نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

والقدرة ، والفقر والغنى ، حقيقة كونهم دائماً بين يدي الله الحسيب ، سريع العقاب ، وشديد العقاب ، وقد وردت هذه الصفات الإلهيّة في آيات قرآنية عديدة ، لنتأمل في قسم منها خاشعين :

١ ـ (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا) (١). (النساء / ٦)

٢ ـ (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (٢). (البقرة / ٢٠٢)

٣ ـ (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (٣). (الأنعام / ٦٢)

٤ ـ (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ). (٤) (الأنعام / ١٦٥)

٥ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٥). (البقرة / ١٩٦)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

كلمة (حسيب) مشتقّة من مادّة (حساب) ، وقد ذُكر في مقاييس اللغة عدّة معانٍ لها هي : العدّ ، الكفاية ، و (حسبان) تعني نوع من الوسائد الصغيرة ، و (أحسَبْ) تعني مرض جلدي ، لكنّ كتاب التحقيق أرجع جميع هذه المعاني إلى معنىً واحد وهو البحث للإطلاع على حال شيءٍ معيّن والتحقيق عنه ، ولكون العدّ وسيلة لتحقُّق هذا المعنى كما أنّ الكفاية من لوازمه ونتائجه ، فإنّها استُعملتْ في هذا المجال أيضاً.

__________________

(١) وردت كلمة «حسيب» في أربعة مواضع من القرآن الكريم ، في ثلاثةٍ منها كصفة للباري تعالى (النساء ، ٦ و ٨٦ ؛ الأحزاب ، ٣٩) وفي موضعٍ واحد كصفة من صفات الإنسان في يوم القيامة عندما يُعطى كتابه بيده. (الاسراء ، ١٤).

(٢) وردت هذه الصفة في ثمانية مواضع من القرآن الكريم ممّا يدلّ دليلاً واضحاً على أهميتها (سورة البقرة ، ٢٠٢ ؛ سورة آل عمران ، ١٩ و ١٩٩ ؛ سورة المائدة ، ٤ ؛ سورة الرعد ، ٤١ ؛ سورة ابراهيم ، ٥١ ؛ سورة النور ، ٣٩ ؛ سورة غافر ، ١٧).

(٣) وردت هذه الصفة في موضعٍ واحد فقط من القرآن الكريم وهو المذكور أعلاه.

(٤) وردت هذه الصفة في موضعين من القرآن الكريم هما : الآية المذكورة أعلاه والآية ١٦٧ من سورة الأعراف.

(٥) تكررت هذه الصفة أربع عشرة مرّة في القرآن مما يُعدّ دليلاً على أهميتها (سورة البقرة ، ٢١١ و ١٩٦ ؛ سورة آل عمران ، ١١ ؛ سورة المائدة ، ٢ و ٩٨ ؛ سورة الأنفال ، ١٣٣ ، ٢٥ ، ٤٨ و ٥٢ ؛ سورة الرعد ، ٦ ؛ سورة غافر ، ٣ و ٢٢ ؛ سورة الحشر ، ٤ و ٧).

٢٦١

فكلمة (حسب) على وزن نسبْ ، تعني كون الآباء والأجداد ذوي شخصيّات ومقامات يُمكن ذكرها! وكذا (احتساب المصيبة) فإنّها تعني احتساب المصيبة على الله وطلب ثوابه.

«حُسبان» : على وزن (غفران) وتعني الصاعقة والعذاب ، لأنّها العقوبة التي يلقاها بعض الأقوام بعد حساب أعمالهم.

وعلى أيّة حال ، عندما تُستعمل كلمة (حسيب) بخصوص الباري سبحانه ـ كما قال المرحوم الصدوق رحمه‌الله ـ فإنّها تعطي أحد المعاني الثلاثة التالية : الذي أحصى كُلٍ شيءٍ في الوجود وهو عليم وخبير به ، والذي يتولّى محاسبة العباد في القيامة ومجازاتهم ، والذي يكفي أمور العباد (١).

ولكن يُفهم من الآيات القرآنية أنّ هذه الكلمة تعني «تولّي الحساب» لأنّها جاءت بهذا المعنى على الأقل في ثلاثة مواضع من المواضع الأربعة المذكورة في القرآن الكريم.

ومن هنا يتضح أنّ كلمة (حسيب) متقاربة مع صفتي (سريع العقاب) ، و (أسرع الحاسبين).

وللمفسرين آراء مختلفة حول سبب اتصاف الباري بصفة (أسرع الحاسبين).

يقول القرطبي في تفسيره : (لأنّه لا تحتاج محاسبته إلى أي نوعٍ من التفكُّر) (٢).

ويقول الألوسي في روح المعاني : لأنّه سبحانه يحاسب جميع الخلق بأسرع وقتٍ دون أن تشغله محاسبة فردٍ عن محاسبة غيره (٣).

وقد أورد المرحوم الطبرسي نفس هذا المعنى في مجمع البيان (٤).

وقد وردت تعابير ظريفة حول هذا الموضوع في الأحاديث الإسلامية أيضاً ، فقد نُقِلَ عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال : «معناه انه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة» (٥).

__________________

(١) توحيد الصدوق ، ص ٢٠٢ ، ووردت هذه المعاني الثلاثة في كتاب مصباح الكفعمي أيضاً ، ص ٣٢٤.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢٤٤٣.

(٣) تفسير روح المعاني ، ج ٧ ، ص ١٥٤.

(٤) تفسير مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٩٨ ، ذيل الآية ٢٠٢ من سورة البقرة.

(٥) المصدر السابق.

٢٦٢

وفي حديثٍ آخر : «إنّه تعالى يُحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر» (١).

وورد في حديث آخر : «إنّه سُبحانه يُحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة» (٢).

وقد اورد المفسرون الآخرون أيضاً نفس هذه التعابير تقريباً ولكن الحق أنّ أي واحدٍ منها لا يمكنه تبيان عمق الكلمات المذكورة ، والحقيقة يجب القول : إنَّ الله لا يحتاج إلى حساب لأنّ جميع أعمال العباد ماثلة بين يديه في آنٍ واحد.

والظريف هو ما توصّلت إليه العقول الألكترونية المصنوعة التي تستطيع القيام بمئات الملايين أو الملياردات من الحسابات الرياضيّة في ثانية واحدة أو عدّة ثوان ، ممّا يدل على عمق ما توصلت إليه سرعة الحساب في عصرنا الحالي!

