نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام و... :

تناولت الآية التاسعة مسألة سعة علم الله سبحانه ، حيث جسمت هذه المسألة أمام نظر الجميع بالأعداد والأرقام حيث قالت : (وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

قد وردت في سورة الكهف آية مشابهة لهذه الآية مع فارق بسيط ، فلنبدأ بالاحصاء هنا ولنتأمل قليلاً لنرى هل من الممكن أن نحصل على عشرات الأقلام من شجرة واحدة تكفي ـ الأقلام التي حصلنا عليها من عدد من الأشجار ـ لكتابة جميع علوم الإنسان المدونة في الآف الكتب منذ الآف السنين ولحد الآن؟ من المحتمل أننا نحتاج لحل هذه المعضلة إلى حوض من الحبر بحجم المسابح الصغيرة.

فلْنتصّور إذن المقدار الخيالي لجميع الغابات والأشجار في جميع البساتين ، والكثير من البراري والجبال ولْنتصور ملايين الأمتار المكعبة من مياه المحيطات والبحار ، الذي يبلغ ثلاثة أرباع حجم الكرة الأرضية ، بعمقه الكبير ، ثم نضيف على هذا الرقم الخيالي سبعة أمثاله (هذا إذا اعتبرنا العدد ٧ يدلّ على نفس العدد لا على قصد الكثرة) لنتج لنا رقما خيالياً عجيباً! فأي علم يحيط به؟

والأكثر من هذا أنّ القرآن الكريم يقول : إنّها جميعاً تنفد ولا تنفد كلمات الله ، فهل يوجد تعبير أقوى وأبلغ من هذا التعبير الدال على لامحدودية علم الله؟ فذكر الأعداد والأرقام ، وإضافة الأصفار إلى جانب عدد معين لا يمكنه أن يعكس عظمة ذلك العدد ، فكأنّ الأعداد جامدة لا قيمة لها ، لكن العدد الذي ورد في هذه الآية ، كناية عن اللانهاية هو عدد محسوس وناطق وغني.

أمّا كلمة «البحر» فنظراً لكون الالف واللام الموجودة فيه تدلّ على العموم في مثل هذه الحالات ، لذا فهي تعم جميع البحار الموجودة على سطح الأرض. وبغض النظر عن ذلك فإنّ جميع بحار الأرض متصلة مع بعضها ، فهي تعتبر بحراً واحداً ويصحّ استعمال صيغة المفرد فيها.

٦١

لذا فإنّ المقصود من «سبعة ابحر» هو إضافة سبعة أمثال جميع البحار الموجودة على سطح هذه الأرض إلى مقدارها الأصلي ، و «كلمات الله» علمه سبحانه ، أو الموجودات التي أحاط بها علمه. ومن حيث إنّ علمه لامتناهٍ وجميع البحار والأشجار ـ الموجودة ـ متناهية ، لذا من البديهي أن تكون عاجزة عن احصاء علمه.

واللطيف هو تعبيره سبحانه في الآية بكلمة «شجرة» بصيغة المفرد ، و «أقلام» بصيغة الجمع للدلالة على إمكان صياغة الأقلام الكثيرة من ساق وجذع واحد.

وبالرغم من أنّ هناك احتمالين حول المقصود من العدد سبعة وهما : «العدد» و «الكثرة» ، لكنّه يظهر من الآية بأنّ المقصود منه الكثرة لا العدد ، أي مهما أضيفت إليه أبحر اخرى أيضاً فإنّ كلمات الله بالرغم من ذلك لانفاد لها.

والجملة الأخيرة من هذه الآية (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تؤكد هذه المسألة أيضاً ، لأنّ الله تعني قدرته اللامتناهية في الخلق والإيجاد ، وحكمته أيضاً تدلّ على إحاطته علماً بدقائق وأسرار موجودات العالم.

والأخير حول هذه الآية هو أنّه نقل عن شأن نزولها بأنّ جماعة من اليهود قالوا : بأنّ الله قد ذكر كل شي فى التوراة ولم يُبق شيئاً فقال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : مثل ما ورد في التوراة بالنسبة إلى كلام الله كالقطرة من البحر ، فنزلت هذه الآية وبيّنت سعة علم الله.

وروي كذلك بأنّ هذه الآية نزلت عندما قال جماعة من الكفار : إنّ ما يأتي به محمد سينتهي قريباً ، فردهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : بأنّ هذا كلام الله ولا نفاد له ، فنزلت هذه الآية لتبيان هذا المعنى (١).

عنده مفاتح الغيب الخمسة :

لقد عرضت الآية العاشرة أيضاً قسما آخر من علم الله تعالى ، وهو العلوم الغيبيّة المخصوصة بذاته المقدّسة ، وأكدت بأنّ لا أحد يحيط بحقيقتها سواه ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٥ ، ص ١١٧ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥١٥٨.

٦٢

عِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرحَامِ). (من حيث نوع الجنس وما يتعلق به والسلامة ، ومن حيث سائر الاستعدادات والقدرات الاخرى). (وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ).

ما ذُكر في هذه الآية من علم الله يعكس بوضوح موعد القيامة ، لكن لحن الآية يدلّ على اختصاص علم الامور الأربعة المذكورة بعد هذا الأمر بالله سبحانه أيضاً ، لأنّه لا يُرى تشابه بين هذه المواضيع الخمسة سوى من حيث كونها علوماً خاصّة بالله سبحانه ، علاوة على ماصرحت به الكثير من الروايات المنقولة من طرق الشيعة والسنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، حول اختصاص هذه العلوم الخمسة بذاته المقدّسة جلّ وعلا ، وكنموذج ننقل هنا حديثاً من تفسير (الدر المنثور) وآخر من تفسير «نور الثقلين»:

١ ـ ورد في (الدر المنثور) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ومفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلّا الله ، لايعلم ما في غدٍ إلّاالله ، ولا متى تقوم الساعة إلّاالله ، ولا يعلم ما في الأرحام إلّا الله ، ولا متى ينزل الغيث إلّاالله ، وما تدري نفس بأي أرض تموت إلّاالله» (١).

