الدّرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنيّة

المؤلف:

محمد إسماعيل الخواجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

أقول : لا وجه لهذا التخصيص ، فانه كما لا ينافي ابديتهما ، كذلك لا ينافي ابدية النار واهلها ، وابدية النفوس الناطقة مطلقاً من الجن والانس وغيرهما.

ثم قال : الوجه الثالث : ان يكون المراد بالاولية العلية ، اي : هو علة العلل ومبدأ المبادىء ، وبالاخرية الغائية ، اي : هو غاية الغايات ، كما هو مصطلح الحكماء.

او هو منتهى سلسلة العلل ذهناً ، فانك اذا فتشت عن علة شيء ، ثم عن علة علته وهكذا ، ينتهي بالاخرة اليه تعالى ، فعلى هذا الوجه يكون اوليته تعالى عين اخريته ، وتختلفان بالاعتبار.

الوجه الرابع : انه مبدأ سلوك العارف ومنتهاه ، فان بتوفيقه يبتدىء واليه ينتهي ، اذ انه اول الاشياء معرفة واظهرها ، ومنتهى مراتب الكمال بالنظر الى كل استعداد وقابلية.

وقيل : هو الاول باحسانه ، والاخر بغفرانه (١).

____________

(١) الفرائد الطريفة : ١٠٩ ـ ١١٣.

٢٤١
٢٤٢

(سورة الحشر)

* هو الله الذي لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون. [ الآية : ٢٣ ]

الملك لاصناف المملوكات ، كما قال « ملكوت السموات والارض » (١) فان الملكوت ملك الله زيدت فيه التاء ، كما زيدت في رهبوت ورحموت. يقول العرب : رهبوت خير من رحموت. اي : لين ترهب خير من ان ترحم.

والقدوس : فعول من القدس ، وهو الطهارة ، والقدوس الطاهر من العيوب المنزه عن الانداد والاضداد والاولاد ، والتقديس التطهير والتنزيه.

والسلام : هو الذي سلم من كل عيب ، وبرىء من كل آفة ونقص.

وقيل : معناه المسلم ؛ لان السلامة تنال من قبله ، والسلام والسلامة مثل الرضاع والرضاعة ، وقوله « لهم دار السلام » (٢) يجوز ان تكون مضافة اليه ، ويجوز ان يكون قد سمي الجنة سلاماً ؛ لان الصائر اليها تسلم من كل آفة الدنيا ، فهي دار السلامة.

والايمان في اللغة : التصديق ، فالمؤمن المصدق ، اي : يصدق وعده ، ويصدق ظنون عباده المؤمنين ، ولا يخيب آمالهم ، او انه آمنهم من الظلم والجور.

وعن سيدنا الصادق ـ عليه السلام : سمي الباري عز وجل مؤمناً ، لانه يؤمن

____________

(١) الانعام : ٧٥.

(٢) الانعام : ١٢٧.

٢٤٣

عذابه من اطاعه. وسمي العبد مؤمناً ، لانه يؤمن على الله فيجيز الله امانه (١).

والمهيمن : الشهيد ، والله هو الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول او فعل. وقيل : المهيمن الامين. وقيل : الرقيب على الشيء والحافظ له.

والعزيز : هو المنيع الذي لا يغلب ، يقال : من عز بز ، اي : من غلب سلب ، وقد يقال للملك ، كما قال اخوة يوسف « يا ايها العزيز » (٢).

والجبار : هو الذي جبر مفاقر الخلق وكثرهم ، وكفاهم اسباب المعاش والرزق. وقيل : الجبار العالي فوق خلقه ، والقامع لكل جبار ، او القاهر الذي لا ينال ، يقال للنخلة التي لا تنال : جبارة.

والمتكبر : هو المتعالي عن صفات الخلق ، او المتكبر على عتاة خلقه ، إذ نازعوه العظمة.

* هو الله الخالق البارىء المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم. [ الآية : ٢٤ ]

اسناد التصوير اليه سبحانه على الاطلاق ، يدل على بطلان القول بوجود قوة مصورة في الانسان والحيوان يصدر عنها التصوير ، كما ذهبت اليه الفلاسفة بناءً على اصولهم.

