تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم أي : اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله ، فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ) لمن اتبعني ما سلف من ذنبه قبل ذلك (رَحِيمٌ) به. وعن الحسن زعم أقوام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقا من عملهم ، فمن ادّعى محبته وخالف سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كذاب وكتاب الله يكذبه ، وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكره ويطرب وينعر ويصعق فلا شك أنه لا يعرف ما الله ولا يدري ما محبة الله ، وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا لأنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله وادّعائه ثم صفق وطرب ونعر وصعق عند تصوّرها وربما رأيت المنيّ قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته وحمقى العامة حواليه قد ملؤوا أذقانهم بالدموع لما رأوه من حاله.

ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى نزل قوله تعالى :

(قُلْ) لهم (أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) فيما يأمركم به من التوحيد (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الطاعة (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي : لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم وإنما أتى بالظاهر ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أنّ التولي كفر وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأنّ محبته مخصوصة بالمؤمنين.

ولما أوجب الله سبحانه وتعالى طاعة الرسل عليهم الصلاة والسّلام ، وبيّن أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضا على الطاعة فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) أي : اختار (آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) وهم إسماعيل وإسحاق وأولادهما الرسل وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآلَ عِمْرانَ) موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر (عَلَى الْعالَمِينَ) بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية ، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم وبهذه الآية استدل على فضل الرسل على الملائكة وقيل : آل عمران عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة وقيل : آل إبراهيم وآل عمران أنفسهما.

وقوله تعالى : (ذُرِّيَّةً) بدل من آل إبراهيم وآل عمران (بَعْضُها مِنْ) ولد (بَعْضٍ) منهم وقيل : بعضها من بعض في الدين والذرّية تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوال الناس (عَلِيمٌ) بأحوالهم فيصطفي من كان منهم مستقيم القول والحال.

واذكر (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) وهي حنة بنت فاقوذ أمّ مريم ، وعمران هو عمران بن ماثان رئيس بني إسرائيل وليس هو عمران أبا موسى وهارون إذ كان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة كما مرّ وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.

فائدة : رسمت امرأة بالتاء المجرورة ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء ، والباقون بالتاء ، ووقف الكسائيّ بالفتح والإمالة وإذا وقف حمزة سهل الهمزة.

وروي أنّ حنة كانت عاقرا عجوزا فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائرا يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت : اللهمّ إن لك عليّ نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من خدمه فحملت ، فلما أحست بالحمل قالت : يا (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ) أن أجعل (لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي : عتيقا خالصا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدّس ، وكان هذا

٢٤١

النذر مشروعا في عهدهم في الغلمان فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك فوقعا جميعا في همّ من ذلك وهلك عمران وحنة حامل بمريم (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) ما نذرته (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لقولي (الْعَلِيمُ) بنيتي.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها) أي : ولدتها جارية والضمير لما في بطنها ، وإنما أنث على المعنى ؛ لأنّ ما في بطنها كان أنثى في علم الله أو على تأويل النفس أو النسمة ولم يكن يحرّر إلا الغلمان وكانت ترجو أن يكون غلاما ولذلك نذرت تحريره (قالَتْ) معتذرة يا (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى.)

فإن قيل : كيف جاز انتصاب أنثى حالا من الضمير في وضعتها وهو كقوله وضعت الأنثى أنثى؟ أجيب : بأنّ الأصل وضعته أنثى وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأنّ الحال وصاحبها بالذات واحد وأما على تأويل النفس أو النسمة فهو ظاهر كأنها قالت : إني وضعت النفس أو النسمة أنثى (وَاللهُ أَعْلَمُ) أي : عالم (بِما وَضَعَتْ) قرأ ابن عامر وشعبة بسكون العين وضم التاء فيكون من كلامها قالته تسلية لنفسها أي : ولعل لله فيه سرّا وحكمة ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر ، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون التاء فيكون من كلام الله تعالى تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه ومعناه والله أعلم بالأنثى التي وضعت وما علق به من عظائم الأمور وأن يجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت. وقرأ أبو عمرو والله أعلم بسكون الميم وإخفائها عند الباء بخلاف عنه ، والباقون بالإظهار وقوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) بيان لما في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) من التعظيم للموضوع والرفع منه ومعناه وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها واللام فيهما للعهد أمّا معهود لام الأنثى ففي قولها إني وضعتها أنثى وأمّا معهود لام الذكر ففي قولها محرّرا ويجوز أن يكون معنى قولها وليس الذكر كالأنثى أي : وليس الذكر والأنثى سيين فيما نذرت لما يعتري الأنثى من الحيض والنفاس فتكون اللام للجنس وقوله تعالى : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وما بينهما جملتان معترضتان كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة ، ٧٦] وإنما ذكرت ذلك لربها تقرّبا إليه وطلبا ؛ لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها فإنّ مريم في لغتهم بمعنى العابدة.

تنبيه : في قوله تعالى : حكاية عنها (سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) دليل على أنّ الاسم والمسمّى والتسمية أمور متغايرة أو معنى سميتها مريم جعلت اسم المولود مريم (وَإِنِّي أُعِيذُها) أي : أجيرها (بِكَ) أي : بحفظك (وَذُرِّيَّتَها) أي : أولادها (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي : المطرود. روى الشيخان : «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها» (١) ولا يبعد كما قال الطيبي اختصاص عيسى وأمّه بهذه الفضيلة دون الأنبياء لجواز أن يمكن الله تعالى الشيطان من مسهم مع عصمتهم من الإغواء ولا يمتنع كما قال التفتازاني : أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما ترى وتسمع وليست تلك المسة للإغواء ليدفع أنه لا يتصوّر في حق المولود حيث يولد وحينئذ فقول البيضاويّ معناه أنّ الشيطان يطمع في إغواء كل مولود أي : لا يمسه فيه إخراج الحديث عن ظاهره ، وتبع فيه الزمخشريّ وهو ما سلكه المعتزلة حيث أنكروا هذا الحديث وقدحوا

__________________

(١) أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٥٤٨ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٦٦ ، والدارمي في الفرائض حديث ٣١٢٨.

٢٤٢

في صحته ؛ لأنّ الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل بني آدم يطعنه الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعنه فطعنه في الحجاب» (١).

