تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

بالمدينة؟ أجيب : بأنّ المراد بقولهم : السورة مكية أو مدنية أنّ غالبها ذلك والأولى أن يقال إنّ ذلك أكثري لا كلي وأن سورة البقرة والنساء والحجرات مدنيات باتفاق وقد قال تعالى في كل منها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وسورة الحج مكية سوى ما استثنى وفيها من غيره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا) [الحج ، ٧٧] ولا يختص ذلك الخطاب بالكفار ولا بأمرهم بالعبادة فإنّ المأمور به هو المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها ، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإيمان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع فإنّ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به ، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفع الكفر والاشتغال بالعبادة ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها. وإنما قال الله تعالى : (رَبَّكُمُ) تنبيها على أنّ الموجب للعبادة هي الربوبية ، وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي : أنشأكم ولم تكونوا شيئا صفة جرت عليه للتعظيم والتعليل ، ويحتمل التقييد إن خص الخطاب بالمشركين ، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أربابا والخلق : إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وأصله التقدير ، يقال : خلق النعل ، إذا قدّرها وسوّاها بالقياس. وقرأ أبو عمرو خلقكم بإدغام القاف في الكاف بخلف عنه (وَ) خلق (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهذا متناول لكل ما يتقدّم الإنسان بالذات أو الزمان كتقدّم الجزء على الكل والواحد على الاثنين ، وهو منصوب عطف على الضمير المنصوب في خلقكم كما علم من التقدير والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم ، إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف ، ٨٧] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزمر ، ٣٨] أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر. وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إما حال من الضمير في اعبدوا كأنه قال : اعبدوا ، ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى نبه به على أنّ التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبرّي من كل شيء سوى الله إلى الله وأنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء ، كما قال تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة ، ١٦] (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء ، ٥٧] ، وإمّا من مفعول خلقكم والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من ترجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه وغلب تعالى المخاطبين بقوله : (لَعَلَّكُمْ) على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعا ولعل في الأصل للترجي وفي كلامه تعالى للتحقيق ، والآية تدل على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته والعلم باستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله ، وأنّ العبد لا يستحق بعبادته عليه تعالى ثوابا فإنها لما وجبت عليه شكرا لما عدّده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل وقوله تعالى :

(الَّذِي جَعَلَ) أي : خلق (لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) أي : بساطا تفرش صفة ثانية ، أو منصوب بتقدير أمدح ، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف ، ومعنى جعلها فراشا أن جعل بعض جوانبها بارزا عن الماء مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط وذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأنّ كرية شكلها مع عظم حجمها واتساع جرمها لا تأبى الفراش عليها فليس في ذلك إلا أنّ الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفاريش ، وسواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة (وَ) جعل لكم (السَّماءَ بِناءً) أي : قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد وعلى المتعدد كالدينار

٤١

والدرهم وقيل : جمع سماءة. والبناء مصدر سمي به المبني بيتا كان أو قبة أو خباء ومنه : بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا. وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) معطوف على (جَعَلَ) والمراد بها ، إمّا السحاب فإنّ ما علاك سماء ، وإمّا الفلك فإنّ المطر يبتدىء إمّا من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض كما دلت عليه الظواهر من الآيات كقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) [لقمان ، ١٠] وقوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزمر ، ٢١] ، وعن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه فيسوقها الله حيث شاء ، وإما من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحابا ماطرا. (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ) أنواع (الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تأكلونه وتعلفون منه دوابكم وخروجها بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أبدع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو تعالى قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ ، ولكن له في إنشائها مرتقيا من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا وسكونا إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة.

تنبيه : (مِنَ) الأولى للابتداء و (مِنَ) الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) [فاطر ، ٢٧] لأنّ ثمرات جمع قلة منكر واكتناف المنكرين لها أعني ماء ورزقا كأنه تعالى قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهذا التبعيض هو الموافق للواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل بالمطر كل المرزوق ، ويصح أن تكون (مِنَ) الثانية للتبيين ورزقا مفعول وهو المبين بمعنى المرزوق كقول القائل : أنفقت من الدراهم ألفا ، فإن من الدراهم بيان لقوله عقبه ألفا.

فإن قيل : المحلّ محلّ جمع الكثرة فكيف أتى بجمع القلة؟ أجيب : بأنّ الجموع يتناوب بعضها موقع بعض كقوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) [الدخان ، ٢٥] وأوقع جمع القلة موقع جمع الكثرة بدليل ذكركم وكقوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة ، ٢٢٨] فأوقع جمع الكثرة موضع جمع القلة لأن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة أو لأنّ الثمرات لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلة (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي : شركاء في العبادة.

فإن قيل : لم سمى ما يعبده المشركون من دون الله أندادا مع أنهم ما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله؟ أجيب : بأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أنها تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم الله تعالى بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ندّ ولذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه (١) :

أربا واحدا أم ألف رب

أدين إذا تقسمت الأمور

أدين أي : أطيع ، من دان أي : انقاد ، إذا تقسمت أي : تفرّقت :

__________________

(١) الأبيات من الوافر ، وهي في الأغاني ٣ / ١١٨.

٤٢

تركت اللات والعزى جميعا

كذلك يفعل الرجل البصير

ألم تعلم بأن الله أفنى

رجالا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببرّ قوم

فيربو منهم الطفل الصغير

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير (فَلا تَجْعَلُوا) ومفعول تعلمون متروك ، أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجود الذات متعال عن مشابهة المخلوقات أو مقدّر وهو أنّ الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله ، كقوله تعالى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم ، ٤٠] وعلى كون (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حالا فالمقصود منه التوبيخ سواء أجعل مفعول تعلمون متروكا أو مقدرا وإن كان التوبيخ في الأوّل آكد كما صرّح به «الكشاف» لا تقييد الحكم وقصره وهو النهي عن جعلهم لله أندادا بحال علمهم فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف.

تنبيه : قال البيضاوي : واعلم أنّ مضمون الآيتين أي : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) و (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) إلى آخرهما هو الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به تعالى والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى. وبيانه : أنه تعالى رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعارا بأنها العلة لوجوبها ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معايشهم من المقلة والمظلة أي : الأرض والسماء والمطاعم والملابس فإن الثمرة أعمّ من المطعوم أي : فتعم الثمرات الملابس كالمطاعم والرزق أعمّ من المأكول والمشروب ثم لما كانت هذه أمورا لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته رتب عليها النهي عن الإشراك به. ولعله سبحانه وتعالى أراد من الآية الأخيرة مع ما دلّ عليه الظاهر وسيق فيه الكلام الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بوساطة استعمال العقل للحواس وازدواج أي : اقتران القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج أي : اقتران القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار فإنّ لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حدّ مطلعا. اه.

