طلوع سعد السّعود - ج ٢

الآغا بن عودة المزاري

طلوع سعد السّعود - ج ٢

المؤلف:

الآغا بن عودة المزاري


المحقق: الدكتور يحيى بوعزيز
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

صارى عسكر للمباعدة والمقاربة ، ويا أعزّ أصدقائنا ومحبينا سكان الجزائر ومن ينتما (كذا) إليكم من شعب المغاربة ، إن الباشا حاكمكم من حيث أنه تجرأ على بهدلة بيرق افرانسا المستحق كل الاعتبار ، وأقدم على إهانته وإزالة ما له من الأسرار ، فقد سبّب بجهله هذا كل ما هو عتيد أن يحلّ بكم من الكوارث والمضرات ، لكونه دعا عليكم الحرب من قبلنا للخسوات ، فإن عزّة اقتدار سلطان افرانسا دام ملكه وأيامه المسرورة ، نزع الله من قلبه مرحمته المعهودة ورأفته المعروفة المشهورة ، فلا بد أن الباشا حاكمكم من قلة بصيرته وعماوة قلبه وجليه ، قد جدث على نفسه الانتقام المهول وقدّدنا منه القدر المقدر عليه ، وعن قريب يحلّ به ما استحقه من العذاب المهين ، أما أنتم يا شعب المغاربة اعلموا وتأكدوا يقينا أني لست آتيا لأجل محاربتكم فعليكم أن لا تزالوا آمين وفي أماكنكم مطمئنين ، وتعلموا أشغالكم بجهر وسر ، وكل ما لكم من الصنائع والحرف براحة السر ، ثم إنّي أحقّق لكم أنه ليس فينا من يريد ضركم بأحوالكم ، لا في مالكم / ولا في عيالكم ، ومما أضمن لكم أن بلادكم وأراضيكم وبساتينكم وحوانيتكم وكل ما هو لكم صغيرا كان أو كبيرا عظامي ، فيبقى على ما هو عليه ولا يتعرّض لشيء مني ذاك جميعه أحد من قومنا بل يكون في أيديكم دائما فآمنوا بصدق كلامي ، ثم أننا نضمن لكم أيضا ونعدكم وعدا حقيقا مؤكدا غير متغير ولا متأوّل ، أن جوامعكم ومساجدكم لا تزال معهودة معمورة على ما هي الآن عليه وأكثر من أول وأنه لا يتعرض لكم أحد في أمور دينكم وعبادتكم فإن حضورنا عندكم ليس هو لأجل محاربتكم ، وإنما قصدنا محاربة باشتكم الذي بدأ وأظهر علينا العداوة والبغضاء بفعله المذموم ، ومما لا يخفى عليكم غاية تحكمه وقبح طبعه المشوم ولا ينبغي لنا أن نطلّعكم على أخلاقه الذميمة ، وأعماله الرذيلة السقيمة ، فإنّه واضح لديكم أنه لا يسعى إلا على خراب بلادكم ودثارها ، وتضييع أموالكم وأعماركم بخسارها ، ومن المعلوم أنه إنما يريد أن يجعلكم من الفقراء المنحوسين لديهم ، الخاسرين المبهدلين أكثر من المسخط عليهم فمن أعجب الأمور بلذاته ، كيف يغبى عنكم أن باشتكم لا يقصد الخير إلّا لذاته ، والدليل كون أحسن العمارات والأراضي والخيل والسلاح (١٧٥) قد

__________________

(١٧٥) كلمة غير مقروءة.

