نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

والثاني : بمعنى السباحة والتحرُّك السريع في الماء ، (من مادّة سبح وسباحة).

ولكن يُمكن إرجاع كلا هذين المعنيَين إلى أصل واحدٍ وهو الحركة السريعة ، سواءً في طريق العبادة والتعبُّد ، وتنزيه وتقديس الله تعالى عن كل عيبٍ ونقص ، أو في الحركة السريعة في الماء ، أو الهواء ، أو على الأرض. لأنّ الحركة تقرّب الإنسان من شيء وتُبعّده عن شيءٍ آخر.

ففي الموقع الذي تعني فيه التنزيه عن العيب تأخذ جانب الابتعاد ، وفي الموقع الذي تأتي فيه بمعنى السباحة وشق الماء والهواء تأخذ جانب التحُّرك (١).

جمع الآيات وتفسيرها

كل الخلائق تسج لله :

الآية الأولى من بحثنا واردة في تسبيح عامّة موجودات العالم ، وهذا ما أكدته الكثير من الآيات القرآنية بتعابير مختلفة ، ويُعتبر هذا البحث من البحوث القرآنية الطريفة جدّاً ، قال تعالى : (يُسَبِّحُ للهِ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكْيِمِ).

فَلِسان حال الكون وأسراره المذهلة تحكي عن علم الله تعالى اللامحدود وقدرته اللامتناهية وكماله المطلق ، والجميع يقدسون الله عزوجل وينزّهونه وينفون عن ذاته المقدّسة كُلّ عيبٍ ونقص ، لأنّ كل من ينظر إلى هذه الموجودات بدقّة يقف على عظمة خالقها ومديرها ومدبّرها.

ويعتقد جماعة من المحققين أيضاً أنّ موجودات العالم المختلفة تُسبح الله تعالى حقيقة ، وبلسان القال لا بلسان الحال فقط ، لأنّ لكل نوعٍ منها حصّة من الإدراك والشعور والكيفية الخاصة لتقديس الباري تعالى ، وما المانع في تحقُّق كلا الأمرين (لسان الحال والقال) في بيان هذه الحقيقة؟

لذا فإنّ كلمتي (يُسبّح) و (القدوس) في هذه الآية الشريفة تُعّدان كلاهما إشارة لطيفة

__________________

(١) مقاييس اللغة ؛ مفردات الراغب ؛ مصباح اللغة ؛ لسان العرب ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم مادّة (سبح).

١٦١

إلى جميع صفات الله تعالى السلبيّة ، وهي من الأمور التي يشترك في ذكرها جميع موجودات عالم الوجود.

واستعمال صيغة الفعل المضارع المستمر في فعل (يُسبّح) يدل على استمرار وديموميّة هذا الأمر ، منذ بدء الخلق وسيبقى حتى النهاية ، ويجب أن يكون كذلك ، لأنّ وجود الأفعال يُبيّن دائماً صفات الفاعل.

والطريف أنّ هذه الآية هي الآية الاولى من سورة الجمعة ، وتُعدُّ مقدّمة لبيان فريضة صلاة الجمعة العباديّة السياسيّة. لأنّها تلفت أذهان الناس إلى كون مسألة العبادة والتقديس لله سبحانه برنامجاً عاماً ومستمراً من قبل جميع ذرات الوجود ، وتحثهم على الإنضمام معها في هذا الذّكر ، ومواكبة أمواج الوجود في هذا البرنامج المقدس ، والخضوع لساحة الباري الحاكم القدوس والقادر الحكيم (١).

* * *

وفي الآية الثانية تجلّى هذا الكلام بلباسٍ آخر ، فضمن تأكيدها على توحيد الله تعالى وبيانها لبعض صفاته وأسمائه الحسنى ، وصفته بصفة «القدّوس» المبينّة لجميع الصفات السلبيّة ، قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِى لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ).

وكما أشرنا في شرح مفردات الآيات فإنّ (القدّوس) صيغة مبالغة للقداسة ، وتعني منتهى نزاهة الذات والصفات والأفعال والأحكام الإلهيّة من كلّ عيبٍ ونقص ، وهي تعبير مختصر وغني جامع لجميع الصفات السلبيّة.

فهو ليس منزّه عن وجود نقصٍ في ذاته فحسب ، بل إنّ إيجادَه وخَلقه وتكوينَه وتشريعَهُ منزّهٌ عن أي عيب ونقص أيضاً ، لأنّها جميعاً تنبع من ذلك الكمال المطلق ، ومن فيوضاته وإفاضاته سبحانه ، وجميعها ذات صبغة إلهيّة ، وجميعها كاملة.

* * *

__________________

(١) أوردنا في التفسير الامثل بحوثاً عديدة حول عموم التسبيح لموجودات العالم وبيان كيفية هذه المسألة المهمّة. راجع ذيل الآية ٤٤ من سورة الإسراء ، وذيل الآية ١٤١ من سورة النور.

١٦٢

أمّا الآية الثالثة ، فبعد أن نَفت أيّ ولدٍ وكُفْءٍ عن الذات الإلهيّة المقدّسة قالت : (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ).

وقد وردت هذه الجملة في آيات عديدة من القرآن الكريم ، وجاءت لتنفي أيّ شريكٍ وكفْءٍ أو صاحبةٍ وولدٍ عن الله عزوجل كما كان يعتقد ذوو الأفكار الضيقة ، ولها معنىً واسع يشمل كل وصفٍ لا يليق بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه ، بل يشمل كل وصفنا له أيضاً ، لأننا وجميع المخلوقات الاخرى وبسبب اتصافنا بالنقصان والمحدودية ، عاجزون عن فهم كنه صفاته ، لذا نعجز عن شرحها في الوقت الذي نعرف صفاته المقدّسة بصورة إجماليّة.