هذا روي عن الحسن مرفوعا مرسلا ، وظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم الظاهر ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها الخواص ، وقيل : ظاهرها تلاوتها ، وباطنها فهمها ، والحدّ أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على معرفتها.

ولما قرّر سبحانه وتعالى وحدانيته وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقبه ما هو الحجة على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن المعجز بفصاحته التي غلبت فصاحة كل بليغ مع كثرتهم وإفراطهم في المضادّة وتهالكهم على المغالبة بقوله تعالى :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي : شك (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد من القرآن أنه من عند الله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) وإنما قال تعالى : (مِمَّا نَزَّلْنا) لأنّ نزوله نجما فنجما بحسب الوقائع على ما يرى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان ، ٣٢] فكان الواجب تحدّيهم على هذا الوجه إزالة للشبهة وإلزاما للحجة ، فإن أهل الشعر والخطابة يأتون بأشعارهم وخطبهم على قدر الحاجة شيئا فشيئا

٤٣

ولما كان القرآن منزلا كذلك طعنوا فيه بأنه مثل كلامهم فقيل لهم : إن ارتبتم في نزوله منجما فأتوا بنجم منه لأنهم إذا عجزوا عن نجم منه فعجزهم عن كله أولى ، وأضاف العبد إلى نفسه تنويها بذكره وتنبيها على أنه مختص به منقاد لحكمه ، والسورة من القرآن الطائفة منه المترجمة التي لها أوّل وآخر أقلها ثلاث آيات. والحكمة في تقطيع القرآن سورا إفراد الأنواع وتلاحق الأشكال وتجاوب النظم وتنشيط القارىء وتسهيل الحفظ والترغيب فيه ، فإنّ القارىء إذا ختم سورة فرّج ذلك عنه بعض كربه ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى بريدا ، أو الحافظ إذا حفظ سورة اعتقد أنه أخذ من القرآن حظا تامّا وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غيرها من الفوائد ، وقوله تعالى : (مِنْ مِثْلِهِ) صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا ومن للتبعيض ، أو للتبيين ، وزائدة عند الأخفش ، أي : بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم ، وقيل : الضمير لعبدنا ، ومن للابتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله من كونه بشرا أميّا لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم ، والوجه الأول أولى لأنه المطابق لقوله تعالى في سورة يونس : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس ، ٣٨] ولسائر آيات التحدي ، ولأنّ الكلام في المنزل لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم إذ المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فأتوا بقرآن من مثله ولأنّ مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جنسهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أتى به عبدنا آخر مثله ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء ، ٨٨] ولأن عود الضمير إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ولا يلائمه قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) فإنه تعالى أمر أن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم سواء كان مثله أم لا والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة ، ومنه قيل للمقتول في سبيل الله : شهيد ، لأنه حضر ما كان يرجوه أو الملائكة حضروه ، ومعنى دون : أدنى مكان من الشيء ، ومنه تدوين الكتب لأنه أدنى البعض ، من البعض ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للرتب فقيل : عمرو دون زيد ، أي : في الشرف ، ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى آخر وتخطي أمر إلى آخر وإن خلى عن الرتبة قال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران ، ٢٨] أي : لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين ، ومن متعلقة بادعوا فهي لابتداء الغاية ، والمعنى : وادعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وادعوا آلهتكم التي تعبدونها غير الله وتزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة ، أي : استعينوا بهم في الإتيان بما ذكر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله من تلقاء نفسه ، وأن آلهتكم تشهد لكم بذلك ، وجواب هذا الشرط محذوف تقديره فافعلوا أي : ما ذكر من الإتيان بسورة دل عليه قوله تعالى :

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ذلك والصدق الإخبار المطابق وقيل : مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن

٤٤

دلالة أو إمارة لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون ، ١] لما لم يعتقدوا مطابقته ، ورد هذا القول بصرف التكذيب إلى قولهم : نشهد لأنّ الشهادة إخبار عما عمله وهم ما كانوا عالمين به ، وقوله تعالى : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) جملة معترضة أي : لا يقع منكم ذلك أبدا لإعجاز القرآن (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا) أي : ما تتقد به (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) التي نحتوها واتخذوها أربابا من دون الله طمعا في شفاعتها والانتفاع بها ويدل لذلك قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ، ٩٨] عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكانزون بما كنزوه أو حجارة الكبريت ، كما رواه الطبراني عن ابن مسعود ، والحاكم والبيهقي (١) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعليه أكثر المفسرين ، وإن قال البيضاوي : إنه تخصيص بغير دليل لأنّ مثل هذا التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم المرفوع وأيضا حجارة الكبريت أشدّ حرّا وأكثر التهابا وتزيد على غيرها من الأحجار سرعة الإيقاد ونتن الريح وكثرة الدخان وشدّة الالتصاق بالأبدان وقيل : جميع الحجارة.

تنبيه : تفعلوا مجزوم بلم لا بإن لأن لم واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول ، ولأنها لما صيرته ماضيا صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع وكأنه قال : فإن تركتم الفعل ولذلك ساغ اجتماعهما وحاصله أن إن تقتضي الاستقبال ولم تقتض المضيّ فرجحت لم لما ذكر فيكون المعنى على المضيّ دون الاستقبال وقيل : إنّ إن بمعنى إذ ولا إشكال حينئذ ، وقيل : كل منهما على حقيقته ، والمعنى إن تبيّن في المستقبل عدم فعلكم في الماضي ولن تفعلوا في المستقبل فاتقوا النار ، ولن كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف بسيط ثنائي الوضع ، وقيل : أصله لا إن حذفت الهمزة منها لكثرتها في الكلام ثم ألف لا لالتقاء الساكنين. ولما كانت الآية مدنية نزلت بعدما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم : (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم ، ٦] وسمعوه صح تعريف النار ووقوع الجملة صلة فإن الصلة يجب أن تكون معلومة وهي معلومة هنا من سورة التحريم حيث وقعت صفة.

فإن قيل : الصفة أيضا يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف كالصلة وإلا لكانت خبرا ولهذا قالوا : إن الصفات قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف فيأتي في الصفة في آية التحريم ما ذكر في الصلة أجيب : بأنّ الصلة والصفة يجب كونهما معلومين للمخاطب لا لكل سامع وما في التحريم خطاب للمؤمنين وقد علموا ذلك لسماعهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه نارا موصوفة بتلك الجملة فجعلت فيما خوطبوا به (أُعِدَّتْ) أي : هيئت (لِلْكافِرِينَ) وجعلت عدّة لعذابهم ، وفي ذلك دليل على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن ، والجملة استئناف أو حال من النار بإضمار قد ، والعامل في الحال اتقوا وهي حال لازمة فلا يشكل بأنّ النار أعدّت للكافرين اتقوها أم لا.