٢ ـ ورد في (نور الثقلين) عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «ألا أخبركم بخمسة لم يُطْلع الله عليها أحداً من خلقه؟ قلت : بلى ، قال : إنّ الله عنده علم الساعة ويُنزلُ الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت إنّ اللهَ عليمٌ خبير» (٢).

وقد وردت روايات كثيرة اخرى أيضاً في كتب الحديث حول هذا الموضوع (٣).

الإجابة عن سؤالين :

السؤال الأول : كيف أنّ هذه العلوم الخمسة مختصة بالله سبحانه وتعالى مع أنّه من الممكن تشخيص جنس الجنين (ذكر أم انثى) بوسائل معينة؟ وإن لم تكن هذه المسألة

__________________

(١) تفسير درّ المنثور ، ج ٥ ، ص ١٦٩.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٢١٨.

(٣) للمزيد من الاطلاع يراجع تفسير درّ المنثور ، ج ٥ ، ص ١٦٩ وما بعدها ؛ وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٢١٨ وما بعدها ؛ وتفسير البرهان ج ٣ ، ص ٢٨٠.

٦٣

قطعية لحد الآن ، وكذلك نزول الغيث حيث يستنبأ بنزوله قبل هطوله بقليل.

الجواب : الكلام لا يدور فقط حول جنس الجنين بل إنّ الله سبحانه يعلم عدد الأجنة الموجودة في الأرحام ، ووضعيتها واستعداداتها وأذواقها ، ومواهبها ، وقدراتها وضعفها وجميع خصوصياتها ، وهكذا عن الغيث ، فقد أحاط علمه بكمية الغيث ونوعيته وعدد قطراته ووزنها ومحل سقوطها. ولا أحد يمكنه أن يحيط علماً بهذه الأمور وبأي وسيلة كانت.

والشاهد على كلامنا هذا هو حديث ورد في نهج البلاغة حول تفسير هذه الآية :

(فَيَعْلَمُ اللهُ سُبْحانَهُ ما فِي الْارْحامِ مِنْ ذَكَرٍ او انْثى وَقَبيحٍ اوْ جَميلٍ وَسَخِيٍّ اوْ بَخيلٍ ... فَهذا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذي لايَعْلَمُهُ احَدٌ الَّا اللهُ) (١).

تدلّ هذه العبارة بوضوح على أنّ المقصود هو العلم بجميع صفات الجنين الجسمية والروحية ، لا جنس الجنين فقط.

السؤال الثاني : كيف يمكن الجمع بين هذه الآية والروايات الكثيرة التي وردت في تفسيرها وبين الروايات الكثيرة التي صرحت بأنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كانوا يُخبرون عن حوادث المستقبل ، أو يوم وفاتهم ، ومحل دفنهم ، وسائر الامور المستقبلية ، ألا يوجد تعارض بين هاتين المجموعتين؟ لأنّ الآية تقول : (وَمَا تَدرِى نَفسٌ مَّاذَا تَكسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ)؟

الجواب : يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأنّ الفرق هو في الإجمال والتفصيل بتوضيح أن ما يخبر به أولياء الله أو الملائكة عن حوادث المستقبل وعلم الغيب ليس إلّاعلماً إجماليّاً ، فمثلاً يعلمون بأنّ الشخص الفلاني سيموت في الغد ، أمّا العلم بساعة ولحظة وفاته وبقية خصائصها فهو مختص به سبحانه ، فهذا علم تفصيلي وكلي وشامل ، في حين أنّ علم أولياء الله علم إجمالي وجزئي.

وقد أراد بعض المفسرين الرد على هذا الإشكال عن طريق العلم الذاتي والعرضي

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٨.

٦٤

فقالوا : إنّ علم الله بهذه الامور ذاتي ، وأنّ أولياء الله لا يملكون لأنفسهم شيئاً ، فعلمهم إنّما هو بتعليم الله (أي أنّ علمهم عرضي).

لكن هذا الجواب لا يتناسب مع الكثير من الروايات المنقولة من طرق الشيعة والسنة في هذا المجال ، بل وحتى لا يتطابق مع ظاهر الآية في ثلاثة موارد : أحدها انحصار علم الساعة به سبحانه ، وكذلك ما تدري نفس ماذا تكسبُ غداً ، وما تدري نفس بأي أرض تموت.

وكل شيء في كتاب مبين :

أشارت الآية الحاديةُ عشرة إلى علم الله بسرّ الإنسان وعلانيته ، وغيب السموات والأرض ، قال تعالى :

(وَانَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الَّا فِى كِتَابٍ مُّبيْنٍ).

وتعبيره سبحانه «ربك» إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة : فهل يمكن أن يكون المربي ومالك التدبير والتصرف لكل المخلوقات أن لا يحيط علماً بالحالات الباطنية والظاهرية لمن يربيه ومن هو تحت تصرفه؟ وهذه الربوبية هي بذاتها الدليل على علم الله سبحانه وتعالى.

«تكن» من مادة «كن» على وزن «جن». بمعنى الستارة وكل مايمكنه أن يحجب الأشياء ، وقد وردت الصدور هنا كغطاء ساتر على الأسرار الباطنية ، وكما أشرنا سابقاً فإنّ كلمتي الصدر والقلب قد وردتا في الكثير من التعبيرات القرآنية بمعنى الروح والعقل.

وكلمة «غائبة» إذا كانت ذات معنى وصفيّ فهي كناية عن الامور المحجوبة والخفية جدّاً. (لأنّ التاء المربوطة تأتي في مثل هذه الحالات للمبالغة كما في (علامة) (١).

__________________

(١) اعتقد بعض المفسرين كالزمخشري في كشافه بأنّ لهذه الكلمة معنى اسمياً لا وصفياً مثل (عاقبة) ، و (ذبيحة).

