محمد إسماعيل الخواجوئي
المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨
( سورة ابراهيم )
* وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار. [ الآية : ٣٤ ]
عدم امكان احصاء نعم الله ، وذلك لان كل حادث مسبوق بأسباب غير متناهية ، ولكل دخل في وجوده ، فهو نعمة عليه.
وذلك لما تقرر عندهم ان العلة التامة للحادث لا بد وان تشتمل على امور غير متناهية متعاقبة ، والا يلزم التخلف عن العلة التامة ، فهذه كلها نعم عليه سابقة على الوجود غير متناهية.
ومن البين ان الحادث زمان وجوده متناه ، ولا يمكن احصاء الغير المتناهي في زمان متناه ، ضرورة ان احصاء الغير المتناهي يستدعي زماناً غير متناه.
واليه اشار سيدنا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فيما نقل عنه ان المراد بتلك النعمة نعمة الوجود ، وكذلك ان اريد بها النعم اللاحقة المسبوقة بالوجود لا يمكن احصاؤها ، لان في كل نفس نعميتن يلزمهما نعم اخرى ، ظاهرة وباطنة ، داخلة وخارجة.
بل الظاهر ان كل ما له دخل في نظام العالم ، فهو نعمة على ذلك الشخص ، اذ لولاه لاختل نظامه ، وباختلاله اختل ذلك الشخص ، كما لا يخفى.
( سورة النحل )
* فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. [ الآية : ٩٨ ]
ظاهر هذه الآية الشريفة يفيد وجوب الاستعاذة ، او استحبابها عند قراءة القرآن مطلقاً ، حتى انه لو قطعها في الاثناء بكلمة غير القرآن ، ثم اراد قراءته ، فعليه ان يستعيذ ثم يقرأ ، فيلزم وجوبها او استحبابها في كل ركعة يقرأ فيها.
ولكن الظاهر انه لم يذهب اليه احد من علمائنا ، فكأنهم حملوها على الاستحباب ، وانما اخرجوا منه غير الركعة الاولى من سائر الركعات ، للاجماع والاخبار ، فانها ايضا ظاهرة في الاستحباب في الركعة الاولى فقط.
وقال البيضاوي : والجمهور على انه للاستحباب ، وفيه دليل على ان المصلي يستعيذ في كل ركعة ؛ لان الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره قياساً (١).
وهذا جيد ، لو كان مراده بالقياس هو القاعدة ، كما يقال : وقد يحذف كذا قياساً ، وحذف حرف الجر من « ان » قياس.
وأما اذا كان مراده به هو القياس الفقهي المحتاج الى الاصل والعلة ، فلا ، لعدم ظهورهما هنا وبطلانه ، فالتكرر والعموم ليس للقياس ، بل للعموم العرفي المفهوم من مثل هذه العبارة عرفاً ، كما في قوله تعالى : « واذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا » (٢) الآية.
____________
(١) انوار التنزيل : ١ / .
(٢) المائدة : ٦.
(سورة الكهف)
* قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً. [ الآية : ١٠٩ ]
قد تطلق الكلمة مجازاً على معاني الالفاظ ، والموجودات العينية ، والعلم بالالفاظ ، كما ورد في حق عيسى ـ عليه السلام ـ « وكلمته القاها الى مريم » (١) وقال الله تعالى « اليه يصعد الكلم الطيب » (٢).
وكما قيل : بسائط الموجودات حروف ، ومركباتها كلمات.
والمراد بالكلمات هنا متعلقات علمه تعالى ، وهي كعلمه تعالى غير متناهية. وماء البحر لكونه جسماً متناهياً ، لما ثبت من تناهي الابعاد ، فلو ضم مثله اليه لكان مجموعهما متناهياً.
لان الحاصل من حكم المتناهي الى المتناهي متناه ، ومعلوم ان المتناهي ينفد قبل نفاد غير المتناهي ، بل لا نفاد له ولا نسبة بينهما ، فالمفهوم هنا غير معتبر ، فتأمل.
____________
(١) النساء : ١٧١.
(٢) فاطر : ١٠.
( سورة مريم )
* وان منكم الا واردها كان على ربك حتماً مقضياً. [ الآية : ٧١ ]
ان قلت : ظاهر كثير من الاخبار المستفيضة ان المؤمن الموالي لا يدخل النار الكبرى ، وهذه الاخبار ينافي بظاهرها قوله تعالى « وان منكم الا واردها كان على ربك حتماً مقضياً » فانه صريح في انه لا يبقى بر ولا فاجر الا يدخلها.
