تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

(وَلا تَخافُونَ) أنتم (أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) وهو تعالى حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع مع الصانع وتسوية بين المقدور العاجز والقادر الضارّ النافع (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) أي : بعبادته (عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي : حجة وبرهانا وهو القادر على كلّ شيء (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي : حزب الله وحزب ما أشركتم ولم يقل فأينا تعميمها للمغنيّ (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أهم الموحدون أو المشركون (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من الأحق أي : إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه والأحق بذلك هم الموحدون فاتبعوهم قال تعالى قاضيا بينهما :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي : لم يخلطوا إيمانهم بشرك.

روي أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا : «يا رسول الله فأينا لم يظلم نفسه فقال : «ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان ، ١٣]» (١)(أُولئِكَ) أي : الموصوفون بما ذكر (لَهُمُ الْأَمْنُ) أي : من العذاب المؤبد (وَهُمْ مُهْتَدُونَ.)

وقوله تعالى : (وَتِلْكَ) مبتدأ ويبدل منه (حُجَّتُنا) وهي ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أو من قوله تعالى : (أَتُحاجُّونِّي) إليه والخبر (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أي : أرشدناه لها حجة (عَلى قَوْمِهِ) ثم إنه سبحانه وتعالى لما تفضل على خليله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برفعه على قومه قال تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) في العلم والحكمة ، وقرأ

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٢٩ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٠٦٧.

٥٠١

عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء ، والباقون بغير تنوين (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه فيرفع من يشاء ويخفض من يشاء (عَلِيمٌ) بخلقه فهو الفعال لما يريد.

(وَوَهَبْنا لَهُ) أي : إبراهيم (إِسْحاقَ) أي : ابنا له (وَيَعْقُوبَ) أي : ابنا لإسحاق فهو ابن ابنه (كُلًّا) منهما ومن أبيهما (هَدَيْنا) إلى سبيل الرشاد ووفقناه إلى طريق الحق والصواب (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي : قبل إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي : نوح لا إبراهيم لأنه تعالى ذكر في جملتهم يونس ولوطا ولم يكونا من ذرّية إبراهيم ، وقيل : الضمير لإبراهيم ويكون ذلك من باب التغليب فإنّ التغليب سائغ شائع في انتساب العرب (داوُدَ) وهو ابن إيشا هديناه وكان ممن آتاه الله الملك والنبوّة (وَسُلَيْمانَ) هو ابن داود وهما اللذان بنيا بيت المقدس بأمر الله تعالى داود بخطه وتأسيسه وسليمان بإكماله وتشييده (وَأَيُّوبَ) هو ابن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم (وَيُوسُفَ) هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

فإن قيل : لم قدم أيوب على يوسف مع أنّ يوسف أقرب منه؟ أجيب : بأنه قدمه للمناسبة بينه وبين سليمان لأنّ كلا منهما ابتلي بأخذ كل ما في يده ثم ردّه الله تعالى إليه (وَمُوسى) هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب (وَهارُونَ) هو أخو موسى أكبر منه بسنة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (وَكَذلِكَ) كما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولادا أنبياء (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم.

(وَزَكَرِيَّا) هو ابن أدن بن بركيا ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بغير همز ، والباقون بالهمز (وَيَحْيى) هو ابن زكريا (وَعِيسى) هو ابن مريم بنت عمران (وَإِلْياسَ) قال ابن مسعود : هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل قال البغويّ : والصحيح أنه غيره لأنّ الله تعالى ذكره في ولد نوح وإدريس جدّ أبي نوح وهو إلياس بن ياسين بن فنحاس بن العيزار بن هارون بن عمران (كُلٌ) منهم (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : الكاملين في الصلاح وهو الإتيان بما ينبغي والتحرّز عما لا ينبغي (وَإِسْماعِيلَ) هو ابن إبراهيم وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد فلهذا السبب أخر ذكر إسماعيل إلى هنا (وَالْيَسَعَ) هو أخطوب بن العجوز ، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء والباقون بسكون اللام وفتح الياء (وَيُونُسَ) هو ابن متى (وَلُوطاً) هو ابن هاران أخي إبراهيم (وَكلًّا) منهم (فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أي : بالنبوّة وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق من أنس وملك ويستدلّ بهذه الآية من يقول إنّ الأنبياء أفضل من الملائكة.

وقوله تعالى : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) عطف على (كلا) أو (نوحا) ومن للتبعيض أي : وفضلنا بعض آبائهم وبعض ذرّياتهم وإخوانهم لأنّ آباء بعضهم كانوا مشركين وعيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرّية بعضهم من كان كافرا كابن نوح وقوله تعالى : (وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي : اخترناهم ، عطف على فضلنا أو هدينا (وَهَدَيْناهُمْ) أي : وأرشدناهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الدين الحق.

(ذلِكَ) أي : الذي هدوا إليه (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) سواء كان له أب يعلمه أو كان له من يحمله على الضلال أم لا فهو سبحانه وتعالى هو المتفضل بالهداية (وَلَوْ أَشْرَكُوا) أي : ولو فرض إشراك هؤلاء الأنبياء بعد علوّ درجتهم وفضلهم (لَحَبِطَ عَنْهُمْ) أي : لفسد وسقط

٥٠٢

(ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها.

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي : أولئك الذين سميناهم من الأنبياء وهم ثمانية عشر نبيا أعطيناهم الكتاب فالمراد بالكتاب الجنس (وَالْحُكْمَ) أي : العمل المتقن بالعلم (وَالنُّبُوَّةَ) أي : وشرّفناهم بالنبوّة والرسالة (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي : بهذه الثلاثة (هؤُلاءِ) أي : أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي : وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه ، واختلف في ذلك القوم فقال ابن عباس : هم الأنصار وأهل المدينة ، وقال الحسن وقتادة : هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدّم ذكرهم واختاره الزجاج ، قال : والدليل عليه قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ،) وقال عطاء العطاردي : هم الملائكة ونظر فيه لأنّ اسم القوم لا يطلق إلا على بني آدم ، وقيل : الفرس ، وقيل : هم المهاجرون والأنصار ، واستظهر وقال ابن زيد : كل من لم يكفر فهو منهم سواء أكان ملكا أم نبيا أم صحابيا أم تابعيا ، والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعا فليس فيه دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم متعبد بشرع من قبله ، واستدلّ بعض العلماء بهذه الآية على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام قال : وبيانه أنّ جميع الخصال وصفات الشرف كانت متفرّقة فيهم فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل مجاهدة في الله عزوجل وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن وكان داود وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة كما قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ ، ١٣] وكان أيوب صاحب صبر على البلاء كما قال تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص ، ٤٤] وكان يوسف قد جمع بين الحالتين أي : الصبر والشكر وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرّع وإحسان ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي بهم وجمع له جميع الخصال المحمودة والمتفرّقة فثبت بهذا البيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من الخصال التي كانت متفرّقة في جميعهم ، اه.