وعليه فهو منزّه عن كل وصفنا لهُ ومنزّه عمّا يصف الواصفون : «سُبْحَانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ».

وبذلك نجد في بعض الروايات الواردة عن الإمام الصادق عليه‌السلام وضمن بيانه المذهب الصحيح في التوحيد أنّه عليه‌السلام قال : «تعالى الله عما يصفه الواصفون» (١).

ثم أكّد عليه‌السلام في ذيل نفس هذا الحديث على عدم التجاوز في وصف الباري عن الصفات التي وردت في القرآن الكريم.

* * *

وفي الآية الرابعة والأخيرة من بحثنا قال تعالى ـ وبكلامٍ مطلقٍ ومجرّدٍ عن أيّ قيدٍ وشرط ـ : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العزِّةِ عَمَّا يَصِفُونَ).

وكما قلنا : فإنّ هذا التعبير يُمكن أن يكون إشارة إلى تنزيه الله عزوجل عمّا وصفه به ذوو الأفكار الضيّقة ، فأحياناً يتخذون من المسيح ولداً له ، وأحياناً اخرى يتخذون من الملائكة بناتٍ له! وأحياناً كانوا يعتقدون بوجود صلة قرابة بينه وبين الجن ، وأحياناً كانوا يُعرّفون الأصنام كشركاء وأكفّاء له أو شفعاء عنده ، وأحياناً كانوا يصفونه بأوصاف الأجسام المادّية.

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٠٠ ، باب النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه ، ح ١.

١٦٣

وبعبارة اخرى إنّ هذه الآية الشريفة تنفي عنه جميع هذه الأوهام الخاطئة وتبطلها.

ويمكن أن يكون المقصود هو تنزيهه سبحانه عن كل وصف صادر من أي أحدٍ ، لأنّ البشر لا يقدر على إدراك كُنه صفاته ، كما أنّه عاجز عن إدراك كنه ذاته.

ويتضح من مجموع هذه الآيات أنّ الذات الإلهيّة منزّهة عن أي صفةٍ تحمل أقل درجة من النقصان ، أو أدنى عيب.

ومعرفتنا بالصفات الثبوتية الإلهيّة إنّما هي بقدر طاقاتنا وقدرتنا لا بقدر مايليق بالذات الإلهيّة المقدّسة.

وهذا التنزيه مضافاً إلى شموله لذات الباري وصفاته ، فإنّه يشمل أحكامه وتشريعاته أيضاً ، فكُلُّها منزّهة عن النقصان والعيب ، لأنّها نابعة من ذاتٍ هي عين الكمال والكمال المُطلَق.

* * *

توضيح

«التشبيه» من أعظم الذنوب!

إنّ تنزيه وتقديس الباري تعالى عن صفات المخلوقين المشوبة بالنقائص دائماً ، هو ماأكدّنا عليه كِراراً ، وهو ما حثّتْ عليه الأحاديث الإسلاميّة بصورةٍ مستمرة ، لأنّه لا يُمكن التوصُّل إلى حقيقة معرفة الله تعالى بدونه ، أو بتعبيرٍ آخر سيكون التوحيد مقترناً مع الشرك.

ومن جهةٍ اخرى فإنّ فصل الصفات «الثبوتية» عن «السلبية» يحصل في افق أذهاننا فقط ، وإلّا فالذات الإلهيّة المقدّسة حقيقة واحدة ، فقد ننظر إليها من زاوية الوجود فنرى كماله المطلق ، وعلمه المطلق ، وقدرته المطلقة سبحانه ، وأحياناً من زاوية نزاهتها عن الحاجة والنقص ، فنراها منزّهة عن الجهل والعجز ، وكل ألوان النقصان.

لذا فعدم معرفة الصفات السلبيّة يؤدّي إلى عدم معرفة الصفات الثبوتيّة ، ونقصان المعرفة في مرحلة يؤدّي إلى نقصانها في مرحلةٍ اخرى.

وفي هذا المجال لابدّ لنا من التوجه إلى بعض الإشارات الواردة في الأحاديث الإسلامية التالية :

١٦٤

١ ـ قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في بداية خُطبةٍ له : «لايَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَلا يُغَيّرُهُ زَمانٌ وَلا يَحْويهِ مَكانٌ وَلا يَصِفهُ لِسانٌ» (١).

٢ ـ وقال عليه‌السلام في خطبةٍ اخرى ضمن إشارته إلى عجز الإنسان عن فهم المسائل المرتبطة بالحياة والموت : «كَيْفَ يَصِفُ إلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثلِهِ؟» (٢).

٣ ـ وورد في حديثٍ أنّ رجُلاً من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام سأل الإمامَ عليه‌السلام : أخبرني أي الأعمال أفضل؟ فأجابه عليه‌السلام : «تَوْحِيدُكَ لِربّكَ» فسأل الرجل : «فما أعظم الذنوب»؟ فقال عليه‌السلام : «تشبيهك لخالقك!» (٣).

٤ ـ وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمانٍ ولا مكانٍ ولا حركةٍ ولا انتقال ولا سكون بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والإنتقال ، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّاً كبيراً» (٤).

٥ ـ وورد أيضاً في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير صفة (الصمد) أنّه قال :«تأويل الصَّمدِ لا إسم ولا جسم ولا مثلَ ولا شبه ولا صورة ولا تمثالَ ولا حدَّ ولا حدود ولا موضعَ ولا مكان ولا كيف ولا أينَ ولا هنا ولا ثمةَ ولا ملأ ولا خلأ ، ولا قيام ولا قُعود ، ولاسكون ولا حركة ، ولا ظلماني ولا نوراني ، ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا يسعهُ موضعٌ ولا على لون ، ولا على خطرِ قلْبٍ ، ولا على شمِّ رائحة ، منفيٌ عنه هذه الأشياء» (٥).