وكيف يصح القول باسناده اليها؟ وهو قوة عديمة الشعور ، وتلك الافعال

____________

(١) التوحيد : ٢٠٥.

(٢) يوسف : ٨٨.

٢٤٤

في غاية الاتقان والاحكام ، وقد روعي فيها من الحكم والمصالح ما تحيرت فيه الاوهام ، وقصرت عن ادراكها العقول والافهام.

فكل من له عقل سليم وطبع مستقيم ، يحكم بأن امثال هذه الصور العجيبة والاشكال الغريبة ، والنقوش المؤتلفة ، والالوان المختلفة ، مما لا يمكن ان يصدر عن حكيم عليم خبير قدير.

وقد بالغ في ذلك الغزالي حتى نفى مطلق القوى ، وادعى ان الافعال المنسوبة اليها صادرة عن ملائكة موكلة بهذه الافعال ، يفعلها بالشعور والاختيار.

٢٤٥
٢٤٦

( سورة الجمعة )

* يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون. [ الآية : ٩ ]

استدل المحقق الكاشاني في رسالته بالآية الشريفة على عينية وجوب الجمعة ، فقال : اتفق المفسرون على ان المراد بالذكر المأمور بالسعي اليه في الآية ، صلاة الجمعة ، او خطبتها ، او هما معاً ، كما نقله غير واحد من العلماء.

فكل من تناوله اسم الايمان مأمور بالسعي اليها ، واستماع خطبتها وفعلها ، بعض الاوقات فعليه الدليل ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين ، وفي الآية مع الامر الدال على الوجوب ضروب التأكيد وانواع الحث ما لا يخفى.

قال زين المحققين الشهيد الثاني في رسالته التي الفها في تحقيق هذه المسألة واثبات الوجوب العيني في زمان الغيبة ، وبسط القول فيه بما ملخصه.

ان تعليق الامر في الآية انما هو على النداء الثابت شرعيته لفريضة الوقت ، اربعا كانت او اثنتين ، وحيث ينادي لها يجب السعي الى ذكر الله ، وهو صلاة الجمعة ركعتين واستماع خطبتها ، وكأنه قال : اذا نودي للصلاة عند الزوال يوم الجمعة فصلوا الجمعة ، او فاسعوا الى صلاة الجمعة وصلوها.

قال : وهذا واضح الدلالة لا اشكال فيه ، ولعله السر في قوله تعالى : « فاسعوا الى ذكر الله » ولم يقل فاسعوا اليها ، وانما علقه على الاذان حثاً على فعله لها ، حتى ذهب بعضهم الى وجوبه لها لذلك.

٢٤٧

وكذا القول في تعليق الامر بالسعي ، فانه امر بمقدماتها على ابلغ وجه ، واذا وجب السعي اليها وجبت هي ايضا بطريق الاولى ، ولا معنى لايجاب السعي اليها مع عدم ايجابها ، كما هو ظاهر (١) انتهى كلامه.

اقول : وبالله التوفيق (٢) « اذا » الشرطية ليست بناصة في العموم لغة ، لكونها من سور المهملة ، ودعواهم ان المستعملة في الآيات الاحكامية تكون بمعنى « متى » و « كلما » فتفيد العموم عرفاً ، نحو « اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » (٣) « فاذا قرأت القرآن فاستعذ » (٤) « واذا حييتم بتحية فحيوا » (٥) غير مسلمة.

وعموم الاوقات في الايات ليس لدلالتها عليه ، بل للاجماع والاخبار.

والمراد بالنداء الاذان ، يعني : اذا اذن في يوم الجمعة للصلاة. واللام فيها للعهد ، والمعهود صلاة الظهر المذكورة في قوله « واقم الصلاة لدلوك الشمس » (٦) وامثالها.

وهي ـ اي : الظهر ـ اول صلاة صلاها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وهي الصلاة الوسطى التي خصها الله من بين الصلوات اليومية بالامر بالمحافظة

____________

(١) الشهاب الثاقب : ١٥ ـ ١٦.