وقرأ حمزة والكسائيّ بحذف الهاء في الوصل وحرّك الهاء بحركة مختلسة ابن عامر ومدّ على الهاء ابن ذكوان بخلاف عنه وسكن الهاء الباقون في الوصل وأما في الوقف فجميع القراء يثبتون الهاء ويسكنونها (قُلْ) يا محمد لأهل مكة (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : القرآن أو التبليغ (أَجْراً) أي : لا أطلب على ذلك جعلا (إِنْ هُوَ) أي : القرآن أو التبليغ (إِلَّا ذِكْرى) أي : عظة (لِلْعالَمِينَ) أي الإنس والجنّ.

(وَما قَدَرُوا) أي : اليهود (اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عرفوه حق معرفته أو ما عظموه حق عظمته (إِذْ قالُوا) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خاصموه في القرآن (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) قال سعيد ابن جبير جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم يخاصم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا» ـ والحبر بالفتح والكسر وهو أفصح العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه ، قاله الجوهريّ ـ فغضب فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له قومه : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك ، فقال : إنه أغضبني ، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن

٥٠٣

الأشرف. وقال السدّي : نزلت في فنحاص بن عازوراء وهو قائل هذه المقالة ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قالت اليهود : يا محمد أنزل الله تعالى عليك كتابا ، قال : نعم ، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا. قال الله تعالى : (قُلْ) لهم (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) أي : التوراة (الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) أي : الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه حال كون الكتاب (نُوراً) أي : ذا نور أي : ضياء من ظلمة الضلالة (وَهُدىً) أي : ذا هدى (لِلنَّاسِ) أي : يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن يبدّل ويغير (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أي : يكتبونه في دفاتر مقطعة (تُبْدُونَها) أي : يظهرون ما يحبون إظهاره منها (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي : مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومما أخفوه أيضا آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء في المواضع الثلاثة على الغيبة حملا على قالوا وما قدروا ، والباقون بالتاء على الخطاب وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم للتوراة وذمّهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرّقة وإخفاء بعض لا يشتهونه. وقوله تعالى : (وَعُلِّمْتُمْ) أي : على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) خطاب لليهود أي : علمتم زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ، ونظيره أنّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يذكرهم النعمة فيما عليهم على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش. وقوله تعالى : (قُلِ اللهُ) أنزله راجع إلى قوله تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) أي : فإن أجابوك بأنّ الله أنزله فذاك وإلا فقل أنت : الله أنزله إذ لا جواب غيره (ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي : اتركهم (فِي خَوْضِهِمْ) أي : باطلهم (يَلْعَبُونَ) أي : يستهزئن ويسخرون ، وفيه وعيد وتهديد للمشركين وقال بعضهم : هذا منسوخ بآية السيف

(وَهذا) أي : القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) أي : كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية ، وأصل البركة : النماء والزيادة وثبوت الخير (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : قبله من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء لأنها مشتملة على التوحيد والتنزيه لله تعالى وعلى البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقا لجميع الكتب المنزلة ، وقوله تعالى : ولينذر قرأه شعبة بالياء على الغيبة أي : لينذر الكتاب ، والباقون بالتاء على الخطاب أي : ولتنذر يا محمد (أُمَّ الْقُرى) أي : أهل مكة وسميت أمّ القرى : لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأنا ولبعض المجاورين (١) :

فمن يلق في بعض القربات رحله

فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي

وقيل : لأنّ الأرض دحيت من تحتها أو لأنها مكان أوّل بيت وضع للناس (وَمَنْ حَوْلَها) أي : جميع البلاد والقرى التي حولها شرقا وغربا (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبيّ والكتاب ـ والضمير يحتملهما ـ ويحافظ على الطاعة ، وتخصيص الصلاة في قوله تعالى (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) لأنها عماد الدين وعلم الإيمان ومن حافظ عليها كانت لطفا له في المحافظة على أخواتها.

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٥٠٤

(وَمَنْ) أي : لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) أي : اختلق (عَلَى اللهِ كَذِباً) فزعم أنّ الله بعثه نبيا كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي ، أو اختلق عليه أحكاما كعمرو بن لحيّ ومتابعيه (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) قال قتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وكان يسجع ويتكهن فادّعى النبوّة وزعم أنّ الله تعالى أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتشهدان أن مسيلمة نبيّ» قالا : نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» (١) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يديّ سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحى الله تعالى إلي أن انفحهما فنفحتهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب» (٢) وفي لفظ الترمذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت في المنام كأن في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي يقال لأحدهما مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء» (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأوحى الله إلي أن انفحهما» بالحاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفحت الدابة برجلها ويروى بالخاء المعجمة من النفخ وهو قريب من الأوّل فأمّا مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوّة في اليمامة وتبعه قوم من بني حنيفة وقتل في خلافة أبي بكر قتله وحشيّ قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول : قتلت خير الناس يعني : حمزة ، وقتلت شرّ الناس يعني : مسيلمة الكذاب ، قتل الأوّل وهو كافر وقتل الثاني وهو مسلم ، وأمّا الأسود العنسي بالنون ويقال له : ذو الحمار ، ادعى النبوّة باليمن في آخر عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتل في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل موته بيومين وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بقتله ، قتله فيروز الديلميّ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاز فيروز بقتل الأسود العنسي» (٤)(وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) قال السدّي : نزلت في عبد الله بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان إذا أملى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا أملى عليه عليما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنين ، ١٢] أملاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتبها هكذا نزلت» (٥) فشك عبد الله بن أبي سرح وقال لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمرّ الظهران وقال ابن عباس : (ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله) يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، قال العلماء : وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذبا في ذلك الزمان وبعده لأنّ خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.

(وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذِ الظَّالِمُونَ) حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه ، أي : ولو ترى الظالمين المذكورين (فِي غَمَراتِ) أي : شدائد (الْمَوْتِ) من غمره الماء إذا غشيه فاستعير للشدة الغالبة (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي : لقبض أرواحهم كالمتقاضي الملازم لغريمه لا يفارقه ، أو

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٢) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤٣٧٥ ، ومسلم في الرؤيا حديث ٢٢٧٣.

(٣) أخرجه الترمذي في الرؤيا حديث ٢٢٩٢.

(٤) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٥) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٦٢ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٦٨.