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها) أي : قبل مريم من أمّها ورضي بها في النذر مكان الذكر (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي : أنشأها بخلق حسن فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ بتشديد الفاء وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عياش على أنّ الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي : جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها فلا بدّ من تقدير مضاف في الآية وهو مصالح ؛ لأنّ كفالة البدن لا معنى لها ، وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدّوا زكريا مرفوعا على الفاعلية.

روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد الأقصى ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها ؛ لأنها بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح فقال زكريا : أنا أحق بها ؛ لأنّ خالتها عندي ، فقالت الأحبار : لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمّها التي ولدتها لكنا نقترع فيها فتكون عند من خرج سهمه وكانوا تسعة وعشرين رجلا فانطلقوا إلى نهر الأردن وألقوا فيه أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها فثبت قلم زكريا فأخذها وضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها غرفة في المسجد وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره.

وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء كما قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) أي : الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدّمها وكذلك هو من المسجد ويقال أيضا للمسجد محراب قال المبرّد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرج (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً.)

قال الربيع بن أنس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل عليها غرفتها وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فإذا وجد عندها ذلك. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي : من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك (قالَتْ) وهي صغيرة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يأتيني به من الجنة قيل : تكلمت في المهد وهي صغيرة كما تكلم ابنها عيسى وهو صغير في المهد ولم ترضع ثديا قط ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة وفي هذا دليل وأي دليل على كرامة الأولياء وليس ذلك معجزة لزكريا كما زعمه جماعة ؛ لأنّ ذلك مدفوع باشتباه الأمر عليه حتى قال لها : أنى لك هذا؟ ولو كان معجزة له لادعاها وقطع بها ؛ لأنّ النبيّ شأنه ذلك ويدل عليها غير ذلك كقصة أصحاب الكهف ولبثهم في الكهف سنين عددا بلا طعام ولا شراب وقصة آصف من إتيانه بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف ورؤية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر جيشه بنهاوند حين قال : يا سارية الجبل وسماع سارية ذلك وكان بينهما مسافة شهر ، وشرب خالد رضي الله تعالى عنه السم من غير أن يضره ، وبالجملة فكرامات الأولياء حق ثابتة بالكتاب والسنة وليس بعجيب إنكارها من أهل البدع والأهواء إذا لم يشاهدوا ذلك من

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٨٦.

٢٤٣

أنفسهم ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء ، فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات يمزقونهم ويسمونهم بالجهلة المتصوّفة ولم يعرفوا أنّ مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ونقاء السريرة واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة ، وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما روي عن إبراهيم بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة أنّ من اعتقد جواز ذلك يكفر والإنصاف ما ذكره الإمام النسفيّ حين سئل عما يحكى أنّ الكعبة كانت تزور بعض الأولياء هل يجوز القول به؟ فقال : نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة.

وروي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي الله تعالى عنها رغيفين وبضعة لحم في طبق مغطى آثرته به فرجع بذلك إليها وقال : «هلمي يا بنية» فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فبهتت وعلمت أنّ ذلك نزل من عند الله فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنى لك هذا؟» قالت : هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال لها عليه الصلاة والسّلام : «الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل» ثم جمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا والحسن والحسين وجميع أهل بيته ، فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة على جيرانها». فهذه كرامة لفاطمة رضي الله تعالى عنها وفي هذه الرواية دليل على أنّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : رزقا واسعا بلا تبعة من كلام مريم رضي الله تعالى عنها ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى.

ولما رأى زكريا كرامة مريم ومنزلتها عند الله قال : إنّ الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب قادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولدا في غير حينه على الكبر فطمع في الولد وذلك أنّ أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد قال الله عزوجل :

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) أي : في ذلك المكان أو الوقت ، قال الزمخشريّ : قد تستعار هنا ، وثم وحيث للزمان أي : لمشابهة الزمان للمكان في الظرفية فاستعير له فدخل زكريا المحراب وناجى ربه في جوف الليل (قالَ) يا (رَبِّ هَبْ لِي) أي : أعطني (مِنْ لَدُنْكَ) أي : من عندك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كما وهبتها لحنة العجوز العاقر أي : ولدا مباركا تقيا صالحا رضيا ، والذرّية يكون واحدا وجمعا ذكرا وأنثى وهو هنا واحد بدليل قوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي) [مريم ، ٥ ـ ٦] وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرّية (إِنَّكَ سَمِيعُ) أي : مجيب (الدُّعاءِ) لمن دعاك فلا تردّني خائبا (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي : جنسهم كقولهم : فلان يركب الخيل فإنّ المنادي كان هو جبريل وحده ، وقرأ حمزة والكسائيّ فناداه بالإمالة والتذكير ، والباقون بالتاء (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي : المسجد وذلك أنّ زكريا كان هو الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول فبينما هو قائم يصلي في المحراب والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ، ففزع منه فناداه وهو جبريل.

وقرأ (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) ابن عامر وحمزة بكسر الهمزة على إرادة القول ، أو لأنّ النداء نوع من القول ، والباقون بالفتح على بأن ، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الياء من يبشرك وسكون الباء الموحدة وضمّ الشين مخففة ، والباقون بضمّ الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين المشدّدة ، واختلفوا في أنه لم سمي يحيى قال ابن عباس : لأنّ الله أحيا به عقر أمّه وقال قتادة : لأنّ الله أحيا

٢٤٤

قلبه بالإيمان وقيل : لأنّ الله تعالى أحيا قلبه بالطاعة حتى أنه لم يهم بمعصية وهو اسم أعجمي منع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى وقيل : عربي ومنع صرفه للتعريف ووزن الفعل كينسى ، وجمعه يحيون كموسون وعيسون (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ) كائنة (مِنَ اللهِ) أي : بعيسى أنه روح الله وسمي كلمة ؛ لأنه خلق بكلمة كن وقيل : لأنّ الله أخبر الأنبياء بكلامه في كتابه أنه يخلق نبيا بلا أب فسماه بكلمة لحصول ذلك الوعد ، وكان يحيى أوّل من آمن بعيسى وصدقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليهما الصلاة والسّلام ، وقول البيضاويّ وكان يحيى وعيسى ابنا خالة من الأب فيه تجوز إذ يحيى ابن خالة أمّ عيسى لا ابن خالته وعيسى ابن بنت خالة يحيى لا ابن خالته (وَسَيِّداً) أي : يسود قومه فيصير متبوعا. وقال الضحاك : السيد الحسن الخلق. وقال سعيد بن جبير : السيد الذي يطيع ربه وقال سعيد بن المسيب : السيد الفقيه العالم (وَحَصُوراً) أي : مبالغا في حبس النفس على الشهوات والملاهي.