(٢) الغرض من هذا التفصيل الايماء الى كيفية الاستدلال بالآية ، وطريقة الاستنباط منها ، وفيه تعريض على المستدل ، فان المراد بكون آية مثلاً دليلا على حكم ، انه يستنبط من منطوقها او مفهومها ذلك الحكم ، ويستدل بها عليه بعد العلم بضوابط الاستدلال من غير ان يستعان فيه بقول زيد وعمرو « منه ».

(٣) المائدة : ٦.

(٤) النحل : ٩٨.

(٥) النساء : ٨٦.

(٦) الاسراء : ٧٨.

٢٤٨

عليها ، بعد الامر بالمحافظة على الجميع ، كما دلت عليه الاخبار وصرحت به الاخيار.

وذلك لان اللام منها لا يحتمل ان يكون للجنس ولا للاستغراق ، وهو ظاهر ، ولا للعهد الذهني ؛ لانه موضوع للحقيقة المتجددة في الذهن ، وارادة الفرد المنتشر منه محتاجة الى القرينة ، وليست فليست ، مع انه غير مستلزم للمطلوب ، فتعين كونه للعهد الخارجي ، ولا عهد في موضع من القرآن بصلاة الجمعة.

فان قلت : العهد الخارجي على ثلاثة اقسام : الذكري ، وهو الذي تقدم لمصحوبه ذكر ، نحو « انا ارسلنا الى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول » (١) والعلمي ، وهو الذي تقدم لمدخوله علم ، نحو « بالواد المقدس طوى » (٢) « اذ يبايعونك تحت الشجرة » (٣) لان ذلك كان معلوما عندهم. والحضوري ، نحو « اليوم اكملت لكم دينكم » (٤) فيجوز ان يكون المراد هنا الثاني ، اذ لا مانع له دون الاول.

قلت : هذا مع انه خارج عن موضع استدلالهم انما يصح ان لو ثبت بطريق صحيح ان نزول الآية انما كان بعد علمهم بوجوب صلاة الجمعة ، واشتهارها وشيوعها فيما بينهم ، ودون ثبوتها خرط القتاد.

وكيف لا؟ وهم انما يثبتون اصل وجوبها بالآية ، فكيف يصح هذا الاحتمال والحال هذه؟ بل صرح بعض مثبتي وجوبها بأنها ما كانت معهودة ولا مشروعة قبل نزولها.

هذا و « من » : اما للابتداء ، وعلامته صحة ايراد « الى » او ما يفيد معناه في

____________

(١) المزمل : ١٦.

(٢) طه : ١٢.

(٣) الفتح : ١٨.

(٤) المائدة : ٣.

٢٤٩

مقابلتها ، اي : اذا نودي ناشئاً من مؤذني يوم الجمعة الى الصلاة ، فعليكم السعي الى ذكر الله ، فاللام هنا مفيدة لمعنى الانتهاء ، كالباء في قولنا « اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ».

واما بمعنى « في » كما اومأنا اليه ، فانه في الظروف كثيراً ما يقع بمعناه ، « من بيننا وبينكم حجاب » (١) وكنت من قدامكم ، ولعله من اظهر الوجوه ، فان المراد بالنداء هنا ما يقع في وسط الجمعة وعرضه ، لا ما يقع في اوله وابتدائه ، تأمل فيه.

واما للتعليل ، مثله « ما خطيئاتهم اغرقوا فادخلوا ناراً » (٢) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (٣).

واما للتبيين ، وهو اظهار المقصود من امر مبهم ، فهو هنا بيان لـ « اذا » لان قولك وقت نداء الصلاة « وجب عليكم السعي اليها » مبهم ، فاذا قلت : الذي هو يوم الجمعة ، ظهر المقصود ورفع الابهام.

واما للتبعيض ، ومعناه : اذا نودي بعض يوم الجمعة.

واما زائدة على القول بجوازها في الآيات.

وفي الآية صنوف التأكيد وضروب الحث والمبالغة في طلب الخير والاستباقة اليه ، حيث عبر عن الذهاب الى ذكر الله بالسعي المفيد للاسراع في المشي والمبالغة فيه ، ثم امر بترك البيع.