٥٠٥

بالعذاب أو الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم يقولون لهم تعنيفا : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) إلينا لنقبضها.

فإن قيل : إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا؟ أجيب : بأنهم يقولون لهم : أخرجوها كرها لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر ، وقيل : يقولون لهم : خلصوا أنفسكم من هذا العذاب إن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخا لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي : الهوان (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) أي : كادعاء الولد والشريك له تعالى ودعوى النبوّة والإيحاء كذبا (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي : تتكبرون عن الإيمان بها وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا.

(وَ) يقال لهم إذا بعثوا للحساب والجزاء (لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) أي : منفردين عن الأهل والمال والولد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم ذلك شيئا يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : حفاة عراة ، غرلا ، روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت يا رسول الله وا سوأتاه إنّ الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكلّ امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال» (١) وروي عنها أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يحشر الناس حفاة عراة غرلا» أي : غير مختونين ، وفي رواية زيادة على ذلك بهما ، قال الجوهري وغيره : أي : ليس معهم شيء ، قالت عائشة رضي الله عنها : فقلت : الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأمر أشدّ أن يهمهم ذلك» (٢)(وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي : ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي : في الدنيا فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكثرون (وَ) يقال لهم توبيخا (ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أي : الأصنام (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ) أي : في استحقاق عبادتكم (شُرَكاءُ) أي : لله وقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قرأه نافع وحفص والكسائيّ بنصب النون أي : لقد تقطع ما بينكم من الوصل ، والباقون بالرفع أي : لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل (وَضَلَ) أي : ذهب (عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي : من أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣٣٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٨٩٥١ ، ٣٨٩٥٢ ، والطبري في تفسيره ٧ / ١٨٤.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٢٧ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٥٩.

٥٠٦

فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠))

(إِنَّ اللهَ فالِقُ) أي : شاق (الْحَبِ) أي : عن النبات (وَالنَّوى) أي : عن النخل وقيل : المراد الشق الذي في الحنطة والنواة ، والحبّ جمع الحبة وهو اسم لجميع البزور والحبوب من البرّ والشعير والذرة وكل ما لم يكن له نوى والنوى جمع نواة وهي كل ما لم يكن حبا كالتمر والمشمس وغيرهما ، وقال الضحاك : فالق الحبّ والنوى يعني خالق الحبّ والنوى (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي : كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر.

تنبيه : مخرج معطوف على فالق كما قاله الزمخشريّ ويصح عطفه على يخرج لأن عطف الاسم المشابه للفعل على الفعل صحيح كعكسه وهو عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [الحديد ، ١٨] فأقرضوا معطوف على المصدّقين لشبهه بالفعل لكونه اسم فاعل ومخرج شبيه بالفعل لكونه اسم فاعل ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائيّ بتشديد الياء ، والباقون بالتخفيف (ذلِكُمُ) المحيي والمميت ، هو (اللهَ) الذي تحق له العبادة (فَأَنَّى) أي : فكيف (تُؤْفَكُونَ) أي : تصرفون عن الحق فتعبدون غير الله الذي هو خالق الأشياء كلها.

وقوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ) مصدر بمعنى الصبح أي : شاق عمود الصبح وهو أوّل ما يبدو من النهار عن ظلمة الليل أو شاق ظلمة الإصباح : وهو الغبش الذي عليه في آخر الليل (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي : يسكن فيه الخلق راحة لهم ، قال ابن عباس : إذ كل ذي روح يسكن فيه لأنّ الإنسان قد أتعب نفسه فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ليسكن فيه عن الحركة وذلك هو الليل ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بنصب العين واللام ولا ألف قبل العين على الماضي حملا على معنى المعطوف عليه فإن فالق بمعنى فلق ، والباقون بكسر العين ورفع اللام وألف قبل العين وقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) منصوبان بإضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل أي : وجعل الشمس والقمر (حُسْباناً) أي : حسابا للأوقات أو الباء محذوفة وهو حال من مقدر أي : يجريان بحسبان كما في

٥٠٧

آية الرحمن وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله : (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ) أي : خلق (لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : في ظلمات الليل في البرّ والبحر وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعدما أجملها بقوله : لكم ، ومن منافعها أنها زينة للسماء كما قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] ومنها رمي الشياطين كما قال تعالى : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك ، ٥] (قَدْ فَصَّلْنَا) أي : بينا (الْآياتِ) أي : الدالات على قدرتنا وتوحيدنا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي : يتدبرون فإنهم المنتفعون به

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي : خلقكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي : من آدم عليه الصلاة والسّلام فهو أبو البشر كلهم وحوّاء مخلوقة منه وعيسى أيضا لأنّ ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أنّ جميع البشر من آدم عليه‌السلام (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي : فمستقرّ في الرحم ومستودع في القبر إلى أن يبعث أو فمستقر في أرحام الأمّهات ومستودع في أصلاب الآباء ، قال سعيد بن جبير : قال لي ابن عباس : هل تزوّجت؟ قلت : لا ، قال : أما إنه ما كان مستودعا في ظهرك فيسخرجه الله عزوجل أو مستقرّ في الرحم ومستودع فوق الأرض قال تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) أو فمستقرّ على وجه الأرض ومستودع عند الله في الآخرة أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الدنيا وكان الحسن يقول : يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق بصاحبك أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الجنة أو النار قال تعالى في صفة الجنة : حسنت مستقرّا وفي صفة النار وساءت مستقرّا ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف على اسم الفاعل والمستودع مفعول أي : فمنكم قار ومنكم مستودع لأنّ الاستقرار من الله تعالى دون الاستيداع لأنّ الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض ، لا صنع للعبد فيه بخلاف الاستيداع في الأرحام أو تحت الأرض ، والباقون بالنصب (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي : يفهمون ما يقال لهم ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأنّ أمرها ظاهر وذكر مع تخليقه بني آدم يفقهون لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : مطرا وهو من السحاب أو من جانب السماء ، وقيل : إنّ الله تعالى ينزله من السماء إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي : بالماء وفي ذلك التفات حيث لم يقل فأخرج على وفق أنزل (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أيّ شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات فالسبب واحد وهو الماء والمسببات صنوف متفرّقة كما قال تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد ، ٤] (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي : من النبات أو الماء (خَضِراً) أي : شيئا أخضر يقال : أخضر وخضر مثل أعور وعور والأخضر هو جميع البقول والزروع والبقول الرطبة (نُخْرِجُ مِنْهُ) أي : الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) أي : يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة والشعير والأرز والذرة وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ) خبر مقدّم ويبدل منه (مِنْ طَلْعِها) وهو أوّل ما يخرج منها والمبتدأ (قِنْوانٌ) أي : عراجين (دانِيَةٌ) أي : قريبة من التناول يتناولها النائم والقاعد أو قريب بعضها من بعض وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها وهي البعيدة لدلالتها عليها كقوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل ، ٨١] أي : والبرد واكتفى بذكر أحدهما وحكمة تخضيص دانية بالذكر زيادة النعمة فيها وقوله تعالى : (وَجَنَّاتٍ) عطف على نبات كلّ شيء أي : وأخرجنا به بساتين (مِنْ أَعْنابٍ) وقوله تعالى :

