الدّرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنيّة

المؤلف:

محمد إسماعيل الخواجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

( سورة يونس )

* هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون. [ الآية : ٥ ]

الضوء والنور مترادفان لغة. وقيل : هو اقوى من النور ، فهو فرط الانارة ، وقد يسمى تلك الكيفية ان كانت من ذات الشيء ضوء ، وان كانت مستفادة من غيرها نوراً.

وقال صاحب الكشف : والتحقيق ان الضوء فرع النور ، يطلق على الشعاع المنبسط ، والنور يطلق على ما للشيء في نفسه ، كالنور القائم بنفس الشمس ، ولهذا يقع على الذوات الجوهرية ، بخلاف الضوء.

وقال الراغب : النور الضوء المنتشر الذي يعين على الابصار ، وهو ضربان : دنيوي ، واخروي ، فالدنيوي ضربان : معقول بعين البصيرة ، وهو ما انتشر من الانوار الالهية ، كنور العقل ، ونور القرآن ، ومنه « قد جاءكم من الله نور » (١).

ومحسوس بعين البصر ، وهو ما انتشر من الاجسام النيرة ، كالقمرين والنجوم والنيرات ، ومنه « هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً » ومن النور الاخروي قوله تعالى : « يسعى نورهم بين ايديهم » (٢) انتهى (٣).

____________

(١) المائدة : ١٥.

(٢) الحديد : ١٥.

(٣) مفرادات الراغب : ٥٠٨.

١٢١

والمشهور ان ضياء الشمس ذاتي قائم بذاتها ، غير مستفاد من غيرها ، تستفيد منها سائر الكواكب انوارها المزيلة للظلام.

حتى قال صاحب الهياكل : ان رخش ـ وعنى به الشمس ـ قاهر الغسق ، رئيس السماء ، فاعل النهار ، صاحب العجائب ، عظيم الهيئة ، الذي يعطي جميع الاجرام ضوءها.

والمعروف من الاخبار ان ضوءها مستفاد من نور العرش.

ففي كتاب التوحيد عن ابي ذر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد كلام : فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور العرش ، على مقادير ساعات النهار في طوله او قصره ، او ما بين ذلك ، فتلبس تلك الحلة ، كما يلبس احدكم ثيابه (١).

ومخالفته لقواعد الفلاسفة لا يضر ، لما زيفناها في بعض رسائلنا ، وهم في حقيقتها مختلفون :

فقال بعضهم : هي فلك اجوف مملو ناراً ، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع.

وقال آخرون : هي سحابة.

وقال آخرون : هو جسم زجاجي يقبل نارية في العالم ويرسل عليها شعاعها.

وقال آخرون : هو صفو لطيف ينعقد من ماء البحر.

وقال آخرون : هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار.

وقال آخرون : هو جوهر خامس سوى الجواهر الاربع.

____________

(١) التوحيد : ٢٨١.

١٢٢

( سورة هود )

* وهو الذي خلق السموات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء. [ الآية : ٧ ]

في أصول الكافي ، عن محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن داود الرقي ، قال سألت : ابا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن قول الله عز وجل « وكان عرشه على الماء ».

فقال : ما يقولون؟

قلت : يقولون ان العرش كان على الماء والرب تعالى فوقه.

فقال : كذبوا ، من زعم هذا فقد صير الله محمولاً ، ووصفه بصفة المخلوق ، فلزمه ان الشيء الذي يحمله اقوى منه.

قلت : بين لي جعلت فداك؟

فقال : ان الله حمل دينه وعلمه الماء قبل ان تكون ارض او سماء او جن او شمس او قمر ، فلما اراد ان يخلق الخلق نشرهم بين يديه ، فقال لهم : من ربكم؟

فأول من نطق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأمير المؤمنين والائمة ـ عليهم السلام ـ فقالوا : انت ربنا ، فحملهم العلم والدين ، ثم قال للملائكة : هؤلاء حملة ديني وعلمي وامنائي في خلقي وهم المسؤولون الحديث (١).

قال السيد الداماد : كثيراً ما وقع اسم الماء في التنزيل الكريم وفي

____________

(١) اصول الكافي : ١ / ١٣٢ ـ ١٣٣ ح ٧.