ففي الوقت الذي يستطيع البشر ـ بكل ضعفه ونقائصه ـ التوصُّل إلى هذه السرعة الحسابية ، فلا توجد حاجة إذن إلى توضيح (إثبات) سرعة حساب القادر العلي الذي قدرته غير محدودة وعلمه غير متناهٍ.

وكما أشرنا في التفسير الأمثل أيضاً ، أنّ آثار أعمال الإنسان ستبقى وتتضاعف وتصير بذاتها خير وسيلة للحساب ، وهي على وجه التشبيه كالمعامل التي تحتوي مكائنها على عدّادات لإحصاء عدد دورات الماكنة أو كالسيّارات التي يتصاعد العدد الذي يعدّه عدّاد المسافة الموجود فيها كلما قطعت مسافة أكبر ، فلا توجد حاجة إلى الحساب لمعرفة معدّل عمل مكائن ذلك المعمل أو المسافة التي قطعتها هذه السيّارة ، فكل شيءٍ واضح ومُهَيأ.

لهذا يجب أنْ ندرك إن علمَ الله اللامحدود وأنّ ديمومة حضور الباري في كل مكانٍ من عالم الوجود من جهة ، وبقاء آثار الأعمال وتراكمها من جهةٍ اخرى سيؤدّي إلى تسريع حساب الخلائق كلّها كلمح البصر.

إنَّ التعليمات التي تحملها هذه الصفات الإلهيّة (حسيب ، سريع الحساب ، أسرع الحاسبين) هو أنّها تحذّر جميع الناس من تناسي أبسط الذنوب وأصغرها ، وتجعلهم على

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٩٨ ، ذيل الآية ٢٠٢ من سورة البقرة.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٣١٣ وروح المعاني ، ج ٧ ، ص ١٥٤.

٢٦٣

يقين بأنّ الذي يحاسبهم هو مَنْ لا تخفى عليه ذرّة من أعمال الناس الصالحة والطالحة ، وَأن النسيان لا يجدي نفعاً في محوها ، وسيُنهي تعالى حساب جميع هذه الأعمال يوم القيامة بلمحة بصر ، هذا من جهة ، ومن جهةٍ اخرى تلقّن الناس درس المحاسبة في جميع أمور الحياة ، ليحسبوا لكل عملٍ وكل شيءٍ وكل أمرٍ من حياتهم حسابه دون أن يتركوه سُدىً.

أمّا كلمة (عقاب) فهي مشتقّة من مادّة (عَقِب) على وزن (خَشِن) المستعملة بمعنى كعب القدم ، وأُطلقت فيما بعد على مؤخّرة كلّ شيء ، ولكن ذُكر لها في مقاييس اللغة معنيان :

الأول تعاقب شيء مع آخر ، والثاني : المرتفع والشدّة والصعوبة (لذا وردت عقَبَة بمعنى منعطف).

وإنّما أُطِلقَ على عقوبات الأعمال (عقاب) لكونه عذاباً يصيب الإنسان عقب ارتكابه الأعمال السيئة.

وكذلك يُطلق على الأولاد والأحفاد (أعقاب) لأنّهم يأتون عقب الأب والجد ، ويطلقون على الطير المعروف اسم العقاب لأنّه يعقب فريستهُ بسرعة.

وعلى أيّة حال فإنّ وصف الباري بصفة (شديد العقاب) لا يعني أبداً أن يتجاوز عقابُهُ على مقتضى أصول العدالة بل لكون مجازاته وعقوباته دنيويّة وأخرويّة ، جسمية وروحيّة ، ولا يأمن منها أي أحد من المجرمين ، ولا تقوى أيّة قدرةٍ على التصدي لها.

فقد يُهلك الله قريةً ظالمة في لحظةٍ واحدةٍ أحياناً ، فيمطر حجارة على الأشرار ، وأحياناً يأمر أمواج البحر لتغرق فرعون وجنده والمتغطرسين في زمن قصير لتحيلهم طعاماً لأسماك البحر.

وأحياناً يأمر الريح العاصفة لتهلك الظالمين وتذري قصورهم في الفضاء وترمي بها في نقاطٍ نائية.

وأحياناً يُرسلُ طيراً أبابيل لترمي أصحاب الفيل بحجارةٍ من سجّيل وتُهلكهم وتجعلهم كعصفٍ مأكول لتمنعهم من التقدم لهدم الكعبة.

وبالتالي يأمر الله تعالى السماء لتمطر مطراً غزيراً ويأمر عيون الأرض لتتفجّر بالماء فيغطي سطح الأرض سيلٌ عظيم ولا يُبقي عليها إلّاسفينة النجاة للأطهار المحسنين!

أجلْ إنّه شديد العقاب في المحل المناسب ، وهذه الصفة تُعدُّ تحذيراً لكل الذين

٢٦٤

يستهينون بمعصية الباري ويرتكبون ما شاؤوا من الذنوب دون أن يتفكّروا في عواقبها ، مستغلين لطف الباري وكرمه.

أجل إنّه «أرحم الراحمين» ولكن في موضع العفو والرحمة ، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة!

اللهم عاملنا بلطفك ورحمتك ، وخلّصنا من أسر عذابك ، فنحن نُقرّ لك بذنوبنا ، ونعتذر إلى جنابك من تقصيرنا.

* * *

٤٩ ـ نصير ٥٠ ـ نعم النصير ٥١ ـ خير الناصرين

لا شك أنّ قدرة الإنسان المحدودة غير قادرة على حلّ المشاكل اللامتناهية ، ولولا عناية الباري في عالم التكوين والتشريع ، لما وصل ـ الإنسان ـ إلى مقصوده ولَضَلّ الهدف العظيم الذي خُلِقَ من أجله ، وهو التكامل والتقرّب من الله ، في هذا العالَم المتلاطم.

فالله العظيم هو الذي يعين الإنسان ويمدّه بعنايته عن طريق القوانين التكوينيّة والتشريعية وإمداده الظاهر والخفيّ ، ويأخذ بيده إلى حيث بلوغ الهدف المنشود متجنّباً طرق الحياة الملتوية.