ثم قال : السعي والترك انفع لكم عاقبة ان كنتم من اهل العلم ، وهو مشعر بأن من لم يفعلهما فهو ليس من اهله ، بل هو ممن لم يميز بين الخير والشر والصلاح والفساد ، ولم يفرق بين الضار والنافع.

____________

(١) فصلت : ٥.

(٢) نوح : ٢٥.

(٣) عوالي اللآلي : ١ / ٤٤ ح ٥٥.

٢٥٠

ولعل الوجه فيه ان يوم الجمعة يوم مبارك مضيق على المسلمين ، وهو يوم العمل والتعجيل ، وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً الا اعطاه ، وفيه يضاعف العمل ، ويغفر للعباد ، وينزل عليهم الرحمة ، من وافق منكم يوم الجمعة فلا يشتغلن بشيء غير العبادة.

ولكن الناس لما لم يحيطوا به علماً ، وكانوا فيه من الزاهدين ، ومنه ومن فضائله من الغافلين ، حثهم عليه وامرهم بترك جميع اسباب المعاش في ذلك الوقت ، وقال « هو خير لكم » لان ما عندكم ينفد وما عند الله باق ، والعاقل لا يؤثر الفاني على الباقي.

هذا والاضافة في ذكر الله للعهد ، لان تعريفها باعتباره ، لا تقول غلام زيد الا لغلام معهود باعتبار تلك النسبة ، لا لغلام من غلمانه ، وإلا لم يبق فرق بين النكرة والمعرفة ، والمعهود هو الصلاة ، لانه لم يسبق غيرها.

ولذلك قال المستدل قدس سره بعد ما بلغ الى درجة الفهم والانصاف ، وتخلى عن التعصب والاعتساف في تفسير الصافي وهو كاسمه : فان الاسماء تنزل من السماء « فاسعوا الى ذكر الله » يعني الى الصلاة ، كما يستفاد مما قبله ومما بعده.

ولم يقيدها بالجمعة ، ولا استدل بها على وجوبها ، بل اكتفى بذكر نبذ من الاخبار ، كما هو دأبه في هذا التفسير ولذلك وضعه.

ثم قال : والاخبار في وجوب الجمعة اكثر من ان تحصى (١).

وقد عرفت ان المراد بالصلاة في الآية هو الظهر ، فمن ادعى ان المراد بالذكر صلاة الجمعة او خطبتها ، او هما معاً ، فعليه الدليل ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين.

وبالجملة الاستدلال بالآية على وجوبها العيني موقوف على اثبات تلك

____________

(١) الصافي : ٥ / ١٧٥.

٢٥١

المقدمات الممنوعة ، ودون اثباتها خرط القتاد ، وعلى تقدير دلالتها عليه ، فهو مخصوص بأهل زمانه ـ صلى الله عليه وآله.

لما تقرر في الاصول من ان الخطابات العامة المشافهة الواردة على لسان الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ليست خطابات لمن بعدهم ، وانما يثبت حكمها لهم بدليل آخر من نص او اجماع او غيرهما ، واما بمجرد الصيغة فلا.

فالآية بانفرادها لا تدل على وجوبها العيني في هذا الزمان ، بل لا بد في الدلالة عليه من انضمام امر آخر من نص او اجماع ، وهما غير ظاهرين.

٢٥٢

(سورة المنافقون)

* يا ايها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرين. [ الآية : ٩ ]

استدل القائلون بوجوب صلاة الجمعة بالآية الشريفة على وجوب عينيتها ، وذلك انهم فسروا الذكر الموجود في الآية بصلاة الجمعة ، ولكن لا دلالة للاية الشريفة عليها بوجه من الوجوه.

وأما المفسرون ، فانهم لم يفسروا الذكر هاهنا بصلاة الجمعة.

قال في الكشاف بعد ان ابقى الذكر في مقام التفسير على عمومه ولم يفسره بشيء قيل : ذكر الله الصلوات الخمس ، وعن الحسن جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله. وقيل : القرآن. وعن الكلبي الجهاد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله (١).

وزاد في مجمع البيان قوله وقيل : ذكره شكره على نعمائه ، والصبر على بلائه ، والرضا بقضائه. ثم قال : وهو اشارة الى انه لا ينبغي ان يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤس كان او نعمة ، فان احسانه في جميع الحالات لا ينقطع (٢).