٥٠٨

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) عطف أيضا على نبات أي : وأخرجنا به شجر الزيتون والرمّان (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) قال قتادة : معناه مشتبها ورقها مختلفا ثمرها لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان ، وقيل : مشتبها في النظر مختلفا في الطعم والله سبحانه ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع وقدّم الزرع على سائر الأشجار لأنّ الزرع غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدّم على الفواكه وقدم النخل على غيرها لأنّ ثمرها يجري مجرى الغذاء وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار قال بعضهم وليس لنا أنثى من الشجر تحتاج إلى ذكر غير النخل أي : في تطييب ثمرها وذكر العنب عقب النخل لأنه من أشرف أنواع الفواكه ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والنفع ثم ذكر بعده الرمان لما فيه من المنافع أيضا (انْظُرُوا) أيها المخاطبون نظر اعتبار (إِلى ثَمَرِهِ) قرأ حمزة والكسائيّ بضمّ الثاء والميم ، والباقون بالنصب ، وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر وخشبة وخشب (إِذا أَثْمَرَ) أي : حين يبدو من أكمامه ضعيفا قليل النفع أو عديمه (وَ) انظروا إلى (يَنْعِهِ) أي : إلى إدراكه إذا أدرك وحان قطفه كيف يصير ذا نفع ولذة والمعنى انظروا نظر استدلال واعتبروا كيف أخرج الله هذه الثمرة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة وهو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) أي : دلالات على قدرته تعالى على البعث وغيره فإنّ حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ندّ يعارضه أو ضد يعانده وخص المؤمنين بالذكر بقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون بها بخلاف الكافرين ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والردّ عليه فقال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أي : الشياطين لأنهم أطاعوهم في عبادة الأوثان فجعلوها شركاء الله.

فإن قيل : (لله) مفعول ثان لجعلوا وشركاء مفعول أوّل ويبدل منه الجنّ فما فائدة التقديم؟ أجيب : بأنّ فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من جنّ أو إنس أو ملك فلذلك قدم اسم الله تعالى على الشركاء ، وقيل : المراد بالجنّ : الملائكة بأن عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله وسماهم جنا لاجتنانهم تحقيرا لشأنهم ، وقال الكلبيّ : نزلت في الزنادقة أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق فقالوا : الله خالق النور والناس والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب فيقولون : هو شريك الله في تدبير هذا العالم فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى : (وَخَلَقَهُمْ) حال بتقدير قد والضمير إمّا أن يعود إلى الجنّ فيكون المعنى والله خلق الجنّ فكيف يكون شريك الله عزوجل محدثا مخلوقا وإمّا أن يعود إلى الجاعلين لله شركاء فيكون المعنى وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئا وهذا كالدليل القاطع بأنّ المخلوق لا يكون شريكا لله وكل ما في الكون محدث مخلوق والله تعالى خالق لجميع ما في الكون فامتنع أن يكون لله شريك في ملكه (وَخَرَقُوا) قرأه نافع بتشديد الراء ، والباقون بالتخفيف ، أي : اختلقوا (لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة يقال : خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى وسئل الحسن عنه فقال : كلمة غريبة كانت العرب تقولها ، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله (سُبْحانَهُ) تنزيها له (وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) بأن له شريكا أو ولدا.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : مبتدعهما من غير سبق مثال ورفع بديع على الخبر والمبتدأ محذوف أي : هو بديع أو على الابتداء والخبر (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أي : من أين يكون له ولد

٥٠٩

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) يكون منها الولد لأنّ الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : من شأنه أن يخلق (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا تخفى عليه خافية ، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : الأوّل : أنه مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة من جنس ما يوصف بالولادة لكونها مخلوقة لا يستقيم أن توصف بالولادة لاستمرارها وطول مدّتها ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا ، الثاني : أن الولادة لا تكون إلا من ذكر وأنثى مجانسين وهو متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة ، والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج ، وقوله تعالى :

(ذلِكُمُ) إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ وقوله تعالى : (اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض في غير الله تعالى بدلا أو صفة لأنّ الله تعالى أوّل وليس بصفة والبعض خبرا وقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) مسبب عن مضمون ذلك فإنّ من استجمع هذه الصفات استحق العبادة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي : وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال فيجازي عليها (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها والإدراك إحاطة بكنه الشيء وحقيقته وتمسك بظاهر هذه الآية قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا : إنّ الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلا لأنّ الله تعالى أخبر أنّ الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية إذ لا فرق بين قولك أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أنّ (لا تدركه الأبصار) بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة واستدلوا لمذهبهم بأشياء من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف فمن الكتاب قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٢٢ ، ٢٣] ففي هذه الآية دليل على أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ، وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ، ١٥] قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : حجب قوما بالمعصية وهي الكفر فثبت أنّ قوما يرونه بالطاعة وهي الإيمان ، وقال مالك رضي الله تعالى عنه : لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله تعالى الكفار بالحجاب وقال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ، ٢٦] وهذه الزيادة مفسرة بالنظر إلى الله تعالى يوم القيامة ومن السنة ما روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها)(١) [طه ، ١٣٠] ومنها أنّ ناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تضامون في القمر ليلة البدر ـ أي : هل تشكّون؟ ـ» قالوا : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنكم ترونه كذلك» (٢) وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه

__________________

(١) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة حديث ٥٥٤ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٥٥١ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٢٩ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٧٧.

(٢) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٨٠٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٨٢.

