نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

اضافةً إلى ذلك فقد ساد الأمن فيها ، وابتعدت عنها الآفات والبلايا والجفاف والمجاعة والخوف والوحشة ، وحتى قيل : إنّ الحشرات المؤذية قد هجرت تلك الديار أيضاً.

ولكن لم تمض مدّة قليلة حتى أُصيبوا بغرور النعمة وغفلة الرفاه ، فطغوا وكفروا بالنعمة في عدّة جوانب.

قال تعالى في هذا المجال : (فَأَعْرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلنَاهُمْ بِجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَينِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَينَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِى إِلَّا الكَفُورَ). (١) (سبأ / ١٦ ـ ١٧)

العجيب هو ماورد في بعض الروايات بأنّ مقدّمات انهيار ذلك السدّ الترابي العظيم قد حدثت مُسْبقاً من قِبل الفئران البريّة التي نفذت في السد وأحدثت فيه ثقباً كان يتّسع لحظةً بلحظة على أثر جريان الماء منه.

أجَلْ ، إنَّ سيلاً عظيماً متشكّلاً بالحقيقة من قطرات المطر ، وفعل عدد من الفئران البريّة قد أفنى حضارةً عظيمة ، وأهلك القوم الطغاة المتجبرين.

ومن قبيل هذه الحوادث حوادثٌ كثيرة توضّح علاقة قسم من البلايا مع أعمال الإنسان وعقوبته ، بحيث لو جُمعت لصارت كتاباً عظيماً.

وخلاصة الكلام وَوِفقاً للاستدلالات العقلية والمنطقية ، وآيات قرآنية كثيرة ، ووِفقاً للروايات والتأريخ ، فإنّه لا يُمكن إنكار كون قِسم ملحوظ من المصائب والبلايا النازلة بالظالمين والطواغيت ذات صيغة جزائية ، بالرغم من عدم إدراك الجهلاء والغافلين العلاقة بين العلة والمعلول هذه.

ومُسَلَّماً أنّ الله لم يكن ليظلمهم في مثل هذه الموارد بل كانوا أنفسهم يظلمون ، كما قال تعالى : (ذَلِكَ مِن أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيكَ مِنهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ* وَمَا ظَلَمنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُم). (هود / ١٠٠ ـ ١٠١)

* * *

__________________

(١) ورد تفسير هذه الآيآت وشرح هذه القصة في التفسير الامثل ذيل الآية المذكورة من سورة السبأ.

٣٦١

العلاقة بين الذنوب والبلاء في الروايات الإسلاميّة :

ما ذكرناه آنفاً ملحوظٌ أيضاً في الروايات الإسلاميّة بشكل واسع بحيث إنّ قِسماً ملحوظاً على الأقل من المصائب والبلايا التي تُصيب المجتمعات الإنسانية ذات صيغة جزائية وقصاص للذنوب : وكنموذج على ذلك :

١ ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إن الله تعالى إذا غضب على أمّةٍ ، ثم لم يُنزل بها العذاب أغلى أسعارها وقصّر أعمارها ولم تربح تجارتها ولم تغزُر أنهارها ولم تُزكّ ثمارها وسلّط عليها شرارها وحبس عليها أمطارها» (١).

٢ ـ ورد في حديثٍ آخر عن الإمام الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «كُلّما احدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون أحدث لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون» (٢).

٣ ـ في رواية اخرى عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال ، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممّن يعيش بالأعمار» (٣).

٤ ـ وعنه أيضاً عليه‌السلام : «إنّ الرجُل ليُذنب الذنب فيُحرمُ صلاة الليل وإنّ عمل الشّر أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم!» (٤).

يُمكن لهذه الأحاديث أن تكون شاهداً على هذا البحث أو البحث السابق بخصوص العلاقة الطبيعيّة بين الذنب والحوادث المُّرة ، (تأمل جيداً).

٥ ـ عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «وجدنا في كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (الروايات النبويّة» أنّه قال : «إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة ، وإذا طفّف المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص ، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كُلّها ، وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان ، وإذا نقضوا العهد سلط الله عليهم عدّوهم ، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار ، وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٣٥٣.

(٢) المصدر السابق ، ج ٧ ، ص ٣٤٥.

(٣) المصدر السابق ، ص ٣٥٤.

(٤) المصدر السابق ، ص ٣٥٨ ، ح ٧٤.

٣٦٢

ينهُوا عن المنكر ، ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيتي ، سلط الله عليهم شرارهم ، فيدعوا خيارهم فلا يُستجاب لهم!» (١).

٦ ـ نُقِلَ ـ في تفسير سورة نوح عليه‌السلام ـ حديث لطيف في هذا المجال عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : نقل القلانسي وهو (أحد كبار علماء أهل السُّنّة) في تفسيره أنّ رجُلاً جاء إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين! أذنبتُ كثيراً من الذنوب وسوّدت بها صحيفة أعمالي فادعو ليغفر لي ربّي ، فقال عليه‌السلام : «عليك بالاستغفار».

وجاءه رجلٌ آخر وقال : أصاب مزارعي الجفاف بسبب قلة المياه فادعو الله ليُنزّل الغيث ، فقال عليه‌السلام : «عليك بالاستغفار».

وجاءه آخر وقال : أنا رجل فقير وقد أنهكني الفقر فادعو الله ليمنَّ عليٍّ من عميم لطفه ، فقال له : «عليك بالاستغفار».

وجاءه رابعٌ وقال : لي ثروة طائلة ولكن لا ذريّة لي فادعو الله سبحانه وتعالى ليهب لي ذريّة ، فقال له : «عليك بالاستغفار!».

وقام إليه آخر وقال : يا سيّد الوصيين ، إنّ بستاني شحيح الثمار ، فادعو الله ليبارك فيها ، فقال عليه‌السلام : «عليك بالاستغفار».

وقال آخر : يا علي! جفّت عيون المياه في أرضنا ، وشحّت فروع الأنهار ، وحلّ بنا القحط ، فأسألك الدعاء يا سيدي ، فقال عليه‌السلام : «عليك بالاستغفار!».