وقال في الصافي : اي لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام به عن ذكره كالصلاة

____________

(١) الكشاف : ٤ / ١١١.

(٢) مجمع البيان : ٥ / ٢٩٥.

٢٥٣

وسائر العبادات (١).

والحق مع الزمخشري ، حيث ابقاه على حاله ، ولم يفسره بشيء ، ونعم ما فعل ، كذلك يفعل الرجل البصير ؛ لان الذكر يعم ، الثناء ، والدعاء ، والصلاة ، وقراءة القرآن ، والحديث ، وذكر الحلال والحرام ، واخبار الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام ـ والصالحين ، وهو اعم من ان يكون باللسان او الجنان او الاركان.

وبالجملة كلما كان لله سبحانه ، وهو غايته من الاعمال والتروك ، فهو ذكر ، حتى المباحات لو قصد فيها لله تعالى وفعل توصلاً الى عبادته ، انسلك سلك الذكر.

ولما كان لله تعالى مدخلية في كل الاشياء جواهرها واعراضها التي من فعل الله ، او فعل العباد من حيث الخلق او الاقدار ، والتمكين والحكم والامر والنهي ، كان كل شيء صالحاً لان يقع موقعاً لذكر الله ، فالاعتبار اذن بالقصد والملاحظة لله سبحانه او لغيره ، فتأمل واعتبر ولا تكن من الغافلين.

وعلى هذا فكيف يمكن تخصيص الذكر بصلاة الجمعة في مقام الاستدلال؟ مع عدم النص والقرينة ، وهل هذا الا مجرد دعوى خال عن البينة والبرهان ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين.

____________

(١) الصافي : ٥ / ١٨٠.

٢٥٤

(سورة الطلاق)

* الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علماً. [ الآية : ١٢ ]

هذه الآية الشريفة صريحة في ان الارض متعددة ، وانها سبع كالسموات.

وذهب بعضهم الى ان قوله « مثلهن » اي : في الخلق لا في العدد.

وهذا خلاف ما دلت عليه الاخبار والادعية المأثورة عنهم ـ عليهم السلام.

وقيل : انها سبع ارضين متصل بعضها ببعض ، وقد حالت بينهن بحار لا يمكن قطعها ، والدعوة لا تصل اليهم.

وقيل : انها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها ، وهذا يشبه قول الفلاسفة ، منها : طبقة هي ارض صرفة تجاوز المركز. ومنها : طبقة معدنية تتولد فيها المعادن. ومنها : طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها. ومنها : طبقة الابخرة والادخنة على اختلاف احوالها. ومنها : طبقة الزمهرير. وقد تعد هذه الطبقات من الهواء.

وقيل : انها سبع ارضين بين كل واحدة منها الى الاخرى مسيرة خمسمائة عام ، كما جاء في ذكر السماء وفي كل ارض منها خلق ، حتى قالوا في كل منها آدم وحواء ونوح وابراهيم ، وهم يشاهدون السماء من جانب ارضهم ، ويشهدون الضياء منها ، او جعل الله لهم نوراً يستضيؤون به.

وفي مجمع البيان : « مثلهن » اي في العدد لا في الكيفية ؛ لان كيفية السماء مخالفة لكيفية الارض. ثم قال وقال قوم : انها سبع ارضين طباقاً بعضها

٢٥٥

فوق بعض كالسموات ؛ لانها لو كانت مصمتة لكانت ارضاً واحدة ، وفي كل ارض خلق خلقهم الله تعالى كيف شاء (١).

____________

(١) مجمع البيان : ٥ / ٣١٠ ـ ٣١١.

٢٥٦

(سورة الجن)

* وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً. [ الآية : ٩ ]

سماع الصوت هو كيفية تحدث في الهواء بتموجه المعلول للقرع ، والقرع انما يحصل بقرع الهواء المتموج تجويف الصماخ ، فحيث لا هواء كما في الفلك وكرة الاثير ، فلا تموج فلا صوت فلا مسموع.

فكيف يجوز ان يسمع الشياطين كلام الملائكة ، لصعودهم الى قرب كرة النار ولا هواء بينهما حتى تحدث فيه اصواتهم وتصل به اليهم؟ مع ان البعد المفرط ايضا مانع منه.