قلت : الورود غير الدخول ، كما تدل عليه صحيحة الحسين بن ابي العلاء عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ في هذه الأية ، حيث قال ـ عليه السلام ـ أما تسمع الرجل يقول : وردنا ماء بني فلان ، فهو الورود ولم يدخله (١).
ويشيده قوله تعالى : « ولما ورد ماء مدين وجد عليه امة من الناس يسقون » (٢) فانه ـ عليه السلام ـ ورد الماء ولم يدخله.
وعن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ سئل عن المعنى ، فقال : ان الله تعالى يجعل النار كالسمن الجامد ويجمع عليها الخلائق ، ثم ينادي المنادي ان خذي اصحابك وذري اصحابي ، فوَ الذي نفسي بيده لهي اعرف بأصحابها من الوالدة بولدها (٣).
قيل : والفائدة في ذلك ما روي في بعض الاخبار ، ان الله تعالى لا يدخل احدا الجنة حتى يطلعه على النار وما فيها من العذاب ، ليعلم تمام فضل الله
____________
(١) تفسير القمي : ٢ / ٥٢.
(٢) القصص : ٢٣.
(٣) مجمع البيان : ٣ / ٥٢٦.
عليه ، وكمال لطفه واحسانه اليه ، فيزداد بذلك فرحاً وسروراً بالجنة ونعميها.
ولا يدخل احداً النار حتى يطلعه على الجنة وما فيها من انواع النعيم والثواب ، ليكون ذلك زيادة عقوبة له وحسرة على ما فاته من الجنة ونعيمها.
وورد في بعض (١) الاخبار ان هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل « ان الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون » (٢) وعلى هذا فلا اشكال.
____________
(١) تفسير القمي : ٢ / ٥٢.
(٢) الانبياء : ١٠١.
(سورة طه)
* الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى. [ الايتان : ٥ ـ ٦ ]
« الرحمن » مبتدأ ، و « على العرش » متعلق بقوله « استوى » وهو خبر مبتدأ ، والجملة خبر مبتدأ محذوف ، اي : هو الرحمن استولى عليه وملكه ولا شريك له.
والعرش جميع ما سوى الله ، او سرير الملك ، جعلوه كناية عن الملك. يقال : فلان على العرش ، يراد انه ملك واستولى ، وان لم يقعد على السرير البتة.
وعن وهب : ان الارضين السبع على عاتق الملك ، والملك قدماه على الصخرة ، وهي ياقوتة من الجنة ، والصخرة على قرني ثور من الفردوس ، والثور على ظهر حوت من الكوثر ، والحوت على البحر ، والبحر على جهنم ، وجهنم على متن الريح ، ومتن الريح على حجاب من ظلمة ، والحجاب على الثرى ، والى الثرى ينتهي علم الخلائق من اهل السموات واهل الارض ، فذلك قوله تعالى « له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى ».
وقيل : ما تحت الثرى هو التراب الرطب مقدار خمسمائة عام تحت الارض ، ولولا ذلك لاحرقت النار الدنيا وما فيها ، وهي الصخرة التي تحت الارض السابعة ، وهي صخرة خضراء فيها كتب الكفار اسمها سجين.
وقيل : ان الارض على الماء ، والماء على الحوت ، وهو على الصخرة ، وهي
على قرني الثور ، وهو على الثرى ، ولا يعلم ما تحته الا الله تعالى (١).
* وان تجهر بالقول فانه يعلم السر واخفى [ الآية : ٧ ]
اي : وان تجهر بذكر الله ودعائه ، فاعلم انه غني عن جهرك ، فانه يعلم السر واخفى. والسر ما لا يرفع به صوته ، واخفى ما يحدث به نفسه ولا يلفظ به.
وقيل : السر ما حدث به غيره خافضا به صوته ، واخفى ما خطر بباله ، او كلم به نفسه.
وقيل : السر ما تفكرت فيه ، واخفى ما لم يخطر ببالك وعلم الله ان نفسك تحدث به بعد زمان.
* فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى [ الآية : ١٢ ]
روى الصدوق عليه الرحمة في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده عن سعد بن عبد الله القمي انه سأل القائم ـ عليه السلام ـ عن مسائل ، من جملتها انه قال قلت : فأخبرني يا بن رسول الله عن أمر الله تبارك وتعالى لنبيه موسى ـ عليه السلام ـ « فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى » فان فقهاء الفريقين يزعمون انها كانت من اهاب الميتة.
فقال ـ عليه السلام : من قال ذلك فقد افترى على موسى ـ عليه السلام ـ واستجهله في نبوته ، لان الامر فيها ما خلا من خطيئتين : اما ان تكون صلاة موسى ـ عليه السلام ـ فيها جائزة او غير جائزة.
فان كانت صلاته جائزة ، جاز له لبسهما في تلك البقعة ، اذ لم تكن مقدسة
____________
(١) راجع نور الثقلين : ٣ / ٣٦٨ ـ ٣٧٢.
مطهرة بأقدس (١) واطهر من الصلاة. وان كانت صلاته غير جائزة فيهما ، فقد اوجب على موسى ـ عليه السلام ـ انه لم يعرف الحلال من الحرام ، وما علم ما تجوز فيه الصلاة وما لم تجز ، وهذا كفر (٢).
أقول : لا يخفى ما في هاتين الملازمتين من النظر ، لان جواز الصلاة فيهما لا نسلم انه يستلزم جواز لبسهما في تلك البقعة المقدسة لمكان الاحترام.
الا يرى انه يجوز لنا ان نصلي في نعالنا هذه ، ولا ندخل بها المشاهد المقدسة المطهرة ، بل نخلعها لنباشر تلك البقاع المتبركة بأقدامنا تبركاً واحتراماً.
ولذلك قيل : انه ـ عليه السلام ـ امر بخلع نعليه ، لان الحفوة تواضع وادب ، ولذلك طاف السلف حافين.
وعلى تقدير تسليم الاستلزام ، فليس كلما يجوز ، يفعل لمكان الاحترام قيل : انه امر بخلع نعليه ، فان بساط الحق لا يوطأ بنعلين.
مع ان عدم جوازها فيهما لا يستلزم عدم جواز لبسهما مطلقا ، اذ ليس كلما لا تجوز الصلاة فيه لا يجوز لبسه ، لجواز لبسه في غيرها ، وفي غير تلك البقعة المباركة ، ولذا امر ـ عليه السلام ـ بخلعهما فيها احتراماً.
فظهر انه لا يلزم من عدم جوازها فيهما عدم معرفته ـ عليه السلام ـ الحلال من الحرام ، فالملازمة ممنوعة ، والسند ما مر.
وبالجملة فللخصم وهو عامة العامة ـ فان ذلك كان مذهبا لهم ـ ان يختار هذا الشق الثاني ويمنع الملازمة ، ويقول : انه ـ عليه السلام ـ كان عارف الحلال من الحرام ، وعالما بأنه لا تجوز الصلاة فيهما ، وكان يخلعهما في حالها ، الا انه كان يلبسهما في غيرها.
فلما وصل الى تلك الوادي وكانت مقدسة امر بخلعهما ليباشر الوادي
____________
(١) في المصدر : وان كانت مقدسة مطهرة ، فليست بأقدس الخ.
(٢) كمال الدين : ٤٦٠.
بقدميه تبركاً واحتراماً ، والصلاة في اهاب الميتة بعد دبغه وان جازت على مذهب الخصم ، الا ان المانع لا مذهب له.
نعم لا تجوز الصلاة بل الانتفاع مطلقاً باهابها ، وان دبغ على مذهبه ـ عليه السلام ـ ومذهب شيعته ، وهذا كلام آخر لا يكون حجة عليهم ، وهو ـ عليه السلام ـ في صدد الاحتجاج عليهم ، فتأمل.
ثم قال القمي : قلت فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيهما ، قال : ان موسى ـ عليه السلام ـ ناجى ربه بالواد المقدس ، فقال : يا رب اني قد اخلصت لك المحبة مني ، وغسلت قلبي عمن سواك ، وكان شديد المحبة لاهله ، فقال الله تبارك وتعالى : « اخلع نعليك » أي : انزع حب اهلك من قلبك ان كانت محبتك لي خالصة ، وقلبك من الميل الى من سواي مغسولاً (١) انتهى.