يقول ابن عبّاس : كنت حاضراً عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فقلت له : يا أمير المؤمنين سألوك أسئلة مختلفة وأجبتهم جواباً واحداً (ووصفت دواءً واحداً لجميع هؤلاء المرضى وهو الاستغفار!) فقال عليه‌السلام : «يا ابن عمّي! أولَمْ تسمع هذه الآيات (عن لسان نوح عليه‌السلام) التي تقول : (فَقُلتُ اسْتَغفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُمْ مِّدرَاراً* وَيُمِددكُم بِأَموَالٍ وَبَنِينَ وَيَجعَل لَّكُم جَنَّاتٍ وَيَجعَل لَّكُم أَنهَاراً ...) (٢).

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٧٤ ، ح ٢.

(٢) تفسير منهج الصادقين ، ج ١٠ ، ص ١١٩ ، في تفسير الآية ١٢ في سورة نوح. (مع شيء من الإختصار).

٣٦٣

وقد نقل جمعٌ من المفسّرين الحديث المذكور عن الحسن البصري ، وإن كان منقولاً عنه حقّاً ، فإنّه على الأقوى قد سمعه عن أميرالمؤمنين على عليه‌السلام مباشرةً لأنّه استفاض من نور الإمام عليه‌السلام كثيراً.

إنّ الروايات المذكورة والروايات الكثيرة الاخرى المنقولة في التواريخ وكتب الأخبار تُعدُّ من أفضل الشواهد على وجود علاقة بين قسم من المصائب مع الذنوب والمعاصي (طبعاً إنّ قِسماً من هذه الروايات يشير إلى الأثر الوضعي للأعمال ، وقسماً آخر يُشير إلى العقوبات الإلهيّة وبعضها الآخر يحمل كلا المعنيين).

* * *

٤ ـ المصائب الموقظة

لا ريب أنّ لقسْمٍ من الحوادث المزعجة أثراً ايجابياً في تمزيق حُجب الغرور ، وإيقاظ الإنسان من نوم الغفلة ، وتخليصه من مخالب عبادة الهوى والتشبُّث بالرأي ، وتُعتبر الكثير منها منعطفاً في حياة الأفراد ذوي الإستعداد للهداية.

فوفرة النعمة ، وقدرة السلطة ، والعافية قد تغُر الإنسان لدرجة بحيث ينسى نفسه بالمرّة ، فيعتقد بكونه مصدراً لجميع المواهب ، وبأفضليته على الآخرين ، وكأنّه يتصّور خلود الحياة فيتبدّل في هذا الحال إلى موجودٍ خطير ، ظالمٍ ، أناني ، عنيد وعابث ، ويستمر على هذه الصفات مالم يُصادف مشكلة في حياته ، فيخسر حياته ويخسر الآخرين.

فهاهنا تخرج يد العناية الإلهيّة من كُمّ رحمانية الباري لُتعين الإنسان ، فتحدث مصيبة عظيمة ثقيلة ، كأن يفقد أحد أعزّائه ، أو يفشل في مساعيه وجهوده ، أو تهدم زلزلةٌ قصر آماله ، أو تُحرق صاعقةٌ قِسماً من أمواله.

فيتعرّض لوخزة قد توقظه فيدخُل في عالم التفكير ، ويعود من التَيْه والضياع فيخطو في جادّة الصواب.

وقد لاحظنا المطبّات الإصطناعية التي توضع في الطرق المستوية بهدف الحد مِن نوم

٣٦٤

قادة السيارات والحيلولة دون سقوطهم في المزالق.

وقسم من المصائب بمثابة المطبّات في طريق حياة الإنسان التي تهز كيانه بقوّة لتمنعه من نوم الغفلة الذي يؤدّي إلى هلاكه.

ويُمكن أن يصدُق هذا الكلام بخصوص الإنسان ، أو مجتمع معين ، أو جميع المجتمعات البشريّة ، ويُعطي فلسفة قيّمة لقسم من حوادث الحياة الأليمة.

ولقد وصل الإنسان اليوم ، في ظل التقدم الصناعي ، إلى درجة من القدرة بحيث سخّر السماء والأرض وكشفت أجهزته الفضائية الستر عن أسرار أبعد سيّارات المنظومة الشمسيّة أيضاً ، وحصل منها على أخبار عجيبة مذهلة.

وضجّت أصداء العقول الألكترونية ، بحيث صار تركيب أعضاء الإنسان عملاً بسيطاً.

ويُحتمل أن تؤدّي مجموعة هذه الظواهر إلى اغترار الكثير من العلماء ، لكنهم عندما يَرون بقاء مرض السرطان يفتك بالناس بالرغم من كثافة جهود آلاف بل ملايين العلماء المبذولة على مدى التاريخ ، أو مرض (الأيدز) الحديث الظهور الذي ينشأ من مكروب أو فيروس صغير جدّاً وقد حيّر الجميع وأرعبهم ـ والجدير بالاشارة إلى أنّ هذا المرض يأخذ قرابين من الدول الصناعية المتقدمة أكثر من غيرها ـ سيتعّرضون لهزّه فكريّة عنيفة ، وسينتبهون لحظة إلى ضعف وعجز هذا الإنسان القوي مقابل عظمة الكون وخالقه.

ولا يُمكن إنكار أَنّ قِسْماً عظيماً من سكّان العالم لايعتبرون من هذه الحوادث أبداً ، ولا يعيرون لها اهتماماً ، بل يستمرون في مواصلة سلوكهم المنحرف ، ويبقون منغمسين في عالَم الخيال ، ولكن من المُسَلَّم أن قِسْماً منهم يعتبرون بها ويتوجهون إلى إصلاح أنفسهم. وهذه فلسفة مهمّة جديرة بالملاحظة.

ولا يلتبس الأمر عليك فإنّنا لا نقصد بأنّ جميع المصائب والحوادث الأليمة من هذا القبيل ، ولا نُقر بوجوب الاستسلام أمام الحوادث والتقاعُس عن مكافحة المشاكل والمصائب ، بل نقول : إنّ قِسْماً من الحوادث مُرّة لدرجة بحيث إنّ الإنسان لا يستطيع التكهُّن بها ولا يستطيع مواجهتها ، وقسم من هذا النوع يدخل في موضوع بحثنا وفي زمرة المصائب الموقظة والحوادث الأليمة المنبّهة.