٦٥

وقد وردت كلمة «مبين» بمعنى واضح ، وبمعنى موضَّح (لازم ومتعدي) ، والمعنى الثاني هنا أقرب ، أي أنّ اللوح المحفوظ أو لوح علم الله مبين وكاشف للحقائق (١).

ونحن أقرب اليكم :

وفي الآية الثانية عشرة تعابير جديدة ولطيفة حول علم الله ، فقد طرحت فيها أيضاً مسألة علم الله كتحذير لجميع الناس ليراقبوا أفكارهم ونيّاتهم ، وماتكن صدورهم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ اقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيْدِ).

أشارت هذه الآية إلى قسمين من علم الله تعالى :

الأول : يعتمد على مسألة خلق الإنسان ، أي كيف يمكن أن يجهل الخالق الحكيم فعله؟ خصوصاً وأنَّ خلقهُ مستمر وفيضه ينزل كُلَّ لحظة على جميع موجودات عالم الوجود ، وبتشبيه ناقص ، هو التيار الذي ينبعث من المولد الكهربائي ويزود المصابيح بالنور باستمرار.

والثاني : هو أنّه غير بعيد عن مخلوقاته ، فهو أقرب إليهم من أنفسهم ، لذا فحضوره الدائمي وقربه يعد دليلا آخر على إحاطته بجميع الامور.

وقد ذكرت في كتب التفسير واللغة تفاسير متعددة بخصوص كلمة «وريد» منها : أنّ (الراغب) فسره بمعنى الشريان الذي يتصل بالقلب والكبد ، وقال جماعة : إنّه بمعنى وريد الرقبة.

وقال آخرون : إنّه بمعنى الوريد الذي يتصل بالفم أو تحت اللسان وفسره جماعة بأنّه بمعنى جميع الأوعية الدموية الموجودة في البدن. وبديهي فإنّ المعنى الأول (الشريان

__________________

ـ ولو أنّه احتمل المعنى الوصفي أيضاً (تفسير الكشاف ، ج ٣ ، ص ٣٨٢) ، وذكر البعض الآخر كلا الاحتمالين للآية المذكورة.

(١) قال جماعة بأنّ «مبين» من مادّة «بيان» وهي في الأصل بمعنى الانكشاف والوضوح بعد الابهام والإجمال بوسيلة منفصلة لذا فهي تعطي معنى الانفصال ومعنى الوضوح معاً.

٦٦

الرئيسي الأبهر) أكثر تناسباً مع مفهوم الآية ، لأنّه أراد أن يبيّن قرب الله الشديد من الإنسان ، وهذا المعنى أقرب خصوصاً مع ملاحظة وجود وريدين في الرقبة.

والتعبير بكلمة «حبل» يُشير أيضاً إلى أنّ المقصود ليس جميع أوردة البدن ، بل الرئيسة منها ، وكما عبر البعض حيث قالوا : بأنّ المقصود هو الأوردة التي لها منزلة الأنهار لا الجداول.

وعلى أيّة حال فهذه الكلمة مشتقة من كلمة (ورود) أي بمعنى الوصول إلى الماء ـ التي لها تناسب واضح مع أوردة الدم.

ومن هنا يعبر عن الأزهار بالورد ، أي الثمرة الاولى التي ترد من الشجرة (١).

«توسوس» : من الوسوسة والوسواس ، وهو بمعنى الصوت الهادىء الخارج من آلات الطرب ، والنداء والصوت الخفي ، والخواطر القلبية ، والتصورات الفكرية الخاطفة ، والأفكار غير المرغوبة (٢).

وعلى أيِّ حال ، فعندما يحيط الله تعالى بالخواطر الفكرية الخاطفة ، فإنّه لا يبقى مجالٌ للشك والترديد بأنّه سبحانه يحيط علماً بسائر أعمالنا وأفعالنا واعتقاداتنا. وتعبيره : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، إضافة إلى كونه تحذيرا ، فهو ينزل علينا نوعا من السكينة الباعثة للأمل ، ونور هذا الأمل هو الذي ملأ جميع أجزاء وجودنا.

أليس عجيباً أن يبتعد الإنسان من محبوبه بعد أن يعلم بأنّه أقرب إليه من نفسه؟ من الذي يقاسمنا ألم هذه المصيبة عندما يكون المحبوب قريباً من الإنسان ولكن الإنسان يحترق بنار الهجران؟

نحن أقرب قال من حبل الوريد

أنت قد هاجرت عنه وتوغلّت بعيد

أيّها المالي قوساً من نبال

قَربُ الصيد وترمي للجبال!!

__________________

(١) مفردات الراغب ؛ ومقاييس اللغة ؛ ولسان العرب ؛ وتفسير الميزان ؛ والفخر الرازي ؛ والقرطبي ؛ وفي ظلال القرآن وغيرها من التفاسير.

(٢) «وسواس» اسم مصدري ، و «الوسواس» بكسر الواو ذو معنى مصدري ، وقد تأتي الكلمة (اسم فاعل) أي الشيطان ، (لسان العرب).

٦٧

وبضم الآيات القرآنية المذكورة إلى بعضها ، يتضح بأنّ القرآن الكريم قد وضع برنامجاً دقيقاً واسعاً لتبيان علم الله وإحاطته اللامحدودة بجميع الامور بذكر أدلة دقيقة ضمن عبارات مختلفة ، وجعلها أساساً لتربية الإنسان في جميع الاحوال!

* * *

توضيحات

١ ـ تأثير علم الله في بُعدي العرفان والتربية

إنّ الأهميّة الخاصة التي أولاها القرآن الكريم لهذه المسألة تنبع أولاً من الدور المهم لمسألة علم الله في بحث معرفة الله ، حيث تقرب الإنسان إلى ربّه وتعرفه به ، وتجعله يراه في كل مكان ، وأنّ معرفة الله بدون معرفة جوانب علمه تعتبر ناقصة وضعيفة جدّاً.