١٢٣

الاحاديث الشريفة على العلم ، وعلى العقل القدسي الذي هو حامله ، واسم الارض على النفس المجردة التي هي بجوهرها قابلة للعلوم والمعارف.

ومنه قوله عز سلطانه « وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج » (١) على ما قد قرره غير واحد من ائمة التفسير ، فكذلك قول مولانا ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في هذا الحديث. الماء تعبير عن الجوهر العقل الحامل لنور العلم من الانوار العقلية القدسية (٢).

وتعقبه بعض (٣) من تأخر عنه ، بأن هذه التأويلات في الاخبار جرأة على من صدرت منه ، والاولى تسليمها ورد علمها اليهم.

ويحتمل ان يكون المراد بحمل دينه وعلمه على الماء انه تعالى جعله مادة قابلة لان يخلق منه الانبياء والاوصياء ، الذين هم قابلون وحاملون لعلمه ودينه.

او ان علمه لما كان قبل خلق الاشياء غير متعلق بشيء من الموجودات العينية ، بل كان عالما بها وهي معدومة ، فلما اوجد الماء الذي هو مادة سائر الموجودات ، كان متعلقا لعلمه به وبما يوجد منه ، فلعل هذا الكلام اشارة اليه ، مع انه لا يمتنع ان يكون الله افاض على الماء روحا واعطاه علما (٤).

أقول : كل من قال بوجود العقل المجرد ذاتا وفعلا ، قال بقدمه المستلزم لقدم العالم ، والقائل بالقديم سوى الله وان كان اماميا ، كافر باجماع المسلمين.

كما صرح به آية الله العلامة في جواب من سأله عمن يعتقد التوحيد والعدل والنبوة والامامة ، ولكنه يقول بقدم العالم ، ما يكون حكمه في الدنيا والاخرة؟

____________

(١) الحج : ٥.

(٢) التعليقة على اصول الكافي : ٣١٩ ـ ٣٢٠ المطبوع بتحقيقنا.

(٣) المراد به صاحب بحار الانوار قدس سره « منه ».

(٤) مرآة العقول : ٢ / ٨١ ـ ٨٢.

١٢٤

متى اعتقد القدم فهو كافر بلا خلاف ، فان الفارق بين المسلم والكافر ذلك ، وحكمه في الاخرة حكم باقي الكفار بالاجماع (١).

وبمثله قال المعقب قدس سره في الفرائد الطريفة في شرح الصحيفة (٢) ، وصرح فيه بأن حدوث العالم من ضروريات الدين.

فقوله هنا بكون هذا التأويل جرأة لا كفراً : اما مراعا منه للسيد ، ولا موضع لها ، اذ الحق أحق ان يتبع. او غفلة منه عما يلزمه.

وهذا من السيد مع قوله بالحدوث الدهري والزمان التقديري واصراره عليه غريب.

واغرب منه قوله بوقوع اسم الماء في القرآن والحديث على العقل المجرد القائم بذاته كثيرا.

ولو كان الامر على ما زعمه ، لكان القول بالقديم بالزمان ، مما لا مدفع له ، فكيف صار كفراً عندهم؟

وعلى تقدير وقوع اسم الارض في الآية على النفس المجردة والماء على العلم ، لا يلزم منه وقوعه على ذلك العقل القديم ، كيف؟ وهم ينكرونه ويكفرون القائل به.

مع ان في التفاسير المشهورة المتداولة ، كتفسير الزمخشري والبيضاوي ومجمع البيان وما شاكلها ، ليس منه عين ولا اثر. والعجب ممن يدعي كثرة وقوع شيء لم يقع قط.

وبالجملة وقوع اسم الارض على النفس المجردة والماء على العلم في الآية ، لو سلم له ذلك ، مع انه تفسير بالرأي الممنوع ، لا يستلزم وقوع اسم الماء على العقل المجرد ذاتاً وفعلاً في القرآن والحديث.

____________

(١) اجوبة المسائل المهنائية : ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) الفرائد الطريفة : ١٠٩ المطبوع بتحقيقنا.

١٢٥

فما استشهد به على اثبات المدعى ، فهو تقدير تمامه لا يشهد له ، وهو لم يذكر آية ولا رواية ولا قولاً يعبأ بقائله يدل على ذلك الوقوع.