٣٦٥

القرآن والمصائب الموقظة :

نعود الآن إلى القرآن لنتأمل في ما يقول في هذا الخصوص ، حتى يتسنى لنا وضع الدليل العقلي على محك البيان النقلي لنؤيده بواسطته.

ولكون القرآن كتاباً تربوياً عظيماً ، ولارتباط موضوع بحثنا بالمسائل التربوية ارتباطاً وثيقاً جدّاً فقد تحدّث القرآن كثيراً حول هذه المسألة وبتعابير متنوعة ومختلفة من جملتها :

١ ـ (وَمَا أَرسَلنَا فِى قَريَةٍ مِّن نَّبىٍّ إِلَّا أَخَذنَا أَهلَهَا بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَضَّرَّعُونَ) (١) (٢) (الأعراف / ٩٤)

يُستنتَجُ من هذه الآية بوضوح أنّ الإيقاظ والتنبيه هو أحد أهداف الحوادث المزعجة التي كانت تُصيب الأقوام الغارقة في بحار الذنوب ، وكان سِرّ مقارنة هذه الحوادث مع دعوات الأنبياء هو تهيأة الأرضية الخصبة لقبول دعواتهم ، وتناغم (التكوين) مع (التشريع) يقّوي تأثير مواعظهم.

٢ ـ (ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُون). (الروم / ٤١)

يُمكن الإستفادة من هذه الآية في بُعدَين مُختلِفين هما :

بُعد البلايا الذاتية (التي يُسببها الإنسان بنفسه) وبُعد البلايا والمصائب الموقِظة ، وتوضِّحُ تناغُمَ هذا القسم من المصائب والحوادث غير المطلوبة ، مع المسائل التربويّة وبرامج التكامل الإلهيّة.

٣ ـ (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ العَذَابِ الأَدْنى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ). (السجدة / ٢١)

إنَّ تعبير (العذاب الأدنى) ذو مفهومٍ واسع يشمل أغلب الاحتمالات التي ذكرها المفسّرون ، كُلًّا على حِدة ، (المصائب والآلام والمتاعب ، الاضرار الماليّة ، الجفاف ، القحط

__________________

(١) وردت آية مماثلة لهذه الآية في سورة الأنعام ، الآية ٤٢.

(٢) «يضّرّعون» من مادّة «تضرّع» وتعني الخضوع والطلب المصحوب بالتواضع (وهي بالأصل مأخوذة من مادّة ضرع وتعني نزول الحليب في الثدي).

٣٦٦

والجوع ، الهزائم في الحروب ، وما شاكل ذلك).

ولكنّ ما ورد في كلام بعض المفسّرين من احتمال كون المقصود من العذاب الأدنى هو عذاب القبر لا يتناسب مع ظاهر الآية ، لأنّ جملة لعلّهم يرجعون تُحدّد هدف هذا العذاب (العودة والرجوع) ممّا لا يتناسب مع عذاب القبر (تأمل جيداً) (١).

* * *

وبخصوص آل فرعون ورد ما يلي :

٤ ـ (وَلَقَد أَخَذنَا آلَ فِرعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقصٍ مِّنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). (الأعراف / ١٣٠)

بالرغم من أنّ هذه الآية خاصّة بآل فرعون ، إلّاأنّنا نعلم عدم اختلافهم عن بقية الأقوام بإصابتهم بمشاكل مُنهكة ليسْتيقظوا وينزلوا من مركَب الغرور ، ويعودوا إلى طريق الحق.

والظريف هو أنّ بعض الآيات المذكورة قد ذكرت هدف هذه المسألة (التذكّر) ، وبعضَها الآخر (التضرُّع) ، وبعضَها (الرجوع والعودة) والتي هي بالحقيقة تُشكل المراتب المختلفة والمنظمة للرجوع إلى الله ، فأولاً يتذكّر الإنسان ، ثم يتضرّع إلى الله ، ويرجع إليه منيباً مستغفراً.

أو بتعبيرٍ آخر فالمرحلة الأولى (الفكر) والمرحلة الثانية (الذكر) والمرحلة الثالثة (العمل) ، ومن قبيل هذه النقاط تُعطي بلاغاً جديداً من هذا الكتاب السماوي عندما تُقارَنُ الآيات القرآنية مع بعضها وتُفَسَّرُ بصورة موضوعيّة.

طبعاً كما أشار التأريخ وكما صرّح القرآن أيضاً فإنّ الكثير من الأقوام المنحرفة السالفة لم تُبدِ رد فعل إيجابي إزاء هذه المصائب والعذاب ، واستمرّت في غيّها حتى هلكت بالعذاب الإلهي النهائي ، كما ورد في الآية : (وَلَقَد أَخَذنَاهُم بِالعَذَابِ فَمَا استَكَانُوا لِرَبِّهِم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ). (المؤمنون / ٧٦)

__________________

(١) ورد نظير هذا المعنى في سورة الاعراف ، الآية ١٦٨ ؛ سورة الزخرف ، الآية ٤٨.

٣٦٧

مع هذا فقد كان هنالك أقوامٌ أبدَوْا ردود فعل ايجابية إزاء مثل هذه الحوادث ، أو خرج من بين هذه الأقوام العنيدة افرادٌ اعتبروا واهتدَوْا ، لذا كانت مثل هذه المصائب عامل ايقاظ للبعض ، وعاملَ إتمام الحجّة للبعض الآخر.

الحوادث الموقظة في الروايات الإسلاميّة :

يُلاحظ في الروايات الإسلامية أيضاً وجود تعابير واضحة تحكي عن العلاقة بين بعض مصائب ومشاكل الحياة ، والمسائل التربويّة ، وتؤيد ما استنتجناه عن طريق العقل والآيات القرآنيّة ، مثل :

١ ـ ورد في إحدى خُطَب نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله يبتلي عبادَهُ عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائبٌ ، ويُقْلعَ مُقلعٌ ويتذكّر متذكّرٌ ويزدجر مُزدجرٌ!» (١).

٢ ـ وعنه عليه‌السلام : «إنّ البلاء للظالم أدب ، وللمؤمن امتحان وللأنبياء درجة وللأولياء كرامة!» (٢).