لنمعن خاشعين في الآيات التالية الواردة في هذا المجال :

١ ـ (وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا) (١). (النساء / ٤٥)

٢ ـ (وَاعتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَولَاكُم فَنِعمَ المَولَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٢). (الحج / ٧٨)

٣ ـ (بَلِ اللهُ مَوْلَاكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ) (٣). (آل عمران / ١٥٠)

* * *

__________________

(١) وردت كلمة «نصير» في أربعة وعشرين موضعاً من القرآن ، وفي عدّة مواضع منها فقط كصفة لله ، مثل (النساء ، ٤٥ ؛ الفرقان ، ٣١ ؛ البقرة ، ١٠٧).

(٢) وردت صفة نعم النصير في موضعين من القرآن وفي كليهما وردت كصفة لله ، أحدهما الآية المذكورة أعلاه والاخر الآية ٤٠ من سورة الانفال.

(٣) وردت صفة «خير الناصرين» مرّة واحدة فقط في القرآن وهي كصفة للباري تعالى.

٢٦٥

جمع الآيات وتفسيرها

كلمة (نصير) و (ناصر) من مادّة (نصر) على وزن (عصر) وهي بالأصل تعني عمل الخير وإعطائه ـ كما قال صاحب مقاييس اللغة ـ ، أمّا الراغب الاصفهاني فقد قال : إنّها تعني المعونة ، وقال صاحب كتاب لسان العرب بأنّها تعني معونة المظلوم ، وجميع هذه التفاسير تعود إلى معنىً واحدٍ تقريباً.

وأحياناً يُطلق على المطر (نصر) ، وعلى الأرض التي تعرّضت للأمطار (منصورة) ، وعلى مسير ومجاري المياه (نواصر) ، وكلّ ذلك بسبب الإمدادات التي توصلها الأمطار للموجودات الحيّة.

وهذه الكلمة عندما تستعمل كصفة من الصفات الإلهيّة فإنّها ترمز إلى الامداد الإلهي اللامتناهي الذي يمدّ به سبحانه عباده.

فالنطفة تنتهل من منهل الامداد الإلهي منذ اللحظة الأولى لدخولها الرحم ، وتُحاط من كل جانب بالنصر الإلهي عن طريق القوانين التكوينية ، وتقضي بعنايته سبحانه مراحل التكامل بسرعة ، حتى تنتهي من مرحلة الجنين ويأتي الإذن الإلهي في الولادة.

ولا تَزال يد العناية الإلهيّة محيطةً به وترعاه كرعاية الأم التي توفّر له الحليب ذلك الغذاء الكامل الشامل لأنواع مواهب الحياة ، فكل هذه الأمور أشعةٌ وأنوارٌ من ألوان النصرة الإلهيّة في هذه اللحظات الحسّاسة.

وعندما يبلغ هذا الإنسان ويخضع للقوانين الإلهيّة التشريعيّة يضع يده في يد الأنبياء ويُظلّه اللهُ بظلّ الوحي والكتب السماوية.

وهو ـ أي الإنسان ـ مُهدَّدٌ طيلة حياته بالموانع والآفات من جهة ، والشياطين والأهواء النفسانية من جهةٍ اخرى ، فلولا نصرة (خير الناصرين) لما نجا أحدٌ من هذه المخاطر العظيمة.

والتفكّر بهذه الحقيقة يُلْهم الإنسان الأمل من جهة ، ويكشف عن سماء روحه سُحب اليأس والقنوط المظلمة في مواجهة المشاكل طيلة حياته ، ويثبت أقدامه ويقوي عزمه

٢٦٦

وإرادته ويجعل قراراته حدّية قوية لطيِّ طريق التربية والتكامل.

ومن جهة اخرى فإنّ (التخلق بأخلاق الله) يعلّمه هذه الحقيقة ، وهي أن يكون للمظلومين عوناً ، وللمحرومين ناصراً ونصيراً.

* * *

٥٢ ـ القاهر ٥٣ ـ القهّار ٥٤ ـ الغالب

أشرنا فيما مضى إلى أنّ بعض الصفات الإلهيّة يمكن أن تكون ذات بعدين ، ذاتي وفعلي ولكن بمفهومَيْن.

ويُمكن أن تكون صفتا (القاهر) و (القهّار) من هذا القبيل ، فلو اعتبرناها مرادفة لصفتي (قادر) و (قدير) لصارت من صفات الذات ، أمّا لو حُمِلَتْ على مفهوم القهر والغلبة الفعلية الخارجيّة لصارت من صفات الفعل.

وعلى أيّة حال فإنّ قدرته غير متناهية ومن جميع الجوانب فهو قاهر وغالب لكل شيء بالطبع ، ومسيطر على جميع الأمور ، لا مانع يحول دون مشيئته ، ولا يصعب عليه أيّ أمرٍ.

وقد وردت هذه الصفات الإلهيّة الثلاث في الآيات القرآنية ، فلنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ). (١) (الانعام / ١٨)

٢ ـ (ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ). (٢) (يوسف / ٣٩)

٣ ـ (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ). (٣) (يوسف / ٢١)

* * *

__________________

(١) وردت كلمة «قاهر» في موضعين من القرآن الكريم (الانعام ، ١٨ و ٦١).

(٢) وردت كلمة «قهّار» في ستة مواضع من القرآن الكريم جميعها كصفة من صفات الباري. (يوسف ، ٣٩ ؛ الرعد ، ١٦ ؛ ابراهيم ، ٤٨ ؛ ص ، ٦٥ ؛ الزمر ، ٤ ؛ غافر ، ١٦).

(٣) وردت كلمة «غالب» في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم ، ولكن في موضعٍ واحدٍ منها فقط كصفة لله سبحانه ، وتكررت كلمة (غالبون) ـ بصيغة الجمع ـ ست مرّات.

٢٦٧

جمع الآيات وتفسيرها

كلمة (قاهر) و (قهّار) من مادّة (قهر) ، وهي بالأصل ـ كما جاء في (مقاييس اللغة) ـ تأتي بمعنى الغلبة والتفوُّق ، لذا يُطلق على الصخور القويّة (قهقر) ، وقال الراغب في مفرداته : إنّ (القهر) معناه النصر المصحوب بإذلال الطرف المقابل ، لذلك تستخدم في كلا المعنيَيْن ، وقال الخليل بن أحمد في كتاب العين : (القهر) معناه الغلبة والتسلُّط على أحد أو شيء معيَّنْ ، وجاء بهذا المعنى في «لسان العرب» و «تاج العروس».