ومن الغريب ان يحمل اللفظ على خلاف ظاهره المخالف لا جماعهم واخبارهم من دون شاهد من الكتاب والسنة ، ولا دليل قاطع من العقل.

فان ادلة وجود العقل مدخولة ، فلا يمكن اثباته بها ، وما لا يكون ثابتا بالدليل العقلي اذا كان مخالفا لاجماعهم واخبارهم ، فهو باطل ولا يميل الى تجويز الباطل عاقل.

فقوله ان الماء في هذا الحديث عبارة عن الجوهر العقل القدسي ، مجرد دعوى بلا دليل ، لا يشهد له عقل ولا نقل ، لان لفظ الماء لم يوضع في اللغة ولا في الشرع للعقل الاول ، ولا علاقة بينهما مصححة ، ولا قرينة هنا ليكون الاطلاق مجازيا.

ولم يذهب اليه احد من مفسري المتكلمين في آية ، ولا احد من المحدثين في رواية ، فالتعبير عنه به من دون شياع استعماله فيه ، بل ومع عدم استعماله فيه قطعا ، من قبل التعبير عن آسمان بريسمان من غير قرينة.

فكيف يصح هذا ويسوغ لعاقل ، ولا سيما لمثل السيد الداماد الحكيم المتكلم المتشرع العارف بمحاورات العرب ومواقع استعمالاتهم ، ان يقول به لا على وجه الاحتمال والامكان ، بل على سبيبل القطع ، كأنه اقام عليه قاطع البرهان.

وبمثل هذا التأويل القبيح المستكره ضل وأضله من أضل ، ثم غلطه في التأويل ودعواه ما لا اصل له فيه ، وحمله الكلام على ما لا يحتمله ، كله سهل في جنب اعتقاده هذا لو مات عليه ولم يرجع عنه ، نعوذ بالله منه.

والظاهر ان هذا خطر بباله ، فكتبه ذاهلا عما يلزمه من المفاسد ، او كان ذلك لشدة ميله ومحبته على ما نسجه الفلاسفة وخمنوه ، فكان كما ورد في الخبر : حبك للشيء يعمي ويصم.

١٢٦

ونحن نرجو من الله الكريم ان يكون قد هداه قبل مشاهدته الدار الاخرة ، برجوعه عن هذا الاعتقاد السخيف المخالف للاجماع والاخبار المستلزم للكفر ، اعاذنا الله من موبقات الاسلام ، وما يمنعنا عن الوصول الى دار السلام بمحمد وآله الكرام عليهم السلام.

أقول : وفي كلام المعقب ايضا نظر.

أما أولاً : فلان معنى خلق شيء من شيء جعل ذلك الشيء ، وهو مدخول من مبدأ تكونه ومنشأ وجوده ، كخلق الانسان من الطين او النطفة ، قال الله تعالى « ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين » (١).

فالانبياء والاوصياء لكونهم من سنخ الانسان ، مخلوقون : اما من طين ، او من ماء مهين وهي النطفة.

فكيف يقال : انهم خلقوا من تلك المادة ، وهي بدون الحياة غير قابلة للعلم والدين ، ومعها لان يخلق منها سادة الانبياء والاوصياء المرضيين.

والظاهر من كلامه ان مراده ان وصف الماء بأنه حامل لدينه وعلمه مجاز ، باعتبار انه سيصير جزءً مادياً لمن هو حامل لدينه وعلمه ، وهذا كما ترى مع انه لا اختصاص له بالماء ، بل سائر العناصر كذلك.

الا ان يقال : ان الماء لما كان اول حادث من اجرام هذا العالم خص بذلك ، وهذا بعيد من كلامه.

ثم ان الحديث انما دل على ان حملة هذا العلم والدين ، هم نبينا واوصياؤه لا قاطبة الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام.

وأما ثانيا ، فلان معنى حمل العمل ، لكونه عرضا من الكيفيات النفسانية القائمة بها هو الاتصاف به ، فكل من اتصف بعلم فهو حامله ، وذلك العلم

____________

(١) المؤمنون : ١٣.

١٢٧

محموله. ومن المعلوم ان متعلق العلم وهو المعلوم ، لا يكون متصفا بذلك العلم ، فكيف يقال هو حامله؟

وأما ثالثاً ، فلانه تعالى قبل خلقه الاشياء انما كان عالماً بها ، بالعلم الاجمالي الحاصل له من علمه بذاته الذي هو عين ذاته من غير حاجة له في ذلك الى امر مغاير لذاته.