تنبيه : قال البيضاوي : في الآيتين أي : آية (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) وآية (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما يدل على النبوّة من وجوه : الأوّل : ما فيهما أي : في مجموعهما من التحدي والتحريض على الجدّ وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن العزيز ثم إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادّة لم

__________________

(١) انظر السنن الكبرى للبيهقي ٤ / ٨٢.

٤٥

يتصدّوا لمعارضته والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج لأنّ قوله من التحدي راجع للآية الأولى والباقي راجع إلى الثانية ، والثاني : تضمنهما أي : مجموعهما الإخبار عن الغيب على ما هو به فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر لأنّ ذلك راجع للآية الثانية ، والثالث : أنه عليه الصلاة والسّلام لو شك في أمره ـ أي : نفسه ـ لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتذهب حجته ، وهذا راجع إلى الآية الأولى. ثم عطف سبحانه وتعالى حال من آمن بالقرآن ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفية عقابه على عادة ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب تنشيطا لاكتساب ما ينجي وتثبيطا عن اقتراف ما يردي بقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : الطاعات (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) أي : حدائق ذات شجر ومساكن ، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عالم كل عصر ، أو كل أحد يقدر على البشارة أن يبشر الذين آمنوا ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنؤوا بما أعد لهم ، والبشارة : الخبر الصدق السار أوّلا فإنه يظهر أثر السرور في البشرة لأن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجرة ولذلك قال الفقهاء : البشارة هو الخبر الأوّل حتى لو قال الرجل لعبيده : من يبشرني بقدوم ولدي فهو حرّ فأخبروه فرادى عتق أوّلهم ولو قال : من أخبرني عتقوا جميعا.

فإن قيل : ما الجواب عن قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ؟) أجيب : بأنّ ذلك ورد على سبيل التهكم كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ، ٤٩] وعطف سبحانه وتعالى العمل على الإيمان مرتبا للحكم عليهما إشعارا بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين ، فإنّ الإيمان الذي هو عبارة عن التيقن والتصديق أس ، والعمل الصالح كالبناء عليه ، ولا نفع تام بأس لا بناء عليه ، ولذلك قلما ذكرا مفردين وفي عطف العمل على الإيمان دليل على أنّ الصالحات خارجة عن مسمى الإيمان إذ الأصل أنّ الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه ، وجمع سبحانه وتعالى الجنة لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عباس سبع : جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السّلام ، وعليّون ، وفي كل واحدة من هذه السبع مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال. واللام في الصالحات للجنس لا للاستغراق إذ لا يكاد المؤمن أن يعمل جميع الصالحات ، واللام في لهم تدل على استحقاقهم إياها لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح لا لذاته فإنه لا يكافىء النعم السابقة فضلا عن أن يقتضي ثوابا وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ولا على الإطلاق بل بشرط أن يستمرّ عليه حتى يموت وهو يؤمن لقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [البقرة ، ٢١٧] ولعله سبحانه وتعالى لم يقيدها هنا استغناء بهذه الآية وأشباهها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت أشجارها ومساكنها (الْأَنْهارُ) كما تراها جارية تحت الأشجار الثابتة على شواطئها ، وعن مسروق : أنهار الجنة تجري في غير أخدود ، قال الجوهري : الأخدود شق مستطيل في الأرض واللام في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري ، قال البيضاوي : أو للعهد والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى : (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد ، ١٥] الآية. اه.

قال التفتازاني : إنما يصح هذا لو ثبت سبق قوله تعالى : (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) في الذكر.

٤٦

اه. والنهر بالفتح والسكون : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات ، والمراد بالأنهار ماؤها على حذف مضاف أو تسمية للماء باسم مجراه مجازا وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة ، ٢] (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) أي : أطعموا من تلك الجنات ثمرة ، ومن صلة (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا) أي : أطعمنا (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل هذا في الدنيا جعل الله تعالى ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أوّل ما يرى فإنّ الطبائع مائلة إلى المألوف مستنفرة من غيره أي : هذا من نوعه لتشابه ما يؤتون به في الصورة كما قال تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) أي : في اللون والصورة مختلفا في الطعم وذلك أبلغ في باب الإعجاز ، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وافتخارهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة ، وقيل : في الجنة لأن طعامها متشابه الصورة كما حكي عن الحسن أنّ أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل كل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فتقول الملائكة : كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روي أنه عليه الصلاة والسّلام قال : «والذي نفس محمد بيده إنّ الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها» (١) وعن مسروق : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى والعنقود إثنا عشر ذراعا.

فإن قيل : على الأوّل التشابه هو التماثل في الصفة وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس : ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. أجيب : بأن التشابه ، بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم وهو كاف في إطلاق التشابه ، وللآية كما قال البيضاوي محمل آخر وهو أنّ مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها فيحتمل أن يكون المراد من هذا الذي رزقنا أنه ثوابه ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والرتبة وعلوّ الطبقة ، فيكون هذا في الوعد نظير قوله تعالى : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت ، ٥٥] في الوعيد (وَلَهُمْ فِيها) أي : الجنات (أَزْواجٌ) من الحور العين والآدميات (مُطَهَّرَةٌ) مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهنّ كالحيض والدرن أي : الوسخ ودنس الطبع وسوء الخلق فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال ومعنى تطهيرهنّ مما ذكر كما قال التفتازاني : إنها منزهة عن ذلك مبرأة عنه بحيث لا يعرض لهنّ لا التطهر الشرعي بمعنى إزالة النجس الحسي أو الحكمي ، كما في الغسل عن الحيض والزوج يقال : للذكر والأنثى ، قال تعالى : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ،) وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف.

فإن قيل : فائدة المطعوم هو التقوي ودفع ضرر الجوع وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع وهذه الفوائد مستغنى عنها في الجنة. أجيب : بأن مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) أي : دائمون أحياء ، لا يموتون ولا يخرجون ، والأصل في الخلود الثبات المديد دام أو لم يدم إذ لو كان وضعه للدوام لكان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الأحزاب :

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٥٣٩ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٤١٦ ، ٤١٧.

٤٧

٦٥] تأكيدا لا تأسيسا والأصل خلافه لكن المراد به الدوام في الآية عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.