وعندما تُستعمل كلمة (قاهر) و (قهّار) بخصوص الله سبحانه وتعالى فإنّها تأتي بمعنى التغلُّب على جميع الجبابرة ، والتسلُّط على جميع المخلوقات ، وعجزها جميعاً إزاء إرادته وأمره عزوجل ، بحيث لايستطيع أي موجودٍ أن يحول دون مشيئته وإرادته ، ولكن لكون (قهّار) من صيغ المبالغة فإنّها تعطي نفس هذا المفهوم وتبيّنه بتوكيدٍ أكثر.

والبلاغ الذي تحمله هاتان الصفتان الإلهيتان في طيّاتهما للمؤمنين ، هو أنّهما تحذّران المؤمنين من غرور النفس والظلم والشعور بالتسلُّط والغلبة ، لأنّ غرور السلطة كان مصدر الكثير من التعاسة وحالات الفشل على مدى التاريخ ، بل يجب عليهم أن يعتبروا أنفسهم خاضعين لإرادة الله ، ويعتقدوا بأنّ ليس لقدرتهم أدنى تأثير على الإرادة الإلهيّة ، ولا ريب من أنّ الإنتباه إلى قاهرية وقهّارية الله يمكنها أن تصدّ الإنسان عن التهوّر عند الغلبة.

أمّا كلمة (غالب) فهي من مادّة (غلبة) وتأتي بنفس معنى القهر ، وتدل على القوة والشدّة والغلبة ، لهذا يُطلق على الأفراد المتمرّدين (أغلب) ، و (مغلّب) وتعني المنتصر على عدوّه (١).

ولكون مفهوم (غالب) يشبه مفهوم (قاهر) ، فإنّ هذه الصفة الإلهيّة تعطي نفس البلاغ السابق أيضاً للعباد وأهل المعرفة والسلوك.

والظريف بالأمر هو أنّ الأديان المذكورة عندما تتحدث عن قاهرية وغلبة الله على جميع الأشياء تختم بالعبارة التالية : (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ).

أجل لأنهم لايعلمون بأنّ زمام عالم الوجود بيد الله تعالى!!

__________________

(١) مقاييس اللغة ؛ ومفردات الراغب ؛ ولسان العرب.

٢٦٨

أجلْ إنَّ أمر الله تعالى نافذ ، فالماء والهواء والتراب كلّها مُسلمة لأوامره تعالى ، ولأنّهم لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة يتيهون في عالم الأسباب فيفرحون إذا ما كانت الأسباب مساعدة ويقنطون بخلافها ، في حين لو كان لهم إيمان بغلبة الباري وقاهريته لما دبَّ اليأس في قلوبهم أبداً ، ولما غرّتهم الإنتصارات أيضاً.

وبالمناسبة ، إنّ الآية المذكورة تحدّثت عن يوسف عليه‌السلام الذي أراد إخوته أن يقتلوه ولكنهم ألقوه في غيابة الجبّ ، آملين أنْ يخلُوَ لهم وجه أبيهم (أي حبّه) ، لكن الله جعل كيدهم سبباً في وصوله إلى السلطة!

أجل ، إنّ من إحدى أشكال قاهرية الله ، هي أن يجعل وسائل غلبة ونجاة الإنسان على يد عدوّه في أكثر الأحيان ، وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أغلب الناس ولا يعلمونها.

* * *

٥٥ ـ السلام ٥٦ ـ المؤمن

إنَّ صفة (السلام) هي اسمٌ آخر من أسماء الله الحسنى التي لها معنيان ، فعلى أساسٍ تعتبر من صفات الذات ، وعلى أساسٍ آخر تُعدُ من صفات الفعل ، فإذا كانت صفة (السلام) بمعنى ـ السلامة من أي لونٍ من العيوب والنقائص والآفات ـ فهي من صفات الذات (الصفات السلبيّة) وهي تناظر صفة (القدّوس) تقريباً ، أمّا لو كانت بمعنى ـ سلامة الناس من ناحيته تعالى ، وتركه لأي لونٍ من ظلم العباد ورعايته للعدل والإنصاف معهم ـ لصارت من صفات الفعل.

أجل ، إنّه سلامٌ لدرجة بحيث لايستوحش أو يهاب سالكو طريق قربه من صدور ظلمٍ أو إجحافٍ من ناحيته سبحانه ، علاوةً على ذلك ، فهو المؤمن الذي يمنح أحبائه السكينة والأمان ، وقد وردت هذه الصفة في موضعٍ واحدٍ فقط من القرآن الكريم وهو قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِى لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤمِنُ). (الحشر / ٢٣)

* * *

٢٦٩

جمع الآيات وتفسيرها

إنْ كلمة (سلام) ذات مفهومٍ مصدري ، وأحياناً يستعمل هذا المصدر كصفة ، فمعناه في الحالة الأولى ـ كما ورد في مقاييس اللغة ـ (الصحّة والعافية) ، وإنّما سمّي (الإسلام) بهذا الاسم لأنّه يمنع الإنسان من معصية الحق ومخالفته ، يُحفِّزه على الإنقياد والطاعة ، وكذلك سمّيت (التحية) سلاماً لأنّها دعاء للسلامة.

وتستعمل كلمة (سلام) بمعنى (الصلح) أيضاً ، لأنّه سلامٌ من الحرب وسفك الدماء ، ويُسمى المبلغ الذي يُدفع كمقدمة لشراء شيء (سَلَم) لعدم امتناع المشتري عن دفع المبلغ المذكور على الرغم من عدم استلامه ذلك الشيء الذي اشتراه ، وسمّي (السُّلَّمُ) بهذا الاسم لكونه الوسيلة التي يصعد وينزل بها الإنسان من المكان المرتفع بسلام.

وعلى أيّة حال ، عندما تُستعمل هذه الكلمة كصفة من صفات الباري تعالى تكون ذات معانٍ مختلفة :

فقد قال البعض : إنّها تعني المنزّه عن كل عيبٍ ونقصٍ وفناءٍ وعدمٍ يصيب المخلوقات (١). وقال البعض الآخر : إنّها تعني الذي يواجهك بسلام دون أن يؤذيك (٢).

وقال آخرون : إنّها تعني الوجود الذي يفيض على الآخرين بالسلامة والسكينة والأمان (٣).