ولا شك ان متعلق هذا العلم وهو ذاته بذاته ، كان موجودا عينياً. وأما علمه بالاشياء وهي معدومة بغير هذا الطريق ، فلا يتصور له معنى ، لانه فرع ثبوتها وتمايزها ، ولا تمايز بينها ، فكيف كان عالماً بها وهي معدومة؟ والعلم بها يقتضي التمايز.

وأما رابعاً ، فلان ظاهر كلامه يفيد ان الماء اول موجود عيني تعلق به علمه تعالى ، ولا كذلك هو.

أما اولاً ، فلما جاء في السفر الاول من التوراة : ان الله خلق جوهراً ، فنظر اليه نظر الهيبة ، فذابت اجزاؤه فصارت ماءاً ، ثم ارتفع منه بخار كالدخان ، فخلق منه السموات ، وظهر على وجه الماء زبد ، فخلق منه الارض ، ثم ارساها بالجبال. (١) وعلى هذا فذلك الجوهر اول موجود عيني تعلق به علمه تعالى.

وأما ثانياً ، فلما ورد في الخبر عن سيد البشر انه قال : اول ما خلق الله نوري. (٢) وفي رواية : روحي. وفي اخرى : القلم. فكان ذلك النور او الروح او القلم او موجود عيني تعلق به تعالى ، لا هذا الماء.

وأما خامساً ، فلان الماء لو كان قد افيض عليه الروح واعطي له العلم والدين ، فاما مع كونه محلا وقابلا لذلك الفيض ، او لا معه.

فان كان الاول والمبدأ الفياض لا بخل فيه ولا منع من جانبه ، فلم اخذ منه

____________

(١) الملل والنحل : ٢ / ٦٤.

(٢) عوالي اللآلي : ٤ / ٩٩.

١٢٨

الروح وسلب عنه العلم والدين.

وان كان الثاني ، كان ذلك وضعا للشيء في غير محله ، فكان ظلماً ، وهو تعالى غني عن ذلك ، وقد ورد من وضع الحكمة في غير أهلها جهل ، ومن منع اهلها ظلم ، فأعط كل ذي حق حقه.

وقال الفاضل الصالح المازندراني في شرح قوله « وحمل دينه وعلمه الماء » اي : حمل الماء عبادته وطاعته ، او سلطانه ومعرفته وعلمه بحقائق الاشياء ، وخواصها وآثارها وكمياتها ومقاديرها وكلياتها وجزئياتها ، على ما هي عليه في نفس الامر.

ولا يبعد ان يقال : تحميل ذلك على الماء باعتبار ان فيه جزءً مادياً لمحمد وآله الطاهرين.

وقال بعض المحققين : المراد بالماء هنا العقل القدسي الذي هو حامل عرش المعرفة ، هذا كلامه (١).

وفيه نظر يعرف مما سلف.

ثم انت خبير بأن لا منافاة بين قوله « اول ما خلق الله نوري او روحي او القلم » وبين ما في التوراة ، لان هذا في الجوهر الجسمانية ، وذلك في الجواهر الروحانية.

وانما المنافاة بينه وبين ضعيفة داود الرقي السابقة ، لان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لما كان اول من تشرف بعناية الله وصار مظهر جلاله وجماله ، والمقرر عندهم ان اول خلق الله اشد مناسبة بذاته تعالى ، اذ لا واسطة بينه وبين خالقه ، كان هو حامل دينه وعلمه بلا واسطة.

فكيف يقال : ان الله حمل دينه وعلمه الماء قبل ان يخلق النبي وآله ـ عليهم السلام ـ فلما خلقهم واقروا بربوبيته حملهم العلم والدين.

____________

(١) شرح الكافي للعلامة المازندراني : ٤ / ١٤٩.

١٢٩

وبالجملة روحه اول ما تعلقت به القدرة الازلية ، لما سبق ان الله تعالى لما خلقه كان الله ولم يكن معه شيء آخر ، كان هو مجمع صفاته الذاتية ، من العلم والحياة والقدرة والارادة وغيرها ، فكان هو اول موجود عيني تعلق به علمه تعالى لا غير.