وبين شدة محبته لاهله واخلاصها لله وغسله قلبه عما سواه منافرة ، والتعبير عن نزع حب الاهل بخلع النعلين بصيغة التثنية بعيد.
وفي معاني الاخبار : اخلع نعليك اي ارفع خوفيك ، يعني خوفه من ضياع اهله ، وقد خلفها تمخض ، وخوفه من فرعون ، ثم قال : وروي ان نعليه كانتا من جلد حمار ميت (٢).
وقيل : « فاخلع نعليك » اي : فرغ قلبك عن ذكر الدارين.
وقيل : معناه فرغ قلبك من الاهل والمال.
وفي الفقيه سئل الصادق ـ عليه السلام ـ عن قول الله عز وجل لموسى « فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى » قال : كانتا من جلد حمار ميت (٣).
____________
(١) كمال الدين : ٤٦٠.
(٢) علل الشرائع : ٦٦. روي في كتاب علل الشرائع هذين الحديثين اعني كونهما من جلد حمار ميت وقوله « ارفع خوفيك » مسندين عن الصادق ـ عليه السلام ـ « منه » البحار : ١٣ / ٦٣.
(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٤٨ ، برقم : ٧٥٠.
وكان ذلك مذهباً للعامة ، فتكلم عنه بما يوافقهم للتقية.
وفي قوله « غسلت قلبي عمن سواك » دلالة على انه كان فيه سواه ولكنه غسله عنه.
وهذا دون ما نقل عن سيدنا أمير المؤمنين سلام الله عليه انه قال في جواب اعرابي سأله بقوله : بم نلت من المنزلة والزلفى؟ قعدت على باب قلبي ، فلم ادع ان يدخله سوى الله. صلى الله عليه وعلى من انتسب اليه.
(سورة الانبياء)
* يسبحون الليل والنهار لا يفترون. [ الآية : ٢٠ ]
في الاكمال عن الصادق ـ عليه السلام ـ انه سئل عن الملائكة اينامون؟ فقال : ما من حي الا وهو ينام خلا الله وحده ، والملائكة ينامون ، فقيل : يقول الله عز وجل « يسبحون الليل والنهار لا يفترون » قال : انفاسهم تسبيح (١).
كذا في الصافي في تفسير الآية المذكورة (٢).
وهو بظاهره يخالف العقل والنقل.
أما الاول ، فلان جمهور المليين على ان الملك شخص سماوي متكون من جنس العناصر التي منها تكونت السموات العنصرية ، فهو حي ناطق متحرك بالارادة ، مأمور تابع للاوامر الالهية ، والنوم حال يعرض للحيوان عند استرخاء اعصاب الدماغ من رطوبات الابخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الاحساس رأساً.
وعلى هذا فليس للملك نوم ، لانه وان كان كان حياً الا انه ليس بحيوان ، لانتفاء ما هو المأخوذ في تعريفه عنه ، ولعدم الابخرة هناك ، لانها تابعة للغذاء ، وهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، وانما يعيشون بنسيم العرش ، كما في رواية اخرى عن الصادق ـ عليه السلام (٣).
وهو مع ذلك بعمومه المستفاد من الاستثناء ينافيه ما صرح به الحكماء ،
____________
(١) اكمال الدين : ٦٦٦ ح ٨.
(٢) تفسير الصافي : ٣ / ٣٣٤.
(٣) بحار الانوار : ٥٩ / ١٧٤.
من ان النفس الناطقة لا تنام بتة ، لانها في وقت النوم تترك استعمال الحواس الظاهرة ، وتبقى محصورة ليست بمجردة على حدتها ، فتعلم كل ما في العوالم وكل ظاهر وخفي.
ولو كانت هذه النفس تنام لما كان الانسان اذا رأى في النوم شيئا يعلم انه في النوم ، بل لا يفرق بينه وبين ما كان في اليقظة ، الى هنا كلام افينقورس الحكيم.
فان قلت : كلامه مبني على تجردها ، ولم يقم دليل عقلي عليه ، فلعل بناء الحديث على انها جسم سماوي روحاني ، كما قال به اكثر النصارى ، وطائفة من المسلمين ، وعلى هذا فلا دليل على امتناع نومها.
قلت : قوله « ولو كانت هذه النفس تنام ، لما كان الانسان اذا رأى في المنام شيئا يعلم انه في النوم ، بل لا يفرق بينه وبين ما كان في اليقظة » دليل واضح عليه.