ولكن لايوجد أي دليل على تحديد هذه الصفة وحصرها بأحد المعاني المذكورة ، بل إنّها ذات مفهومٍ أوسع وأشمل بحيث يضم جميع هذه المعاني ، فهو سالمٌ من أي عيبٍ ونقص ، وسالمٌ من الفناء والعدم ، وَسالمٌ من الظلم والجور على عباده ، وهو واهب السلامة.

وبلاغ هذه الصفة هو أنّها تمنح الإنسان المؤمن الشعور بالأمن والإطمئنان من العدل الإلهي ، ويدفع به إلى الاحتراز من الاعمال التي تمسّ سلامة روحه وبدنه ، هذا من جهة ،

__________________

(١) مقاييس اللغة ، مصباح الكفعمي ، لسان العرب ، مجمع البحرين.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٥٦.

(٣) مصباح الكفعمي ، ص ٣١٨ ؛ وفي ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٥٠.

٢٧٠

ومن جهةٍ اخرى فإنَّ التخلق بهذه الصفة الإلهيّة يقول للإنسان : كُن بحيث يسلم من لسانك وبدنك جميع الناس وكن ذا صُلحٍ وصفاءٍ معهم جميعاً.

أمّا كلمة (مؤمن) فهي مأخوذة من مادّة (أمن) ، كما قال صاحب مقاييس اللغة ، وهي ذات مَعْنَيين متقاربَيْن من بعضهما : أحدهما هو الأمانة في مقابل الخيانة التي تبعث على سكون القلب ، والآخر هو التصديق بشيءٍ معين.

ولكن لم يذكر الراغب في مفرداته سوى معنىً واحد وهو سكون النفس وزوال الإضطراب والخوف ، ولكون قبول الأصول العقائدية يمنح الإنسان السكينة والأمان فإنّه سُمّي بمصطلح (الإيمان) ، وقولنا (آمين) بعد الدعاء معناه : «اللهم صدِّق ذلك وحقِّقْه» ، لذا فقد فسّروه بمعنى طلب الاستجابة ، وكذلك يُسمَّى البعير المطمئِنٌ النشِطُ الذي لايَزِلُ (أمون).

وعلى أيّة حال ، عندما تستعمل هذه الكلمة كأسم من أسماء الله وندعوه بـ «المؤمن» فإنّها تعني من يمنح أولياءه وأحباءه الأمان ويترحم عليهم بالإيمان ، وقال البعض : إنّه تعالى يدعى بهذا الاسم لأنّه أوّل من آمن بذاته المقدّسة وصدّقها.

وقد احتمل الفخر الرازي ، في تفسيره ، هذا الإحتمال أيضاً وهو أنّ وصف الباري بصفة المؤمن معناه المصدّق رسُلَهُ بإعطائهم المعاجز (١). وقد قال المرحوم الكفعمي في مصباحه : «يحتمل أن يكون مفهومها من يُصدّق وعوده التي وعد عباده بها ، ويحققها» ، ثم نقل حديثاً عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «سُمّي سُبحانه مؤمناً لأنّه يؤمّنُ عذابَهُ مَنْ أطاعه» ، وقال البعض الآخر من المفسّرين : «المؤمن مَنْ يؤمّنُ ظلمه وجوره عباده» (٢) ، وقد ذُكرَ لها في تفسير «روح البيان» معنىً جامعٌ يضم أغلب المعاني المذكورة أعلاه وهو : المؤمن والذي لا يتحقق أي أمانٍ وسكينة إلّامن عنده.

وقد ذكر المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد ثلاثة معانٍ لها : «من يحقق وعوده ، ومن

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ٢٩٣.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٥٢٥ (ذكر هذا المعنى كأحد الاحتمالات).

٢٧١

يعلم عباده حقيقة الإيمان عن طريق آياته ودلائله ، ومن يؤمّن ظلمه وجوره عباده» (١).

ولكن الحق هو أنّ مفهوم (المؤمن) لايتحدد بأي واحدٍ من هذه المعاني ، بل لها معنىً جامعٌ يشتمل على جميع ما ذكرناه ، واستعمال كلمة (مؤمن) ، كصفة من صفات الله ، في هذا المعنى الشامل لايستوجب استعمال اللفظ في معانٍ مختلفة ، لأنّها شاملة بما فيه الكفاية (علاوةً على عدم وجود مانع من استعمال لفظ مشترك في معانٍ متعددة).

لذلك فهو (المؤمن) ، لأنّه يؤمن عباده المؤمنين من عدّة نواحٍ ، وأيضاً لأنّه يوجِدُ روح الإيمان في قلوب عباده عن طريق إراءتهم آياته في الافاق وفي أنفسهم ، علاوةً على أنّه يصدّق ويؤيّد رُسله عن طريق إظهار المعجزات ، وكذلك لأنّه يفي بما وَعَدَ به عباده من الثواب والعقاب.

أمّا البلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة في طيّاتها فهو أنّها تبيّن عظمة مقام (المؤمن) ، لأنّ هذا الاسم هو أحد أسماء الله ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى إنّ الإنسان المؤمن يحسّ بالأمن والسكينة في ظلّ هذه الصفة لأنّها مصدر جميع أنواع الأمان.

ومن جهة ثالثة أنّ الإنسان المؤمن في حال التخلق بهذه الصفة الإلهيّة ، يسعى لمشاركة الآخرين في هذا الأمان فيأمَنُ الناس من لسانه ويده وفكره أيضاً!.

لذا فقد ورد في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «المؤمن من آمن جارُهُ بوائقه».

وقال أيضاً : «المؤمن الذي يأتمنهُ المسلمون على أموالهم وأنفسهم» (٢).

٥٧ ـ المحيي

تُعد مسألة الحياة من أبرز آيات الله في عالم الوجود ، فالحق أنّ الكائنات الحيّة أعقد وأعجب آثار عظمته (جلّ وعلا) ، لهذا فقد استند إليها القرآن كثيراً في مباحث التوحيد

__________________

(١) توحيد الصدوق ، ص ٢٠٥ (باب أسماء الله تعالى).

(٢) كلا الحديثين عن توحيد الصدوق ، ص ٢٠٥ ، والحديث الأول ورد أيضاً في أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٦٨ (باب حق الجوار ، ح ١٢).

٢٧٢

وذكر اللهَ سبحانه وتعالى باسم (محيي الموتى).