فإن قيل : الأبدان مركبة من أجزاء متضادّة الكيفية معرضة للاستحالات المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنات؟ أجيب : بأنه تعالى يعيدها بحيث لا تعتريها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلا متقاومة في الكيفية متساوية في القوّة لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن ، ولما كان معظم اللذات الحسية مقصورا على المساكن والمطاعم والمناكح على ما دلّ عليه الاستقراء وكان مآل ذلك كله الثبات والدوام وأنّ كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم بشر المؤمنين بالمساكن والمطاعم والمناكح فبشر بالأوّل بقوله تعالى : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وبالثاني بقوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) الآية وبالثالث بقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) ومثل ما أعدّ لهم في الآخرة بأحسن ما يستلذ منها ، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور. ولما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ) [الحج ، ٧٣] وقوله تعالى : (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) [العنكبوت ، ٤١] قالت اليهود : ضرب المثل بذلك مما يستحيا منه لخسته فليس من عند الله تعالى فنزل ردّا عليهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢))

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أي : لا يترك (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) وهي صغيرة البق ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذف من عند سيبويه ، ويجوز كما في «الكشاف» نصبه بإفضاء الفعل إليه بنفسه فإن استحيا يتعدّى بنفسه أيضا ، يقال : استحييت منه واستحييته ، وما إمّا إبهامية تزيد النكرة قبلها إبهاما وإمّا مزيدة لتأكيد معنى مضمون الجملة قبلها كالتي في قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران ، ١٥٩] ولا يراد بالمزيد اللغو الضائع فإن القرآن كله هدى وبيان بل المراد بالمزيد ما لم يوضع لمعنى يراد منه وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيده وثاقة وقوّة وهو زيادة في الهدى غير قادح في القرآن ، وبعوضة عطف بيان أو بدل من مثلا أو مفعول ثان ليضرب بمعنى يجعل. والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها وبين الخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا فإذا وصف به الباري

٤٨

سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث «إنّ الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه» (١) «إنّ الله حييّ كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردّهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» (٢) فالمراد به الترك كما قدّرته اللازم للانقباض كما أنّ المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيء الحياء فيها للمشاكلة وهو أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته ولو تقديرا كما هنا وهو قول الكفرة : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت. ولما كان التمثيل ويصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإنّ المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم لأنّ من طبعه ميل الحس وحب المحاكاة شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كما مثل سبحانه وتعالى في الإنجيل غلّ الصدر بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة ومخالطة السفهاء بإثارة الزنابير ونصه على ما حكاه الفخر الرازي في الأوّل : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم. وفي الثاني : قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الريح. وفي الثالث : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخالطوا السفهاء فيشتموكم ، وجاء في كلام العرب : «اسمع من قراد» لأنّ العرب تزعم أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرّك لها ، وقيل : من مسيرة سبع ليال «وأعز من مخ البعوض» يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة (فَما فَوْقَها) أي : ما زاد على البعوضة في الجثة كالذباب والعنكبوت ، والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلا عما هو أكبر منه ، أو المعنى الذي جعلت فيه مثلا وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسّلام ضرب جناحها مثلا للدنيا بقوله في خبر الترمذي : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» (٣) ونظيره في احتمال الفوقية للجثة وللمعنى ما روى البخاري وغيره : أنّ رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» (٤) فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في الألم كالسقوط على الطنب وما زاد عليها في القلة كقرصة النملة ، والطنب حبل الخباء ، والفسطاط بيت من شعر. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي : ضرب المثل بذلك (الْحَقُ) أي : الواقع موقعه (مِنْ رَبِّهِمْ) لأن الحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. وهو يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم : حق إذا ثبت ومنه ثوب محقق ، أي : محكم النسج ، وأمّا حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء ، قال سيبويه : أمّا زيد فذاهب معناه مهما يكن من شيء فزيد

__________________

(١) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٤٤ ،

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٤٨٨ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٥٥٦ ، وابن ماجه في الدعاء حديث ٣٨٦٥.

(٣) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٢٠ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١١٠.

(٤) أخرجه مسلم في البر والصلة حديث ٢٥٧٢.

٤٩

ذاهب أي : هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لا الخبر لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الفاء على الخبر وعوضوا المبتدأ عن جملة الشرط لفظا (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا) يحتمل وجهين : أن تكون ما استفهامية وذا بمعنى الذي وما بعده صلته والمجموع خبر ما ، وأن تكون ما مع ذا اسما واحدا بمعنى أيّ شيء (أَرادَ اللهُ بِهذا) فهو منصوب المحل على المفعولية لأراد فما وذا كما في «الكشاف» في حكم ما وحده لو قلت ما أراد الله وكان من حقه ، وأمّا الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه وهو الذين آمنوا ويقابل قسيمه وهو يعلمون أنه الحق ، لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية عن عدم علمهم ليكون كالبرهان عليه والإرادة صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم ترجح أحد مقدوريه على الآخر وتخصصه بوجه دون وجه بخلاف القدرة فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقا وقوله تعالى : (مَثَلاً) نصب على الحال من اسم الإشارة والعامل فيه اسم الإشارة أو التمييز والمعنى أي فائدة في ذلك فقال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) بأن يكذبوا به (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) بأن يصدقوا به وكثرة كل واحد من القبيلين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس أي : لا بالنظر إلى مقابليهم فإنّ المهتدين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ ، ١٣] ويحتمل أن تكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف كما قال المتنبي في مدح علي بن يسار (١) :

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهم من طول ما التثموا مرد

ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا

قليل إذا عدّوا كثيرا إذا شدوا

وقال : إن الكرام كثير (أي : كرما) في البلاد وإن قلوا (أي : عددا) ، كما غيرهم (قل بضم القاف وكسرها أي : قليل كرما) وإن كثروا. أي : عددا (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن حدّ الإيمان بالكفر كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة ، ٦٧] وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال بالمثل وسبب ضلالتهم به أن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت به ضلالتهم فأنكروا المثل واستهزؤوا به ، وأمّا الفاسق في الشرع فهو الخارج عن أمر الله بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ولم تغلب طاعاته على معاصيه ولا يخرجه ذلك عن الإيمان إلا إذا اعتقد حل المعصية سواء أكانت كبيرة أم صغيرة قال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات ، ٩] والمعتزلة جعلوا الفاسق قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض الأحكام.

ثم بين سبحانه وتعالى صفة الفاسقين بقوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) وهو إمّا المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسله وعليه يدلّ قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الأعراف ، ١٧٢] وإمّا المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان المتنبي ١ / ٢٤٢ (طبعة دار الكتب العلمية).