فما افاده الشيخ البهائي في جواب من قال : ان كرة النار في طريقهم فكيف يتجازونها ولا يحرقون؟ قال : وتقرير الجواب ان وجود كرة النار لم يقم عليه دليل يعول عليه ، ولو سلمنا فيجوز ان تسمع الشياطين كلام الملائكة بصعودهم الى قرب كرة النار ، ولا يتوقف سماعهم على الارتقاء في الصعود عن ذلك القدر (١) انتهى.

فبعد تسليه وجود كرة النار لا يتم جوابه هذا ، فان من قال بوجودها لا يقول بوجود الهواء فيها ولا فيما فوقها ، فاذا انتفى الهواء انتفى السماء والمسموع.

اللهم الا ان يمنع توقف حدوث الصوت وسماعه على وجود الهواء او

____________

(١) مفتاح الفلاح : ٩٩.

٢٥٧

تموجه ، ومعه فشبهة البعد المفرط المانع من السماع باق بحاله.

والظاهر انه غير قابل للمنع ، والا فلا وجه لصعودهم الى قرب كرة الاثير ، على ان الطبقة الدخانية من الهواء المجاورة للنار لشدة حرارتها تحرق ما يصل اليها من الاجسام القابلة للاحتراق ، فكيف يمكنهم الصعود الى قرب كرة الاثير ، غاية ما يمكنهم ان يصلوا في صعودهم اليه هو طبقة الهواء القريب من الخلوص.

فالصواب في الجواب ان يمنع وجود كرة الاثير ، وتوقف حدوث الصوت وسماعه على وجود الهواء وتموجه ، ويقال : ان الشياطين لا يسمعون كلام الملائكة الا اذا انتهوا في صعودهم الى قرب السماء ، فاذا استرق الشيطان السمع وبادر الى النزول لحقه الشهاب فأحرقه.

مع ما ورد في اخبار كثيرة ان الشياطين كانوا يرتقون في صعودهم الى السماء ، وكانت لهم مقاعد في السماء الثالثة ، وكانوا يسترقون فيها الكلمات ، ثم يلقونها الى الكواهن ، فلما ولد سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ حجبوا منها ورموا بالشهب.

في كتاب الاحتجاج حديث طويل عن مولانا امير المؤمنين سلام الله عليه ، يذكر فيه مناقب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وفيه : ولقد رأى الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل ، وتسبح وتقدس ، وتضطرب النجوم وتتساقط ، علامة لميلاده.

ولقد هم ابليس بالظعن في السماء لما رأى من الاعاجيب في تلك الليلة ، وكان له مقعد في السماء الثالثة ، والشياطين يسترقون السمع ، فاذا هم قد رموا بالشهب جلالة لنبوته ـ صلى الله عليه وآله (١).

وعن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ حديث طويل ، وفيه : واما اخبار السماء ،

____________

(١) الاحتجاج : ١ / ٣٣٢.

٢٥٨

فان الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع ، اذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وانما منعت من استرقاق السمع ، لئلا يقع في الارض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء ، ويلبس على اهل الارض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة ونفي الشبهة.

وكان الشيطان يسترق الكلمة الوحدة من خبر السماء ويلبس على اهل الارض ما جاءهم عن الله من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه ، فيتخطفها ثم يهبط بها الى الارض ، فيقذفها الى الكاهن ، فاذا قد زاد كلمات من عنده فيختلط الحق بالباطل.

فما اصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به ، فهو مما اداه اليه شيطانه مما سمعه ، وما اخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة.

فقال : كيف صعدت الشياطين الى السماء وهم امثال الناس في الخلقة والكثافة ، وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟

قال : غلظوا لسليمان لما سخروا وهم خلق رقيق غذاهم التنسم ، والدليل على ذلك صعودهم الى السماء لاستراق السمع ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء اليها الا بسلم او بسبب (١).

____________

(١) نور الثقلين : ٥ / ٤٣٧ ح ٥ ، الاحتجاج : ٢ / ٨١.

٢٥٩
٢٦٠