وهم لما غفلوا عن هذا اخذوا في تأويل هذا الخبر بمثل هذه التكلفات.

ولو جاز مثل هذه الاحتمالات ، لجاز ان يقال : ان المراد بالماء في هذا الخبر ما نقل عن تاليس المطلى : ان المبدأ الاول ابدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعدومات كلها ، فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول ، فحمل الصور ومنبع الموجودات هو ذات العنصر. وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي الا وفي ذات العنصر صورة ومثال منه فيكون قوله « ان الله حمل علمه الماء » اشارة الى هذا.

هذا وظني ان الاولى : اما رد علمه الى قائله ، كما قال به هذا القائل قدس سره ، وليته كان يكتفي بهذا القدر. او طرحه لضعفه ومنافاته الخبر المشهور المنصور.

ويحتمل قوياً ان يكون من موضوعات عبد الرحمن بن كثير ، فانه ضعيف كان يضع الحديث كما صرحوا به. ومثله في الضعف والكذب سهل بن زياد الادمي الرازي ، فلا اعتماد على ما روياه ، وخاصة اذا خالف المشهور وناقض المنصور.

فان قلت : قد ورد ان اول ما خلق الله العقل (١).

قلت : اول ما خلقه هو نفس النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وهي من حيث انها تدرك الاشياء كما هي عقل ، ومن حيث انها يهتدى بها نور ، ومن حيث انها باعث حياة الخلق بالمعرفة والعبادة روح ، ومن حيث انها مظهر الحقائق

____________

(١) عوالي اللآلي : ٤ / ٩٩.

١٣٠

والدقائق قلم.

وأما قول بعض الحكماء : ان النفوس حادثة بحدوث الابدان ، فغير مسلم ، كيف وكثير من الروايات ناطقة بخلافه.

منها : صحيحة بكير بن اعين عن الباقر ـ عليه السلام ـ المذكورة في الكافي : خلق الله ارواح شيعتنا قبل ابدانهم بألفي عام (١).

وفي رواية اخرى : ان الله خلق الارواح قبل الاجساد بألفي عام (٢).

واليه ذهب قوم ، منهم الصدوق رحمه الله حيث قال : انها الخلق الاول ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وآله : اول ما ابدع الله سبحانه هي النفوس المقدسة المطهرة ، فأنطقها بتوحيده ، ثم خلق بعد ذلك سائر خلقه (٣).

وعنه ـ صلى الله عليه وآله : اول ما خلق الله عز وجل ارواحنا ، فأنطقنا بتوحيده وتمجيده ، ثم خلق الملائكة ، فلما شاهدوا ارواحنا نورا واحدا استعظموا امورنا ، فسبحنا لتعلم الملائكة انا خلق مخلوقون وانه منزه عن صفاتنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا الحديث.

وفي رواية اخرى : يا محمد اني خلقتك وعلياً نوراً ـ يعني روحاً بلا بدن ـ قبل ان اخلق سمواتي وارضي وعرشي وبحري ، فلم تزل تهللني وتمجدني (٤).

وفي مسند احمد بن حنبل عن زاذان عن سلمان ، قال : سمعت حبيبي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : كنت انا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل ان يخلق آدم بأربعة عشر الف عام (٥).

____________

(١) اصول الكافي : ١ / ٤٣٨ ح ٩.

(٢) اصول الكافي : ١ / ٤٣٨ ح ١.

(٣) رواه في رسالته في الاعتقادات : ٧٥.

(٤) اصول الكافي : ١ / ٤٤٠ ح ٣.

(٥) المناقب لابن المغازلي : ٨٩.

١٣١

والاخبار في ذلك اكثر من ان تحصى ، وبعضها يدل على ان ارواحهم كانت متعلقة بأبدان مثالية ، ولا استبعاد فيه ، اذ كما يجوز تعلق الارواح بعد خراب الابدان بأبدان مثالية ، جاز تعلقها بها قبل تعلقها بهذه الابدان ، كما دل عليه كثير من الاخبار.

وليس هذا من التناسخ الممنوع في شيء ، كما قررنا في تعليقاتنا على الاربعين للشيخ بهاء الدين رحمه الله.

والقول بأن تلك النفوس في تلك المدة المتطاولة ان كانت كاسبة فأين مكسوباتها ، وان لم تكن بل كانت مهملة معطلة لزم التعطيل ، مع انه لا وجه لتعطلها مع بقائها وبقاء ما تعلقت هي بها من الابدان المثالية.