٥٠

ولم يخالفوا حكمه وعليه يدل قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [آل عمران ، ١٨٧] الآية وقيل : عهود الله ثلاثة : عهد أخذه بواسطة العقل على جميع ذرّية آدم بأن يقروا بربوبيته ، وعهد أخذه بواسطة الملك على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه ، وعهد أخذه بواسطة الرسل على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه ، وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي : توكيده ، يحتمل عود الضمير للعهد فهو من إضافة المصدر إلى المفعول أو لله فهو من إضافة المصدر إلى الفاعل ، قال البيضاويّ : ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر واعترض بأنّ النحويين لم يذكروا مفعالا في صيغ المصادر ، وأصله أن يكون وصفا كمطعام ومسقام. وأجيب : بحمل ذلك على أنه اسم واقع موقع المصدر كما يشير إليه قوله بمعنى المصدر : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) وهو الرحم لأنهم قطعوا رحم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعاداة معه ، ويحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطع الرحم والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام والكتب في التصديق وترك الجماعات وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو القول الطالب للفعل ، وقيل : مع العلوّ ، وقيل : مع الاستعلاء ، وأن يوصل بدل من الهاء ، وقرأ ورش بتغليظ اللام وصلا وإذا وقف رقق وغلظ وأدغم خلف النون في الياء بغير غنة (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) بفوات التوبة والمصير إلى العقوبة بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها ، واشتروا النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاة ، والعقاب بالثواب. ثم وبخ سبحانه وتعالى الكفار بقوله :

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) أي : أخبروني على أي حال تكفرون (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أي : نطفا في أصلاب آبائكم لا إحساس لكم (فَأَحْياكُمْ) في الأرحام ثم في الدنيا بخلق الأرواح ونفخها فيكم وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي ، وقرأ الكسائي بالإمالة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للبعث يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور.

قال التفتازاني : ولم لا يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة على ما يعم الإحياء في القبور والنشور ، ولا بعد فيه لشدّة ارتباط الإحياءين واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تردّون بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه.

فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون أجيب : بأن تمكنهم من العلم بما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما في الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا قدر على أن يحييهم ثانيا فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.

فإن قيل : كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ أجيب : بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [العنكبوت ، ٦٤] يعني :

٥١

الحياة ، كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالا ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتا أي : جهالا فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيوانا مجازا في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث إنه كمالها وغايتها والموت بإزائها ، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) [الجاثية ، ٢٦] ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد ، ١٧] ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام ، ١٢٢] وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى ، ثم أومأ إلى مشيئته وقدرته فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي : لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط كالأدوية المركبة ، أو غير وسط كالثمرة والأدوية المفردة ، وفي دينكم بالاستدلال على موجدكم ففي ذلك نعمة على عباده سبحانه وتعالى وما نعم كل ما في الأرض لا الأرض إلا إن أريد بالأرض جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو وقوله تعالى : (جَمِيعاً) حال من الموصول الثاني وهو ما وهي حال مؤكدة لما لاتحادهما في العموم وهذا أقرب من جعله حالا من ضمير لكم لأنّ سياق الآيات إنما هو في تعداد النعم لا في تعداد المنعم عليهم ؛ ولأنّ المنة بتعداد النعم أظهر من المنة بتعداد المنعم عليهم لأنّ مقدار النعم يصل إلى كل أحد (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : قصد إلى خلقها بإرادته ، وأصل الاستواء طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ولا يمكن حمله على الله تعالى لأنه من خوّاص الأجسام وقيل : استوى استولى كما قيل (١) :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية أو جهات العلو ليطابق قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) فجمع الضمير العائد إلى السماء لإرادة الجنس ، وقيل : لأنّ السماء جمع سماءة أي : جعلهنّ مستويات لا شقوق فيهنّ ولا تفاوت ، قال البيضاويّ : وثم لعله لتفاوت ما بين الخلقين أي :

__________________

(١) الرجز للأخطل في تاج العروس (سوا) ، وليس في ديوانه وبلا نسبة في لسان العرب (سوا) ، ورصف المباني ص ٣٧٢.

٥٢

في القدر والعظم وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد ، ١٧] لا للتراخي في الوقت فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات ، ٣٠] فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدّم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها. اه ، وأجيب : بأنه لا يدل على ذلك لأن تقدّم خلق جرم الأرض على خلق جرم السماء لا ينافي تأخر دحوها عنه وهو بسطها ، وردّه التفتازانيّ بأنه ليس على ما ينبغي لأن ثم تدل على تأخر خلق السماء عن خلق ما في الأرض من عجائب الصنع حتى أسباب اللذات والآلام وأنواع الحيوانات حتى الهوام لا عن مجرّد خلق جرم الأرض قال : وسنذكر في حم السجدة ما يدل على تأخر خلق السماء عن خلق الأرض ودحوها جميعا حتى قيل : إنه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء وما فيها في يومين وكثر ذلك في الروايات فلا يفيد حمل ثم على تراخي الرتبة ، اه.

والأوجه كما قاله بعض المفسرين الموافق لظاهر ما هنا وما سيأتي في فصلت تأويله مع الإيضاح أن يقال : إنّ خلق جرم الأرض مقدّم على خلق جرم السماء ، وخلق وصفها ـ أعني : دحوها ـ مقدّم على خلق وصف السماء أعني تسويتها سبعا ، فمرجع الإشارة في قوله تعالى بعد ذلك جرم السماء لا وصفها وبذلك علم أن جعل ثم للتراخي في الوقت لا يخالف ما ذكر خلافا لما زعمه البيضاويّ.

فإن قيل : أليس أنّ أصحاب الأرصاد أثبتوا بالبراهين تسعة أفلاك وهي كرة القمر ، فكرة عطارد ، فكرة الزهرة ، فكرة الشمس ، فكرة المريخ ، فكرة المشتري ، فكرة زحل ، فالفلك الذي فيه الكواكب الثابتة ، فالفلك الأعظم وهو متحرّك كل يوم وليلة على التقرب دورة واحدة؟ أجيب : بأنّ ما ذكروه ليس مستندا إلى دليل شرعي فلا ينبغي اعتباره. قال البيضاويّ : وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضمّ إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف وقوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي : مجملا ومفصلا فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالما بكيفية الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليما فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصوّر إلا من عالم حكيم رحيم أفلا تعتبرون أنّ القادر على خلق ذلك ابتداء وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم. وقرأ حمزة والكسائي ثم استوى وفسوّاهنّ بالإمالة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح ، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ وهو بسكون الهاء ، والباقون بضمها ، (وَ) اذكر يا محمد (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) وقيل : إذ زائدة أي : وقال ربك : وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وهو إلا إما يقدّر اذكر وهو الأولى أو تكون إذ مزيدة وإذ وإذا ظرفا توقيت إلا أنّ إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر ، قال المبرد : إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضيا كقوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ) [الأنفال ، ٣٠] يعني : وإذ مكروا ، وإذا جاء إذا مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) [النصر ، ١] أي : سيجيء ، وقرأ أبو عمرو بإدغام اللام في الراء بخلاف عنه ، والباقون بالإظهار ، والملائكة جمع ملك أصله ملاك والتاء لتأنيث الجمع وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة لأنهم وسايط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسل الله أو كالرسل إليهم لتوسط الأنبياء بينهم وبين الناس واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها فذهب أكثر المسلمين إلى