ولا يخفى ، أنّ المقصود من نفي الاسم عن الله سبحانه هو نفي أسماء المخلوقات.

وبهذه المعرفة الإجمالية التي حصلنا عليها عن الصفات السلبيّة ننطلق إلى معرفتها بالتفصيل.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٨.

(٢) المصدر السابق ، الخطبة ١١٢.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٣ ص ٢٨٧.

(٤) المصدر السابق ، ص ٣٠٩ ، ح ١.

(٥) المصدر السابق ، ص ٢٣٠ ، ح ٢١.

١٦٥
١٦٦

١ و ٢ ـ نفي الرؤية والجسميّة

تمهيد :

مر علينا قسم من الصفات السلبية في مباحث التوحيد ضمن بيان وحدانية الذات الإلهيّة وبساطة وجوده تعالى ، ونفي الجزئية والتشبيه عنه.

إنّ الموضوع الأكثر أهميّة في هذا البحث والذي صار معرضاً للنقاش والجدل على مرِّ تاريخ علم الكلام ، هو المسائل التي سنطرحها في هذا الفصل.

ومنها : إنّ الله عزوجل ليس له جسم ولا يمكن رؤيته ، ولا يسعه محل ومكان ، وهذه الصفات السلبيّة الثلاثة متلازمة ، أي لو كان مرئياً لاستلزم أن يكون له جسمٌ ومكانٌ ، وإن لم يكن له مكان لم يكن جسماً حتماً ، ولم يكن مرئياً بطريق أولى.

وإدراك هذاالمفهوم وهو أن الله تعالى لا يُمكن أن يكون من سنخ الأجسام ـ بإلالتفات إلى دلائل معرفة الله تعالى لا يُعدُّ مسألةً معقّدة ، ولكن ، وبسبب بحث ذوي الأفكار الضيقة ، واولئك الذين لم تخرج عقولهم عن إطار الحس فيبحثون غالباً عن إله جسمانيّ ، كان لعقيدة جسمانية الله مؤيدون في الأقوام الماضية ، وحتى من قبل جماعة من المسلمين «القشريين المتحجرّين».

لذا فقد أكّد القرآن الكريم على مسألة نفي الجسميّة والمكان والجهة عن الله سبحانه وتعالى.

بهذا التمهيد. ننطلق إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية :

١ ـ (لَّاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) (الأنعام / ١٠٣)

٢ ـ (وَلَمَّا جَآءَ مُوْسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ الَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى وَلَكِنِ

١٦٧

انْظُرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ). (الأعراف / ١٤٣)

٣ ـ (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَاً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوْسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنَ بَعْدِ مَاجَاءَتْهُمُ البَيِّناتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً). (النساء / ١٥٣)

٤ ـ (وَقَالَ الَّذيِنَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسَتْكبَرُوا فِى أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً). (الفرقان / ٢١)

جمع الآيات وتفسيرها

العين لا تُطيق مشاهدة جماله :

ورد في الآية الأولى من البحث بصراحة : (لَاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) ، ثم تضيف : (وَهُوَ الْلَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

وعليه فإنّ هذه الآية تنفي كل إمكانيةٍ لرؤيته تعالى سواء في هذا العالَم أَم في العالَم الآخر.

وبديهي أنّ المقصود من معنى (لا تدركه الأبصار) هو عدم قدرة البشر على رؤيته بواسطة العين ، وجَلّيٌ أيضاً أنّ كلمة (الأبصار) وردت بصيغة الجمع هنا من أجل التعميم والشمول لتشمل أي عينٍ مهما كانت قدرتها البصريّة شديدة.

وبالرغم من الصراحة التامة الموجودة في تعبير هذه الآية في بيان المقصود ، نُلاحظ أنّ «الفخر الرازي» ومؤيديه استدلّوا بهذه الآية على إمكانية رؤية الله ، وتشبثوا لإثبات هذا المدّعى بتعابير واهية ومضحكة.

فقد قال الفخر الرازي في بعض كلامه في ذيل الآية أعلاه : «استدل أصحابنا بهذه الآية لإثبات إمكانية رؤية الله يوم القيامة بطرق متعددة منها!!

١٦٨

١ ـ إنّ قول القرآن الكريم (لا تدركهُ الابصار) يفيد المدح وثبت أنّ ذلك إنّما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية ، وهذا يدل على أنّ قوله تعالى : (ولا تدركهُ الابصار) يفيد كونه تعالى جائز الرؤية ، وتمام التحقيق فيه أنّ الشي إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته ، فحينئذٍ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشي.

وبعدما ثبتت إمكانية رؤية الله يجب التسليم بأنّ هذه المسألة تحدث في يوم القيامة! لأنّه ليس لدينا سوى رأيين حول هذه المسألة :

الأول : جواز الرؤية مع أنّ المؤمنين لا يرونه ولا تجوز رؤيته مطلقا فأمّا القول بأنّه تعالى تجوز رؤيته مع أنّه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الامة فكان باطلاً. فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنّه تعالى جائز الرؤية في ذاته.

الثاني : لا يرى بالعين وإنّما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة.

الثالث : قوله : (لا تُدركه الأبصار) يفيد أنّه لا يراه جميع الأبصار فهذا بعينه سلب العموم ولا يفيد عموم السلب» (١).