٥١٠

مخليا به يوم القيامة؟ قال : «نعم» قلت : وما آية ذلك من خلقه؟ قال : «يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به؟» قلت : بلى ، قال : «فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله ـ أي : القمر ـ فالله أعظم وأجل» (١) واحتج أهل السنة أيضا على جواز رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة بقول كليم الله موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف ، ١٤٣] إذ لا يسأل نبيّ ما لا يجوز أو يمتنع وقد علق الله تعالى الرؤية على استقرار الجبل بقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف ، ١٤٣] واستقرار الجبل جائز والمعلق على الجائز جائز وأمّا قول المتمسكين بظاهر الآية وأنّ الإدراك بمعنى الرؤية فممنوع لأنّ الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به والرؤية : المعاينة وقد تكون المعاينة بلا إدراك قال الله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام : (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا) [الشعراء ، ٦١] وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم فنفى موسى عليه‌السلام الإدراك مع ثبوت الرؤية فالله تعالى يصح أن يرى من غير إدراك ولا إحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم ، قال سعيد بن المسيب : لا تحيط به الأبصار وقال عطاء : كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل : لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة ، وظاهر هذا التسوية بين الإدراك والرؤية ويدل على هذا التخصيص قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ، ٢٢ ، ٢٣] فقوله : ناظرة مقيد بيوم القيامة ويكون هذا جمعا بين الآيتين (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي : يراها أو يحيط بها علما فلا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : اللطيف بأوليائه الخبير بهم ، وقال الزهري : اللطيف الرفيق بعباده ، وقيل : اللطيف الموصل الشيء بالرفق واللين ، وقيل : اللطيف الذي ينسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) جمع بصيرة أي : حجج (مِنْ رَبِّكُمْ) تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل (فَمَنْ أَبْصَرَ) أي : عمل بالأدلة (فَلِنَفْسِهِ) أي : خاصة إبصاره لأنه خلصها من الضلال إلى الهدى (وَمَنْ عَمِيَ) أي : لم يهد بالأدلة (فَعَلَيْها) أي : خاصة عماه لأنه يضل فلا يضر إلا نفسه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي : برقيب لأعمالكم وإنما أنا منذر والله تعالى هو الرقيب عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها.

(وَكَذلِكَ) أي : كما بينا ما ذكر (نُصَرِّفُ) أي : نبيّن (الْآياتِ) من حال إلى حال في المعاني المتنوّعة سالكين من وجوه البراهين بما يفوت القوى ويعجز القدر ليعتبروا (وَلِيَقُولُوا) اعتذارا عند ظهور عجزهم دارست قرأ ابن كثير وأبو عمرو بألف بين الدال والراء أي : ذاكرت أهل الكتاب ، والباقون بغير ألف أي : درست كتب الماضين وجئت بهذا منها ، وقرأ ابن عامر بفتح السين وسكون التاء من الدروس أي : هذه الآيات التي تتلوها علينا قديمة قد درست وانمحت كقولهم : أساطير الأوّلين ، وقيل : اللام فيه لام العاقبة أي : عاقبة أمرهم أن يقولوا : دارست أي : قرأت على غيرك ، وقيل : قرأت كتب أهل الكتاب كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ، ٨] (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي : الآيات وذكر الضمير لأنها في معنى القرآن كأنه قيل : وكذلك نصرّف القرآن أو القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما أو إلى التبيين الذي هو

__________________

(١) أخرجه أبو داود حديث ٤٧٣١ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٨٠.

٥١١

مصدر الفعل كقولهم : ضربته زيدا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنهم المنتفعون به.

وقوله تعالى : (اتَّبِعْ) خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : اتبع يا محمد (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي : القرآن فالزم العمل به ، ثم أكد مدحه بقوله : (مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بهذا البيان ، وقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراض أكد به إيجاب الاتباع لما في كلمة التوحيد من التمسك بحبل الله والاعتصام به والإعراض عما سواه ، وقول البيضاوي : أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفردا في الألوهية مبني على جواز تأكيد الجملة الفعلية بالاسمية وهو نادر (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى رأيهم ، ومن جعله منسوخا بآية السيف حمل الإعراض على ما يعمّ الكف عنهم.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ) إيمانهم وعدم إشراكهم (ما أَشْرَكُوا) وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة الله تعالى خلافا للمعتزلة في قولهم : لم يرد الله من أحد الكفر والشرك والآية ردّ عليهم (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي : رقيبا فتجازيهم بأعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي : فتجبرهم على الإيمان وهذا قبل الأمر بالقتال.

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي : يعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) وهي الأصنام أي : ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) أي : اعتداء وظلما (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : جهلا منهم بالله وبما يجب أن يذكر به.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يطعن في آلهتهم فقالوا : لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك فنزلت وقال السدي : لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش : انطلقوا فلندخلنّ على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه ، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل وأبي بن خلف ومعهم جماعة إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإنّ محمدا قد أذانا وآلهتنا فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا وندعه وإلهه ، فطلبه وقال : هؤلاء قومك وبنو عمك يقولون : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك وقد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم» فقال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال : «قولوا لا إله إلا الله» فأبوا ونفروا ، فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي ، فقال : «يا عمّ ما أنا بالذي أقول غيرها» فقالوا : لتكفن عن سبك آلهتنا أو لنشتمنك ومن يأمرك ، فنزلت. وقيل : كان المسلمون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسبّ الله تعالى وفيه دليل على أنّ الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدّي إلى الشرّ شر (كَذلِكَ) أي : كما زينا لهؤلاء ما هم عليه من عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي : من الخير والشرّ بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا وتخذيلا ، وفي هذه الآية دليل على تكذيب القدرية والمعتزلة حيث قالوا : لا يحسن من الله تعالى خلق الكفر وتزيينه فهو الفعال لما يريد لا يسأل عما يفعل (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) في الآخرة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الدنيا فيجازيهم به.

(وَأَقْسَمُوا) أي : كفار مكة (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : غاية اجتهادهم فيها (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي : مما اقترحوه (لَيُؤْمِنُنَّ بِها.)

٥١٢

روي أنّ قريشا قالوا : يا محمد إنك تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه الماء اثنتي عشرة عينا وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى فاتنا من الآيات حتى نصدقك فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي شيء تحبون؟» قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا وتبعث لنا بعض أمواتنا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني؟» قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين وسأل المسلمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهبا فجاء جبريل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله لك ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوا ليعذبنهم الله وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل يتوب تائبهم» فنزلت ، قال الله تعالى : (قُلْ) لهم (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها كيف يشاء وإنما أنا نذير (وَما يُشْعِرُكُمْ) أي : وما يدريكم أيها المسلمون بإيمانهم إذا جاءت فإنهم كانوا يتمنون مجيء الآية طمعا في إيمانهم أي : أنتم لا تدرون ذلك (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) لما سبق في علمي.