٥٣

أنها أجسام لطيفة شفافة ويعبرون عنها بنورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة والجنّ قادرة على ذلك واستدلوا على ذلك بأنّ الرسل كانوا يرونهم أجساما لطيفة متشكلة بأشكال مختلفة وزعم الحكماء ـ يعني الفلاسفة ـ أنهم جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة أي : المتصفة بفضائل العلم والعمل ، بخلاف الشرّيرة فإنها عندهم : الشياطين البشرية الناطقة. قوله : البشرية وما بعده صفة للنفوس المفارقة للأبدان يعني : ما دامت في الأبدان تسمى النفوس ، فإذا فارقتها كانت الملائكة ، والمقول له الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل : ملائكة الأرض وذلك أنّ الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجنّ فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجنّ في الأرض فمكثوا فيها دهرا طويلا ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا فيها فبعث الله تعالى إليهم جندا من الملائكة يقال له : الجنّ وهم خزان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم ومن أشدّهم وأكثرهم علما فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجنّ إلى شعوب الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم العبادة وأعطى الله تعالى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال : ما أعطاني الله تعالى هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله تعالى له ولجنده : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وجاعل من جعل الذي له مفعولان وهما في الأرض خليفة أعمل فيهما لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه ويجوز أن يكون بمعنى خالق فيتعدّى لمفعول واحد وهو خليفة والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه ، أي : جاعله بدلا منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة ، والهاء فيه للمبالغة والمراد به لآدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذا كل نبيّ استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبىء ملكا كما قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام ، ٩] أي : في صورة رجل ألا ترى أنّ الأنبياء لما فاقت قوّتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان من الأنبياء أعلى رتبة كلمه بلا واسطة كما كلم موسى صلاة الله وسلامه عليه في الميقات ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج. وقيل : إنه خليفة من سكن الأرض قبله ، وقيل : المراد آدم وذرّيته لأنهم يخلفون من قبلهم أو يخلف بعضهم بعضا وإفراد اللفظ إمّا للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه أو على تأويل من يخلف ، وفائدة قوله هذا للملائكة تعليم المشاورة وتعظيم شأن المجعول بأن بشر تعالى بوجود سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير إلى غير ذلك (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) بالمعاصي (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي : يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان تعجبوا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد وقصدهم استكشاف ما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها وليس باعتراض على الله تعالى ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء ، ٢٦] وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى أو تلق من اللوح أو استنباط عما ركز في عقولهم أنّ

٥٤

العصمة من خواصهم أو قياس لأحد الثقلين على الآخر وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) متلبسين (بِحَمْدِكَ) أي : نقول سبحان الله وبحمده وهذه صلاة ما عدا الآدميين وعليها يرزقون قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء ، ٤٤] أي : يقول : سبحان الله وبحمده.

روي عن أبي ذرّ : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أيّ الكلام أفضل؟ قال : ما اصطفى الله ملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده» (١) وقيل : ونحن نصلي بأمرك ، قال ابن عباس : كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة (وَنُقَدِّسُ لَكَ) ننزهك عما لا يليق بك ، فاللام صلة والجملة حال مقرّرة لجهة الإشكال كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج ، والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف لا العجب والتفاخر ، وقيل : نقدّس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهر النفس عن الآثام (قالَ) تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من المصلحة في استخلاف آدم وأنّ ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم ، وقيل : إني أعلم أنّ فيكم من يعصيني وهو إبليس وجنوده ، وقيل : إني أعلم أنهم مذنبون وأنا أغفر لهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الباء ، والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) أي أسماء المسميات (كُلَّها) حتى القصعة والمغرفة ، وقيل : علمه اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وقيل : صيغة كل شيء. قال أهل التأويل : إنّ الله عزوجل علم آدم جميع اللغات ثم كل واحد من أولاده بلغة فتفرّقوا في البلدان واختص كل فرقة منهم بلغة وذلك إمّا بخلق علم ضروري بها فيه أو ألقى في قلبه علمها أو بإرسال ملك أو بخطاب الله له أو بخلق الأصوات في الأجسام المسميات ، والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبا ، ولذلك يقال : علمته فلم يتعلم. وآدم اسم أعجمي كسائر الأنبياء إلا صالحا وشعيبا ولوطا ومحمدا بل قيل : إنّ آدم أيضا عربي وعلى هذا فاشتقاقه من الأدمة بضم الهمزة وسكون الدال بمعنى السمرة ، أو الأدمة بفتح الهمزة والدال بمعنى الأسوة أي : القدوة أو من أديم الأرض أي : ظاهر وجهها.

روى الحاكم وصححه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها» (٢) ـ وهو بفتح الحاء المهملة ما غلظ من الأرض وصلب أي : وعجنت بالمياه المختلفة ـ فخلق منها آدم ونفخ فيه الروح فصار حيوانا حساسا بعد أن كان جمادا فلذلك يأتي بنوه مختلفين في الألوان والأخلاق والهيئات ، وأمّا على الأوّل فلا اشتقاق له لأنّ ذلك إنما يأتي في الأسماء العربية والأعجمي لا اشتقاق له ، وكنيته أبو محمد وأبو البشر والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباعدة مستعدّا لإدراك أنواع المدركات والمعقولات والمحسوسات والمخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها. وقرأ ورش في الهمزة من آدم بالمدّ والتوسط والقصر حيث جاء ، وقوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمنا في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) إذ التقدير أسماء المسميات كما مرّ تقريره فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه

__________________

(١) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٧٣١ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٥٩٣.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٥٥

وعوض عنه اللام في الأسماء كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم ، ٤] لأنّ العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأسماء إذ العرض لا يصح فيها لأنها من المسموعات والعرض يختص بالمحسوسات بالعين تقول : عرضت الجند عرض العين إذا مررتهم عليك ونظرت ما حالهم.