كان ذلك قسماً من استدلالاته بصورة ملخصة وموجزة ، والحق أنّه يَبعث على الأسف في أن يحوك مفسّر مثلهُ ويخلط المسائل مع بعضها بصورة محيّرة ، على الرغم من قدرته الفكريّة ، عندما يتورط في أسر التعصُّبات الطائفيّة ويستدلُّ من دليلٍ واضحٍ على ضدّه!

ونحن لا نرغب أبداً في ذكر مثل هذه التعابير بشأن أي أحدٍ ، ولكن لو شاع هذا الاسلوب ، أي أن يتشبث الإنسان لإثبات مطلبٍ معين بأمورٍ تدل بالضبط على عكس ذلك المطلب ، ويستدل بكل شيء لإثبات كل شيء لتعرضت الحقائق للاندثار والضياع ، ولأمكن إيجاد استدلالٍ قرآنيٍّ لأي موضوع ، ولذا كان لابدّ لنّا من الحديث بهذه الطريقة ، ولزيادة توضيح هذا البحث نتطرق إلى رد تلك الاستدلالات الثلاثة المذكورة أعلاه.

أولاً : إننا نمدح الله تعالى بصفات سلبية كثيرةٍ وجميعها محال بشأنه ، كقولنا بأنّ الله لايفنى ولا يهلك أبداً (كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، ومن المُسَلَّم به أنّ هلاك واجب الوجود

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ١٢٥ و ١٢٦.

١٦٩

محال ، فهل يُمكن أن يستدل أحد بها على إمكانية هلاك وفناء الله تعالى؟ بحجة أنّه لو كان محالاً لما صحّ مدحه بعدم الهلاك كما يدّعي : فهل يتفوّه عاقل بمثل هذا!؟

وكذلك مدح القرآن لله تعالى بتنزيهه عن الأب والصاحبة والولد والشريك : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ). (الأنعام / ١٠١)

وقال سبحانه : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). (التوحيد / ٣)

وعلى هذا الأساس فإنّ جميع الصفات السلبية أمور محالة بشأن الله تعالى ، لأنّها من صفات الممكنات ، والله واجب الوجود.

ثانياً : لايوجد في الآية المذكورة أي إشارة إلى الحاسة السادسة وما شاكلها ، ولا تدخل في إطار أيٍّ من المفاهيم المعروفة الموجودة في كتب الأصول ، إذن فليس اثبات الشي بمعنى نفي غيره ، ولا نفي الشيء يثبت شيئاً آخر ، وعليه فإذا قالت الآية : (لا تدركه الأبصار) فليس مفهومها : إمكانية رؤية الله بواسطةٍ اخرى!

علاوةً على ذلك فما هو المقصود من الحاسة السادسة؟

فإن كان المقصود منها المشاهدة القلبيّة والرؤية بعين العقل فلا أحد يُنكرها ، ولا علاقة لها بالرؤية البصريّة ، وإن كان المقصود شيئاً آخر فينبغي توضيحه وتشخيصه ليُمكن بحثه ، لأنّ التكلّم في موضوعٍ مبهمٍ وغير مفهومٍ يعتبر لغواً.

ثالثاً : إنّ قول الآية : (لا تدركه الأبصار) معناه عدم قدرة أي بصرٍ على رؤيته ، وهو من قبيل (العموم الإفرادي) ، ويمر علينا مثل هذا التعبير في كلامنا اليومي بكثرة ، كقولنا لا تطوله الأيدي ، أو : لا يعرف الناس قَدرَهُ ، أي ، أيّ يدٍ وأيّ إنسان.

كما ورد في بعض الأدعية : «كلّت الألسُنُ عن غاية صفته ، والعقول عن كُنه معرفته» (١). وكذلك نقرأ في نهج البلاغة : «وأعجز الألسُنَ عن تلخيص صفته» (٢).

والحاصل أنّ دلالة الآية على عدم امكان الرؤية واضح جدّاً ولا يمكن باي سفسطة اتخاذها دليلاً على إمكان الرؤية.

__________________

(١) دعاء يوم الأثنين للإمام السجاد عليه‌السلام.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦٥.

١٧٠

ياموسى ارنا الله جهرة!

تحدثت الآية الثانية عن القصة المعروفة لبني إسرائيل الذين ألحّوا على موسى عليه‌السلام ليريهم الله تعالى ، فأخذهم موسى بأمرٍ من الباري عزوجل إلى جبل (طور) ليحصلوا على جواب ماسألوا ، فحدثت هناك حادثة عجيبة انكشفت فيها جميع الحقائق المرتبطة بهذا الموضوع.

قال تعالى : (وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). فسمع موسى عليه‌السلام هذا الجواب الجلي الواضح من ربّه : (قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).

فنظر موسى عليه‌السلام وسبعون رجُلا" من بني اسرائيل ، الذين كانوا معه إلى الجبل فتجلّى الله للجبل : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً).

وكذلك الحال بالنسبة لمن معه من بني اسرائيل : (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ).

ولتكملة تفسير هذه الآية ينبغي الإجابة هنا عن عدّة أسئلة :

الأول : إذا كانت مشاهدة جمال الله مُحالةً (كما يُستنتج من عبارة (لَنْ تَرَانِي) فَلِمَ سأل موسى ربّه الرؤية مع أنّه كان رسولا"؟

يُمكن الإجابة عن هذا السؤال بسهولة وذلك بالإستعانة بآياتٍ قرآنيةٍ اخرى ، وهو : إنّ هذا السؤال صدر من جُهلاء بني إسرائيل الذين كانوا يُشكلون الأغلبية ، كما نجد في القرآن الكريم أنّ موسى عليه‌السلام قال بعد هذه الحادثة مخاطباً ربّه : (أَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)؟ (الأعراف / ١٥٥)

فيُستنتج من هذا التعبير أنّ هذا السؤال لم يصدر من موسى عليه‌السلام ، بل قد تعرض لضغوط أجبرته على طرح سؤال أولئك الجهلاء ليحصل لهم على جواب من ربّه وكذلك لألقاء الحجة عليهم.