٣ ـ وفي حديثٍ عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «المؤمنُ لا يمضي عليه أربعون ليلة إلّا عرض له أمر يُحزنه يذّكر به» (٣).

٤ ـ وعنه عليه‌السلام : «إذا أراد الله عزوجل بعبدٍ خيراً فأذنب ذنباً تبعَهُ بنقمة فيُذكّره الإستغفار ، وإذا أراد الله بعبدٍ شرّاً فأذنب ذنباً تبعَهُ بنعمة ليُنسيهُ الإستغفار ، ويتمادى به ، وهو قول الله عزوجل : «سنستدرجهم من حيث لايعلمون» بالنِعَمِ عِنْدَ المعاصي!» (٤).

٥ ـ نختتم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام علي عليه‌السلام : «إذا رأيت الله سُبحانه يُتابع عليك البلاء فقد أيقظك ، وإذا رأيت الله سُبحانه يُتابع عليك النعم مع المعاصي فهو استدراجٌ لك» (٥).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٣.

(٢) بحارالأنوار ، ج ٦٤ ، ص ٢٣٥ ، ح ٥٤.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢١١ ، ح ١٤.

(٤) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٥٢ باب الاستدراج ، ح ١.

(٥) غررالحكم ، عن (ميزان الحكمة) ج ١ ، ص ٤٨٩.

٣٦٨

٥ ـ الإبتلاء عن طريق المشاكل

نحن نعلم تفاوت الابتلاء الإلهي عن الإبتلاء البشري بصورة تامّة ، فالناس يمتحنون شخصاً أو شيئاً لتتوضّح لهم بعض المجهولات ، وتتبيَّنَ قيمة وقابلية واستعداد ذلك الشخص أو ذلك الشيء خلال الإمتحان.

لكن الله لا يخفى عليه شيءٌ في جميع عالم الوجود ، في الأرض والسماء وما وراء السموات ، وفي داخل وخارج الأشياء لكي يعرفه عن طريق الإمتحان.

إذن لِمَ وكيف يمتحن!؟

إنّ للإبتلاء الإلهي صيغة تربويّة ، إنّ الذهب عندما يلقى في النار فمن أجل تهذيبه وتنقيته من الشوائب أو عندما يُدرّبُ الجنود بالأعمال الشاقّة على تمرين المقاومة والإستقامة فمن أجل رفع مستوى لياقتهم البدنية ، فالابتلاء الإلهي مثلهُ مثلُ هذه الحالات بالضبط. فهي تزيد من تحمُّل ومعرفة ونقاء البشر ، وبكلمة واحدة ، إنّ الإبتلاء وسيلة لتكامُل وتربية روح الإنسان وجسمه.

لذا فلا عجب من كون قسم من مصائب ومشاكل الحياة في هذا الصدد من الامتحان والاختبار ، (نكرر بأنّ قسماً من المصائب داخلة في هذا النوع وليس جميعها).

لا يوجد شَعْب في العالَم تمكّن من التقدُّم والرقي في الميادين الصناعية والعسكرية والعلميّة دون أن يتعّرض لضغوط معيّنة ، وكما قال الفيلسوف والمفسّر التاريخي المعروف (تو اين بي) :

الحضارات اللامعة التي ظهرت في العالم كان سبب ظهورها هو تعرّض شعبٍ لهجوم شديد من قبل عدّوٍ خارجي (فاستعمل ذلك الشعب جميع قدراته واستعداداته واستعان بمُدّخراته في مواجهة ذلك العدو).

فالقادة الذين يخوضون الحروب يمتازون بالعظمة والقوة والصبر ، والتجّار الذين يمرّون بأزمات اقتصادية شديدة يتعلمون تجارب قيّمة ، والسياسيّون الذين يجتازون أزمات مختلفة سيكونون أقوياء ومقتدرين.

٣٦٩

وتزداد صلابة الثوريين في السجون وتحت التعذيب ، لا نقول بوجوب دخولهم السجن ، بل نقول بأنّ السجن يزيدهم قوّةً وصلابة.

أعتقد بأنّ علاقة مشاكل ومصائب الحياة مع تربية وتكامل الإنسان قد اتضحت بهذه الأمثلة والتحليلات ، وطبعاً لا ينبغي هنا حساب (المصائب الذاتية) ، وما ذكرناه لم يكُن عُذراً من أجل ترك مواجهة المشاكل والمصائب.

* * *

القرآن والإبتلاءات العصيبة :

نعود الآن إلى القرآن الكريم مرّةً اخرى لنرى ما لهذه المسألة من أصداء في الآيات القرآنية :

١ ـ (وَنَبلُوكُم بِالشَّرِ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ). (الأنبياء / ٣٥)

إنَّ كلمتي (الشر) و (الخير) هنا ذواتا معنىً واسع يشمل أنواع المصائب والأمراض والمشاكل والإبتلاء والفقر والفاقة ، وكذا أنواع الإنتصارات والصحّة والعافية والغنى وما شاكل ذلك.

ويجدر الإلتفات إلى تقدُّم ذكر (الشر) على (الخير) في الموارد الامتحانية التي يواجهها الإنسان ، لأنّ الإمتحان بالبلاء أصعب وأعقدُ (ينبغي الانتباه إلى أنّ هذه الشرور ذات صيغة نسبيّة).

وجملة (وإلينا تُرجعون) المذكورة في ذيل الآية تُعد إشارة لطيفة إلى حقيقة كون الدنيا دار ابتلاء واختبار لا دار مقرٍ وخلود.

وعلى أيّة حال تُعد الآية دليلاً واضحاً على كون قسم من المصائب والآلام ذات صبغة ابتلاء وامتحان لتمحّص صبر الإنسان ، كما هو الحال في كون قسم من النّعمِ امتحانية أيضاً لمعرفة مقدار شُكره إزاء النعم الإلهيّة.

٢ ـ (وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَىءٍ مِّنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِّنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالَّثمَرَاتِ وَبَشِّرِ

٣٧٠

الصَّابِرِينَ). (البقرة / ١٥٥)

ذكرت هذه الآية خمسة أنواع من مصائب ومشاكل الحياة كخمس موادٍّ من مواد الامتحان الإلهي ، ففي المقدّمة يأتي (الخوف) ، والذي هو أهم من الجميع ، ثم (الجوع) : ثم (نقصٍ من الأموال) ثم (الأنفس) ثم (الثمرات).