روي أنه مرّ وهو طفل بصبيان فدعوه للعب فقال : ما للعب خلقت. وقال سعيد بن المسيب : الحصور هو المعسر الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور كأنه ممنوع من النساء وقيل : كان له مثل هدبة الثوب ، وقد تزوّج مع ذلك ليكون أغض لبصره ، وقيل : هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه واختار قوم هذا القول لوجهين : أحدهما أنّ الكلام خرج مخرج الثناء وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء ، والثاني أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء (وَنَبِيًّا) ناشئا (مِنَ الصَّالِحِينَ) لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائنا من جملة الصالحين فمن على هذا للتبعيض كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة ، ١٣٠].

(قالَ رَبِّ أَنَّى) أي : كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي : ابن (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي : أدركني كبر السن وأثر فيّ وكان عمره مائة وعشرين سنة وقيل : تسعا وتسعين سنة (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) أي : لا تلد من العقر وهو القطع ؛ لأنها ذات عقر من الأولاد وكانت بنت ثمان وتسعين سنة.

فإن قيل : كيف قال زكريا بعدما وعده الله تعالى أن يكون له غلام أنى يكون لي غلام أكان شاكا في وعد الله وفي قدرته؟ أجيب : بأنه قال ذلك استبعادا من حيث العادة كما قالت مريم أو استعظاما وتعجبا أو استفهاما عن كيفية حدوثه أي : أتجعلني وامرأتي شابين أو ترزقنا ولدا على الكبر منا أو ترزقني امرأة أخرى؟ وقيل : إنّ زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال : يا زكريا إنّ الصوت الذي سمعت ليس هو من الله إنما هو من الشيطان ، ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور ، فقال ذلك دفعا للوسوسة (قالَ) الأمر (كَذلِكَ) أي : من خلق غلام منكما (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) لا يعجزه عنه شيء ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه الله السؤال ليجاب بها ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي : علامة أعرف بها حمل امرأتي لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر (قالَ آيَتُكَ) عليه (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي : تمتنع من كلامهم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي : بلياليها كما في سورة مريم ثلاث ليال (إِلَّا رَمْزاً) أي : إشارة بيد أو رأس والاستثناء منقطع وقيل : متصل والمراد بالكلام حينئذ ما دل على ما في الضمير وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذلك قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ) أي : صل (بِالْعَشِيِ) وهو من حين تزول الشمس إلى أن تغيب (وَالْإِبْكارِ) وهو من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

٢٤٥

فإن قيل : لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ أجيب : بأنه إنما فعل به ذلك لتخلص المدّة المذكورة لذكر الله تعالى لا يشغل لسانه بغيره توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها التي طلب الآية من أجله كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر ، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه وقال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.

(وَ) اذكر (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي : جبريل قال لها شفاها : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي : اختارك بأن تقبلك من أمّك ولم يقبل قبلك أنثى وفرغك للعبادة وأغناك برزق الجنة عن الكسب وتكليمه لها شفاها كرامة لها. وقيل : كان معجزة لزكريا ، وقيل : كان إرهاصا أي : تأسيسا لنبوّة عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الخوارق قبل البعثة كإظلال الغمام لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة بطريق الشام وإنما حمل على هذا التأويل ؛ لأنها ليست بنبية على الأصح بل حكى البيضاويّ الإجماع على أنه تعالى لم ينبىء امرأة لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) [الأنبياء ، ٧] لكن نوزع في دعوى الإجماع ؛ لأنّ الخلاف ثابت في نبوّة نسوة خصوصا مريم إذ القول بنبوّتها مشهور (وَطَهَّرَكِ) أي : مسيس الرجال ومما يستقذر من النساء (وَاصْطَفاكِ) ثانيا (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) بهدايتك وإرسال الملائكة إليك وتخصيصك بالكرامات السنية كالولد من غير أب ولم يكن لأحد من النساء.

فائدة : أفضل نساء العالمين مريم كما في الآية إذ قيل بنبوّتها ثم فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خديجة أمّها ثم عائشة ثم آسية امرأة فرعون.

فإن قيل : روى الطبرانيّ : «خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد ثم فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم آسية امرأة فرعون» (١) أجيب : بأنّ خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي : أطيعيه (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي : وصلي مع المصلين في الجماعة أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم.

فإن قيل : لم قدم السجود على الركوع؟ أجيب : باحتمال أنه كان كذلك في تلك الشريعة وقيل : بل كان السجود قبل الركوع في الشرائع كلها أو للتنبيه على أنّ الواو لا تقتضي الترتيب.

(ذلِكَ) أي : ما قصصناه عليك يا محمد من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي : من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي : عندهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) في الماء أي : سهامهم التي طرحوها فيه وعليها علامة على القرعة وقيل : هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركا بها ليعلموا (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي : يحضنها ويربيها ، فأيّ متعلق بمحذوف كما علم من التقدير (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في كفالتها فتعرف ذلك فتخبر به وإنما عرفته من جهة الوحي.

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في موارد الظمآن ٢٢٢٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٤٤٠٤ ، والطبراني في المعجم الكبير ٢٢ / ٤٠٢.

٢٤٦

فإن قيل : لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم من غير شبهة وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ أجيب : بأنه كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة ومثل ذلك قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص ، ٤٤] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) [القصص ، ٤٦] (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) [يوسف ، ١٠٢] واذكر.

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي : جبريل (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي : بابن (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وإنما خاطبها بنسبته إليها تنبيها على أنها تلده بلا أب إذ عادة الأبناء نسبتهم إلى آبائهم لا إلى أمهاتهم وبنسبته إليها فضلت واصطفيت على نساء العالمين.

فإن قيل : هذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى ، وأمّا المسيح والابن فلقب وصفة أجيب : بأنّ الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز عمن سواه مجموع هذه الثلاثة ، والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك لقوله : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) واشتقاقه من المسح ؛ لأنه مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسح الأرض ولم يقم في موضع ، أو لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحا بالدهن ، أو لأنّ جبريل مسحه بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل ، أو لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له. وقال ابن عباس : سمي مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برىء ، ويسمى الدجال مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين وعيسى معرب إيشوع وهو بالشين المعجمة السيد. قال البيضاويّ اشتقاقه من العيس وهو بياض تعلوه حمرة وهو تكلف لا طائل تحته وقوله تعالى : (وَجِيهاً) أي : ذا جاه حال مقدّرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة.