ويستفاد بوضوح من قوله تعالى : (يَسْأَلُك أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كِتَابَاً مِّن السَّمَاءِ

١٧١

فَقَد سَأَلُوا مُوسَى أَكبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهرَةً فَأَخَذَتهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلمِهِم). (النساء / ١٥٣)

وقال أيضاً : (وَإِذْ قُلتُم يَا مُوسَى لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللهَ جَهرَةً فَأَخَذَتكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُم تَنْظُرُونَ). (البقرة / ٥٥)

إنّ تعنت سفهاء بني اسرائيل هو الذي دفعهم لتوجيه مثل هذا السؤال إلى موسى عليه‌السلام وكان عليه‌السلام قام بنقل سؤالهم فقط ، ليسمعوا الجواب الإلهي الرادع.

وإن أصّر أمثال الفخر الرازي على كون هذا السؤال قد صدر من موسى عليه‌السلام فاستفاد منه الفخر الرازي إمكانية رؤية الله تعالى البصريّة ، حيث يقول : «وإلّا لما سأل رسول عظيم كموسى عليه‌السلام مثل هذا السؤال» ، فهو إصرار في غير محلّه ، وقد أبطلته الآيات أعلاه بوضوح.

عجيب حقّاً ، فبالرغم من أن الآية الشريفة تصرح : (لن تراني) وكون (لن) أداة للنفي الأبدي ، أي إنّك لن تراني أبداً ، وعدّت الآية هذا السؤال من قبل بني إسرائيل تعدّياً ووقاحةً ، وأنذرت بالصاعقة عقاباً عليه ، مع كلّ ذلك نجد أنّ جماعة من المتعصبين يُصرون على عدم دلالة الآية بأي شكلٍ على نفي رؤية الله ، بل بالعكس!

ويجب الإعتراف أنّ آفة التعصُّب آفة عجيبة بامكانها أن تحط حتى من مستوى عالمٍ كبير إذا أُصيب بها وتجعله يتوسل بأدلة غير منطقية وبعيدة عن العقل والصواب.

والنقطة الاخرى : هي أنّ المقصود من التجلي الإلهي في هذه الآية هي (الصاعقة) بذاتها ، والتي تُعد مخلوقاً من المخلوقات ، وشُعاعاً من الأفعال الإلهيّة ، وهي كناية عن أنّكم إذا لم تقدروا على رؤية الصاعقة التي تُعد شرارة صغيرة في هذا الوجود العظيم وما لها من تأثير عليكم ، حيث تكون مصحوبة بالهول والرعب ، فهي قادرة على أن تصرعكم جميعاً ، وتدكّ الجبل ، وتزلزل الأرض. فكيف تُريدون رؤية الذات الإلهيّة المنقطعة النظير؟!

والحقيقة إنّ التجلي الإلهي كان إجابةً وعقوبةً لهم في نفس الوقت!

وآخر الكلام هو : لماذا طلب موسى عليه‌السلام التوبة من الباري بعد أن أفاق؟

إنّ هذا الطلب يُمكن أن يحملَ على احتمالين :

الأول : كما أنّ طلب موسى عليه‌السلام الرؤية كان نيابةً عن بني اسرائيل فإنّ طلبه التوبة من

١٧٢

الباري كان نيابةً عن قومه أيضاً.

الثاني : أنّ موسى عليه‌السلام كان يخشى من أنّ هذا المقدار من (النيابة عن بني اسرائيل) يُمكن أن يؤثر سلبياً على إيمانه وقدسية اعتقاده ، لذا فانّه أعلن توبته وإيمانه لتسمو قداسته قدر الإمكان.

وكذلك نجد أنّ الفخر الرازي غرق في دوّامة تعصُّبه أيضاً ، ولم ينكر دلالة الآية على استحالة رؤية الله تعالى فحسب ، بل أصّر في قوله على أنّ جوانب عديدة من الآية تدل على إمكانية الرؤية! ثمّ أدرج أموراً لا تستحق صرف الوقت لعرضها من جهة ، ولا هي أهلاً للإجابة عليها من جهةٍ أُخرى؟ وقد لاحظتم نماذج منها في تفسيره للآية الماضية.

* * *

ويتضح تفسير الآية الثالثة من خلال تفسير الآية الثانية ، ولزيادة التوضيح نضيف : إنّ الله سبحانه وتعالى عَّد طلب بني اسرائيل الذين قالوا لموسى عليه‌السلام : (أَرِنَا اللهُ جَهْرَةً) ذنباً عظيماً وظلماً فاحشاً؟ وإنّه الذنب الذي أعقبه نزول العذاب الإلهي ، لذا قال الله تعالى : (يَسأَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيهِم كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَد سَأَلُوا مُوسَى أَكبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ).

ماذا ارتكب اليهود من ظلم في هذا المجال؟ إنّهم اعتبروا ربّهم العظيم بمستوى موجودٍ جسماني مادّي ، وطلبوا مشاهدته.

وبسبب اساءتهم الأدب في اعتبارهم هذا أخذتهم الصاعقة لتكون عقوبةً وعبرةً لهم في نفس الوقت ، وليعلموا أنّهم عندما لا يقدرون على مشاهدة هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي لا يساوي أكثر من شرارةٍ في عالم الوجود العظيم ، فكيف يُريدون مشاهدة خالق الشمس والقمر والنجوم وعالم الوجود!؟

إنّ هذه المسألة يستطيع كل واحدٍ أن يتوصل إليها بدون أن يطالع ويُحقق في قرائن الآية.