فيلزم ان يكون لكل انسان منهم علوم وكمالات ، او نقصان وجهالات ، ولا اقل من ان يتذكر شيئا من احوال ذلك البدن ، لان محل العلم والتذكر انما هو جوهر النفس الباقي.

الا يرى ان اهل الاخرة يتذكرون كثيرا من احوال الدنيا ، حتى يقول اهل الجنة لاهل النار « ان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً » (١).

مجاب بأن توغلهم في هذا البدن ، شغلهم عن ذلك ومنعهم ، ولذلك كان غير المتوغلين منهم كأئمتنا صلوات الله عليهم متذكرين بأحوال ذلك البدن.

حيث اخبروا بأنهم كانوا يعبدون الله بالتسبيح والتهليل ، وبأن الملائكة لما استعظموا شأنهم سبحوا ، ليعلموا انهم مخلوقون مربوبون ، وان الله منزه عن صفاتهم ، الى غير ذلك من احوال ذلك البدن ، كما هو مذكور في محله.

فان قلت : يؤيد قول الحكماء قوله تعالى : « ثم انشأناه خلقاً آخر » (٢) اراد به الروح ، ولفظة « ثم » تفيد التراخي ، فدلت على ان خلقها بعد تكون البدن.

____________

(١) الاعراف : ٤٤.

(٢) المؤمنون : ١٤.

١٣٢

قلت : دلالة الآية عليه ظنية ، لجواز ان يراد بقوله « ثم انشأناه » جعل النفس متعلقة بالبدن ، فيلزم منه عدم تقدم تعلقها لا عدم تقدم ذاتها ، والرواية وان كانت ظنية المتن ، الا انها قطعية الدلالة ، وفي القول بها جمع بين الدليلين ، وهو اولى من الغاء احدهما رأساً.

والاظهر ان يقال : ان المراد بالعرش في الآية العالم الجسماني ، كما هو احد معانيه المستفادة من الاخبار ، يعني : كان بناء العالم الجسماني على الماء.

وذلك ان اول ما ابدعه الله تعالى من الاجسام هو الماء ؛ لانه قابل لكل صورة ، ثم حصلت الارض منه بالتكثيف والهواء والنار بالتلطيف ، اذ الماء اذا لطف صار هواءً ، وتكونت النار من صفوة الماء ، والسماء تكونت من دخان النار ، كذا نقل عن تاليس الملطى في رواية اخرى عنه.

ويقال : انه اخذه من التوراة ، لكنه ينافيه ما سبق نقله عن السفر الاول من التوراة ، فتذكر.

قال صاحب الملل والنحل : نقل عنه ان المبدع الاول هو الماء ، ومنه ابدع الجواهر كلها من السماء والارض وما بينهما ، فذكر ان من خموده تكونت الارض ، ومن انحلاله تكون الهواء ، ومن صفوة الهواء تكونت النار ، ومن الدخان والابخرة تكونت السماء ، ومن الاشعال الحاصل من النار الاثير تكونت الكواكب ، فدارت حول المركز دوران المسبب على السبب بالشوق الحاصل اليه.

ثم قال : ان تاليس الملطى انما تلقى مذهبه من المشكاة النبوية (١).

يعني نقل عن التوراة. وقريب منه ما ورد في طريق اهل البيت ـ عليهم السلام.

وفي روضة الكافي عن ابي جعفر ـ عليه السلام ـ في حديث طويل ، ولكنه تعالى كان اذ لا شيء غيره ، وخلق الشيء الذي جميع الاشياء منه ، وهو

____________

(١) الملل والنحل : ٢ / ٦٣ ـ ٦٤.

١٣٣

الماء الذي خلق الاشياء منه ، فجعل نسب كل شيء الى الماء ، ولم يجعل للماء نسباً يضاف اليه ، وخلق الريح من الماء (١).

وحمل بعض (٢) المتفلسفة العرش في الآية على العالم الجسماني ، والماء على المادة التي لها قبول خير وشر ، كالماء القابل للتشكلات المختلفة.