ومن حيث إنّ لجميع المعارف انعكاساً على أعمالنا وتصرّفاتنا الفردية والاجتماعية ، وكون هذه المسألة تنبع من العلاقة الوثيقة بين (الأيديولوجية) و (النظرة العالمية) فإنّ لإدراك علم الله اللامحدود آثاراً تربوية وهي كالتالي :

فمن جهة نجد أنّ الاعتقاد بوجود رقيب عليم عظيم له تأثير في ترغيب وردع الإنسان في انجاز أعماله ، فعندما يقول سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ اقْرَبُ الَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَاتُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) وقوله : (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّماءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلَا أَكْبَرَ ...) وقوله : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ... وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلَمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ) ، أو قوله سبحانه : (وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً). (الإسراء / ١٧)

فإنّه تحذير شديد لجميع بني البشر وإشعار بالخوف والرجاء في كل مايصدر منهم من عمل.

ومن جهة آخرى فإنّ الاعتقاد بأنّ الناظر والرقيب علينا هو ولي نعمتنا ، كأنّه يقول لنا :

٦٨

«كيف تستعينون بنعم الله وعطاياه على معصيته»؟!

ومن جانب ثالث فإنّ هذه المراقبة تُحيي بصيص الأمل في قلب الإنسان ، ويشعر بعدم كونه وحيداً في مواجهة الحوادث ، بل يشعر بأنّ الرقيب هو من يحيط علماً بجميع الكون ومشاكله وأسراره الباطنية والعلنية ، وهو سبحانه وتعالى قدير ورحيم في نفس الوقت. وهذه العقيدة ترفد الإنسان بالقوة والاستقامة في مواجهة المواقف الصعبة.

ومن جانبٍ رابع فإنّ الالتفات إلى سعة علم الله تعالى يدلنا على سعة وعظمة عالم الوجود ، وعمق أسرار عالم الخلق والتكوين ، وهذا بحدّ ذاته يمكن أن يكون دافعاً مهمّا نحو التطور العلمي.

* * *

٢ ـ الأدلة على علم الله

ذكر الفلاسفة والمتكلمون أدلّة عديدة لإثبات علم الله بجميع الأمور ، أهمها الأدلّة الثلاثة التالية : (والطريف هو أنّ الآيات المذكورة أشارت إلى جميع هذه الأدلة) :

أ) برهان الخلق والنظم

إنّ النظام المذهل الموجود في هذا الكون ، والقوانين الدقيقة التي تُسيِّر جميع ذرات الوجود ، ابتداءً من الذرّة وانتهاءً بالمنظومات والكواكب السيّارة ، وابتداءً من الموجودات المجهرية وانتهاء بالإنسان الذي هو أرقى نموذج في الخلق ، ومن الأعشاب الاحادية الخلية التي تعيش في أعماق المحيطات ، وحتى الأشجار العظيمة التي يبلغ طولها خمسين متراً!

وهكذا النظم المعقدة العجيبة التي تسيطر على روح الإنسان وقلبه ، والتنوع المذهل الملحوظ في الكائنات الحية ، من النباتات والحيوانات ، والذي تبلغ أنواعها مئات الآلاف ، فهذه جميعاً تدل على علم الله اللامحدود.

٦٩

فهل يمكن أن يصنع أحد شيئا ويجهل أسراره؟

فخالق العين ونظام المخ المعقد ، والمدارات الألكترونية العجيبة التي تدور حول نواة الذرّة ، فهو عالم ومحيط بها جميعاً.

وعليه فكما يدلنا برهان النظم على وجود الله فإنّه يثبت عدم محدودية علمه أيضاً.

ونظراً إلى أنّ مسألة الخلق أمرٌ مستمر ودائمي فإنّ الموجودات في حال «الصيرورة» المستمرة لا «الإيجاد» الأول فحسب ، وأنّ ارتباطهم مع منشي الخلق لا يمكن أن يكون في البداية فقط ، بل هو مستمر مع استمرار حياتهم ووجودهم ، فسوف تثبت إحاطته العلمية بجميع الأشياء وفي كل حالٍ ومكان وزمان أيضاً.

ب) برهان الإمكان والوجوب

ثبت في بحوث معرفة الله أن واجب الوجود هو الله وحده سبحانه ، وما سواه ممكن الوجود ، وثبت أيضاً بأنّ الممكنات محتاجة وتابعة له في الوجود والبقاء معاً ، وبتعبيرٍ آخر الجميع حاضر بين يديه ، وهذا الحضور الدائمي دليلٌ على علمه بجميع الأمور ، لأنّ العلم بحقيقة المعلوم ليست إلّاحضور ذات المعلوم عند العالم.

ج) برهان اللّاتناهي

بغض النظر عن مسألة العلّة والمعلول ، فإنّ الله سبحانه وتعالى وجود غير مُتناهٍ من جميع الجوانب ، لذا لا يخلو منه مكانٌ أو زمان (مع أنّه لايحدّه مكان أو زمان) ، لأننا لو افترضنا خلو مكان أو زمان من وجوده تعالى فقد حددناه.

لذا فعدم تناهيه يدلّ على حضوره وإحاطته بجميع الوجود ، أو بتعبير آخر كُل شيء ماثل بين يديه.

فهل يمكن أن يكون العلم غير هذا الحضور؟

وفي الحقيقة أنّ موانع العلم إمّا أن تكون حجب مادية ، وإمّا بُعد المسافة ، ونحن نعلم انتفاء هذه الامور عن ذات الباري.

٧٠

وكما أشرنا في بداية هذا البحث فإنّ في الآيات المذكورة أعلاه إشارات واضحة حول هذه الأدلة العقلية التي تعبّر عن متانة الدليل القرآني ومنطقه المتفوق ، وقد أشرنا إليها ضمن تفسير الآيات.