١٧٣

وما ورد في بعض كلام (الأشاعرة) أنّ هذا التوبيخ والعقاب الذي نزل بهم كان بسبب طلبهم هذا الشي من الله تعالى في الدنيا ، مع كون الآخرة هي محل المشاهدة! (١) يُعدُّ كلاماً ضعيفاً جدّاً.

لأنّ التفاوت الموجود بين الدنيا والآخرة في مثل هذه الموارد موضوع لا يستحق التوبيخ والعقاب ، ولحن الآية يدل على أنّهم قد ارتكبوا إساءة فظيعة تجاه ساحة القدس الإلهيّة ، وهي وصفهم الذات الإلهيّة بصفة لا تليق به سبحانه ، بل هي خاصّة بالممكنات ، وإنّهم سلكوا طريق الشرك.

وأمّا ماهو مقصود أهل الكتاب بطلبهم إنزال كتاب من السماء عليهم؟ فهناك تفاسير متعددة :

قيل : إنّ مقصودهم هو الإستهانة بالقرآن ، وسألوا الرسول أن يُنّزل عليهم ألواحاً كالألواح التي نزلت على موسى عليه‌السلام.

وقيل : إنّهم كانوا يريدون كتاباً خاصّاً بهم أو برؤسائهم وكبرائهم!

وقيل أيضاً : إنّهم كانوا يريدون كتاباً خاصّاً من الله تعالى يدعوهم إلى الإيمان بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأيّا كان من هذه المعاني فإنّه يدل على عنادهم والحاحهم وعدم تسليمهم للحق ، وبديهي أنّ مثل هذا الطلب يستحق التوبيخ والعقوبة.

* * *

عدم امكانية رؤية الله!

وأمّا الآية الرابعة والأخيرة فقد وبّخت وبشدة اولئك الذين سألوا الرؤية.

قال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا). إنّ استكبارهم وعدم إيمانهم بالمعاد كان وراء طلبهم هذين الأمرين ، ثم يضيف تعالى : (لَقَدِ

__________________

(١) تفسير الكبير ، ذيل الآية ٥٥ من سورة البقرة.

١٧٤

استَكبَرُوا فِى أَنفُسِهمِ وَعَتَو عُتوّاً كَبِيراً).

فهم قد سألوا أحد أمرين : إمّا نزول الملائكة عليهم أو رؤية الله عزوجل ، والمقصود من الملائكة هو ملك الوحي جبرائيل ، أي أن ينزل عليهم بصورة مباشرة بدلا" من رسول الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أن ينزل عليهم ليشهد على صدق الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله!

وقد نزل الجواب القرآني على شطرين أيضاً ، والذي يُعتقد بأنّ الأول يخص سؤال نزول الملائكة فيقول : (لَقَدِ استكبَرُوا فِى أَنفُسِهِم) بسؤالهم هذا.

والشطر الثاني يخص سؤال رؤية الله حيث قال : (وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً).

وأيُّ عتّوٍ أكبر من مقارنة الذات الإلهيّة الفريدة بالأجسام الماديّة والموجودات الممكنة الوجود ، وجعلها عُرضةً للزمان والمكان والعوارض الجسمانيّة؟

ويشير لحن الآية بوضوح إلى عدم إمكانية رؤية الله عزوجل ، لأنّه لو كان ممكناً لما كان هنالك خلل وإشكال في سؤالهم ذاك.

النتيجة :

يُستفاد من مجموع الآيات المذكورة عدم إمكانية رؤية الله عزوجل بأي شكل ، على خلاف عقيدة البعض الذين يقولون : إنّ مراد هذه الآيات هو الحياة الدنيا ولا يشمل الآخرة).

فالآيات التي ذُكرت ذات مفهومٍ واسع وعميق يشمل كلا الحياتَين ، ولحنها يدل على استحالة تحقق هذا الأمر ، والمحال محال في كليهما. (فتأمل جيداً).

* * *

توضيحات

١ ـ لماذا تستحيل رؤية الله تعالى؟

إنّ الدلائل العقليّة الواردة في الآيات الآنفة الذكر أثبتت بأنّ المرئيّ أو المُشاهَدَ لابدّ انْ يحدد بمكان وزمان وجهة ، وهذه الامور غير ممكنة بشأن الباري سبحانه. لأننا نعلم بأنّ

١٧٥

لكل جسمٍ أجزاء ، علاوةً على خضوع جميع الأجسام للتغيُّر والتحوُّل ، وكونها ذات عوارض كاللون والحجم والأبعاد.

في حين أنّ واجب الوجود ليس لَهُ جزء ، وغير خاضع للتغيُّر والتحول؟ ولا يقع محلاً للحوادث ، ولا يعترضُه شيء ، فجميعها من صفات الممكنات.

قال بعض مؤيدي عقيدة إمكانية الرؤية في مقابل هذا الاستدلال : (ليس لدينا أي دليلٍ على كون الرؤية البصرية مخصوصة بالأجسام؟ فما المانع في أن تُرى الأمور غير الماديّة بالعين؟ وخاصةً إذا ما تغيرت القدرة البصريّة وصارت بمستوى أقوى ممّا هي عليه الآن؟

إنّ بُطلان هذا الكلام بيّن ، لأنّ الرؤية البصريّة ذات حالة ماديّة ، وهذا الأمر المادي يتعلق بالأمور الماديّة حتماً ، وليس من المعقول أن يرى الإنسان ما وراء المادّة بالوسائل الماديّة.