٨١

أجوده ، واللبس والحلي وما أشبه ذلك كله من شأنه وحده ، فيأيها (كذا) أحبابنا سكان المغرب أنه عزوجل ما سمح بأن يصدر من باشتكم الظالم بما لديكم ، ما فعل من أعمال الخبث والرداء إلّا إنعاما منه سبحانه وتعالى عليكم ، حتى تحصلوا بهلاكه وبزوال سلطنته على كل الخير ، ويفرج عنكم ما أنتم فيه من الغم والشدة والضير ، وإذا الحال هذه فأسرعوا واغتنموا الفرصة فيه بالأخذ بالنواص ، ولا تعمى أبصاركم عما أشرقه الله عليكم من نور اليسر والخلاص ولا تغفلوا عما فيه مصلحتكم بل استيقظوا لكي تتركوا باشتكم هذا وتتبعوا شورنا الذي يؤول إليه خيركم وصلاحكم بمحضه ، وتحققوا أنه تعلى لا يبغي قط ضرر خليقته بل يريد أن كل واحد من براياه يحوز ما يخصه من وافر نعمه التي أسبغها على سكان أرضه ، يأيّها (كذا) أهل الصلاح إن كلامنا هذا صادر عن الحب الكامل ، وإنه مشتمل على الصلح والمودة بغير قول القائل ، وأنتم إذا شيعتم مراسلكم إلى أوريدنا حينئذ نتكلم وإياهم بما فيه نجاحكم ، والمرجو من الله تعالى أن محادثتنا مع بعضنا بعض يؤل إلى ما فيه منافعكم وصلاحكم ، وحشمناكم بالله أنكم بعد ما تحققتم أن مقاصدنا وغايتنا الفريدة ، ليست هي سوى خيركم ومنفعتكم الجديدة ، تشيعوا لنا صحبة مراسليكم كل ما يحتاج إليه عسكرنا المنصور من الذخائر ما بين طحين ومسن وزيت وعجول وغنم وخيل وشعير وما يشبهه من فعل المشاكر ، وحين / وصلت مرسلاتكم هذه إلينا مجالا ، ندفع الثمن نقدية على ما تريدون وأكثر عجالا هذا وأما إن كان منكم معاذ الله خلاف ذلك تختاروا محاربتنا ومقاومتنا وتزكوا علينا أنفسكم اعلموا أن كلّ ما يصيبكم من المكروه والشر إنما يكون سببه من جهلكم فلا تلوموا إلّا أنفسكم ، فأيقنوا أنه ضدّ إرادتنا فليكن عندكم محققا زيادة على ما لديكم ، إن عساكرنا منصورة تحيط بكم بأيسر مرام ودون تعب وأن الله يسلطها عليكم ، فالله تعالى كما أنه يأمر لهم النصر والظفر بالمرحمة والمسامحة على الضعفاء المظلومين فكذلك يحكم بأشدّ العذاب على المفسدين في الأرض العاثيين على البلاد والعباد المشومين ، فلا بد لكم إن تعرّضتم لنا بالعداوة والشر هلكتم عن آخركم هذا أيها السادات ما بدا لي أن أكلمكم به ولست بمفاخركم ، فهو نصيحة مني إليكم فلا تغفلوا عنه ، واعلموا بأن صلاحكم إنما هو في قبوله وفسادكم في

٨٢

فراركم منه ، وأن هلاككم لا يردّه أحد منكم إن أعرضتم عما نصحتكم به وأنذرتكم ، وأيقنوا يقينا مؤكدا ألا مفخر به ، إن كلام سلطاننا المنصور المحفوظ من الله تعالى وبه مصون ، غير ممكن تغييره لأنه مقدّر والمقدّر لا بد أن يكون. والسلام على من سمع وأطاع ، وبادر بالإذعان وترك كل نزاع. في ذي الحجة عام خمسة وأربعين ومائتين وألف (١٧٦).

ولما نزل المريشال دو برمنت (DE BORMONT) بجيوشه في يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة الحرام ، سنة خمس وأربعين ومائتين وألف بغاية المرام ، الموافق لرابع عشر جوان ، سنة ثلاثين وثمانمائة وألف بالبيان ، على مدينة الجزائر حاصرها ، وحصل بينه وبين المسلمين من أهل الجزائر وقبائلها والعربان ، وباي قسنطينة (كذا) وهو الحاج أحمد وباي تيطري وهو أبو مزراق وبرسالي خليفة باي وهران ، كل منهم بجيشه بغاية ما كان. وقد كان الباشا وهو حسين داي سأل منهم الإقدام بجيوشهم كما سأل الإعانة للجهاد من أعيان المرابطين ، ومن له كلمة مقبولة في ذلك الحين ، وكان منهم بعمالة وهران ولي الله القطب العلامة السيد محي الدين ، والد الأمير بالمغرب الأوسط السيد الحاج عبد القادر. وكان عمر هذا الأمير وقت ذاك عشرين سنة بالقول السائر ، القتال الشديد حزما وجزما وعوما ، ودام بين الفريقين عشرين يوما.

ثم حصل الخلل والفلل والفشل في المسلمين ، فتغلّب عليها المريشال بجيشه ودخلها عنوة ضحوة يوم الاثنين بالتعيين في ثالث أو رابع عشر من المحرم الحرام فاتح سنة ست وأربعين ومائتين وألف ، الموافق لخامس جليت سنة ثلاثين وثمانمائة وألف ، وصارت البهجة وهي أم البهاء من حينها تحت حكم الدولة ، وشرعت في التصرف فيها بالأمر والنهي والإقبال والجولة. وإلى ذلك أشار العلامة الماهر ، السيد مسلم الكاتب بن عبد القادر الحميري في رجزه بقوله :

/ ثغر الجزائر به حلّ البلا

فانحلّ عقد النظم منه وخلا

قد جهّز الأصفر جيشا فاجتمع

وحثّ في السّير حثيث المنتجع

في نقط ضاد من الفلك نوعا

مختلف في الشكل كي ما صنعا

__________________

(١٧٦) الموافق جوان ١٨٣٠ م.