ويجدر التذكير إلى كون ذيل الآية يدل على أنّ هذا الإبتلاء يرفع من مستوى قوّة مقاومة تحمُّل الإنسان ، ويزيده صلابةً وهو يمرّ بهذه الحالات العصيبة (يجدر الإنتباه إلى أنّ تعبير (نقص الثمرات) قد فُسّرَ بمعنى فقد الأولاد الذين هم ثمرات قلب الإنسان ، ويُمكن أن يكون ذا تفسيرٍ واسع يشمل كلا المعنييْن ، وكذلك فُسّرَ (نقص الأنفس) بمعنى المرض أيضاً).

وفي الحقيقة إنّ من أهم مواهب الحياة هي : الأمْن والأنفس والأموال ومنابع الإنتاج ، والله سبحانه وتعالى يمتحن الإنسان بواسطة الآفات التي تُصيب هذه الأمور ليتضح مقدار صبره وتحمّله.

والتعبير بكلمة (شيء) يُعدُّ شاهداً حيّاً على هذا المعنى وهو عدم كون جميع حالات الخوف والجوع ونقص الأنفس ذات صيغة إمتحانية إلهيّة ، بل إنّ قسماً منها فقط من هذا النوع ، ومن المسلّم به أنّ الابتلاء لا يشمل أبداً المصائب الذاتية والناشئة من الجهل والتقاعُس والتهاون ، وهذه الآية يجب أن لا يتخذها البعض حُجّةً لترك الجهاد والسعي ، والتوجُّه إلى الكسل والخمول.

٣ ـ (وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ). (الفجر / ١٦)

من المُسلَّم به أنّ هذه الآية تخص الذين يُبدون ضعفاً وخمولاً في ساحة الإمتحان وبمستوىً من ضيق التحمَّل ، بحيث إذا نزلت عليهم نعمةٌ أصابهم الغرور ، وبمجرّد أن تصيبهم مصيبة معينة يأخذهم اليأس والقنوط ، ولكن على أيّة حال ، تعتبر هذه الآية دليلاً واضحاً على كون قسم من مشاكل الحياة ذات فلسفة إمتحانية.

٤ ـ (هُنَالِكَ ابتُلِىَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالاً شَدِيداً). (الأحزاب / ١١)

تشير هذه الآية إلى واقعة الأحزاب التي كانت واحدةً من أعظم ميادين الإمتحان الإلهي

٣٧١

لمسلمي صدر الإسلام ، ففي ذلك اليوم الذي هجم جيش الأحزاب الجرّار على المدينة من الأعلى والأسفل ، وحاصر جمع المسلمين القليلين عدداً ، وزاد الطين بلّة إشاعات منافقي الداخل ، فتعقدّت الأمور من كل ناحية ، إلى الحد الذي قال القرآن في وصفه : (وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ). (الأحزاب / ١٠)

يقول القرآن : إنّ هذه المصيبة والعاصفة الشديدة التي زلزلت جماعة من المؤمنين كانت مظهراً من الإمتحان الإلهي ... ، وهذه الآية تأكيد آخر على ما ذكرناه.

* * *

يُلاحظ في الروايات الإسلامية أيضاً وجود إشارات واضحة إلى هذه الحقيقة ، وهي كون قسم من المصائب والبلايا ذات صيغة إمتحانية :

١ ـ ورد في الحديث الذي نقلناه سابقاً بمناسبة اخرى عن على عليه‌السلام : (إنّ البلاء للظالم أدب ، وللمؤمن امتحان) (١).

٢ ـ قال الإمام علي عليه‌السلام في إحدى خُطبه في وصف الأنبياء : (قد اختبرهم الله بالمخمصة وابتلاهم بالمجهَدَة وامتحنهم بالمخاوف ، ومحضهم بالمكاره) (٢).

٣ ـ وذكر عليه‌السلام من قبيل هذا الكلام بالنسبة لعامة الناس بتعابير اخرى في نفس الخطبة : «ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره» (٣).

* * *

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٦٤ ، ص ٢٣٥ ، ح ٥٤.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ (القاصعة).

(٣) المصدر السابق.

٣٧٢

٦ ـ معرفة النعم في المصائب

لايُمكن لأحدٍ أن ينكر هذه الحقيقة ، وهي عدم معرفة الإنسان قيمة النعمة عندما يكون غارقاً فيها ، ولا يلتذ بها ، ولا يؤدّي شكرها ، وأحياناً قد لا ينتبه إلى أصل وجودها!

فلو لم يمرض الإنسان أبداً لما عرف نعمة السلامة بكل مالها من أهميّة وعظمة ، وكموهبة إلهية عظيمة.

ولو لم تهتزّ الأرض أحياناً لما عُرف قدر هذا السكون العجيب الذي يسودها طيلة السّنة ويدور في ظلّه كل شيء حول محوره.

ولا تعرف حقيقة الظلمة والنور إلّاإلى جنب بعضهما ، وإن لم تهيّج عواصف الحوادث بحر افكار الإنسان أحياناً لما فهِمَ قدْر ساعات الهدوء والسكون.

أو بتعبيرٍ أدق إنّ بعض المشاكل بمثابة ظل نور الحياة الذي لا يمكن للإنسان أن يرى شيئاً بدونه ، يقول العلماء اليوم : بأنّه (لو وُضعَ جسمٌ كرويٌّ وسُلّطَ عليه نورٌ متساوٍ من جميع الجهات لما أمكن رؤيته!) :

إنّ وعورة سطح الجسم واختلاف زوايا انعكاس النور هي التي تُمكّن الإنسان من رؤية الجسم ، وكذا النعم الإلهيّة بالضبط ، فلو كانت على وتيرةٍ واحدة وبصورة دائميّة لما أمكن معرفتها.

ومن حيث كون الله قد خلق هذه المواهب العظيمة متاعاً للإنسان من جهة ، ووسيلة للتقرب إليه من جهةٍ اخرى (عن طريق شكر النعمة) ، فمن المنطقي جدّاً أن يقبضها ويبسطها أحياناً ليتحقق الهدفان أعلاه.