يقول العلامة الطباطبائي رحمه‌الله حول هذه المسألة في تفسير الميزان : «الرؤية البصرية سواءً كانت على هذه الصفة التي هي عليها اليوم أو تحولت إلى أيّ صفة اخرى ، هي معها مادية طبيعية متعلقة بقدر وشكل ولون وضوء تعملها أداة مادية طبيعية فانّها مستحيلة التعلق بالله سبحانه في الدنيا والآخرة» (١).

علاوةً على هذا فالآيات القرآنية صرحت : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ). (الشورى / الآية ١١) لذا فهو ليس له شبهٌ بالأجسام الماديّة؟ وليس شيئاً مادياً يمكن مشاهدته ، فلا يحدّه مكان ولا زمان ، ولا يمكن الإشارة إليه بشكل محسوس.

* * *

٢ ـ منطق القائلين بامكانية الرؤية

انقسم المسلمون في مسألة رؤية الله إلى ثلاث طوائف :

الطائفة الأولى : التي انضمّ إليها الفلاسفة والمحققون العظام ، حيث تعتقد بأنّ رؤية الله أمر محال مطلقاً.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٨ ، ص ٢٦٩.

١٧٦

الطائفة الثانية : وهم المجسّمون الذين يعتقدون بأنّ لله جسماً ، وعليه يُمكن رؤيته.

الطائفة الثالثة : وهم جماعة (أبو الحسن الأشعري) (١) : أحد متكلمي القرن الثالث ، ولهم كلام عجيب حول هذه المسألة ، فهم يقولون : «بالرغم من أنّ الله عزوجل مجرّد عن الجسميّة والمادّة ولكن يُمكن رؤيته ، وهذه الرؤية تتحقق في الآخرة فقط ، لا في الدنيا ، فهنالك يرى المؤمنون الله تعالى بالعين المجردة!».

يقول (فاضل القوشچي) في (شرح تجريد العقائد للشيخ الطوسي) : «اعتقد الأشاعرة بإمكانية رؤية الله ، فالمؤمنون يرونه في الجنّة؟ لكنها رؤية منزهة عن المقابلة وخالية من الجهة والمكان.

ثم أضاف : اتفق جميع القائلين باستحالة الرؤية البصريّة على أنّ الانكشاف العلمي التام ممكن (إمكانية رؤيته تعالى بعين العقل والقلب) ، هذا من جهة ، ومن جهةٍ اخرى اتفق القائلون بامكانية الرؤية البصرية أيضاً على استحالة تشكُّل صورة الباري تعالى في عين الإنسان ، أو رؤيته بواسطة الاشعة الخارجة من العين» (٢).

ويجدر الأنتباه إلى وجود رأيين بين الفلاسفة الماضين حول حقيقة الرؤية ، فجماعة كانوا يؤيدّون خروج الشعاع ويقولون : الرؤية هي خروج شعاعٍ من عين الإنسان ووصوله إلى الشيء المرئي فيراه الإنسان).

وجماعة آخرون اعتقدوا بأنّ حقيقة الرؤية هي تشكل صورة المرئي في العين ، ونحن نعلم أنّ علماء العلوم الطبيعيّة اليوم يؤيدون النظريّة الثانية ، وأثبتوها بأدلّةٍ حسيّة وقالوا : (إنّ تركيب العين من هذه الناحية يشبه بالضبط آلة التصوير ، فلابدّ أن ينعكس النور

__________________

(١) كان اسمه على بن اسماعيل ، ويرجع نسبه إلى أبي موسى الأشعري ، ولدَ في البصرة عام ٢٦٠ أو ٢٧٠ ، وفي البداية كان يميل إلى مباني مذهب المعتزلة ، ثم عدل إلى مذهب الله ومخلوقية القرآن ، وابتدع مذهباً جديداً في أصول الدين كان أقرب إلى ذهن العامة وأكثر استحساناً من قبل المتعصبين ، لذا فقد اعتنق الكثير مذهبه ، وسلك طريقه جمع من العلماء كالغزالي وأبي بكر الباقلاني والفخر الرازي والشهرستاني وأبي اسحاق الشيرازي وقام بترويج عقائده بعض أرباب السلطة الذين اتخذوا من الدين وسيلةً لنيل مآربهم السياسيّة أمثال الأيوبيين في مصر والشام والموحدين في المغرب. (دائرة المعارف ، أبو الحسن الأشعري ـ بتلخيص بسيط).

(٢) شرح القوشچي ، ص ٤٣٥ و ٤٣٦.

١٧٧

الخارجي عن الجسم المرئي ليدخل العين أو آلة التصوير فتطبع صورتهُ على شبكيّة العين أو فلم التصوير).

والعجيب أنّ الأشاعرة في مقابل هذا الكلام ـ وهو عدم إمكانية أي واحدٍ من المعنيَين المذكورين للرؤية بالنسبة إلى الله عزوجل المجرّد عن المادة ـ يقولون : لا تنحصر الرؤية بهذه الأمور ، خصوصاً عندما يدور الكلام حول رؤية الأمور الغيبيّة أو الغائبة!

فيمكن أن يرى الأعمى الأشياء التي تبعد عنه بفاصلة مكانية كبيرة ، فمثلا" يُمكن أن يرى عمارات الأندلس من هذه النقطة من العالَم!!

تدل هذه التعابير بوضوح على المغالطة اللفظية التي يستعملها هؤلاء ، واعتبارهم للرؤية مفهوماً مغايراً لما هو موجود في العرف واللغة.

فانْ كان مقصودهم من الرؤية ، الرؤية بعين القلب (البصيرة) والإدراك العقلي ، فهذا مااتفق عليه جميع العلماء ولا حاجة للجدال والمناقشة فيه.

