الطبرسي : استدلت الشيعة باختصاصها بأصحاب الكساء ، بأن قالوا : « انما » لاثبات ما يذكر بعده ونفي ما سواه ، فالارادة في الآية : اما ارادة محضة ، او ارادة يتبعها التطهير واذهاب الرجس.

لا سبيل الى الاول ؛ لانه تعالى قد اراد من كل مكلف هذه الارادة المطلقة ، فلا اختصاص بأهل البيت ولان هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم ، ولا مدح في الارادة المجردة ، فيثبت الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح ، وقد علمنا ان من عدا من ذكرنا من اهل البيت غير مقطوع على عصمته ، فثبت ان الآية مختصة بهم (١) انتهى.

* ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. [ الآية : ٥٦ ]

ظاهر كثير من الاخبار ، كقوله ـ صلى الله عليه وآله : « من ذكرت عنده فنسي الصلاة عليّ خطئ به طريق الجنة » (٢) وجوب الصلاة عليه عند ذكره ،

____________

(١) مجمع البيان : ٤ / ٣٥٧.

(٢) كنز العمال : ١ / ٤٩١.

١٩٧

على الذاكر والمذكور عنده ، لمكان الوعيد الدال عليه.

وهو مختار الصدوق والمقداد من اصحابنا ، والطحاوي من العامة. وقال الزمخشري : وهو الذي يقتضيه الاحتياط (١).

والقول بوجوبها في كل مجلس مرة ، او في مدة العمر مرة ، مما لا مستند له ، فالقول به تحكم. والاحوط وجوبها عند كل ذكر ؛ للاخبار الكثيرة الصريحة بالامر بها كلما ذكر ، والاصل في الامر الوجوب.

وأما القول بالاستحباب مطلقاً ، كما ذهب اليه جماعة ، مستدلين عليه بالاصل والشهرة ، المستندين الى عدم تعليمه ـ صلى الله عليه وآله ـ للمؤذنين ، وتركهم ذلك مع عدم وقوع نكير عليهم ، كما يفعلونه ، الآن ، ولو كان لنقل.

ففيه ان عدم التعليم ممنوع ، وكذا عدم النكير كعدم النقل. لما في الكافي عن الباقر ـ عليه السلام : اذا اذنت فافصح بالالف والهاء ، وصل على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كلما ذكرته ، او ذكره ذاكر في اذان او غيره (٢).

على ان عدم النقل لا يدل على عدمه ، واصالة البراءة لا يصح التمسك بها ، بعد ورود القرآن والاخبار.

قيل : والظاهر من بعض الاخبار ، كقول الصادق ـ عليه السلام : « اذا ذكر النبي فأكثروا الصلاة عليه » (٣) حيث رتب الامر بالصلاة على الذكر بالفاء التعقيبية ، هو ايقاعها على الفور ، فلو اهمل الفور اثم على القول بالوجوب ولم يسقط.

وفيه ان الفاء التعقيبية هي العاطفة ، وأما الداخلة على جزاء الشرط ، فقد نصوا على عدم افادتها التعقيب. فهذا الحديث لا يدل على وجوب ايقاعها على

____________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٧٣.

(٢) فروع الكافي : ٣ / ٣٠٣ ح ٧.

(٣) اصول الكافي : ٢ / ٤٩٢ ح ٦.

١٩٨

الفور.

هذا والظاهر ان الامر بها عام لكل احد وعلى كل حالة ، حتى في الصلاة ، فلو ترك الامتثال واشتغل بالقراءة فيها هل تبطل على تقدير الوجوب ام لا؟

فان قلنا ان الامر بالشيء نهي عن ضده الخاص ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد بطلت ، وان قلنا بعدمه فلا.

فلو تكرر الذكر تكراراً كثيراً ، بحيث يخرج بالاشتغال بالصلاة عليه عن كونه مصلياً ، لا يبعد القول بسقوط التكليف بها ؛ لان الفعلين اذا تضيقا وتعذر الجمع بينهما ، علمنا ان احدهما ليس بواجب قطعاً ، ولما كان مشتغلاً بالصلاة ، ووجب اتمامها والاستمرار فيها ، كان ما ينافيه غير مأمور به ، فليتأمل.

هذا وغاية ما يقتضيه حديث الباقر ـ عليه السلام ـ المتقدم ذكره (١) وجوب الصلاة عليه اذا ذكر باسمه ، لا اذا ذكر بلقبه او بكنيته ؛ لان المذكور في الاذان اصالة هو ذلك.

فهذا قرينة على ان المراد بذكره الموجب لوجوب الصلاة عليه هو ذكره باسمه ، ولعله لذلك لم يعممه علماؤنا ، بل اقتصر من قال منهم بالوجوب على ذكر اسمه.

وأما الاستدلال بحديث الاحتياط على التعميم ، فليس هنا موضعه ؛ لانه انما شرع فيما يثبت وجوبه ، كما قالوا في احدى الصلوات المنسية الغير المعينة ، او كان ثبوت الوجوب هو الاصل ، كما في صوم ثلاثين من رمضان اذا غم الهلال ، اذ الاصل بقاء رمضان.

وأما مالا وجوب فيه ولا اصل ، فلا يجب فيه احتياط ، والصلاة عليه بذكره باللقب والكنية والضمير مما لم يثبت وجوبه ، وليس ثبوته هو الاصل ، بل الاصل عدم الوجوب الى ان يثبت الوجوب ، ولم يثبت بعد ، فالاحتياط هنا لا

____________

(١) فروع الكافي : ٣ / ٣٠٣.

١٩٩

يصلح دليلاً ، بل هو محتاج الى الدليل.

على انه ـ صلى الله عليه وآله ـ مذكور في كثير من الادعية المأثورة والاخبار المنقولة عن ذريته المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين باسمه وكنيته ولقبه من دون اتباعه بالصلاة عليه ، وبعيد من دأب الرواة ان يرووا اصل الادعية والاخبار ، ويتركوا الصلاة عليه المسموعة من المعصوم الواجبة عليهم عند ذكره.

وما ذكرناه يعلم في مواضع من الصحيفة السجادية ، منها : قول ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ وهو مذكور قبل الشروع في الادعية في مقام بيان السند : اخبر الله نبيه بما يلقى اهل بيت محمد واهل مودته وشيعتهم منهم ، اي : من بني امية. الى قوله : ونعمة الله محمد واهل بيته الحديث. وله نظائر.

٢٠٠