مع أنّ كلمة (محيي) لم ترد في القرآن سوى مرّتيْن : (إِنَّ ذَلِكَ لُمحْىِ المَوتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ). (١) (الروم / ٥٠)

وهي كما تُلاحظون تتحدّث عن إحياء الموتى ، لكن مشتقاتها وردت تكراراً في آيات عديدة من القرآن حول حياة وموت النباتات ، الحيوانات ، البشر ، وتعتبر من أهم صفات الفعل الإلهي.

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

إنَّ كلمة (محيي) مشتقة من مادّة (حياة) التي لها معنيان ـ كما ذُكر ذلك في مقاييس اللغة :

الأوّل : بمعنى الحياة أي ضد الموت ، والثاني : بمعنى الحياء أي ضد الوقاحة والتهور.

ولكن بعض المحققين أرجعوا المعنى الثاني إلى المعنى الأوّل وقالوا : الحياء أو الخجل بمعنى انقباض النفس إزاء الرذائل من آثار الكائن الحي ، أو بتعبيرٍ آخر الحياء هو حفظ النفس من الضعف والنقصان والعيب والسوء.

والجدير بالذكر هو أنّ (حي) أحد أسماء المطر ، لأنّه مادّة حياة الأرض ، ويطلق أيضاً على القبيلة اسم (حي) لأنّها تحتوي على حياة اجتماعية ، ويُطلق على الأفعى الكبيرة (حيّة) أيضاً لأنّها تتمتع بكامل صور الحياة ولها قابليّة كبيرة على الانتقال والتحرّك(٢).

وقد ذكر الراغب في مفرداته ستّة مصاديق للحياة هي :

١ ـ الحياة النباتية ، ٢ ـ الحياة الحيوانية ، ٣ ـ الحياة العقلية للإنسان ، ٤ ـ الحياة العاطفية (زوال الهم وحصول النشاط واللّذة) ، ٥ ـ الحياة الأخرويّة الخالدة ، ٦ ـ الحياة التي هي إحدى صفات الله (وتعتبر أكمل وأتم أنواع الحياة أي كمال العلم والقدرة).

__________________

(١) (الموضع الثاني) سورة فصلت الآية ٣٩ : «إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لَمُحْىِ المَوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ».

(٢) مقاييس اللغة ؛ المفردات ؛ لسان العرب ؛ نهاية ابن الأثير ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٢٧٣

ويمكن تصور أنواع اخرى من الحياة ، ومن جملتها الحياة المعنوية أي الإيمان ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في آياتٍ عديدة.

وعلى أيّة حال فقد تجلّت صفة «المحيي» في الله سبحانه وتعالى من عدّة جهات : في عالم النبات حيث نلاحظ أنّ الكرة الأرضية مغطّاة من أقصاها إلى أقصاها بأنواعٍ مختلفة من الأشجار ، الأزهار ، الأعشاب الصغيرة والكبيرة ، المائية والبرّية ، في الغابات وفي الصحراء ، الطبيّة والغذائية ، بحيث إنّ التدقيق في تنوّعها وعجائبها يهدي الإنسان إلى ذلك المُبدىء العظيم لعالم الوجود.

وأمّا في عالم الحيوان فقد خلق سبحانه أنواع وأقسام الأحياء المائية والبرّية ، الطيور ، الحشرات ، الحيوانات الوحشية والأليفة ، الأحياء المجهرية والعملاقة ، وبالتالي الإنسان الذي يعدّ النموذج الأتم للحياة.

ومن البديهي أنّه كلّما ازدادت الحياة تعقيداً ازدادت أسرارها وصارت أكثر دهشة ، وهذا في الحال الذي لا يزال أصل حقيقة الحياة وكيفية خروج الحي من الميت مجهولة ، ولم تزل مساعي وجهود آلاف العلماء الفطاحل فاشلة في طريق حلّ هذا اللغز.

وعندما نجتاز هذه المرحلة ، تبدأ مرحلة الحياة المعنوية الروحانية التي وضع الله أُسُسَها عن طريق الوحي وانزال الكتب السماوية وإرسال الأنبياء والرسُل ، كما قال سبحانه : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحيَينَاهُ). (الأنعام / ١٢٢)

وقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً). (النحل / ٩٧)

وقد أشارت الآيات القرآنية وأكّدت مراراً على هذا النوع من الإحياء الإلهي.

والأعلى من هذه المرحلة أيضاً ، هو مرحلة الإحياء الأخروية ، حيث يحيي سبحانه العظام وهي رميم ، يُحييها حياةً خالدة لا تعرف بعدها أي لونٍ من الموت.

وعلى هذا الترتيب يكون اتّصاف الباري بصفة الحياة (المحيي) في الدنيا والآخرة مصدراً لأهم وأوسع مظاهر خلقه ، وأمّا بلاغ هذه الصفة الإلهيّة ، فمن جهة الانتباه إلى هذه

٢٧٤

الحقيقة ، وهي كونه سبحانه (منبع) كل ألوان الحياة ، لذا يجب أن نتوجّه إليه سبحانه في حفظ الحياة الظاهرية والحياة الباطنية ، ونطلب منه الحياة ، لأنّهُ مُحيي كلَّ شيء.

ومن جهة اخرى إنّ التخلّق بهذه الصفة يُعَدُّ مصدراً لاعانة الحياة المادية والمعنوية للبشر ، ولتخليص عباد الله من الموت ، ولمحاولة هدايتهم إلى الله وأعمال الخير.

* * *

٥٨ ـ الشهيد

تُعد صفة (شهيد) من الصفات التي لها معانٍ مختلفة ، وهي من صفات الذات طبقاً لبعض هذه المعاني (لأنّ أحد هذه المعاني هو «العلم المصحوب بالحضور والشهود» ، فهي فرعٌ من صفة العلم في هذه الحالة).

وإذا كانت بمعنى الشهادة على أعمال العباد فتُحتَسبْ من صفات الفعل ، وذكرها هنا أيضاً وفق هذا المعنى ، ولنمعن خاشعين في الآيتين التاليتين : ـ

١ ـ (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعمَلُونَ). (آل عمران / ٩٨)

٢ ـ (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَينِى وَبَينَكُم). (الأنعام / ١٩)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

«شهيد» : من مادّة (شهود وشهادة) ، وهي بالأصل ـ كما ورد في مقاييس اللغة ـ تعني «الحضور» و «العلم» و «الإعلام» ، والشهادة تستلزم كلًّا من العلم والحضور والإعلام.