فان كل نائم ما دام نائماً مسلوب عنه العلم والادراك : اما لتعطله ، او تعطل الآلة ، فنومها مع علمها اذا رأت في النوم شيئا بأنها في النوم ، لا يجتمعان ضرورة ، مادياً كان النائم ام مجرداً.
وليس كلامنا هنا في تجردها ، بل في عدم نومها ، وهو يثبت بهذا الدليل ، وكيف يصح القول بأن ما خلا الله كائناً ما كان ينام ، مع قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ المجمع على روايته عن العامة والخاصة : عيني تنام وقلبي لا ينام.
فان كان المراد به النفس الناطقة المجردة ، كما هو احد اطلاقيه ، فهو يؤيد قول الحكماء : ان هذه النفس لا تنام.
وان كان المراد به ما هو المفهوم من ظاهر هذا اللفظ في عرف العام ، فهو ما خلا الله جل وعز ، وقد اثبت له عدم النوم.
واعلم ان اطلاق القلب على العقل شايع لغة وعرفاً ، وبذلك فسر في قوله
تعالى : « ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب » (١).
ومن قال : قلب واع يتفكر في الحقائق ، اراد به ما قلناه ؛ لان التفكر من صفات العقل دون العضو المخصوص المتشكل بشكل مخصوص صنوبري ؛ لان ذلك موجود في الصبيان والمجانين مع عدم تحقق التذكر لهم.
وبالجملة يظهر من هذا الحديث المتفق عليه ان قلبه ـ صلى الله عليه وآله ـ وهو غير الله لا ينام ، ولا شك ان قلبه حي يصح ان ينام ولا ينام ، والا فلا وجه لسلبه عنه واختصاصه به.
اللهم الا ان يقال : المراد ان قلبي لا ينام في الاكثر. وفيه بعد.
وأما الثاني ، فلما مر ، ولما قال سيدنا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في خلقة الملائكة : وملائكة خلقتهم واسكنتهم سمواتك ، فليس فيهم فترة ، ولا عندهم غفلة ، ولا فيهم معصية ، هم اعلم خلقك بك ، واخوف خلقك لك ، واقرب خلقك منك.
واعلمهم بطاعتك ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الابدان ، لم يسكنوا الاصلاب ، ولم تضمهم الارحام ، ولم تخلقهم من ماء مهين.
انشأتهم انشاءً ، فأسكنتهم سمواتك ، واكرمتهم بجوارك ، واتمنتهم على وحيك ، وجنبتهم الافات ، ووقيتهم البليات ، وطهرتهم من الذنوب ، ولولا قوتك لم يقووا ، ولولا تثبيتك لم يثبتوا ، ولولا رحمتك لم يطيقوا ، ولولا انت لم يكونوا.
أما أنهم على مكانتهم منك ، وطاعتهم اياك ، ومنزلتهم عندك ، وقلة غفلتهم عن امرك ، لو عاينوا ما خفي عنهم منك ، لا أحتقروا اعمالهم ، ولا زرؤا على انفسهم ، ولعلموا انهم لم يعبدوك حق عبادتك ، سبحانك خالقاً ومعبوداً ، ما احسن بلاؤك عند خلقك (٢).
____________
(١) ق : ٣٧.
(٢) بحار الانوار : ٥٩ / ١٧٥ ـ ١٧٦.
ويمكن ان يكون للملائكة نحو اخر من النوم غير نوم العيون ، ولذلك اضافه اليها لتفيد التخصيص.
فيمكن ان يغلب نومهم على سائر حواسهم ، ولا يغلب على عيونهم ، كما انه كان في نبينا ـ صلى الله عليه وآله ـ يغلب على عينه ولا يغلب على قلبه.
او يكون المراد بالنوم الغفلة من باب ذكر السبب وارادة المسبب. يعني : انهم احياناً يغفلون عن اوامر الله ، كما يشير اليه قوله ـ عليه السلام ـ « وقلة غفلتهم عن امرك ».
فيكون المراد ان غيره سبحانه يكون له نوع غفلة ، بخلافه فانه لا غفلة له اصلاً ، لا جزئية ولا كلية تمنعه عن حسن قيامه بتدبير الخلق وحفظه ، كما اشار اليه بقوله « لا تأخذه سنة ولا نوم » (١) فيكون عدم النوم والغفلة من خواصه سبحانه ، وعليه فما من حي الا وهو ينام خلا الله وحده.