ويُلاحظ وجود إشارات ظريفة وغنية في الآيات القرآنية إلى هذه الحقيقة ـ ولو بصورة غير صريحة ـ والتي تُبّين قدْر النّعمِ بالقياس مع لحظات سلبها ، ومن جُملتها :

١ ـ (قُل مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ تَدعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئْن أَنجَانَا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). (الأنعام / ٦٣)

أجَلْ ، لم يكن هؤلاء ليعرفوا قدر النور والأمن قَبلَ أن يُبتلوا بظلمات البر والبحر

٣٧٣

الرهيبة ، ولكنهم عندما يُسْلَبون هذه النعمة سيذكرون مُبدئها ويعلنون عن إستعدادهم للشكر.

٢ ـ (وَلَئِن أَذَقنَاهُ نَعَماءَ بَعدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِئَاتُ عَنِّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود / ١٠)

وتأكيد القرآن على إذاقة النعماء بعد الضرّاء هدفه تبيان قدر النعمة بصورة جيدة ليرفع بالعباد إلى الشُّكر ، ولو أنّ جماعة من المغرورين والمُعجبين بأنفسهم فسّروه بشكل آخر.

٣ ـ (وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَآءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعْمتِهِ إِخوَاناً). (آل عمران / ١٠٣)

إنّ القرآن الكريم ومن أجل أن يُبيّن في هذه الآية قدر نعمة الإتحاد وتأليف القلوب قارنها بالوقت الذي كانت هذه النعمة مسلوبة نهائياً ، وعندما كانت نار الفرقة والنفاق تلتهمُ كُلّ شيء ، وذكّر المسلمين بمعرفة هاتين الحالتين بالقياس إلى بعضهما ليعرفوا قدر هذه النعمة الإلهيّة الحقيقي.

ويُلاحظ وجود بعض الإشارات إلى هذا القسم من المصائب والآلام في الروايات الإسلامية أيضاً ، ومن جملتها : ماورد في حديث المفضّل عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ هذه الآفات وإن كانت تنالُ الصالح والطالح جميعاً ، فإنّ الله جعل ذلك صلاحاً للصنفين كليهما ، أمّا الصالحون فإنّ الذي يُصيبهم من هذا يردُّهم (يذكّرهم) نعم ربّهم عندهم في سالف أيامهم ، فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر ، وأمّا الطالحون فإنّ مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش» (١).

* * *

٧ ـ موقع الخير والشّر في عالم الوجود

ذكرنا فيما مضى أن من جملة المسائل التي أوجدت التشكيك في مسألة عدالة الخالق

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٣ ، ص ١٣٩.

٣٧٤

إزاء إشكال البعض هي التركيب الثنائي للعالم من (الخير) و (الشر) ، بحيث يتعدّى الإشكال أحياناً إلى أبعد من مسألة العدالة ليبلغ حد التشكيك في أصل وجود الخالق.

تُعد هذه المسألة من المباحث الفلسفية والكلاميّة التي توحي للإنسان بنوع من الظُّلمة والإبهام عندما يدخلها ، لكنه كُلّما تعمّق فيها بتأنٍّ ، ودقق أكثر في تحليلها ، ظهرت أمامه آفاق جديدة واضحة ، إلى أن يُحسَّ في قلبه بالسكينة اللازمة ، بعدما يحصل على الحل النهائي لمسألة الخير والشر.

وبهذه المناسبة ولحل هذه القضية ، نجد من الضروري الإلتفات إلى النقاط الموجزة التالية :

١ ـ ما معنى الخير والشّر؟

(الخير) هو كل ما يتناغم مع وجودنا ويُسبب تكامله وتقدمّه ، و (الشر) هو كل مالا يتناغم معه ، ويُسبب الإنحطاط والتخلّف ، ومن هنا يتضح جيدّاً بأنّ الخير والشر ذوا صبغة نسبّية ، فيُمكن أن يكون أمرٌ ما خيراً لنا وشرّاً للأخرين ، أو خيراً لجميع الناس ، وشراً بالنسبة لنوع من الحيوانات.

كأن تظهر في السماء غيومٌ ، فتمطر السماء ، وتنمو مزارعٌ وتتلقّح أشجارٌ معينة ، ولكن نفس هذه الأمطار تُسبّب سيلاً في نقطةٍ اخرى وتؤدّي إلى الدمار ، أو يتهدّم عش طائرٍ بقطرات بسيطة من المطر ، في حين أنّها تُلطف لنا الجو.

فكل جماعة هنا تنظر إلى هذه الظاهرة بمقياسِ وجودها ومنافعها الخاصّة ، وتُسمّيها خيراً أو شرّاً.

فإبرة الحشرات ، ومخالب وقواطع الحيوانات المفترسة خيرٌ بالنسبة لها لأنّها وسيلة دفاعية أو للحصول على الصيد والغذاء ، ولكن قد تكون شرّاً بالنسبة لنا نحن البشر.

من هذا البيان يُمكن الإستنتاج جيداً أنّه ليس من السهل الحكم على كون الحادثة المعينة شرّاً ، فيجب أن نأخذ بنظر الاعتبار مجموع آثارها في مجموع المحيطات ، بل في

٣٧٥

مجموع الأزمنة من الحال والمستقبل ، أو جذورها الماضية ، لكي نتمكن من القول : إنّ أضرارها أكثر من منافعها مثلاً ويجب التصديق بأنّ هذا الحكم ليس سهلاً.

ومن جهةٍ اخرى يُمكن تقسيم الخير والشر إلى مايلي :

أ) الخير المطلق.

ب) الشر المطلق.

ج) الخير والشر النسبيان.

الخير المطلق : هو الخير الخالي من أي صِفة سلبيّة ، وضدّه الشّر المطلق الذي ليس له أي صفة إيجابية ، ونادراً ما يوجد مصداق لهذين النوعين ، فغالباً ما نواجه أشياء أو حوادث أو ظواهر مركّبة من صيغٍ إيجابية وسلبيّة ، فما فيها صفحات إيجابية أكثر تُسمى خيراً ، وما فيها حالات سلبيّه أكثر تُسمى شرّاً ، وإذا تعادلت حالات الخير والشّر فيها فهي لا خير ولا شر.