لكن الراغب قال في مفرداته : إنّ هذه الكلمة تعني الحضور المقارن للمشاهدة سواءً بالعين الظاهرة أم بعين القلب.

و (مشاهد الحج) هي الأمكنة المقدّسة التي يحضر فيها المؤمنون والملائكة.

ويُسمّى المقتول في سبيل الله (شهيداً) إمّا لحضور ملائكة الرحمة عنده ، أو لمشاهدته

٢٧٥

النّعم العظيمة التي أُعدّت له ، أو لحضوره بين يديّ الله ، أو لكون جهاده في سبيل الشهادة بالحق ، أو لسقوطه على الأرض ، لأنّ إحدى أسماء الأرض (شاهدة).

ويُسمّى يوم الجمعة أيضاً (شاهداً) لأنّه يشهد اجتماع المسلمين ، ويُسمّى يوم عرفة (مشهوداً) لحضور حجّاج بيت الله الحرام فيه.

وعلى أيّة حال ، إنّ اطلاق هذه الصفة على الذات الإلهيّة المقدّسة إمّا بسبب حضوره في كل مكان ، أو لشهادته على جميع أعمال العباد (١).

والبلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة إلى الجميع هو أنّها تلفتهم إلى حضوره جل وعلا في كُلّ مكان ، واطّلاعه على أعمال العباد ، فليس الملائكة وكتبة الأعمال فقط ، ولا أعضاء بدن الإنسان والزمان والمكان الذي يعيش فيه يشهدون أعماله ، بل الأدهى من ذلك كُلّه هو شهادة الذات الإلهيّة المقدّسة ، ومن المسلَّم به هو أنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها له أثر بليغ في أن يصلحَ الإنسانُ أعماله وحركاته.

أجَلْ ، إنّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى ومعرفة صفاته يُعَدُّ من أهم وسائل تربيتنا.

* * *

٥٩ ـ الهادي

الهداية كُلّها من عند الله ، سواءً كانت من حيث التكوين وقوانين الخَلْق ، أمْ من ناحية التشريع والتعليم والتربية والأحكام الشرعيّة.

فهو الذي يرعى النطفة الحقيرة ويهديها في مراحل تكامل الجنين ويصنع منها إنساناً عظيماً.

وهو الذي يأخذ بأيدي العباد ويخلّصهم من وادي الضلال ويهديهم إلى جادّة الهداية

__________________

(١) يقول ابن منظور في لسان العرب والزبيدي في شرح القاموس : «الشهيد» من بين أسماء الله يعني الأمين في شهادته ، وقال البعض : الشهيد : هو مَنْ لا يخفى عن علمه شيء ، والشهيد معناه الحاضر (طبعاً لا بمعنى الحضور (المكاني) بل بمعنى الإحاطة الوجودية.

٢٧٦

عن طريق إنزال الوحي وبعث الأنبياء والرسُلْ ، لذا ندعوه في كُلّ صلاة ونقول : (إِهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ) ... (سورة الحمد) ، وثبت أقدامنا ، و... لأنّه هو الهادي ، ولنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

وُصِف الله سبحانه بصفة (الهادي) مرتين فقط في القرآن هما :

١ ـ (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً). (الفرقان / ٣١)

٢ ـ (وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ) (١). (الحج / ٥٤)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

إنَّ كلمة (هادي) مشتقة من مادّة (هداية) ، وتأتي بالأصل بمعنى الدلالة والإرشاد المصحوب باللطف ، وسُميّت (الهديّة) بهذا الأسم لهذا السبب أيضاً ، هذا ما ذكره الراغب في مفرداته ، أمّا في «مقاييس اللغة» فقد ذكر لها معنيَيْن هما : الإرشاد ، وإرسال الهديّة ، ولو أنّ الرأي الأول الذي يُرجِع كلا المعنيين إلى أصلٍ واحد أكثر تناسباً من غيره.

ويُطلق في العربية على اليوم (هادي) أيضاً ، لأنّه وسيلة لاهتداء الناس ، ويُطلق على العصا التي يهتدي بها العمي (هادية) ، وتُسمّى الحيوانات التي تسير في مقدّمة القطيع (هوادي) وكذا رقاب الخيول.

ويُطلق على البعير والنياق التي يُؤتى بها إلى بيت الله كقرابين (هَدْي) ـ على وزن سَعْي ـ لأنّها هدايا المؤمنين إلى بيت الله الحرام (٢).

وعلى أيّة حال ، عندما تستعمل هذه الكلمة كصفة من صفات الفعل الإلهي فإنّها تدلّ على مسألة هدايته في جميع شؤون الحياة الماديّة والمعنوية ، الظاهرية والباطنية ، التكوينية والتشريعية.

__________________

(١) وردت كلمة «هادي» ـ وأحياناً بلفظ (هادِ) ـ في عشرة مواضع من القرآن الكريم في اثنتين منها فقط كصفة للباري تعالى.

(٢) كتاب العين ؛ مفردات الراغب ؛ مقاييس اللغة ؛ تاج العروس ؛ لسان العرب ؛ مجمع البحرين مادّه (هدى).

٢٧٧

إنَّ الله الذي غطّت أمواج هدايته جميع مَنْ في الوجود ، لو حُرِمْنا من هدايتِهِ التكوينيّة والتشريعيّة لحظة لضلَلْنا وهلكنا.

وقد ذُكِرَ في المفردات للهداية أربع مراحل (بالاستشهاد بالآيات القرآنية).

١ ـ الهداية العامّة التي تشمل جميع المكلّفين ، وهي نوعٌ من (الهداية التكوينية) والتي تشمل العقل ، والذكاء ، والمعلومات الفطرية والضرورية ، وهي ماوردت في الآية ٥٠ من سورة طه : (رَبُّنَا الَّذِى أَعطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).

٢ ـ الهداية التي تتحقق بواسطة أنبياء الله ورسُله والكتب السماويّة (الهداية التشريعية) ، وقد أشارت إليها الآية ٢٤ من سورة السجدة : (وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمْرِنَا).

٣ ـ الهداية بمعنى (التوفيق) الخاصّ بجماعةٍ من العباد ، وقد أشارت القرآن اى هذا المعنى في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى). (محمد / ١٧)

٤ ـ الهداية الأخروية إلى الجنّة (أي بمعنى الثواب الإلهي) ، كما ورد عن لسان أهل الجنّة : (الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا). (الأعراف / ٤٣)

وهذه المراحل الأربع المتتالية ، فإن لم تحصل الأولى لن تحصل الثانية وإن لم تحصل الثانية ، لن تحصل الثالثة ، وهكذا ....