ثم قال : ولك ان تعمم المادة التي عبر عنها بلسان الشرع بالماء بما يشمل مادة الارواح ، فان التحقيق الاتم يقتضي ان لا تخلو الارواح من مادة ، وهي منشأ امكانها الذاتي القابل للوجود الخاص ، ومبدأ استعدادها الفطري ، لامتثال امر « كن » في علم الله سبحانه.

فان كل ممكن جسما كان او روحا ، فهو زوج تركيبي ، له عدم من نفسه ، ووجود من ربه ، تميز عدمه بذلك الوجود ، وتخصص به ، احدهما بمنزلة المادة والاخر بمنزلة الصورة.

وباعتبار تقدم القابل على المقبول ورد اول ما خلق الله الماء ، ولكون القابل ليس من عداد المخلوق بل هو شرط له ورد اول ما خلق الله العقل.

أقول : قد عرفت ان اولية الاول بالاضافة الى الجواهر الجسمانية ، والثاني بالنسبة الى الجواهر الروحانية ، وهو الاول بالحقيقة ، والمراد به نفس النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لانها من حيث تدرك الاشياء كما هي عقل ، وليس المراد به ما يقوله الفلاسفة ، لانه يباين قواعد الملة.

والمذكور في بعض الروايات ان الله خلق الماء ثم خلق منه الارض ، ثم مكث ما شاء ، ثم خلق من دخان ساطع من الماء السماء.

والتوفيق بين قوله « هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى

____________

(١) روضة الكافي : ٨ / ٩٤.

(٢) المراد به صاحب الوافي في بعض رسائله « منه ».

١٣٤

الى السماء فسواهن سبع سموات » (١) وقوله « ءأنتم اشد خلقاً ام السماء بناها * رفع سمكها فسواها * واغطش ليلها واخرج ضحاها * والارض بعد ذلك دحاها » (٢).

يقتضي ان يكون الله خلق الارض اولاً جرماً صغيراً ، ثم خلق السماء طبقة واحدة ، ثم دحا الارض وخلق ما فيها ، ثم جعل السماء سبع طبقات. واصول الفلاسفة تباين ذلك كله على وجه لا يمكن الجمع بينهما بوجه.

فحمل الماء على المادة القديمة ، والقول بأن بناء العالم الجسماني كان على الماء ، اي : المادة قاصدا بذلك تطبيق النقل على العقل ، عديم الفائدة.

هذا وظاهر تفاسير العامة تفيد انهم حملوا العرش على الجسم المحيط بجميع الاجسام ، وهو ايضا احد معانيه المستفادة من الاخبار (٣) ، والماء على الجسم المعروف.

قال البيضاوي بعد قوله تعالى : « وكان عرشه على الماء » لم يكن حائلاً بينهما ، لا انه كان موضوعا على متن الماء ، واستدل به على امكان الخلأ ، وان الماء اول حادث بعد العرش من اجرام هذا العالم. ثم قال وقيل : كان الماء على متن الريح (٤).

اقول : وعلى هذا القول لا يلزم امكان الخلأ ، ولكنه يخالفه ما سبق من

____________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) النازعات : ٢٧ ـ ٣٠.

(٣) يظهر من الاخبار ان العرش يطلق على الجسم المحيط بجميع الاجسام وعينه ، مع ما فيه من الاجسام ، وهو العالم الجسماني ، ونحن قد اشرنا اليه آنفاً وسابقاً. وقد يراد به جميع ما سوى الله في الارواح والاجسام. وقد يطلق على علم الله المتعلق بما سواه ، وبناء ضعيفة داود عليه. وقد يراد به علم الله الذي اطلع عليه انبياءه وحججه ـ عليهم السلام ـ « منه ».

(٤) انوار التنزيل : ١ / ٥٥٤.

١٣٥

حديث الروضة.

ويوافقه ما في تفسير علي بن ابراهيم بسند صحيح في حديث الابرش انه قال لابي عبد الله ـ عليه السلام : اخبرني عن قول الله « او لم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما » (١) فما كان رتقهما؟ وبما كان فتقهما؟

فقال ابو عبد الله ـ عليه السلام : يا أبرش هو كما وصف نفسه ، وكان عرشه على الماء ، والماء على الهواء ، والهواء لا يحد ، ولم يكن يؤمئذ خلق غيرهما ، والماء يؤمئذ عذب فرات ، فلما اراد الله ان يخلق الارض امر الرياح فضربت الماء حتى صار موجاً ، ثم ازبد فصار زبداً واحداً ، فجمعهم في موضع البيت ، ثم جعله جبلاً من زبد ، ثم دحا الارض من تحته.