طبعاً يجب الالتفات إلى أنّ حالات الخير والشّر متفاوتة بين الأفراد والأقوام ، والمهم هو وجوب الأخذ بنظر الاعتبار في الحكم النهائي مجموع آثار تلك الظاهرة في جميع العالَمِ وفي جميع الأزمنة والأمكنة.

ومن وُجهة نظر المؤمن يُمكن وجود قسمين فقط من هذه الأقسام (الخير المحض) أو (الأكثر خيراً) أو (الشر المحض) أو (الأكثر شرّاً) أو (ما تساوى خيره وشرّه) فيستحيل وجودها ، نظراً لكون الله تعالى حكيم لأنّ صدور هذه الأقسام الثلاثة من (الحكيم المطلق) قبيح وغير مُمكن.

٢ ـ هل للشرور حالة عدميّة؟

عُرِف بين الفلاسفة والعلماء أن (الشّر) يعود في النهاية إلى (أمرٍ عدمي) ، (أو إلى أمر وجودى يؤدّي إلى العدم) ، ولعل أول من صرّح بهذا الرأي هو (أفلاطون) والذي وصف الشّر بالعدم.

وعليه فضدّه ، أي الخير ، لايحكي إلّاعن الوجود ، وكلما كان الوجود أوسع وأكمل كان

٣٧٦

منبعاً لخيرٍ أكثر ، إلى أن يصل إلى الوجود الإلهي المطلق اللامحدود الذي هو عين الخير المحض ، ومصدر جميع الخيرات والبركات.

وعادةً مايلتجئون إلى هذا المثال البسيط لتوضيح عدميّة الشّر وهو : أننا نقول : (ذبح إنسانٍ بريء شرٌّ) ، ولكن لنرى ما هو الشر هنا؟ هل هو قوة ذراع القاتل ، أم قاطعية السكّين وجودة عملها ، أم تأثُّر رقبة المقتول وظرافتها التي يستطيع الإنسان بواسطتها ممارسة كل أنواع الحركة (حركات الرقبة)؟ فمن المسلّم به أنّ أيّاً من هذه الأمور ليست بشرٍّ ونقص ، فالشّر هنا هو انفصال أجزاء الرقبة والأوداج والعظام عن بعضها ، ونحن نعلم بأنّ الإنفصال ليس إلّاأمراً عدميّاً.

وكذا قد يؤدّي أمر وجودي أحياناً ـ كغذاءٍ مسموم ـ إلى الموت ، الذي هو أمر عدمي ، لذا فهو شر ، أو يؤدّي مكروب معين ، الذي هو أمر وجودي ، إلى الاصابة بمرض معين ، ونحن نعلم بأنّ الموت ليس سوى انعدام الحياة ، والمرض ليس إلّافقد السلامة.

ومن هنا يتضح للجميع جواب هذا السؤال وهو : (من خلق الشرور)؟

لأنّه عندما تكون الشرور أموراً عدميّة لايصح أساساً تصوّر وجودها أو موجدها.

نعم ، يُمكن أحياناً أن تكون الأمور المسببّة للعدم أموراً وجودية (كالغذاء المسموم) ، ولكن وكما قلنا لو تساوى خيرها وشرها أو غلب شرها أو كان شرها مطلقاً فإنّه لا يُمكن أن تلبس خلعة الوجود.

ويجدر التركيز في هذه النقطة أيضاً وهي : تساوي (الشر المطلق) مع (العدم المطلق) الذي ليس له وجود خارجي بتاتاً ، لأنّ العدم المطلق نقيض الوجود.

أمّا (الشر النسبي) (الشيء الذي يُعد خيراً من جهة وشّراً من جهة ثانية) فله حصة من الوجود طبعاً ، أو بتعبيرٍ آخر : فهو خليط من الوجود والعدم ، ولكن كما قلنا فإنَّ قسماً واحداً من الشّر النسبي يتماشى مع حكمة الله وهو الشيء الذي تغلب عليه حالة الخير ، (تأمل جيداً).

٣٧٧

٣ ـ الخيرات التي تأتي من الشرور

نظراً لنسبية الخير والشّر ، والتأثير المتقابل للأشياء في بعضها الآخر : كثيراً ما يتفق أن تصير الحوادث والظواهر التي تُعدُّ شروراً في الظاهر منبعاً لخيرات وبركات مختلفة.

فكثير من حالات الحرمان تصير سبباً في تفتحُّ الإستعدادات والجهود العظيمة ، لأنّ الإنسان على أيّة حال ينتفض ويُجنّد جميع ما يمتلكه في باطن وجوده للحصول على ما يصبوا إليه ، وهذه المسألة بالذات ستصير سبباً في القفزات العلمية والاجتماعيّة.

وكثيرٌ من حالات الحرمان صارت سبباً للوصول إلى اختراعات كبيرة ، وكثير من حالات النقصان صارت مقدمة للتوصل إلى منابع مهمّة جديدة.

فالأشجار التي تنمو في المناطق الصخريّة ، والنباتات البريّة التي تنمو بالرغم من افتقارها لكثير من مُسببّات النمو ، فهي أصلب عوداً ، وأقوى وقوداً من النباتات التي تنمو على ضفاف الأنهار بعدّة أضعاف ، والبشر يخضعون لهذا القانون أيضاً.

والبدو الذين يواجهون أنواع المشاكل دائماً ، ويصارعون أنواع الحيوانات الوحشيّة ، يتّصفون بالشجاعة والقوّة وشدّة التحمُّل ، في حين نجد سكّان المدن الذين يتمتعون بالنّعم الوفيرة والأمان نجدهم ضعفاء بالقياس إلى البدو.

وللقرآن الكريم بيان لطيف في هذا الخصوص حيث يقول : (فَإِنَّ مَعَ العُسْر يُسْراً* إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً). (ألم الشرح / ٥ ـ ٦)

يجدر الإشارة إلى أن تلازُم هذين الأمرين بدرجة من القوّة والقرب بحيث وكأنّهما متجاوران ، كما يُستنتجُ من كلمة (مع).