وأخيراً ، إنّ البلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة في طيّاتها هو إنّها تقول لنا من جهة : أنّ كل ما في الوجود مسخّرٌ بأمر الله لهدايتكم ، وعليكم أنتم أن تستعينوا بهذه السُبُل ، وتلبّوا هذا النداء الإلهي ، وتطووا هذه المرحلة بالطاعة التكوينية والتشريعيّة لتنجوا من الظلمات والضلال.

ومن جهةٍ اخرى : إنّ التخلق بهذه الصفة الإلهيّة يوجب على أي واحدٍ منّا أنْ يسعى لهداية الآخرين ، ويُعين أبناء نوعه ، ويسلك بهم مراحل الكمال المختلفة ليوصلهم إلى الهدف المنشود (بيت القصيد) ، أي معرفة الله وتجلّي أسمائه وصفاته.

* * *

٢٧٨

٦٠ ـ خَيْر

تستعمل كلمة (خير) أحياناً بمعنى (حَسنْ) وفي الكثير من الأحيان بمعنى (أحسن) ، وقد وردت في عشرة مواضع من القرآن الكريم بهذا المعنى الأخير ، مضافةً إلى صفات اخرى ، وسنطالع ذلك في الآيات القادمة.

«الخير» : مساوٍ للوجود ، والوجود مساوٍ للخيْر ، ولكون وجود الله وجوداً مطلقاً لا محدوداً فهو أحسن (خير) الوجود ، أجل هو (خير الحاكمين) وخير الرازقين وخير النّاصرين ....

وجميع هذه الصفات من صفات الفعل الإلهي ، وقد جمعناها هنا في مكانٍ واحد لنختتم بحثنا بخير.

ولنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ). (المؤمنون / ١٠٩)

لأنّ رحمتك العامّة والخاصّة شملت الجميع ، خصوصاً عبادك المؤمنين.

٢ ـ (وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ). (الأعراف / ٨٧)

٣ ـ (وَهُوَ خَيرُ الفَاصِلِينَ). (الأنعام / ٥٧)

٤ ـ (وَأَنتَ خَيرُ الفَاتِحِينَ). (الأعراف / ٨٩)

٥ ـ (وَاللهُ خَيرُ الرَّازِقِينَ). (الجمعة / ١١)

٦ ـ (بَلِ اللهُ مَولَاكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ). (آل عمران / ١٥٠)

٧ ـ (فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيرُ الغَافِرِينَ). (الأعراف / ١٥٥)

٨ ـ (وَقُل رَّبِّ أَنزِلنِى مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيرُ المُنزِلِينَ). (المؤمنون / ٢٩)

٩ ـ (وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ). (الأنفال / ٣٠)

١٠ ـ (رَبِّ لَاتَذَرنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ) (١). (الأنبياء / ٨٩)

* * *

__________________

(١) يُلاحظ في القرآن الكريم وجود بعض التعابير الاخرى الحاوية على كلمة (خير) وكصفة من الصفات الإلهيّة ، مع أنّ المضاف إليه العائد لم يُذكر بصيغة الجمع ، وهو في موردٍ واحد فقط : (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف / ٦٤).

٢٧٩

جمع الآيات وتفسيرها

إنَّ كلمة (خير) وفق المشهور بين أرباب اللغة والنحويين هي من (أفعل التفضيل) ، وقد كانت بالأصل (أَخْيَرْ) ـ على وزن أفضل ـ فحُذفت همزتها وانتقلت الفتحة إلى الخاء فصارت (خَيرْ).

وطبقاً لما قاله الراغب في مفرداته فإنَّ كلمة (خَيرْ) تعني الشيء المفضّل لدى الجميع ، كالعقل ، والعدل ، والفضيلة ، والأشياء المفيدة ، وضدّه (شرّ) ، ثم قسّم (خير) إلى نوعين :

الخير المطلق الذي يميل إليه الجميع ، كالجنّة ، والخير النسبي المفيد بالنسبة لبعض الأفراد كالمال الذي قد يصير منشأً لسعادة البعض ، وتعاسة البعض الآخر!

ولكن ذُكِرَ في مقاييس اللغة بأنّ معناه الأصلي هو : (الرغبة إلى شيء معيّن) ، ثم أُطلق على «الأشياء المحبّبة» ، وفي مقابله (شَر) ، وقد فسّره بعض أرباب اللغة أيضاً بمعنى الكَرَم والإنعام ، في حين اقتنع البعض الآخر بأنّ الخير هو النقطة المقابلة (المعاكسة) للشّر.

وأحياناً استُعمِلَتْ هذه الكلمة بمعنى خاص (مثلاً بمعنى المال ، أو هو نهر في الجنّة ينبع من عين الكوثر ، أو المنازل الخاصّة في الجنّة) ، وكلمة (خَيار) أو (اختيار) المشتقّة من هذه الكلمة تعني انتخاب الشيء الأفضل.

وعندما تُطلق هذه الكلمة على الذات الإلهيّة المقدّسة فَلها حالتان : فأحياناً تكون مطلقة ومجرّدة عن أيّ قيدٍ أو شرطٍ ، مثل قوله تعالى : (وَاللهُ خَيرٌ وَأَبقى). (طه / ٧٣)

هذا ماقاله سَحَرَة فرعون بعد أن آمنوا بموسى عليه‌السلام.

ففي هذه الحالة تعني الأفضليّة من جميع الجهات ، وفي الواقع ، ليس هناك خير مطلق في عالم الوجود سوى الله سبحانه وتعالى ، فهو الأفضل والأحسن والأشرف وجوداً من جميع النواحي ، وأحياناً اخرى تُطلق هذه الكلمة على الذات الإلهيّة المقدّسة بعد أن تُضاف إلى شيء كالأسماء المقدّسة المذكورة في الآيات العشر.

وفي جميع هذه الموارد ذُكِرَ الله في القياس مع الآخرين ، وطبعاً أنّ هذا القياس من قسم من الجهات فقط وإلّا فالذات الإلهيّة المقدّسة لاتُقاس أبداً مع سائر الموجودات.

* * *

٢٨٠