فإن قيل : لم ذكر ضمير الكلمة أجيب : بأنّ المسمى بها مذكر (فِي الدُّنْيا) أي : بالنبوّة والتقدّم على الناس (وَ) في (الْآخِرَةِ) بالشفاعة والدرجات العلى (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عند الله تعالى لعلوّ درجته في الجنة ورفعه إلى السماء وصحبته للملائكة.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ

٢٤٧

لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١))

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي : صغيرا قبل أوان الكلام كما ذكر في سورة مريم (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) [مريم ، ٣٠] الآية. وحكي عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدّثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. والمهد ما يمهد للصبيّ من مضجعه وقوله تعالى : (وَكَهْلاً) عطف على في المهد أي : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولية وحال الكهولية التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء ، وقد رفع بعد كهولته ، وقيل : إنه رفع شابا وعلى هذا المراد كهلا بعد نزوله وذكر تعالى أحواله المختلفة المتنافية إرشادا إلى أنه بمعزل عن الألوهية.

فإن قيل : فما فائدة البشارة بكلامه كهلا والناس في ذلك سواء؟ أجيب : بأنه بشرها بأنه يبقى إلى أن يتكهل وبعدم التفاوت بين الحالين كما مرّ وقوله تعالى : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي : من عباد الله الصالحين حال من كلمة أو من ضميرها الذي في يكلم.

فإن قيل : لم ختم الصفات المذكورة بقوله : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) بعد كونه وجيها في الدنيا وفسرت بالنبوّة ولا شك أنّ النبوّة أرفع من منصب الصلاح بل كل واحدة من الصفات المذكورة أشرف من كونه صالحا؟ أجيب : بأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح ولهذا قال نبيّ الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسّلام بعد النبوّة (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل ، ١٩] فلما عدّد صفات عيسى عليه الصلاة والسّلام أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات.

(قالَتْ رَبِ) أي : يا سيدي فقولها لله عزوجل وقيل : قالته لجبريل قاله البغويّ وقال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أن قولها رب نداء لجبريل بمعنى يا سيدي (أَنَّى) أي : كيف (يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي : ولم يصبني رجل بتزوّج ولا غيره ، قالت ذلك تعجبا إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد مولود بلا أب أو استفهاما عن أن يكون بتزوّج أو بغيره (قالَ) الأمر (كَذلِكِ) من خلق ولد منك بلا أب (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) القائل جبريل أو الله وجبريل حكى لها وقوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً) أي : أراد كون شيء (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) صر وقرأ (فَيَكُونُ) ابن عامر بفتح النون ، والباقون بضمها أي : فهو يكون ؛ لأنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجا بأسباب وموادّ يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك ، فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه هناك.

وقوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) أي : الكتابة (وَالْحِكْمَةَ) أي : العلم المقترن بالعمل (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) كلام مستأنف ذكر تطييبا لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم حين علمت أنها تلد من غير زوج وقيل : المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان لفضلهما ، وقرأ نافع وعاصم بالياء والباقون بالنون.

٢٤٨

(وَ) نجعله (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) إما في الصبا أو بعد البلوغ وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثه إليهم وللردّ على من زعم أنه مبعوث إلى غيره.

فائدة : كان أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى عليهم الصلاة والسّلام ، ولما بعث إليهم قال لهم : إني رسول الله إليكم (أَنِّي) أي : بأني (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) أي : علامة (مِنْ رَبِّكُمْ) تصدّق قولي ، وإنما قال بآية وقد أتى بآيات ؛ لأنّ الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة.

ولما قال ذلك لبني إسرائيل قالوا : وما هي؟ قال : هي (أَنِّي) قرأ نافع وحده بكسر الهمزة على الاستئناف ، وفتح الياء من إني نافع وأبو عمرو ، وسكنها الباقون (أَخْلُقُ) أي : أصوّر (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي : مثل صورته فيصير طيرا كسائر الطيور وحيا طيارا ، والكاف اسم مفعول وقرأ ورش بالمدّ على الياء من هيئة والتوسط كما تقدّم في شيء (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف أي : في ذلك المماثل للطير أي : في فيه (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) أي : بإرادته نبه بذلك على أن إحياءه من الله تعالى لا منه ، وقرأ نافع بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة ورقق ورش الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء من غير ألف فقراءة الجمع نظرا إلى أنه خلق طيرا كثيرا وقراءة المفرد نظرا إلى أنه نوع واحد من الطير ؛ لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش ؛ لأنه أكمل الطير خلقا ؛ لأنّ له أسنانا وللأنثى ثديا وتحيض ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله وليعلم أنّ الكمال لله عزوجل.

(وَأُبْرِئُ) أي : أشفي (الْأَكْمَهَ) وهو الذي ولد أعمى أو ممسوح العينين. قال الزمخشريّ : ويقال لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب «التفسير» ولعل هذا على التفسير الثاني (وَالْأَبْرَصَ) وهو الذي به برص وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته وإنما خص هذين المرضين بالذكر ؛ لأنهما أعيا الأطباء وكان الغالب في زمن عيسى الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك ، قال وهب : ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا ، من أطاق منهم أن يبلغه أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده على شرط الإيمان.

وإنما قال ثانيا (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) وكرّر بإذن الله دفعا لتوهّم الألوهية ، فإنّ الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية ، قال ابن عباس : قد أحيا عيسى أربعة أنفس : عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح عليه‌السلام ، فأمّا عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه‌السلام إنّ أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتى هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله سبحانه وتعالى فقام وخرج من قبره وبقي وولد له ، وأما ابن العجوز فمرّ به ميتا على عيسى يحمل على سرير فدعا الله تعالى عيسى فجعل على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له ، وأما ابنة العاشر فكان رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى فأحياها فبقيت وولد لها ، وأما سام بن نوح فإنّ عيسى عليه‌السلام جاء إلى قبره ودعا فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة وما كانوا يشيبون في ذلك الزمان فقال : قد قامت القيامة؟ فقال : لا ولكن قد دعوت الله تعالى فأحياك ، ثم قال له : مت فقال : بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى ففعل به ما قال.