فقال الله تبارك وتعالى « ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً » (٢) ثم مكث الرب تبارك وتعالى ما شاء.

فلما اراد ان يخلق السماء امر الرياح فضربت البحور حتى ازبدت ، فخرج من ذلك الموج والزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار ، فخلق منه السماء ، وجعل فيها البروج والنجوم ، ومنازل الشمس والقمر واجراها في الفلك.

وكانت السماء خضراء على لون الماء الاخضر ، وكانت الارض غبراء على لون الماء العذب ، وكانا مرتوقتين ليس لهما ابواب ، ولم تكن للارض ابواب وهي النبت ، ولم تمطر السماء عليها ، فنبت ففتق السماء بالمطر ، وفتق الارض بالنبات ، وذلك قوله « أو لم ير الذين كفروا » الآية.

فقال الابرش : والله ما حدثني بمثل هذا الحديث احد قط ، اعد عليّ ، فأعاده عليه ، وكان الابرش ملحداً فقال : وانا اشهد انك ابن نبي ثلاث مرات (٣).

____________

(١) الانبياء : ٣٠.

(٢) آل عمران : ٩٦.

(٣) تفسير القمي : ٢ / ٦٩ ـ ٧٠.

١٣٦

ولا يذهب عليك ان قوله ـ عليه السلام ـ « ولم يكن يومئذ خلق غيرهما » اي : خلق من هذا العالم الجسماني ، يدل على ان العرش بمعنى الجسم المحيط لم يكن يومئذ مخلوقاً ، والا لكان الهواء محدوداً.

وقوله « والهواء لا يحد » ينفيه ، فالمراد بكونه على الماء ما اشرنا اليه سابقاً ، والله اعلم بالصواب ، والصلاة على رسوله وآله الاطياب.

* الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار. [ الآية : ٨ ]

حاصل معنى الآية الشريفة والله يعلم : « الله يعلم ما تحمل كل انثى » من ذكر وانثى ، وتام الخلق وناقصه ، وواحداً واثنين او اكثر.

« وما تغيض الارحام » اي : وما تنقص من تسعة اشهر في الحمل « وما تزداد » عليها ، فنقصان الارحام وضعها لاقل من تسعة اشهر ، وزيادتها وضعها لاكثر منها.

او المراد من النقصان السقط ، ومن الزيادة تمام الخلق ، واقل مدة الحمل ستة اشهر ، فقد يولد الولد لهذه المدة ويعيش.

« وكل شيء » في علمه بقدر معين لا يجاوزه ولا ينتقص عنه.

١٣٧
١٣٨

( سورة الرعد )

* الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب. [ الآية : ٢٨ ]

وذلك لان الذاكر في ذكره اذا توجه الى المذكور ، وهو الله تعالى ، غفل عن غيره ، فيذهل عن اسباب القلق والاضطرار ، ما يدهش الافئدة والالباب ، فعند ذلك يطمئن قلبه ويسكن.

واعلم ان للذكر درجات :

الاولى : ان يكون باللسان مع غفلة القلب.

الثانية : ان يكون بالقلب مع عدم استقراره فيه وعدم توجهه اليه إلا بتكلف واجتهاد.

الثالثة : أن يكون بالقلب مع إستقرار فيه ، بحيث لا يتوجه القلب الى غيره الا بالتكلف.

الرابعة : ان يكون بالقلب مع استقراره فيه واستيلائه عليه ، بحيث لا يشغل عنه اصلاً.

وانما يطمئن القلب بذكر الله اذا وقع على احد الوجوه الثلاثة الاخيرة على اختلاف مراتبها. وأما الاول ، فلا ، وان كان لا يخلو من فائدة ، فانه يمنع من التكلم بالباطل ، ويجعل اللسان معتادا بالخير.

فاللائق بحال الذاكر ان يحضر قلبه وان لم يحضره ، فاللائق به ان لا يتركه ، فان اللسان آلة الذكر كالقلب ، ولا يترك احدهما بترك الاخر ، فان لكل عضو عبادة ، وما لا يدرك كله لا يترك كله.

١٣٩
١٤٠