* * *

٣ ـ إنّ علم الله حضوريٌ

كما أنّ حقيقة العلم من البديهيات ، وهذا المعنى من الواضحات أيضاً ، حيث إننا نمتلك نوعين من العلم وهما مختلفان تماماً :

النوع الأول : نحن نعلم وندرك وجودنا ، وإرادتنا ، وميولنا ، حُبّنا وبغضنا ، مايدور في اذهاننا ، بدون حاجة إلى أي وساطة ، ونحيط علماً بأنفسنا ، وأفكارنا وحالاتنا الروحية ماثلة بين أيدينا ، ولا حجاب فيما بيننا وبينها. (ويدعى هذا النوع بالعلم الحضوري).

النوع الثاني : نحن نعلم بما يُحيط بنا من الموجودات أيضاً ولكن من المسلَّم به أنّ السماء والأرض والنجوم لا توجد في اعماق وجودنا وفي دخائل أرواحنا وأفكارنا ، بل نفذت صورها إلى أذهاننا عن طريق آثارها ، وفي الحقيقة أنّ ما عرفناه عنها هو تلك المفاهيم التي نفذت إلى أعماقنا ، وهذا النوع من العلم يدعى بالعلم الحصولي.

وعلم الله بجميع موجودات العالم من النوع الأول ، لأنّه موجود في كل مكان ، ويحيط بكل شيء احاطة وجودية ، ولا شيء بعيد عنه سبحانه.

فهو سبحانه لا يحتاج إلى الحواس وانعكاس صور الموجودات في الذهن ، ولا إلى المفاهيم الذهنية أبداً ، وعلمه بكل شيء علم حضوري.

* * *

٤ ـ لا حصر ولانهاية لعلم الله

إنّ محاولات الإنسان المستمرة لكشف أسرار الوجود ، التي شغلته منذ اليوم الأول من

٧١

حياته. والتي لها وقعاً في قلبه قد اصطحبت معها كنوز من العلوم والمعارف التي يمكن أن ندرك أبعادها بمشاهدة ملايين الكتب الموجودة على رفوف المكتبات العالمية الكبيرة ، والتي بلغ عدد الكتب في بعضها خمساً وعشرين مليون كتاب.

صحيح أنّ بعض هذه الكتب مكررة أو مترجمة عن بعضها الآخر ، لكنه لاريب في احتوائها على حقائق كثيرة غير مكررة ناجمة عن المساعي الفكرية والتجريبية لكل المجتمع البشري على مدى التاريخ ، بغض النظر عن العلوم التي بقيت في أذهان العلماء ودفنت معهم.

لكن جميع هذه العلوم بالنسبة إلى المجهولات بمنزلة القطرة من البحر أو الذرة من الجبل.

ويمكن بيان أسباب هذه المحدوديّة بالأمور التالية :

أ) محدوديّة قدرتنا الحسية ، فنحن نستطيع إدراك قسم صغير من موجودات عالمنا الحسي فقط ، كما أنّ قدرتنا على التحليل العقلي أيضاً ليست قادرة إلّاعلى إدراك قسم صغير من المسائل العقلية.

ب) إنّ عمر الإنسان بالنسبة إلى عمر عالم الوجود كساعةٍ واحدة لا أكثر.

ج) يعُدّ المحل الذي نعيش فيه أي الكرة الأرضية صغيراً ومحدوداً جدّاً بالمقارنة مع كواكب المجرات التي لا تعدّ ولا تحصى ، (ويقدِّر العلماء عدد النجوم الموجودة في مجرّتنا فقط بمئة ألف مليار كوكب ، وقد بلغ عدد المجرات التي اكتشفها البشر بهذه الأجهزة البسيطة لحد الآن مليار مجرة!).

ومن هنا يُمكن إدراك سعة علم الله ، وما أجمل التعبير القرآني في هذا المجال : (وَلَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ). (لقمان / ٢٧)

والأهم من كل ذلك هو أنّ الله تعالى عالم بذاته المقدّسة أيضاً ، ولأنّ ذاته المقدّسة لامتناهية ، فإنّ علمه بهذه الذات اللامتناهية لامتناهٍ أيضاً ، ولا تستطيع الأعداد أو الأرقام أن تفصح عن عظمته.

٧٢

٥ ـ أسئلة مهمة حول علم الله

هنالك أسئلة على شكل مناضرات بين الفلاسفة والمتكلمين حول علم الله منذ قديم العصور ، وقد اتسعت فيما بعد ، وذلك لكون مسألة العلم بصورة عامّة ومسألة علم الله بصورة خاصّة ، معقّدة ، وأهم هذه الاسئلة ما يلي :

١ ـ كيف يمكن أن يحيط الله علماً بذاته المقدّسة ، في حين أنّ العالم والمعلوم يجب أن يكونا شيئين؟ فهل يوجد تفاوت بين علم الله وذاته المقدّسة؟ وبعبارة اخرى هل يمكن أن يكون الله عالماً ومعلوماً في نفس الوقت؟

الجواب : أولاً : إنّ هذا السؤال لا ينحصر بعلم الله بذاته المقدّسة ، فهو يجري حتى على علمنا بوجودنا ، فنحن نعلم يقيناً بوجودنا وندرك بأننا موجودون ، فهل يجب أن يكون العالم والمعلوم هنا شيئين أيضاً؟ في حين أننا لسنا بأكثر من شيء واحدٍ ، خصوصاً وإن علمنا بأنفسنا من النوع الحضوري أيضاً.

ثانياً : نورد هنا ما أجاب به العلّامة المرحوم (الخواجة نصير الدين الطوسي) على نفس هذا السؤال ، قال : إنّه يكفي التغاير الاعتباري أي أنّ موجوداً واحداً من حيث كونه مبدعاً عاقلاً يستطيع أن يُدرك حضوره بذاته ، فهو عالم ، ومن حيث كونه حاضراً عند ذاته ، يكون معلوماً ، وبتعبير آخر ننظر إلى هذا الوجود الواحد من زاويتين : من زاوية إدراكه لذاته فنسميه عالماً ، ومن زاوية أنّه مُدْرَك فنسميه معلوماً (فتأمل).