فإن قيل : لم قال عرضهم ولم يقل عرضها؟ أجيب : بأنّ الأسماء إذا جمعت جمع من يعقل ومن لا يعقل يكنى عنها بلفظ من يعقل كما يكنى عن الذكور والإناث بلفظ الذكور ، وقال مقاتل : خلق الله كل شيء الحيوان والجماد ثم عرض تلك الشخوص على الملائكة ، والكناية راجعة إلى الشخوص فلذلك قال : (عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ) لهم سبحانه وتعالى تبكيتا لهم وتنبيها على عجزهم عن أمر الخلافة (أَنْبِئُونِي) أي : أخبروني (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) المسميات (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أفضل وأعلم منه وذلك أنّ الملائكة قالوا لما قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالعلم ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله.

(قالُوا) أي : الملائكة إقرارا بالعجز وإشعارا بأنّ سؤالهم كان استفسارا ولم يكن اعتراضا وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه وإظهارا لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما التبس عليهم (سُبْحانَكَ) تنزيها عن الاعتراض عليك (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) إياه وفي هذا مراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه سبحانه وتعالى وتصدير الكلام بسبحان اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال فإنه تعالى منزه عن أن يفعل ما يخرج عن الحكمة ، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه الصلاة والسّلام : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف ، ١٤٣] وقال يونس عليه الصلاة والسّلام : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ، ٨٧].

تنبيه : اجتمع في قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أربع مدّات ، الأولى : أنبئوني ، والثانية بأسماء ، والثالثة والرابعة هؤلاء إن ، فالأول مدّ بدل ، والثاني مدّ متصل ، والثالث مدّ منفصل ، والرابع مخير لا متصل قطعا ولا منفصل قطعا عند من يقول بإسقاط إحدى الهمزتين ، فأمّا الأوّل فلورش فيه المدّ والتوسط والقصر ، وأمّا الثاني فبالمدّ للجميع لأنه متصل ، وأمّا الثالث ففيه المدّ والقصر كما تقدّم لأنه منفصل ، وأمّا الرابع وهو أولاء إن ففيه همزتان مكسورتان من كلمتين فقالون والبزي يسهلان الأولى مع المدّ والقصر ، وورش وقنبل يسهلان الثانية ويجعلانها حرف مدّ ، وأبو عمرو يسقط الأولى والثانية فمن قال بإسقاط الأولى مدّ وقصر ، ومن قال بإسقاط الثانية فبالمدّ فقط ، وباقي القرّاء يحققون الهمزتين وهم على مراتبهم في المدّ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) الذي لا يخفى عليه خافية (الْحَكِيمُ) المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة ، وأنت ضمير فصل ، وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت وإن لم يجز مررت بأنت إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع ، وقيل : مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ

٥٦

الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١))

(قالَ) تعالى : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) أي : أخبر الملائكة (بِأَسْمائِهِمْ) أي : المسميات فسمى آدم كل شيء باسمه وذكر الحكمة التي لأجلها خلق (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ) الله تعالى لهم موبخا (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيها (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي تظهرون من قولكم : (أَتَجْعَلُ فِيها) إلخ : (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي : تسرون من قولكم : لن يخلق أكرم عليه منا ولا أعلم ، وقيل : ما أظهروا من الطاعة وأسره إبليس من المعصية ، والهمزة في (أَلَمْ أَقُلْ) للإنكار بمعنى النفي دخلت على حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير.

تنبيه : هذه الآيات وهي آية (وَعَلَّمَ آدَمَ) وآية (سُبْحانَكَ) وآية (قالَ يا آدَمُ) تدل على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة وإلا لأظهر فضل آدم بها ، وأن العلم بما يستخلف فيه شرط في الخلافة بل العمدة فيها ، وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به وأنّ اللغات توقيفية ، فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبينا له معانيها وذلك يستدعي سابقة وضع ، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم من الملائكة والجنّ فيكون من الله وأنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لتغاير المتعاطفين وإلا لتكرر قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ،) وأنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة وأنّ آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر ، ٩] وأن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلا كما ذهب إليه أهل السنة وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها لأنه أخبر عن علمه تعالى بأسماء المسميات جميعها ولم تكن موجودة قبل الإخبار.

(وَ) اذكر (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) لما أنبأهم بالأسماء وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له واعترافا بفضله وأداء لحقه واعتذارا عما قالوا فيه أو أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر ، ٢٩] [ص ، ٧٢] امتحانا لهم وإظهارا لفضله ، وقضية الأوّل تأخير الأمر به عن تسوية خلقه بدليل تأخيره عن إنبائهم وتعليمهم المستلزمين لتسوية خلقه ، وعلى الثاني اقتصر بعض المفسرين وهو الظاهر ، وأجيب عن دليل الأوّل بأنّ الواو في قوله : وإذ قلنا لا تقتضي الترتيب والسجود في الأصل تذلل مع تطامن وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة ، والمأمور به إمّا المعنى الشرعي فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيما لشأنه أو سببا لوجوبه كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة والصلاة لله فمعنى اسجدوا له أي : إليه وكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون أنموذجا أي : مثالا للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ومجمعا لما في العالم الروحاني والجثماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدّر لهم من الكمالات ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من

٥٧

المراتب والدرجات أمرهم بالسجود تذللا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته ، وأما المعنى اللغويّ وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف ، ١٠٠] ولم يكن فيه وضع الجبهة بالأرض إنما كان الانحناء فلما جاء الإسلام بطل ذلك بالسلام والكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلهم أو طائفة منهم مثل ما مرّ (فَسَجَدُوا) أي : الملائكة (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) أي : امتنع عما أمر به استكبارا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه أو يعظمه أو يتلقاه بالتحية أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه ، وقال : أنا خير منه ، والإباء امتناع واختيار ، والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره ، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع وهو التزين بأكبر مما عنده يتكبر بذلك ويتزين بالباطل (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي : في علم الله أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله تعالى : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جوابا لقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) [ص ، ٧٥] لا بترك الواجب وهو السجود وحده ، والآية تدل على أنّ آدم أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له وأنّ إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولم يصح استثناؤه منهم ولا يرد على ذلك قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف ، ٥٠] لجواز أن يقال : كان من الجنّ فعلا ومن الملائكة نوعا.

فإن قيل : له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب : بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعا يتوالدون يقال لهم : الجن ومنهم إبليس ، وقيل : إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنيا نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف ، ٥٠] وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور ، قال البغوي : والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) أي : من الملائكة الذين هم خزنة الجنة ، وقال سعيد بن جبير : من الذين يعملون في الجنة ، وقال قوم : من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي الجنة وقيل : إنّ الجنّ أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضا أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضا والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال : فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس.