وهذا التوجيه وان كان بعيداً عن لفظ الحديث ، الا ان التوفيق بين الاخبار مهما امكن خير من طرح بعضها رأساً ، والعلم عند الله وعند اهله.
* وذا النون اذ ذهب مغاضباً فظن ان لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين. [ الايتان : ٨٧ ـ ٨٨ ]
في كتاب التوحيد باسناده المتصل الى ابن عباس عن النبي ـ صلى الله
____________
(١) البقرة : ٢٥٥.
عليه وآله ـ انه قال : ما من الكلام كلمة احب الى الله عز وجل من قول لا اله الا الله ، وما من عبد يقول لا اله الا الله يمد بها صوته ، فيفرغ الا تناثر ذنوبه تحت قدميه ، كما يتناثر ورق الشجر تحتها (١).
أقول : وانما صارت هذه الكلمة احب الكلمات الى الله عز وجل ، لانها اعلى كلمة واشرف لفظة نطق بها في التوحيد ، دالة على وجوده تعالى مفهوماً ، وعلى وحدته منطوقاً ، وعلى استجماعه جميع صفات الكمال ، وتنزهه عن جميع النقائض.
وليس في الاذكار ما يدل على ذلك دونها ؛ لانها : اما تمجيد ، او تنزيه ، بخلاف هذه الكلمة فانها جامعة بينهما ، منطبقة على جميع مراتب التوحيد ، توحيد الذات والصفات والافعال.
او يقال : لما كان الشريك وهو من يمنع صاحبه ان يتصرف فيما اشتركا فيه على ما يريد ، وهذا ينافي السلطنة والملك ابغض الاشياء اليه تعالى ، ولذا لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
كان احب الاشياء اليه نقيضه ، وهو التوحيد المدلول عليه بـ « لا اله الا الله » فكانت احب الكلمات اليه تعالى.
وبما قررناه ظهر وجه ما في خبر آخر نبوي : ما قلت ولا قال القائلون قبلي مثل لا اله الا الله (٢).
وفي آخر عنه ـ صلى الله عليه وآله : قال الله جل جلاله لموسى : يا موسى لو ان السموات وعامريهن والارضين السبع في كفة ، ولا اله الا الله في كفة ، مالت بهن لا اله الا الله (٣).
____________
(١) التوحيد : ٢١ ـ ٢٢
(٢) التوحيد : ١٨ ح ١.
(٣) التوحيد : ٣٠ ح ٣٤.
وفي آخر عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ ايضا : الايمان بضع وسبعون شعبة ، افضلها قول لا اله الا الله (١).
وفي آخر علوي : ما من عبد يقول لا اله الا الله الا صعدت تخرق كل سقف ، لا تمر بشيء من سيئآته الا طلستها ، حتى تنتهي الى مثلها من الحسنات فتقف (٢).
وفي آخر باقري : ما من شيء اعظم ثواباً من شهادة ان لا اله الا الله (٣).
وفي آخر صادقي : قول لا اله الا الله ثمن الجنة. (٤) ونظائرها في الاخبار كثيرة.
وبالجملة احسن افراد الذكر قول لا اله الا الله ، لانها رأسها ، فينبغي الاكثار من قولها. وقد وردت في فضلها وشرفها واسرارها وخواصها من طريق الخاصة والعامة ما لا يكاد يحصى.
ولذا اختاره اهل السلوك لتربية السالكين ، وتهذيب المريدين ، وقد جمعت بين نفي الوهية ما سوى الله واثبات الوهيته ، وهي متعلقة بالجنان واللسان.
ومتفاوتة فيه ، فمنها : ما يكون باللسان وحده من غير حضور القلب ، وهي اضعف المراتب. ومنها : ما يكون به مع استقرار واستيلاء بحيث يغفل عما عدا المذكور ، وهي المرتبة العليا والدرجة القصوى ، واليه الاشارة بقوله تعالى « ولذكر الله اكبر » (٥).
ثم لا يذهب عليك ان قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « يمد بها صوته » يدل
____________
(١) كنز العمال : ١ / ٣٥ ح ٥٢.
(٢) التوحيد : ٢١ ح ١٢.
(٣) التوحيد : ١٩ ح ٣.
(٤) التوحيد : ٢١ ح ١٣.
(٥) العنكبوت : ٤٥.