وقرأ أبو عمرو بسكون الراء ، وروي عن الدوري اختلاس الضم وكسر الهمزة من (إنها) ابن كثير وأبو عمرو على الابتداء وقالا : تم الكلام عند قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ) والباقون بالفتح فهي بمعنى لعل وهو شائع في كلام العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، بمعنى لعلك ، ومنه قول عدي بن زيد (١) :

 أعاذل ما يدريك أنّ منيتي

إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي : لعل منيتي. وقرأ ابن عامر وحمزة : لا تؤمنون ، بالتاء خطابا للكفار ، والباقون بالياء على الغيبة.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) أي : ونحوّل قلوبهم عن الحق فلا يفقهونه (وَ) نقلب (أَبْصارَهُمْ) عن الحق فلا يبصرونه فلا يؤمنون لأنّ الله تعالى إذا صرف القلوب والأبصار عن الإيمان بقيت على الكفر (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي : بما أنزل من الآيات (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : التي جاء بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل انشقاق القمر وغيره من المعجزات الباهرات. وقيل : معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) [القصص ، ٤٨].

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ المرّة الأولى دار الدنيا أي : لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدنيا قبل مماتهم كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام ، ٢٨] (وَنَذَرُهُمْ) أي : نتركهم (فِي طُغْيانِهِمْ) أي : ضلالهم (يَعْمَهُونَ) أي : يتردّدون متحيرين لا نهديهم هداية المتقين.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لعدي بن زيد في ديوانه ص ١٠٣ ، ولسان العرب (أنن) ، وتاج العروس (أنن) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣١٦.

٥١٣

 إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) كما اقترحوا (وَحَشَرْنا) أي : جمعنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) قرأ نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء أي : معاينة فشهدوا بصدقك ، والباقون بضم القاف والباء جمع قبيل أي : فوجا فوجا (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لما سبق في علم الله ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء منقطع أي : لكن إن شاء الله إيمانهم فيؤمنون أو استثناء من أعمّ الأحوال أي : لا يؤمنون في حال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أي : إنهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم لأنّ بعضهم معاند مع أنّ مطلق الجهل يعمهم فيشمل المعاند أو لكنّ أكثر المسلمون يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم.

(وَكَذلِكَ) أي : ومثل ما جعلنا لك أعداء من كفار الإنس والجنّ (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍ) أي : ممن كان قبلك (عَدُوًّا) ويبدل منه (شَياطِينَ) أي : مردة (الْإِنْسِ وَالْجِنِ) وفي هذا دليل على أنّ عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسّلام بفعل الله تعالى وخلقه (يُوحِي) أي : يوسوس (بَعْضُهُمْ) أي : الشياطين من النوعين (إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي : مموهه من الباطل (غُرُوراً) أي : لأجل أن يغروهم بذلك (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) إيمانهم (ما فَعَلُوهُ) أي : هذا الذي أنبأتك به من عداوتهم وما تفرع عليها وفي هذا دليل أيضا (فَذَرْهُمْ) أي : اترك الكفرة على أيّ حالة اتفقت (وَما يَفْتَرُونَ) من الكفر وغيره مما زين لهم وهذا قبل الأمر بالقتال.

وقوله تعالى : (وَلِتَصْغى) عطف على غرورا إن جعل علة أي : ولتميل ميلا قويا (إِلَيْهِ) أي : الزخرف الباطل (أَفْئِدَةُ) أي : قلوب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي : ليس في طبعهم الإيمان بها لأنها غيب واهم لبلادتهم واقفون مع وهمهم ولذلك استولت عليهم الدنيا التي هي من أصل الغرور أو متعلق بمحذوف أي : وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوا ، والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا : اللام لام العاقبة وهو قول الزمخشريّ في كشافه إنّ اللام للصيرورة (وَلِيَرْضَوْهُ) أي : الزخرف الباطل لأنفسهم (وَلِيَقْتَرِفُوا) أي : يكتسبوا (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) من الآثام فيعاقبوا عليها

٥١٤

ونزل لما قال مشركوا قريش للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود وإن شئت من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك.

(أَفَغَيْرَ اللهِ) أي : قل لهم يا محمد أفغير الله (أَبْتَغِي) أي : أطلب (حَكَماً) أي : قاضيا بيني وبينكم (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) أي : الأكمل المعجز وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء (مُفَصَّلاً) أي : مبينا فيه الحق من الباطل (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي : المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) لما عندهم به من البشارة في كتبهم ولما له من موافقتهم في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب وتفيض الدموع وتصدع الصدور مع ما يزيد به على ما في كتبهم من التفصيل بما يفهم المعارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية وإنما وصف جميعهم بالعلم لأنّ أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن بأدنى تأمل. وقيل : المراد مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقرأ ابن عامر وحفص بفتح النون وتشديد الزاي ، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي (فَلا تَكُونَنَ) يا محمد (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي : الشاكين في أنّ علماء أهل الكتاب يعلمون أنّ هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله ، وقيل : فلا تكونن في شك مما قصصنا فيكون من باب التحريض فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشك قط ، وقيل : الخطاب وإن كان في الظاهر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنّ المراد به غيره أي : فلا تكونن أيها الإنسان السامع لهذا القرآن في شك إنه منزل من عند الله لما فيه من الإعجاز الذي لا يقدر على مثله إلا الله تبارك وتعالى :

(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي : بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بغير ألف بين الميم والتاء ، والباقون بالألف (صِدْقاً) في الأخبار والمواعيد لا يقدر أحد أن يبدي في شيء منها خدشا بتخلف مّا عن مطابقة الواقع (وَعَدْلاً) أي : في الأقضية والأحكام ونصبهما على التمييز ويحتمل الحال والمفعول له (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) بنقض أو خلف بل كل ما أخبرت به فهو كائن لا محالة رضي من رضي وسخط من سخط ، وقيل : المراد بالكلمات : القرآن لا مبدل له لا يزيد فيه المغيرون ولا ينقصون (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكل ما يقال (الْعَلِيمُ) بكل ما يفعل.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : دينه وأكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة ، وقيل : الأرض مكة وذلك أنّ المشركين جادلوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين في أكل الميتة فقالوا للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فكيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فنزلت ، وقيل : لا تطعهم في اعتقاداتهم الفاسدة فإنك إن تطعهم يضلوك عن سبيل الله أي : يضلوك عن طريق الحق ومنهج الصدق ثم علل ذلك بقوله : (إِنْ) أي : لأنهم ما (يَتَّبِعُونَ) في مجادلتهم لك (إِلَّا الظَّنَ) وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق (وَإِنْ) أي : ما (هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي : يكذبون على الله عزوجل فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه وتحليل الميتة وتحريم البحائر ونحو ذلك.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ) أي : لا غيره (أَعْلَمُ) أي : عالم (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ) أي : لا غيره (أَعْلَمُ) أي : عالم (بِالْمُهْتَدِينَ) فيجازي كلا منهم بما يستحقه.

وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرّمون

٥١٥

الحلال ويحللون الحرام والمعنى : كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه ولا تأكلوا مما ذكر عليه اسم غيره تعالى أو مات حتف أنفه (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي : إن كنتم محققين الإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه فإنّ الإيمان يقتضي استباحة ما أحله الله تعالى واجتناب ما حرمه.

(وَما لَكُمْ) أي : أيّ غرض لكم في (أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) من الذبائح (وَقَدْ فَصَّلَ) أي : بين (لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي : مما لم يحرم في آية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) الميتة تفصيلا واضح البيان ظاهر البرهان ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الفاء وكسر الصاد والباقون بفتحهما ، وقرأ نافع وحفص بفتح الحاء والراء والباقون بضم الحاء وكسر الراء (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي : مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة (وَإِنَّ كَثِيراً) من الذين يجادلونكم في أكل الميتة ويحتجون عليكم في ذلك بقولهم : كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم (لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) أي : بما تهوى أنفسهم من تحليل الميتة وغيرها ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء والباقون بفتحها (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يعتمدونه في ذلك ، وقيل : المراد بذلك عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أوّل من بحر البحائر وسيب السوائب وأباح الميتة وغير دين إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أي : الذين تجاوزوا الحق إلى الباطل والحرام إلى الحلال.

(وَذَرُوا) أي : اتركوا (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أي : ما أعلنتم به وما أسررتم به من الذنوب كلها ، وقيل : المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وبباطنه أفعال القلوب فيدخل فيه الحسد والكبر والعجب وإرادة الشرّ للمسلمين ونحو ذلك ، وقيل : ظاهر الإثم الزناة في الحوانيت وباطنه المرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سرا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) في الدنيا بارتكاب المعاصي (سَيُجْزَوْنَ) في الآخرة (بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي : يكسبون وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب ومذهب أهل السنة أنه إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله أمّا إذا تاب من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) قال ابن عباس : الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها ، وقال عطاء : الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام ، واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها : فذهب قوم إلى تحريمها سواء أتركت التسمية عمدا أم نسيانا وهو قول ابن سيرين والشعبيّ واحتجوا بظاهر الآية وذهب قوم إلى حلها مطلقا ، ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الشافعي وأحمد وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامدا لم تحل أو ناسيا حلت وهو مذهب مالك ، ومن قال بالإباحة مطلقا قال المراد من الآية الميتات وما ذبح على غير اسم الله بدليل قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي : ما ذكر عليه اسم غير الله كما قال تعالى في آخر السورة : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلى قوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام ، ١٤٥] والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه لا تأكلوا واحتجوا أيضا في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قالوا : يا رسول الله إنّ هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فلا ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال : «اذكروا أنتم اسم الله وكلوا» (١) فلو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٣٩٨ ، وأبو داود في الضحايا حديث ٢٨٢٩ ، والنسائي في الضحايا حديث ٤٤٣٦ ، وابن ماجه في الذبائح حديث ٣١٧٤.

٥١٦

الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ) أي : يوسوسون (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) من الكفار (لِيُجادِلُوكُمْ) في تحليل الميتة بقولهم : تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله وهذا يؤيد التأويل بالميتة (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) أي : باستحلال ما حرم (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي : مثلهم في الشرك ، قال الزجاج : فيه دليل على أنّ كل من أحل شيئا مما حرّم الله أو حرّم شيئا مما أحلّ الله فهو مشرك.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) أي : بالكفر (فَأَحْيَيْناهُ) أي : بالإيمان وإنما جعل الكفر موتا لأنه جعل الإيمان حياة لأنّ الحي صاحب بصر يهتدي به إلى رشده ، ولما كان الإيمان يهدي إلى الفوز العظيم والحياة الأبدية شبه بالحياة ، وقرأ نافع بتشديد الياء والباقون بالتخفيف (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) أي : يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان ، وقال قتادة : هو كتاب الله القرآن بينة من الله مع المؤمن بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي (كَمَنْ مَثَلُهُ) أي : كمن هو (فِي الظُّلُماتِ) فمثل زائدة (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) وهو الكافر أي : ليس مثله. نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأبي جهل بن هشام وذلك أنّ أبا جهل رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يقول : يا أبا يعلى ما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسفه آلهتنا وخالف آباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله ، وقيل : في عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر وأبي جهل. (كَذلِكَ) أي : كما زين للمؤمنين إيمانهم (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : من الكفر والمعاصي ، قال أهل السنة : المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى : زينا لهم أعمالهم وقالت المعتزلة : المزين هو الشيطان وردّ بالآية المذكورة.

(وَكَذلِكَ) أي : كما جعلنا فساق أهل مكة أكابرها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) أي : عظماءها ، وأكابر : جمع أكبر كأفضل وأفاضل وأسود وأساود وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم كما قال في قصة نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء ، ١١١] وجعل فساقهم أكابرهم (لِيَمْكُرُوا فِيها) بالصدّ عن الإيمان وذلك أنهم أجلسوا على طرق مكة أربع نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون لكل من يقدم : إياكم وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب فكان هذا مكرهم (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأنّ وباله يحيق بهم (وَما يَشْعُرُونَ) أي : وما لهم نوع شعور بذلك.

(وَإِذا جاءَتْهُمْ) أي : أهل مكة (آيَةٌ) على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ) به (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي : من النبوّة وذلك أنّ الوليد بن المغيرة قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كانت النبوّة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا فنزلت ، وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل حين قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبيّ يوحى إليه ، والله لا نرضى إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه.

وقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) استئناف للردّ عليهم بأن النبوّة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالته من علم أنه يصلح لها وحيث مفعول به لفعل محذوف دل عليه (أعلم) لأنّ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به أي :

٥١٧

يعلم الموضع الصالح لوضعها فيه فيضعها وهؤلاء ليسوا أهلا لها ، وقرأ ابن كثير وحفص بنصب التاء ورفع الهاء ولا ألف قبل التاء على التوحيد ، والباقون بكسر التاء والهاء وألف قبل التاء على الجمع (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بقولهم ذلك (صَغارٌ) أي : ذل وهوان (عِنْدَ اللهِ) يوم القيامة ، وقيل : تقديره من عند الله (وَعَذابٌ) أي : مع الصغار (شَدِيدٌ) أي : في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالنار (بِما) أي : بسبب ما (كانُوا يَمْكُرُونَ) من صدّهم الناس عن الإيمان وطلبهم ما لا يستحقونه.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧))

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) بأن يقذف في قلبه نورا فينفسح له ويقبله.

ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شرح الصدر فقال : «نور يقذفه الله في قلب المؤمن ينشرح له قلبه وينفسح» قيل : فهل لذلك أمارة ، قال : «نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقي الموت» (١)(وَمَنْ يُرِدْ) أي : الله (أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً) أي : عن قبول الإيمان حتى لا يدخله ، وقرأ ابن كثير بسكون الياء ، والباقون بتشديدها مع الكسر ، وقوله تعالى : (حَرَجاً) قرأه نافع وأبو بكر بكسر الراء أي : شديد الضيق ، والباقون بالفتح وصفا للمصدر ، وفي الآية دليل على أنّ جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي : يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء شبه مبالغته في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، وقرأ ابن كثير بسكون الصاد

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٣١١ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٣ / ٢٢٢ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٤٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣٢٨.

٥١٨

وتخفيف العين من غير ألف بعد الصاد ، وقرأ شعبة بتشديد الصاد وتخفيف العين وألف بعد الصاد بمعنى يتصاعد (كَذلِكَ) أي : مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي : العذاب أو الشيطان أي : يسلطه (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وقال الزجاج : الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب.

(وَهذا) أي : الدين الذي أنت عليه يا محمد (صِراطُ) أي : طريق (رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) لا عوج فيه ونصبه على الحال المؤكدة للجملة والعامل فيها معنى الإشارة (قَدْ فَصَّلْنَا) أي : بينا (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فيه إدغام التاء في الأصل في الذال أي : يتعظون فيعلمون أن القادر على كل شيء هو الله عزوجل وأن كل ما يحدث من خير أو شرّ فهو بقضائه وقدره وخلقه وأنه تعالى عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون.

(لَهُمْ) أي : المتذكرين (دارُ السَّلامِ) هي الجنة وأضافها لنفسه في قول جميع المفسرين فإنّ السّلام كما قال الحسن : هو الله تعالى تشريفا لهم أو (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس ، ١٠] أو أراد بها دار السلامة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي : المتكفل بتولي أمورهم ولا يكلهم إلى أحد سواه (بِما) أي : بسبب ما (كانُوا يَعْمَلُونَ) من الأعمال الصالحة التي كانوا يتقرّبون بها إليه في الدنيا.

(وَ) اذكر يا محمد (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي : الخلق (جَمِيعاً) أي : لا نترك منهم أحدا ، وقرأ حفص بالياء والباقون بالنون ، وقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) فيه حذف تقديره ويقال لهم : يا معشر الجنّ ، والمعشر الجماعة والمراد من الجنّ الشياطين (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي : من إضلالهم وإغوائهم حتى صار أكثرهم أتباعكم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) أي : الذين أطاعوهم (مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي : انتفع الإنس بتزيين الجنّ لهم الشهوات والجنّ بطاعة الإنس لهم (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي : إنّ ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين ووقت محدود ثم ذهب وبقيت الحسرة والندامة قال الحسن : الأجل الموت ، وقيل : هو وقت البعث للحساب في القيامة (قالَ) الله تعالى على لسان الملائكة لهؤلاء الذين استمتع بعضهم ببعض من الجنّ والإنس (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي : مأواكم (خالِدِينَ فِيها) أي : إلى ما لا آخر له فإنّ الجزاء من جنس العمل (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي : من الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير.

فقد روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم ، وقيل : إلا ما شاء الله قبل الدخول قدر مدّة بعثهم ووقوفهم للحساب وقال ابن عباس : الاستثناء يرجع إلى قوم سبق في علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار ، قال البغوي : ف (ما) بمعنى من على هذا التأويل (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) بعواقب أمور خلقه وما هم صائرون إليه.

(وَكَذلِكَ) أي : كما متعنا عصاة الإنس والجنّ بعضهم ببعض (نُوَلِّي) من الولاية (بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) أي : على بعض.

روي عن ابن عباس في تفسيرها : هو أنّ الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم (بِما) أي : بسبب ما (كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والمعاصي.

٥١٩

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي : من مجموعكم وهم الإنس إذ الرسل منهم خاصة ولكن لما جمع الجنّ مع الإنس في الخطاب صح ذلك ونظيره قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن ، ٢٢] فإنّ ذلك يخرج من الملح دون العذب أو إن رسل الجنّ نذرهم الذين يسمعون كلام الرسول فيبلغون قومهم كما قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) [الأحقاف ، ٢٩] الآية وتعلق بظاهر الآية قوم فقالوا : بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي : يخبرون بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : ويحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي : اعترفوا بأنّ الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذرتهم لقاء يومهم هذا وأنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : إنما كان ذلك بسبب أنهم غرّتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي : في الدنيا.

فإن قيل : كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا في آية أخرى وهي قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ، ٢٣]؟ أجيب : بتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول فيقرون في بعضها ويجحدون في بعض آخر.

فإن قيل : لم كرّر شهادتهم على أنفسهم؟ أجيب : بأن الأولى حكاية لقولهم : كيف يقولون وكيف يعترفون؟ والثانية ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيرا للسامعين عن مثل حالهم.

(ذلِكَ) أي : إرسال الرسل (أَنْ) أي : لأجل أن (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) أي : بسبب ظلم ارتكبوه (وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي : لم يتنبهوا برسول يبين لهم.

(وَلِكُلٍ) أي : من العاملين بطاعة أو معصية (دَرَجاتٌ) أي : جزاء (مِمَّا عَمِلُوا) أي : من خير وشر إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانخفاض كتفاضل الدرج (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي : عن شيء يعمله أحد من الفريقين بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل من ثواب أو عقاب ، وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ، والباقون بالياء على الغيبة.

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) أي : الغنى المطلق عن كل عابد وعبادته فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها (ذُو الرَّحْمَةِ) أي : التجاوز عن خلقه فمن رحمته إرسال الرسل وتأخير العذاب عن المذنبين لعلهم يتوبون ويرجعون (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يا أهل مكة بالإهلاك ففيه وعيد وتهديد لهم (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ) أي : بعد إهلاككم (ما يَشاءُ) أي : خلقا غيركم أمثل وأطوع منكم (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ) أي : نسل (قَوْمٍ آخَرِينَ) أذهبهم لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه‌السلام ولكنه أبقاكم رحمة بكم.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ) من مجيء الساعة والبعث بعد الموت والحشر للحساب يوم القيامة (لَآتٍ) لا محالة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : فائتين عذابنا.

(قُلْ) يا محمد لقومك من كفار قريش (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : حالتكم التي

٥٢٠