٢٤٩

(وَأُنَبِّئُكُمْ) أي : أخبركم (بِما تَأْكُلُونَ) بما لم أعاينه (وَما تَدَّخِرُونَ) أي : تخبئون (فِي بُيُوتِكُمْ) حتى تأكلوه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما أكل اليوم وبما ادّخره للعشاء ، وقال السدي : كان عيسى في الكتاب يحدث الغلمان بما تصنع آباؤهم ، ويقول للغلام : انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا قال : فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون : من أخبرك بهذا؟ فيقول : عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا لهم : لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا : ليسوا ههنا قال : فما في هذا البيت؟ قالوا : خنازير قال عيسى : كذلك يكونوا ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل فهمت به بنو إسرائيل فلما خافت عليه أمّه حملته على حمار لها وخرجت هاربة إلى مصر ، وقال قتادة : إنما هذا في المائدة وكان خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمنّ والسلوى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد فخانوا وخبؤوا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وادّخروا منها فمسخهم الله خنازير (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرته لكم (لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : مصدّقين للحق غير معاندين.

وقوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً) منصوب بإضمار فعل يدل عليه قد جئتكم أي : وجئتكم مصدّقا (لِما بَيْنَ يَدَيَ) أي : قبلي (مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) فيها في شريعة موسى عليه الصلاة والسّلام فأحل لهم أكل الشحوم والثروب وهو شحم رقيق يغشى الكرش والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت وقيل : أحل الجميع فبعض بمعنى كل كقول لبيد (١) :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النفوس حمامها

يعني كل النفوس.

فإن قيل : كيف يكون مصدّقا للتوراة والإحلال يدل على أنّ شرعه كان ناسخا لشرع موسى؟ أجيب : بأنه لا تناقض كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بالتناقض والتكاذب ، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان وإنما كرر (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) للتأكيد وليبني عليه (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : في مخالفة أمره أي : جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات وبغيره من ولادتي من غير أب ومن كلامي في المهد وغير ذلك ، فهي في الحقيقة آيات وإنما وحدها لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته (وَأَطِيعُونِ) فيما أدعوكم إليه من توحيد الله وطاعته.

ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه (فَاعْبُدُوهُ) أي : لازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي (هذا) الذي دعوتكم إليه (صِراطٌ) أي : طريق (مُسْتَقِيمٌ) أي : هو المشهود له بالاستقامة.

روى الإمام أحمد وغيره أنّ رجلا قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٣١٣ ، والخصائص ١ / ٧٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٧٢ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤١٥ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٥١ ، ومجالس ثعلب ص ٦٣ ، ٣٤٦ ، ٤٣٧ ، والمحتسب ١ / ١١١ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٣٤٩ ، والخصائص ٢ / ٣١٧ ، ٣٤١.

٢٥٠

أحدا بعدك ، قال : «قل آمنت بالله ثم استقم» (١). ولما قال لهم ذلك كذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى :

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) أي : علم (مِنْهُمُ) علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس (الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي) قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالسكون أي : أعواني وقوله : (إِلَى اللهِ) متعلق بمحذوف حال من الياء أي : من أنصاري ذاهبا إلى الله تعالى ملتجئا إليه تعالى لأنصر دينه وقيل : إلى هنا بمعنى مع أو في أو اللام (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي : أعوان دينه واختلفوا في الحواريين ، فقال السدي : لما بعث الله تعالى عيسى إلى بني إسرائيل كذبوه وأخرجوه فخرج هو وأمه يسبحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما ، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوما مهتما حزينا فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم : ما شأن زوجك أراه كئيبا؟ قالت : لا تسأليني قالت : أخبريني لعل الله يفرّج كربته قالت : إن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما أن يطعمه وجنوده ويسقيهم خمرا فإن لم يفعل عاقبه واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة قالت : فقولي له لا تهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك ، فقالت مريم لعيسى في ذلك قال عيسى : إن فعلت ذلك وقع شرّ قالت : فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا. قال عيسى : قولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك فدعا الله عيسى فتحوّل ماء القدور مرقا ولحما وماء الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط ، فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال : من أين هذا الخمر؟ قال : من أرض كذا قال : فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هي من أرض أخرى فلما خلط على الملك شدّد عليه قال : فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه وإنه دعا الله فجعل الماء خمرا ، فلما أحضره وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام وكان أحب الخلق إليه فقال : إنّ رجلا دعا الله تعالى فجعل الماء خمرا ليجأ به إليّ حتى يحيي ابني فدعي بعيسى إليه فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا أفعل فإنه إن عاش وقع شرّ. قال الملك : لا عليك. قال عيسى : إن أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ قال : نعم فدعا الله تعالى فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا ، وذهب عيسى وأمّه فمرّوا بالحواريين وهم يصطادون السمك فقال : ما تصنعون؟ قالوا : نصطاد السمك قالوا : ومن أنت؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فقالوا : (آمَنَّا) أي : صدقنا (بِاللهِ وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من الإنجيل (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عيسى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) لك بالوحدانية أو مع النبيين الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم شهداء على الناس وقال الحسن : كانوا قصارين سموا بذلك ؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب أي : يبيضونها ، وعلى الأوّل سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال عطاء : سلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال : يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤١٣ ، ٤ / ٣٨٥.

٢٥١

ثياب مختلفة الألوان وقد علمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغا منها عند قدومي ، وخرج فطبخ عيسى جبا واحدا على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال : كوني بإذن الله تعالى على ما أريد منك فقدم الحواري والثياب كلها في الجب فقال : ما فعلت؟ قال : فرغت منها قال : أين هي؟ قال : في الجب قال : كلها؟ قال : نعم قال : لقد أفسدت تلك الثياب فقال : قم فانظر فأخرج عيسى ثوبا أصفر وثوبا أخضر وثوبا أحمر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها ، فجعل الحواري يتعجب وعلم أنّ ذلك من الله تعالى ، فقال للناس : تعالوا فانظروا فآمن هو وأصحابه وهم الحواريون وقال الكلبي وعكرمة : الحواريون الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى أوّل من آمن به وكانوا اثني عشر من الحور وهو البياض الخاص ، وحواري الرجل صفوته وخالصته. وقيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهن قال القائل (١) :

فقل للحواريات يبكين غيرنا

ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح

قال الله تعالى : (وَمَكَرُوا) أي : كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر به ، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسّلام بعد إخراج قومه إياه وأمّه عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به ووكلوا به من يقتله غيلة ـ وهي بالكسر ـ أن يخدع غيره فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله فذلك مكرهم إذ المكر من المخلوق الخبث والخديعة والحيلة ، وأمّا من الخالق وهو قوله تعالى : (وَمَكَرَ اللهُ) أي : بهم (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي : أعلمهم به ، فقال الزجاج : مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء ؛ لأنه في مقابلته كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة ، ١٥] وهو خادعهم ومكر الله تعالى بهم في هذه الآية بأن ألقى شبهه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل.