٢ ـ كيف يحيط الله عِلْماً بموجودات العالم وهي في حالة تغيُّر دائم ، فهل أنّ ذاته المقدّسة تتغير أيضاً!؟

الجواب : يصح هذا الإشكال فيما إذا كان علم الله بالأشياء الخارجية كعلمنا حاصل عن طريق (إنعكاس صور الأشياء) ، لأنّ تغيُّر هذه الموجودات يؤدّي إلى تغيُّر هذه المفاهيم والصور لكن بما أن علم الله علمٌ حضوريٌّ ، وجميع الأشياء ماثلة بين يديه ، فإنّ هذا الإشكال لا معنى له. لأنّ التغيُّر يحصل في موجودات هذا الكون فقط ، لا في ذاته المقدَّسة

٧٣

فوجودها ثابت ومحيط بها جميعاً والمتغيِّر هو الموجودات المحاطة ، كما هو الحال فيما لو تحرك شخص مُعّين أمامنا فإنّ صورته سوف تقع على شبكية العين ، وستتغير هذه الصورة بتغير حاله ، فتتغير المفاهيم الذهنية الموجودة عنه في أذهاننا تبعاً للتغييرات ، وكل هذا لسبب كون علمنا هنا انعكاساً للأشياء الخارجية فينا ، فلو كان علمنا بالأشياء الخارجية علماً ناجماً من الاحاطة بجميعها ، لما حصل أي نوع من التغير ، بل لكان التغير فيها فقط (فتأمل).

٣ ـ كيف يحصل علم الله بالجزئيات ، مع أنّ الجزئيات متعددة ومتكثرة ، وذاته المقدّسة واحدة لا تعرف التعدد؟

الجواب : إنّ هذا الخطأ أيضاً نجم عن مقايسة علم الله بعلمنا الذي نحصل عليه عن طريق انتقال المفاهيم والصور الذهنية ، في حين أنّ علمه بالموجودات ليس علماً حصولياً ، بل حضوريٌّ ، أي أنّ جميع الموجودات ماثلة بذاتها بين يديه عزوجل ، وهو يحيط بها جميعاً دون الحاجة إلى مفاهيم أو صور ذهنية معينة (١).

٤ ـ كيف يمكن تصور علم الله بالحوادث المستقبلية التي ليس لها وجود خارجي في الوقت الحاضر حتى تقع في دائرة علم الله؟ فهل توجد لدى الله مفاهيم وصور ذهنية عنها؟ مع تقدّسه سبحانه عن أن يكون له ذهن ، أو أن يكون علمه حصولياً؟ إذن ما علينا إلّاأن نستسلم ونقول : بأنّه سبحانه لا يعلم بالحوادث المستقبلية! لأنّ العلم الحضوري منتفٍ بالنسبة إلى المعدوم ، وبذلك يصبح العلم الحصولي لله تعالى أمر لا يمكن تصوره أيضاً.

على الرغم من أنّ هذا السؤال والإشكال قد طرح حول العلم بالحوادث المستقبلية ، إلّا أنّه يرد بنفسه حول الحوادث الماضية المعدومة أيضاً ، لأنّ الحوادث الماضية لا وجود لها الآن ، فصورة (فرعون) أو بني إسرائيل وأصحاب (موسى) مثلاً لا وجود لها حالياً وقد تلاشت ، كما أنّ تأريخها قد فات أيضاً ، فنحن نستطيع الوقوف على الماضي بمجرّد أن

__________________

(١) الفرق الموجود بين هذه الإشكالات الثلاثة هو أنّ الأول يتعلق بتعدد العالم والمعلوم ، والثاني بتغيّر الموجودات ، والثالث بتكثرها.

٧٤

نستحضر في أذهاننا صوره فحسب ، لأنّ علمنا علم حصولي يتحقق بواسطة المفاهيم والصور الذهنية فقط ، وبما أنّ علم الله علمٌ حضوري فهو لايعرف أي لون من الوساطة والمفاهيم ، فكيف يمكن تصوُّر علمه بالحوادث الماضية؟

الجواب : يمكن الإجابة عن هذا السؤال والإشكال بثلاث طرق :

١ ـ إنّ الله محيط دائماً بذاته المقدّسة التي هي علّة جميع الكائنات ، وهذا العلم الإجمالي بجميع حوادث وموجودات الوجود أزلي وأبدي (أي قبل الإيجاد وبعده).

وبتعبير آخر لو علمنا علل الأشياء ، لاستطعنا أن نعلم نتائجها ومعلولاتها أيضاً ، لأنّ كُل علّة تستبطن جميع كمالات معلولها وأكثر.

ويمكن شرح هذا الكلام بشكل أوضح كما يلي : إنّ الحوادث الماضية لم تنمح تماماً ، فإنّ آثارها موجودة في طيّات الحوادث الآنية ، وكذلك بالنسبة إلى الحوادث المستقبلية فهي غير منفصلة عن الحوادث الآنية ، ولها علاقة معها ، وعليه ف «الماضي» و «الحاضر» و «المستقبل» يشكلون معاً سلسلة شبيهة بالعلة والمعلول ، بحيث لو اطّلعنا على كل واحدة منها بدقّة ، لشاهدنا فيها الحلقات القبلية والبعدية لهذه السلسلة.

فمثلاً لو أحَطْتُ علماً وبدقّة بمناخ جميع الكرة الأرضية ، وبكل مميزاته ، وجزئياته ، وعلله ، ومعلولاته ، وحركة الكرة الأرضية ، ومسألة الفعل ورد الفعل ، لاستطعتُ أن احيط علماً بوضعية المناخ قبل أو بعد ملايين السنين بصورة دقيقة. لأنّ شواهد الماضي والمستقبل موجودة فعلاً ، لا الشواهد الإجمالية بل تفصيلات الشواهد المنعكسة في جزئيات الحاضر.

فالحاضر يعكس الماضي ، والمستقبل يعكس الحاضر ، والاحاطة العلمية الكاملة بجزئيات الحاضر ، معناها الإحاطة الكاملة بحوادث الماضي والمستقبل.