وهذه المسألة أيضاً جديرة بالإنتباه وهي كون (العسر) معرفاً بالف لام التعريف ، وتعبير (يسر) مذكور بصيغة النكرة ، والمقصود منه تبيان العظمة أي مع العسر يسرٌ عظيم.

يعتقد بعض المؤرخين بأنّ سيل المشاكل كان من أحد العوامل المهمّة لتقدُّم المسلمين الأوائل السريع ، حيث ترعرع المسلمون في وسط تلك المشاكل ، وصاروا في ظلّها مجاهدين أقوياء ومقتدرين ، في حين كان من أحد عوامل تراجع وتخلُّف المسلمين في

٣٧٨

القرون المتأخرة هو العيش المرفّه ، والتلذذ بأنواع النعم ، والركون إلى الدعة.

ونختتم هذا الكلام بعدّة جملٍ مقتطفة من آراء العلماء العظام حول هذا الأمر.

يقول أحد الكتّاب الغربيين : «لا اعتقد بوجوب تحملُّ كل فرد لمصيبة معينة ، ولكن أعلم بكون المصيبة مفيدة في الغالب بل ضروريّة ، ولكن شريطة أن يُتقن كل فرد كيفية مواجهة المشاكل ، وأن يعتبر هذا العمل من الأعمال الأساسية والمفيدة» (١).

وهذا التعبير دقيقٌ جدّاً ، وهو عدم لزوم استقبال الإنسان للمصائب ، أو الجلوس إزاءها مكتوف اليدين ، وعدم مكافحة عوامل المصيبة ، ولكن مع هذا يجب عدم نسيان إمكانية تحويل قسم من المصائب اللا إرادية ، التي نعجز عن مواجهتها ، إلى عوامل بنّاءة في حياتنا.

يقول الفيلسوف والطبيب الفرنسي المعروف (ألكيس كارل) في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) : «غالباً ما ينزوي أبناء الأثرياء ، الذين قضّوا عُمراً بالثروة والنعمة وكانوا مقتدرين في كل الجوانب ، عن العمل اتّكالاً على ثروة آبائهم ، ويخلقون في أنفسهم أسباب الضعف وسحق قواهم واستعداداتهم الخلّاقة» (٢).

وبالعكس فهناك كثير من الذين يترعرع أبناؤهم وسطَ خضم من المشاكل ، فإنّهم يحققون انتصارات ملحوظة ونجاحاً كبيراً.

نختتم هذا الكلام بكلامٍ لأميرالمؤمنين علي عليه‌السلام.

قال عليه‌السلام في الكتاب الخامس والأربعين من نهج البلاغة في الإجابة عن سوالٍ وُجّه إليه وهو : كيفية قدرته عليه‌السلام على مبارزة شجعان العرب بالرغم من تناوُلِهِ أغذية بسيطة جدّاً؟!

«ألا وإنّ الشجرة البريّة أصلب عوداً ، والرواتع الخضِرة أرقّ جلوداً ، والنباتات العِزْية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً».

٤ ـ الخير والشّر في القرآن الكريم

للخير والشر معنىً واسع في القرآن الكريم يشمل مصاديق متنوعة وأفراداً متفاوتين.

__________________

(١) سرّ النجاح.

(٢) الإنسان ذلك المجهول ، ص ١٥٢.

٣٧٩

ورد الخير في القرآن بمعنى (المال) (البقرة / ١٨٠) وبمعنى (العلم) (البقرة / ٢٦٩) ، وبمعنى (الجهاد) (النساء / ١٩) ، وبمعنى (الأعمال الصالحة) (النساء / ١٤٩) ، وبمعنى (الإيمان) (الأنفال ٢٣) ، وبمعنى (القرآن) (النحل / ٣٠).

وبمعانٍ أُخرى أيضاً مثل (الناس الأخيار) ، (الظن الحسن) (الولد الصالح) ، (البستان والزرع) وما شاكل ذلك.

ويجدر الإلتفات إلى أنّ هذه الكلمة قد ذُكرت في القرآن ١٧٦ مرّة بصيغة المفرد و ١٢ مرّة بصيغة الجمع ، في حين نجد أنّ الشر مذكور ٣٠ مرّة فقط بصيغتي المفرد والجمع!

وكلمة (شر) المضادّة لكلمة (خير) وردت بمعنى البلاء والمصيبة ، العذاب ، أنواع المكاره والشدائد ، وجميع أنواع الوسوسة والفساد.

والمسألة الاخرى التي يلزم الإلتفات إليها هي أنّ القرآن قد اعتبر (الشّر) من مخلوقات الله في قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ). (الغلق / ٢)

ويتبادر إلى الأذهان هنا سؤالان :

الأول : كيف يتناسب هذا التعبير مع عدميّة الشرور؟

والثاني : قول القرآن في آيةٍ اخرى : (الَّذِى أَحسَنَ كُلّ شىءٍ خَلَقَهُ). (السجدة / ٧)

فكيف تتناسب هاتان الآيتان مع بعضهما؟ وبتعبيرٍ آخر : يظهر من الآية الثانية أنّ كل ما في الوجود ويصدق عليه تعبير (شيء) ومن مخلوقات الله فهو حَسن ، في حين أنّ الآية الأولى تأمر بالإستعاذة من (شرّ ما خلق).

وفي الإجابة عن السؤال الأول يجب القول : إنّ الآية المذكورة لم تعتبر أي مخلوقٍ شرّاً ، بل تقول بإمكانية صيرورة بعض المخلوقات سبباً للشّر ، أي بأن تعدم كمالاً ، أو تغصب حقّاً ، أو تُبعثر نظماً معيناً ، لذا يبقى الشّر بنفس مفهومه العدمي الذي يُمكن أن يتحقق من قبل الناس الأشرار أو الشياطين. (تأمل جيداً).

ويُحتملُ أيضاً أن يكون قصد الآية هو الشّر النسبي لا المطلق ، أو الشّر الغالب كأنياب الأفعى التي هي وسيلة دفاعيّة بالنسبة لها ، ووسيلة شر بالنسبة للإنسان (أحياناً) ، فالإنسان يعوذ بالله من قبيل هذه الموجودات.

٣٨٠