روي أنّ عيسى استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا : قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه ، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير ، فلما رأى ذلك يهوذا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وساروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها كوة فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الكوة فأمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل لم ير عيسى فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه ، فلما صلب جاءت أمّ عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله تعالى من الجنون يبكيان عند المصلوب ، فجاءهما عيسى فقال لهما : على من تبكيان؟ إنّ الله تعالى رفعني ولم يصبني إلا خير وإن هذا شبه لهم ، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى : اهبط إلى مريم فإنه لم يبك عليك أحد بكاها ولم يحزن حزنها ، ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عزوجل ، فأهبطه الله تعالى إليها فاشتعل حين أهبط نور فجمعت له

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي جلدة اليشكري في ديوانه ص ٣٣٧ ، والمؤتلف والمختلف ص ٧٩ ، ولسان العرب (حور) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١١٢ ، ومجمل اللغة ٢ / ١١٩ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٨٥ ، ومقاييس اللغة ٢ / ١١٦ ، وتهذيب اللغة ٥ / ٢٢٩ ، وأساس البلاغة (حور).

٢٥٢

الحواريين ، فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله تعالى إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى ، فلما أصبح الحواريون تحدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه الصلاة والسّلام إليهم.

وروي أنّ الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت فقال لها : إنّ القيامة تجمعنا وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة ، وقالت أهل التواريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشر سنة وولدته لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل ، فأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين وعاشت أمّه بعد رفعه ست سنين وقوله تعالى :

(إِذْ قالَ اللهُ) ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو لمضمر مثل اذكر (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي : مستوفي أجلك ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكافر ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم أو قابضك من الأرض. من توفيت مالي أي : قبضته أو متوفيك نائما كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام ، ٦٠] أي : يميتكم ، إذ روي أنه رفع نائما أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت (وَرافِعُكَ إِلَيَ) أي : إلى محل كرامتي ومقرّ ملائكتي ، إذ روي أنّ الله تعالى رفعه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وكان إنسيا سماويا أرضيا ، وقال محمد بن إسحاق : النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه. وقال الضحاك : إنّ في الآية تقديما وتأخيرا معناه إني رافعك إليّ (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : مخرجك من بينهم ومنجيك منهم ومتوفيك بعد إنزالك من السماء.

روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» (١).

وروى الشيخان حديث : «أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية» (٢) وفي حديث مسلم أنه يمكث سبع سنين ، وفي حديث عند أبي داود والطيالسي «أربعين سنة» ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ، فيحمل على أنّ مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده أربعون ، وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد نزول عيسى في القرآن؟ قال : نعم قوله تعالى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران ، ٤٦] وهو لم يتكهل في الدنيا وإنما معناه كهلا بعد نزوله من السماء انتهى. وهذا إنما يأتي على القول بأنه رفع شابا ، وأما على القول بأنه رفع بعد ثلاث وثلاثين فلا دليل فيه إذ الكهولة من الثلاثين إلى الأربعين (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) أي : صدقوا بنبوّتك من النصارى ومن المسلمين ؛ لأنه متبعوه في أصل الإسلام ، وإن اختلفت الشرائع (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك من اليهود والنصارى أي : يغلبونهم بالحجة

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٤٩ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤٢ ، ٢٤٣ ، وأبو داود في الملاحم باب ١٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٠ ، ٢٧٢ ، ٢٩٠ ، ٤٠٦ ، ٤١١.

(٢) انظر الحاشية السابقة.

٢٥٣

والسيف (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وقيل : المراد بالذين اتبعوه النصارى وبالذين كفروا اليهود إذ لم نسمع غلبة اليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة وملك النصارى قائم إلى قريب من قيام الساعة وعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء في المحبة لا اتباع الدين (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) الضمير لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به وغلب المخاطب على الغائبين (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

ثم بين الحكم بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي والجزية والذلة (وَ) أعذبهم في (الْآخِرَةِ) بالنار.

فإن قيل : الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة فكيف يصح في تبيينه العذاب في الدنيا؟ أجيب : بأنّ المقصود التأييد من غير نظر إلى الدنيا والآخرة كما في قوله : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي : مانعين منه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي : أجور أعمالهم ، وقرأ حفص بالياء ، والباقون بالنون (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي : لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل.

وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من خبر عيسى ومريم وامرأة عمران وهو مبتدأ خبره (نَتْلُوهُ) أي : نقصه (عَلَيْكَ) يا محمد وقوله تعالى : (مِنَ الْآياتِ) خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أو حال من الهاء (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي : القرآن وصف بصفة من هو سببه أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. وقيل : هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء. ولما قال وفد نجران للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لك سببت صاحبنا؟ قال : وما أقول؟ قالوا : تقول إنه عبد قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب ، نزل.

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى) أي : شأنه وحالته الغريبة (عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي : كشأنه في خلقه من غير أب وقوله تعالى : (خَلَقَهُ) أي : آدم (مِنْ تُرابٍ) جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم أي : خلق آدم من تراب ولم يكن ثم أب ولا أم فكذلك حال عيسى.

فإن قيل : كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب وآدم بغير أب وأم؟ أجيب : بأنّ مثله في أحد الطرفين ولا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيه به ؛ لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شبه به في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران ، ولأنّ الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أب له قال : فآدم أولى ؛ لأنه لا أبوين له قالوا : كان يحيي الموتى قال فحزقيل أولى ؛ لأنّ عيسى أحيا أربعة أنفس؟ وحزقيل ثمانية آلاف فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص قال : فجرجيس أولى ؛ لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالما. ومعنى خلق آدم من تراب أي : صوّر جسده من تراب (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أي : أنشأه بشرا بأن نفخ فيه الروح كقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون ، ١٤] وقوله تعالى : (فَيَكُونُ) حكاية حال ماضية أي : فكان وكذلك عيسى قال له : كن من غير أب فكان ويجوز أن تكون ثم لتراخي الخبر لا

٢٥٤

لتراخي المخبر عنه.

وقوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر مبتدأ محذوف أي : أمر عيسى وقوله تعالى : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي : الشاكين خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره فحاشا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون ممتريا.

(فَمَنْ حَاجَّكَ) أي : جادلك من النصارى (فِيهِ) أي : عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : من البينات الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبد الله ورسوله (فَقُلْ) لهم (تَعالَوْا) أي : هلموا بالرأي والعزم (نَدْعُ) جزم في جواب الأمر وعلامة جزمه سقوط الواو (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أي : ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وإنما قدّمهم على النفس ؛ لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم فنجمعهم (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي : نتضرع في الدعاء ونبالغ فيه (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) بأن نقول : اللهم إلعن الكاذب بأمر عيسى ، فلما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غدا ، فخلا بعضهم ببعض وقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمدا نبيّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكنّ ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد غدا محتضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها رضي الله عنها وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لهم : «إذا أنا دعوت فأمنوا» فقال أسقف نجران ـ وهو اسم سرياني لرئيس النصارى وعاملهم وهو غير العاقب ـ : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم رأيت أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا فقال : «إني أنابذكم» فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تحنفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب تؤديها للمسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدّوها ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك وقال : «والذي نفسي بيده إنّ العذاب تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر» ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)(١) [الأحزاب ، ٣٣] ، وفي ذلك دليل على نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى فضل أهل الكساء رضي الله تعالى عنهم وعن بقية الصحابة أجمعين.

فائدة : رسمت لعنة هنا بالتاء المجرورة ، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي عليها بالهاء ، والباقون بالتاء.

__________________

(١) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٢٤.

٢٥٥

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

(إِنَّ هذا) أي : الذي قص عليك من نبأ عيسى (لَهُوَ الْقَصَصُ) أي : الخبر (الْحَقُ) الذي لا شك فيه ، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء من لهو والباقون بالرفع حيث جاء وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها وإمّا مبتدأ والقصص الحق خبره والجملة خبران.

فإن قيل : لم جاز دخول اللام على الفصل؟ أجيب : بأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أولى ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ وأصلها أن تدخل على المبتدأ (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) إنما صرح فيه بمن المزيدة للاستغراق تأكيدا للردّ على النصارى في تثليثهم (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) في صنعه فلا أحد يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة فلا يشاركه في الألوهية.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الإيمان (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) فيجازيهم وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنّ التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والاعتقاد المؤدّي إلى فساد النفس بل وإلى فساد العالم.

ولما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود واختصموا في إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى الناس به ، وقالت اليهود : بل كان يهوديا وهم على دينه وأولى الناس به ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» (١) فقالت اليهود : يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٤ / ١٢٧.

٢٥٦

النصارى عيسى ، وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ، نزل.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) وهو يعم أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ) العرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنها سميت القصيدة كلمة ، وقوله تعالى : (سَواءٍ) مصدر بمعنى مستو أمرها لا تختلف فيها الرسل والكتب (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) هو نعت الكلمة ؛ لأنّ المصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث ، فإذا فتحت السين مدّت وإذا كسرت أو ضمت قصرت كقوله تعالى : (مَكاناً سُوىً) [طه ، ٥٨] ثم فسر الكلمة بقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) أي : نوحده بالعبادة ونخلص له فيها (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) أي : ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا ؛ لأن يعبد (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي : ولا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل ، لأنهم بشر مثلنا.

روى الترمذي لما نزل قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قال عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال : «أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم قال : هو ذلك» (١) أي : أخذكم بقولهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن التوحيد (فَقُولُوا) أنتم لهم (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي : موحدون دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بذلك ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو نحو ذلك : اعترف بأني الغالب وسلم لي الغلبة.

قال البيضاوي : تنبيه : انظر ما راعى أي : الله سبحانه وتعالى في هذه القصة من المبالغة والإرشاد وحسن التدرج في الحجاج أولا لأحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للإلهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح أي : يزيل شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد إليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد أي : ينفع ذلك أيضا عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك ، وقال : اشهدوا بأنا مسلمون.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) وقد مرّ أنه يعم أهل الكتابين اليهود والنصارى (لِمَ تُحَاجُّونَ) أي : تخاصمون (فِي إِبْراهِيمَ) بزعمكم أنه على دينكم (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) على موسى (وَالْإِنْجِيلُ) على عيسى (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي : بزمن طويل إذ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بطلان قولكم حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.

(ها أَنْتُمْ) يا (هؤُلاءِ) ها للتنبيه وأنتم مبتدأ خبره (حاجَجْتُمْ) أي : جادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من أمر موسى وعيسى وزعمتم أنكم على دينهما (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من شأن إبراهيم وليس له ذكر في كتابكم (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما حاججتم فيه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي : جاهلون به.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٣٠٩٥.

٢٥٧

ثم قال تعالى تبرئة لإبراهيم : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) أي : مائلا عن الأديان كلها إلى الدين القيّم (مُسْلِماً) أي : موحدا منقادا لله تعالى وليس المراد أنه كان على دين الإسلام وإلا لاشترك الإلزام ؛ لأنهم يقولون : ملة الإسلام حدثت بعد نزول القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان إبراهيم قبله بمدّة طويلة فكيف يكون على ملة الإسلام الحادثة بنزول القرآن ، فعلم أن المراد يكون إبراهيم مسلما أنه كان على ملة التوحيد لا على هذه الملة (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما لم يكن منكم أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم عزيرا والمسيح.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ) أي : أحقهم (بِإِبْراهِيمَ) من أمّته (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) من أمّته (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ناصرهم وحافظهم ولما دعا اليهود معاذا وحذيفة وعمارا إلى دينهم نزل.

(وَدَّتْ) أي : تمنت (طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) عن دينكم ويردّونكم إلى الكفر (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي : أمثالهم أو إن أثم إضلالهم عليهم والمؤمنون لا يطيعونهم فيه (وَما يَشْعُرُونَ) بذلك.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنها آيات الله عزوجل أو بالقرآن العزيز وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَ) أي : القرآن المشتمل على نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْباطِلِ) أي : بالتحريف والتزوير (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي : نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه حق.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : اليهود قالوا لجماعة منهم (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي : القرآن أي : أظهروا الإيمان به (وَجْهَ النَّهارِ) أي : أوّله وإنما سمي أوّله وجها لأنه أحسنه ولأنه أوّل ما يرى بعد الليل (وَاكْفُرُوا) به (آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ) أي : المؤمنين (يَرْجِعُونَ) عن دينهم إذا رأوكم رجعتم واختلف في هذه الطائفة ، فقال الحسن والسديّ : هي اثنا عشر من يهود خيبر وقيل : قريظة تواطؤوا ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أوّل النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك فظهر لنا كذبه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه واتهموه وقالوا : إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا فيرجعون عن دينهم. وقال مجاهد ومقاتل والكلبيّ : هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما تحوّلت القبلة وشق ذلك على اليهود آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أوّل النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ) أي : وافق (دِينَكُمْ) أي : ولا تقرّوا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أولى وأهمّ فأطلع الله سبحانه وتعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سرّهم.