لذا فعندنا تكون حوادث الحاضر ماثلة بين يدي الله تعالى بجميع خصوصياتها ، فإنّها بمعنى مثول الماضي والمستقبل أيضاً بين يديه عزوجل.

فالحاضر مرآة للماضي والمستقبل ، ويمكن مشاهدة جميع الحوادث الماضية والمستقبلية في مرآة الحاضر (فتأمل).

٧٥

٢ ـ ويوجد طريق آخر للإجابة على هذا السؤال نوضحه بالمثال التالي : تصوروا أنّ شخصاً محبوساً في غرفة صغيرة لا يوجد فيها سوى نافذة صغيرة على الخارج ، فعندما تمر قافلة من الإبل من أمام هذه النافذة ، فإنّ هذا السجين سوف يشاهد رأس البعير أولاً ، ثم رقبته ، ثم سنامه ، ثم أرجله ، ثم ذنبه ، وهكذا الحال بالنسبة لسائر الابل الاخرى ، فصغر النافذة هذه هو السبب في إيجاد حالات من الماضي والحاضر والمستقبل لدى الناظر السجين ، لكن المسألة تختلف تماماً بالنسبة للواقف على سطح الغرفة وينظر إلى الصحراء نظرة شاملة ، فهو يُشاهد جميع إبل القافلة في وقتٍ واحد.

ومن هنا يتضح أن إيجاد مفاهيم الماضي والحال والمستقبل ناجمة عن محدودية نظرة الإنسان ، فما هو ماضٍ بالنسبة لنا كان مستقبلاً لأقوام قد سبقونا ، وما هو مستقبل بالنسبة لنا الآن فهو ماضٍ بالنسبة لأقوامٍ ستأتي فيما بعد.

أمّا الذات الموجودة في كل مكان والتي أحاطت بالأزل والأبد ، فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبه لها لا معنى له ، فجميع حوادث الدهر ماثلة بين يديها (ولكن كل واحدة في موقعها الخاص) ، وهي محيطة علماً بجميع الحوادث وموجودات العالم ، سواءً بالماضي ، وبالحاضر ، وبالمستقبل بصورة متساوية.

ونحن نُقرّ طبعاً بأنّ تصّور هذه المسألة بالنسبة لنا نحن المحبوسين في سجن الزمان والمكان ، أمر صعب ومعقّد ، ولكنه في نفس الوقت قابل للتدقيق والمطالعة.

٣ ـ الطريق الآخر الذي استند إليه الكثير من الفلاسفة ، هو أنّ الله تعالى عالم بذاته المقدّسة ، وبما أنّ ذاته علّة جميع المخلوقات ، فإنّ العلم بالعلّة سيكون سبباً للعلم بالمعلول ، وبتعبير آخر فإنّ الله تعالى جامع لجميع الكمالات الموجودة في جميع المخلوقات بأتم صورة ، وما هو غير موجود في ذاته المقدّسة هو نقائص المخلوقات فقط.

اذن ، فعلمه تعالى بذاته هو بالحقيقة علمه بجميع المخلوقات. (وهناك فرق دقيق بين هذا الطريق والطريق الأول يتّضح من خلال التأمل).

* * *

٧٦

٦ ـ علم الله في الروايات الإسلاميّة

وردت في الروايات الإسلامية تعابير لطيفة جدّاً ، حول علم الله منها ما جاء في نهج البلاغة ، حيث يمكن الاستعانة بها لفهم البحوث بصورة أفضل ، نذكر أدناه نماذج منها :

١ ـ قول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في باب علم الله :

«يَعْلَمُ عَجِيْجَ الوُحُوشِ في الفَلَواتِ ، وَمَعاصِيَ العِبادِ في الخَلَواتِ ، وَاختِلافَ النِّيْنانِ في البِحارِ الغامِراتِ ، وَتلاطُمَ الماءِ بالرِّياحِ العاصفِاتِ» (١).

٢ ـ وقال عليه‌السلام في كلام آخر :

«عالِمٌ إِذْ لا مَعْلُوم ، وَرَبٌّ إِذْ لا مَرْبُوبَ ، وَقادِرٌ إِذْ لا مَقْدوُرَ» (٢).

٣ ـ وقال عليه‌السلام أيضاً في كلام آخر :

«قَدْ عَلِمَ السَّرائِرَ ، وَخَبَرَ الضَّمائِرَ لَهُ الاحاطَةُ بِكُلِّ شَيءٍ، وَالْغَلَبةُ لِكُلِّ شَيء»(٣).

٤ ـ وفي الكافي في باب صفات الذات عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «لَمْ يَزَلِ اللهُ عزّ وَجلَّ رَبُّنا والعِلْم ذاتهُ ولا مَعْلُومَ ... فلَمَّا أَحدثَ الأشياء وكانَ المعلُومُ ، وَقَع العِلْمُ منهُ عَلَى المعلُومِ» (٤).

يحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلم الإجمالي السابق لحدوث الأشياء والعلم التفصيلي اللاحق لحدوثها.

٥ ـ وفي حديث آخر ورد أن أحد أصحاب الإمام الرضا عليه‌السلام كتب إليه رسالة يسأل فيها عن الله عزوجل : «أكانَ يعْلمُ الأشياءَ قَبْلَ أن خَلَق الأشْياءَ وَكَوَّنَها؟ أو لَمْ يَعْلَمْ ذلِكَ حَتّى خَلقَها وَأَرادَ خَلْقَها وَتكويْنَها؟ فَعَلِمَ ما خَلَقَ عِندَ ما خَلَقَ ، وَما كَوَّنَ عِنَدما كَوَّنَ؟ فَوَقَّعَ بِخطِّةِ : لَمْ يَزَلِ اللهُ عالماً بالأشياءِ قَبلَ أَنْ يَخْلُقَ الأشياءَ كعِلْمِهِ بالأشياءِ بَعْدَ ما خَلَقَ الأشياءَ» (٥).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٨.