تنبيه : من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمنا.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي : اتخذ الجنة مسكنا لتستقر فيها لأنها استقرار ولبث ولفظة أنت تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه وإنما لم يخاطبهما أوّلا بأن يقول اسكنا تنبيها على أنه المقصود بالحكم وهو الأمر بالسكنى التي هي الأصل بالنسبة إلى ما عطف عليها من الأكل وغيره والمعطوف عليه تبع له حتى في الوجود إذ لم يكن له من يؤنسه في الجنة فخلقت حوّاء

٥٨

 ـ بالمدّ ـ من ضلعه الأقصر من جانبه الأيسر وهو نائم فلما استيقظ من نومه رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله فقال : من أنت؟ قالت : زوجتك خلقني الله لك أسكن إليك وتسكن إليّ. وسميت حوّاء لأنها خلقت من حيّ خلقها الله من غير أن يحس بها آدم ولا وجد لخلقها ألما ولو وجد له ألما لما عطف رجل على امرأة قط ، وإنما صح العطف على المستكن مع أنّ المعطوف لا يباشر فعل الأمر لأنه وقع تابعا ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، والجنة دار الثواب لأنّ اللام للعهد ولا معهود غيرها ، ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال : إنّ الجنة بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحانا لآدم وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً) [البقرة ، ٦١] (وَكُلا مِنْها) أكلا (رَغَداً) أي : واسعا لذيذا لا حجر فيه فرغدا صفة مصدر محذوف وقيل : مصدر في موضع الحال (حَيْثُ) أي : أي مكان من الجنة (شِئْتُما) وسع الأمر عليهما إزالة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا تنحصر. وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الشين بخلاف عنه وأبدل السوسي الهمزة وقفا ووصلا وحمزة في الوقف فقط (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) بالأكل منها وهي شجرة الحنطة أو الكافور أو شجرة العنب والتين شجرة من أكل منها أحدث والأولى كما قال البيضاوي : أن لا تعين من غير دليل قاطع أو ظاهر كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود على التعيين (فَتَكُونا) أي : فتصيرا (مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : العاصين.

تنبيه : في هذه الآية مبالغتان : الأولى : تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ووجوب الاجتناب عنه وتنبيها على أن القرب من الشيء يورث داعية وميلا يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع كما روى أبو داود : «حبك الشيء يعمي» (١) ويصم أي : يخفى عليك معانيه ويصم أذنيك عن سماع مساويه فينبغي أن لا يحول ما حول ما حرّم عليهما مخافة أن يقعا فيه.

الثانية : جعل قربانهما إلى الشجرة سببا لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي. (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) أي : إبليس سمي به لبعده عن الخير والرحمة وقرأ حمزة بألف بعد الزاي وتخفيف اللام أي : نحاهما والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد اللام أي : أذهبهما (عَنْها) أي : الجنة وإزلاله قوله : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته إياهما بقوله : إني لكما لمن الناصحين واختلف في أنه تمثّل لهما فقال لهما ذلك أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة وكيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له : اخرج منها فإنك رجيم فقيل : إنه منع من الدخول بعد خروجه. الأول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ولم يمنع أن يدخل لوسوسة ابتلاء لآدم وحواء فلما دخل وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا له : ما يبكيك؟ فقال : أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة ، وكان آدم لما رأى ما في الجنة من النعيم قال : لو أن خلدا فاغتنم الشيطان ذلك منه فأتاه الشيطان من قبل الخلد فوقع قوله في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال : يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد؟ فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين فاغترّا وما ظنّا أن أحدا

__________________

(١) أخرجه أبو داود حديث ٥١٣٠ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٩٤ ، ٦ / ٤٥٠.

٥٩

يحلف بالله كاذبا فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت حواء آدم حتى أكلها وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر فأدّته إليه فأكل وقيل : قام عند الباب فناداهما وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة وقيل : دخل في فم الحية حتى دخلت به وكانت صديقا لإبليس وكانت من أحسن الدواب ، لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزان الجنة فسألها إبليس أن تدخله الجنة في فمها فأدخلته ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة وقيل : أرسل بعض أتباعه فأزلهما والعلم في ذلك كما قال البيضاوي عند الله (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من الكرامة والنعيم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قال الله تعالى لآدم : أليس فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال : بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا ، فاهبطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغدا فعلم من صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم درسه ثم ذرّاه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله.

قال إبراهيم بن أدهم : أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنّ آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال الله عزوجل : يا آدم ما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رب زينته لي حوّاء ، قال : فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها ودميتها في الشهر مرتين ، فرنت حوّاء عند ذلك ، فقيل : عليك الرنة وعلى بناتك فلما أكلا منها سقطت عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأخرجا من الجنة فذلك قوله تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) خطاب لآدم وحوّاء لقوله تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) [طه ، ١٢٣] وجمع الضمير لأنهما أصل الإنس فكأنهما الإنس كلهم أو هما وإبليس أخرج منها ثانيا بعدما كان يدخلها للوسوسة أو دخلها مسارقة أو من السماء لا من الباب على الخلاف المتقدّم ، وقيل : هما وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب بأرض الهند على جبل يقال له : نود وحوّاء بجدّة وإبليس بالإبلة وقيل : ببيسان بالبصرة على أميال والحية بأصبهان ، وقوله تعالى : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) حال استغنى فيها عن الواو بالضمير والمعنى متعادين ، فإن كان الخطاب لآدم وحوّاء فقط فالمراد ببعضكم : بعض الذرّية أي : بعض ذرّيتكم لبعض عدوّ من ظلم بعضهم بعضا ، وإن كان الخطاب لهما ولإبليس والحية فالمراد العداوة بين المؤمنين من ذرّية آدم والحية وبين إبليس ، قال الله عزوجل : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف ، ٢٢] ، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال : من تركهنّ خشية أو مخافة تأثر فليس منا ، وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ ، وروي أنه نهى عن ذوات البيوت.

وروي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ بالمدينة جنا قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» (١)(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي : موضع قرار (وَمَتاعٌ) ما تتمتعون به من نباتها (إِلى حِينٍ) أي : وقت انقضاء آجالكم. (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي : استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها وهي (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف ، ٢٣] الآية ، وقيل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك لا إله إلا أنت

__________________

(١) أخرجه مسلم في السّلام حديث ٢٢٣٦ ، وأبو داود في الأدب حديث ٥٢٥٧.

٦٠