تنبيه : قال البغويّ : اللام في لمن صلة أي : لا تصدقوا إلا من تبع دينكم اليهودية كقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) [النمل ، ٧٢] أي : ردفكم (قُلْ) يا محمد (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) الذي هو الإسلام وما عداه ضلال وقوله تعالى : (أَنْ يُؤْتى) بمعنى الجحد أي : ما يؤتى (أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) يا أمّة محمد (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) أي : إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا : نحن

٢٥٨

أفضل منكم وقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي : عند فعل ربكم بكم ذلك ، وهذا معنى قول سعيد بن جبير والكلبيّ ومقاتل والحسن وهو حسن ، وقال الفرّاء : ويجوز أن تكون أو بمعنى حتى كما يقال تعلق به أو يعطيك حقك أي : حتى يعطيك حقك ويكون معنى الآية ما أعطى أحد مثل ما أعطيتم يا أمّة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم أي يوم القيامة.

وقال مجاهد قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) كلام معترض بين كلامين وما بعد متصل بالكلام الأوّل إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض أي : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات من المنّ والسلوى وفلق البحر وغيرها من الكرامات ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم ، وقرأ ابن كثير وحده بهمزة واحدة ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هدى الله بدلا من الهدى وأن يؤتى أحد خبر أن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم ، قال : ويجوز أن ينتصب أن يؤتى بفعل مضمر يدل عليه قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) كأنه قيل : قل إنّ الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأنّ قولهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم إنكار ، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من عباده (وَاللهُ واسِعٌ) أي : كثير الفضل (عَلِيمٌ) بمن هو أهله (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) أو نبوّته (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ففي ذلك ردّ وإبطال لما زعموه بالحجة الواضحة.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) أي : بمال كثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كعبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأدّاه إليه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كفنحاص بن عازوراء استودعه رجل آخر من قريش دينارا فجحده (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي : إلا إن أودعته واسترجعته منه وأنت قائم على رأسه لم تفارقه ردّه إليك وإن فارقته وأخرته نكل ولم يردّه ، وقيل : المأمون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم ، وقرأ حمزة وأبو عمرو وشعبة يؤدّه ولا يؤدّه إليك بإسكان الهاء فهو وصل بنية الوقف فهو سكون وقف بالنية لا بالفعل وقالون باختلاس حركة الهاء ، وحفص والكسائي بالحركة الكاملة والألف في قنطار ودينار بالإمالة لأبي عمرو والدوري عن الكسائي وورش بين بين والباقون بالفتح (ذلِكَ) أي : ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى لا يؤدّه (بِأَنَّهُمْ قالُوا) أي : بسبب قولهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ) أي : العرب (سَبِيلٌ) أي : إثم لاستحلالهم ظلم من خالفهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى قالوا : لن يجعل الله لهم في التوراة حرمة فكذبهم الله عزوجل بقوله عز من قائل (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي : في نسبة ذلك إليه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون وقال الحسن وابن جريج ومقاتل : بايع اليهود رجلا من المسلمين في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا : ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء ؛ لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، فكذبهم الله تعالى في ذلك.

روى الطبراني وغيره أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عند نزول هذه «كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي» (١) أي : منسوخ متروك إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر أي : والديون من

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٤٤ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ٥١ ، والطبري في تفسيره ٣ / ٢٢٧.

٢٥٩

الأمانة ؛ لأنّ المراد من الأمانة الرضا بالذمّة وقوله تعالى :

(بَلى) إثبات لما نفوه أي : بلى على اليهود في الأمّيين سبيل ثم ابتدأ فقال : (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) أي : ولكن من أوفى بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن وأداء الأمانة (وَاتَّقى) الله بترك المعاصي وفعل الطاعات (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) فيه وضع الظاهر موضع المضمر أي : يحبهم بمعنى يثيبهم.

فإن قيل : فأين الضمير الراجع من الخبر إلى من؟ أجيب : بأنّ عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.

ونزل في أحبار من اليهود حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكم الأمانة وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) أي : يستبدلون (بِعَهْدِ اللهِ) إليهم في الإيمان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوفاء بأداء الأمانة (وَأَيْمانِهِمْ) أي : حلفهم به تعالى كاذبا من قولهم : والله لنؤمننّ ولننصرنه (ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا (أُولئِكَ لا خَلاقَ) أي : لا نصيب (لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) أي : بما يسرّهم أو بشيء أصلا وأنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي : ولا يرحمهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي : ولا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به وقيل : نزلت في جماعة من اليهود جاؤوا إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين فقال لهم : أتعلمون أنّ هذا الرجل رسول الله قالوا : نعم قال : لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيرا كثيرا فقالوا : لعله اشتبه علينا فرويدا حتى نلقاه فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته ثم رجعوا إليه وقالوا : لقد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ففرح ومارهم ، وعن الأشعث بن قيس : «نزلت فيّ كان بيني وبين رجل خصومة في بئر وأرض ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : شاهداك أو يمينه فقلت : إذا يحلف ولا يبالي فقال : من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك هذه الآية» (١).

وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال : فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرّات فقال أبو ذر : خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال : «المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» (٢) وفي رواية المسبل إزاره ، وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم رجل حلف على يمين على مال مسلم فاقتطعه ، ورجل حلف يمينا بعد صلاة العصر أنه أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل ماء ، فإنّ الله تعالى يقول : اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» (٣).

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرهن حديث ٢٥١٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٣٨.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٠٦ ، وأبو داود في اللباس حديث ٤٠٨٧ ، والترمذي في البيوع حديث ١٢١١ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٥٦٣ ، وابن ماجه في التجارات حديث ٢٢٠٨.

(٣) أخرجه البخاري في المساقاة حديث ٢٣٦٩.

٢٦٠