(٢) المصدر السابق ، الخطبة ١٥٢.

(٣) المصدر السابق ، الخطبة ٨٦.

(٤) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٠٧.

(٥) المصدر السابق.

٧٧

إنّ كل واحد من التعابير الدقيقة والظريفة التي وردت في هذه الروايات يُعدُّ باباً من البحوث العلمية والمنطقية التي تدور حول مسألة علم الله تعالى والتي ذكرناها سابقاً.

وقد بلغت الروايات الواردة في علم الله من الكثرة بحيث لو جمعت لصارت كتاباً مستقلاً.

* * *

٧٨

أقسام علم الله

أ و ب) إنّ الله سميعٌ وبصير

تمهيد :

كما نعلم فإنّ صفات الله عين ذاته ، وذاته عين صفاته ، وبتعبير آخر فإنّ الله ذاتٌ كلها علم ، وكلها قدرة ، وكلها أزليّة وأبدية ، أي هناك كمال مطلق غير متناهٍ جامع لجميع هذه الصفات.

وعليه فإنّ تفكيك الصفات تابع لمنظارنا وإدراكنا العقلي.

لذا فقد تكون احدى هذه الصفات الإلهيّة أحيانا ذات فروع كثيرة ، وهذه الفروع أيضاً تكون تابعة لزاوية نظرنا كوصفه تعالى بصفتي «السميع» و «البصير» ، واللتان تعتبران من الصفات الإلهيّة المعروفة التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم عشرات المرات.

«السميع» : كناية عن علم الله ب «المسموعات» ، و «البصير» كناية عن علمه تعالى ب «المبصرات» من الحوادث والأشخاص والأعمال وغيرها.

وعندما تستعمل هذه الألفاظ بخصوص البشر فإنّها بصدد عضوي العين والاذن ، لكنّها عندما تستعمل بخصوص الباري تعالى فإنّها تتجرد من هذه المفاهيم وتفيد حقيقة العلم بالمسموعات والمبصرات ، وسنوضح ذلك في قسم التوضيحات إن شاء الله تعالى.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن الكريم لنتمعن في الآيات التالية :

١ ـ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). (الشورى / ١١)

٢ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْامَانَاتِ الَى اهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ انَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً). (النساء / ٥٨)

٣ ـ (لَّايُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ الَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً

٧٩

عَلِيماً). (النساء / ١٤٨)

٤ ـ (وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا انَّ اللهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ). (البقرة / ٢٤٤)

٥ ـ (وَانِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى انَّهُ سَميعٌ قَرَيبٌ). (سبأ / ٥٠)

٦ ـ (هُنَالِكَ دَعَا زَكَريَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لى مِنْ لَّدُنْكَ ذُرِّيَةً طَيِّبَةً انَّكَ سَمْيعُ الدُّعَاءِ). (آل عمران / ٣٨)

٧ ـ (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (البقرة / ٢٣٣)

٨ ـ (إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبيرٌ بَصِيرٌ). (فاطر / ٣١)

٩ ـ (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ امْرِى إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ). (غافر / ٤٤)

١٠ ـ (اوَلَمْ يَرَوْا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ انَّهُ بِكُلِّ شَىءٍ بَصِيرٌ) (١). (الملك / ١٩)

شرح المفردات :

(سميع) من مادة «سَمْع» على وزن «مَنْع» وفي الأصل بمعنى القوّة السامعة التي بواسطتها يسمع الإنسان الأصوات (تأتي بمعنى المصدر ، وتأتي بمعنى الاسم المصدري أيضاً) ، وقد تُطلق هذه الكلمة على عضو السمع أي الأُذُن أحياناً.

واتّسع هذا المفهوم فشمل استعمالات اخرى ، فهو يُطلق أيضاً على الإدراكات الباطنية

__________________

(١) الآيات أعلاه نماذج حول وصفي «السميع» و «البصير» ، حيث إنّها تشتمل على نقاط كثيرة. كما أنّ هنالك آيات قرآنية كثيرة اخرى حول هذا الموضوع ، سنشير إليها أدناه ، أمّا تفسيرها فسيتضح من الآيات أعلاه: البقرة ، ١٨١ و ٢٢٤ و ٢٢٧ و ٢٥٦ ؛ آل عمران ، ٣٤ و ٣٥ و ١٢١ ؛ المائدة ، ٧١ ؛ الأنعام ، ١٣ و ١١٥ ؛ الأنفال ، ١٧ و ٤٢ و ٥٣ و ٦١ ؛ التوبة ، ٩٨ و ١٠٣ ؛ يونس ، ٦٥ ؛ الاسراء ، ١ ؛ الأنبياء ، ٤ ؛ الحج ، ٦١ و ٧٥ ؛ النور ، ٢١ و ٦٠ ؛ لقمان ، ٢٨ ؛ غافر ، ٢٠ و ٥٦ ؛ الصف ، ٣٦ ؛ الدخان ، ٦ ؛ الحجرات ، ١ ؛ المجادلة ، ١ ؛ النساء ، ١٣٤ و ١٤٨ ؛ البقرة ، ٩٦ و ١١٠ و ٦٥ ؛ آل عمران ، ١٥ و ٢٠ و ١٥٦ و ١٦٣ ؛ الأنعام ، ٢٩ و ٧٢ ؛ هود ، ١١٢ ؛ الاسراء ، ١٧ و ٣٠ و ٩٦ ؛ سبأ ، ١١ ؛ فاطر ، ٤٥ ؛ فصلت ، ٤٠ ؛ الشورى ، ٢٧ ؛ الحجرات ، ١٨ ؛ الحديد ، ٤ ؛ الممتحنة ، ٢ ؛ التغابن ، ٢ ؛ الفرقان ، ٢٠ ؛ الأحزاب ، ٩ ؛ الفتح ، ٢٤ ؛ الانشقاق ، ١٥.

٨٠