وإن كان مقصودهم هو الرؤية بالعين الظاهريّة ، فهو لا يتحقق سوى بانعكاس نور الأجسام على شبكية العين.

وإن كان هناك نوع ثالث من الرؤية ، فهو ادّعاءٌ مبهم ، وغير معقول ، وغير قابل للتصوّر ، نعلم أنّ التصديق بلا تصوُّ ر أمر محال.

ويظهر أن الأشاعرة تخلّوا عن ادّعائهم تدريجياً عندما عجزوا عن الإتيان بدليلٍ واقعي ، واقتصروا على استعمال لفظ الرؤية فقط من دون أن يكون لها مفهومٌ غير المشاهدة بعين العقل ، لأننا عندما نقول : إنّ رؤية الله مجرّدة عن المكان والجهة وانعكاس صورة المرئي في العين ، وأنّ مثل هذه الرؤية قد تتحقق حتى عند الأعمى أيضاً ، فإنّها لا تعني سوى الرؤية الباطنية والقلبية.

والاغرب من ذلك هو أنّ البعض منهم قد جعلوا المسألة أكثر غموضاً فقالوا : إنّ الله يهب للمؤمنين حاسة سادسةً يوم القيامة ليتمكّنوا من رؤيته بها!

وبغض النظر عن كون التعبير بالحاسة السادسة تعبيراً مبهماً وغامضاً ، فإنّه لا يحل

١٧٨

مشكلة المشاهدة والرؤية ، ولا يصحُّ استعمال لفظ الرؤية هنا سوى بالمعنى المجازي.

والسبب الذي أدى بالأشاعرة وأمثالهم إلى الاعتقاد بمسألة رؤية الله يوم القيامة هو التقيُّد ببعض الروايات التي يوهم ظاهِرُها بشيءٍ من هذا القبيل ، وسنتعرض لها في البحث الذي يلي هذا البحث إن شاء الله.

* * *

٣ ـ الروايات الدالّة على انتفاء رؤية الله

هنالك روايات وردت في نهج البلاغة ، وكذلك سائر مصادر علوم أهل البيت عليهم‌السلام تُصرّح بانتفاء رؤية الله تعالى بالعين الظاهريّة ، وتتخذ من الرؤية بعين البصيرة بديلاً لها ، نذكر قسماً منها كنموذج :

١ ـ نقرأ في الرواية المعروفة الواردة في نهج البلاغة؟

وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربك ياأمير المؤمنين؟ فقال عليه‌السلام : «أفأعبد مالا أرى؟» فقال : وكيف تراه؟ فقال عليه‌السلام : «لا تدركه (تراه) العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» (١).

٢ ـ ورد في رواية : إنّ أبا هاشم الجعفري سأل الإمام الباقر عليه‌السلام ، وكان من أصحابه عليه‌السلام عن تفسير قوله تعالى : «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الابصار»؟ فقال : «يا أبا هاشم أوهام القلوب أدقُّ من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ، ولا تدركها ببصرك ، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون؟!» (٢).

٣ ـ ونقرأ في حديث آخر أن أحد الخوارج سأل الإمام الباقر عليه‌السلام : أيّ شيءٍ تعبدُ؟ قال : «الله تعالى» ، قال : رأيته؟ قال : «بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس ولا يُشبَّه بالناس ؛ موصوف بالآيات ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٩.

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٩٩ ، (باب في ابطال الرؤية) ح ١١.

١٧٩

معروف بالعلامات لا يجوز في حكمه ؛ ذلك الله ، لا إله إلّاهو» ؛ قال : فخرج الرجل وهو يقول : «الله أعلم حيث يجعل رسالته» (١).

٤ ـ في حديث آخر نقل جواب الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام عن سؤال : كيف يعبد العبدُ ربّهُ وهو لا يراه؟ فوقَّع (٢) عليه‌السلام : «يا أبا يوسف جَلَّ سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى». قال (الراوي) : وسألته هل رأى رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه؟ فوقَّع عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ماأحبّ» (٣).

٥ ـ في حديث آخر عن عاصم بن حميد ، قال : ذاكرت أبا عبد الله عليه‌السلام فيما يروون من الرؤية (أهل السنة) ، فقال : «الشمسُ جزءٌ من سبعين جزءاً من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملأوا أعينهُمْ من الشمس ليست دونها سحاب» (٤).

فالعرش ، والكرسي ، والحجاب ، والستر ، كِناية عن العوالم الغيبيّة الإلهيّة المختلفة ، أي أنّ الشمس بعظمتها هي إحدى موجودات عالم الوجود ، والإنسان الذي لايقدر أن يرى هذا الموجود الصغير بعينه كيف يقدر على مشاهدة ذات الباري المقدّسة؟ وهذا بالحقيقة شبيه ماورد في سورة الأعراف في قصة موسى عليه‌السلام ، وبني اسرائيل ، ودك الجبل بالصاعقة ، وعدم قدرة بني اسرائيل على مشاهدة هذه الشرارة الصغيرة من عالم الوجود.

٦ ـ في حديث آخر عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخلهُ على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام .... حتى بلغ سؤاله التوحيد ، فقال أبو قرّة : إنّا روينا أنّ الله عزوجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين ، فقسم لموسى عليه‌السلام الكلام ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤية ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «فمن المبلغُ

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٩٩ ، ح ٥.

(٢) فوقَّعَ ، أي كتب.

(٣) توحيد الصدوق ، ص ١٠٨ ، ح ٢.

(٤) توحيد الصدوق ، ص ١٠٨ ، ح ٣ ؛ وأصول الكافي ، ج ١ ، ص ٩٨.

١٨٠