٨٣

فيه السفينة غراب فرقطه

فيه السكونة بريك غليطه

أرسلها مثل الإبل الكليلة

مشحونة بالجند والزّاد العيله

بها امتلا الحوض وقال قطني قط

هذا عدوّ الدّين فوق حطّ حط

في نقط دال أعوام قد حرّجا

وعندما تمّ كالنحل خرّجا

بأنواع عسكره منوّعه

كل على شاكلة قد أبدعه

من أسود وأبيض وأصفرا

وأزرق وأحمر معكّرا

من البريز أمّ قبر الرومية

خوف الصواعق الشّداد الردميّة

باب الجزائر به الموت التزم

أوجس منه حذرا من الحمم

حطّ في كب من شهر العيد الكبير

أرسى بمرسى الولي القطب الشهير

بعسكر عدده من الألوف

قالوا ثمانين بترتيب الصّفوف

جاءت من كل حدب المسلمون

فرّق جمعهم غدو منهزمين

هبّت له رياح النصر فابتدر

نحو المدينة الجراد المنتشر

كعاشق قد غلب الشوق عليه

فاقتحم الأهوال والحب لديه

في يج من محرم بها ظفر

بعد قتال ذارع (كذا) نال الوطر

فاركب الأتراك في اسطله (كذا)

جميعهم والباشا في اكبله

أسلبهم من ملكهم وذلّهم

بعد العصيان والطغيان جلّهم

أموالهم أخذها والأسلحة

قصّ لهم قصّا رؤوس الأجنحة

إلى أن قال :

أم البها فابك عليها يا هذا

قد كانت في عين العدوّ كالقذا

كانت كسد ذي القرنين مثلا

قامت بفتها ياجوج عجلا

ثارت بها نار الحروب الساكنه

من بعد ما كانت في الكنّ كامنه

أوقدها الزند من قلب الحجر

فأوقدت واشتعلت بالبشر

عمّ شرارها للنّاس كلّهم

عن دفعها قد عجزوا بكلهم

كانوا في الأمن والأمان أهلها

كالراس كان للدنيا محلها

أصابها العين لما تعجّبت

ملوكها لمّا الأموال كثرت

/ فزحف الروم عليها بغتة

أخذوها كالسيل هجما فجأة

٨٤

وقال قبل هذه الأبيات :

وهاك مني تاريخ اليوم الذي

فيه وقائع تلي هذه ذي

يوم الاثنين فيه الروم قد نزل

وكان فيه فتحه يوم الفشل

موقف الباي حسن بوهران من الاحتلال الفرنسي

قال ، وكان حسن بن موسى باي وهران لما جاء النصارى للجزائر خرج بجيوشه ونزل بوادي تليلات وصارت تجتمع عليه أيضا الجيوش من كل جانب ومكان ، ليغزو الجزائر ، فبينما هو بذلك يحاول القدوم لناحية الجزائر ، إذ الخبر العام جاءه بأن الجزائر قد صارت تحت حكم الفرانسيس ، وجالت فيها أيديهم بكل المخاييس ، فلم يصدق ذلك إلى أن جاءه الخبر الخاص على يد خليفته بأنها ملكتها الدولة ودخلتها بالفعل ، وتصرفت فيها بما شاءت من العقد والحل ، فرجع فورا بجيوشه الخاصة لوهران وقال للناس من أراد الذهاب فله ومن أراد المكث فله وليعتصم بالرحمان. ولما دخل وهران أغلق أبوابها وصارت الناس ما بين القيل والقال. وحصلت العداوة بين الناس في بعضها بعض وسدت الطرق بالويل والنكال.

الاستعداد لاحتلال وهران

ثم أن المريشال دوبرمنت لما استقل قدمه بالجزائر واتخذها قاعدة له وصار لا يلتفت لثورة الثائر ، جهز شرذمة من جيشه لنظر القبطان دوبرمنت المشارك له في الاسم وأمره بالذهاب بها لناحية وهران ، وكان ذلك في ثالث صفر وقيل في آخر المحرم والموافق لخامس عشرين جليت (كذا) فعبر البحر ونزل بالمرسى الكبير ، في خامس صفر الموافق لسابع عشر جليت (كذا) بالتحرير. ولما حلّ بها سأل من الباي حسن المداخلة بينهما بالبيع والشراء وغيرهما في كل الأحوال ، فألفى الباي سبيلا لنجاته بأهله وماله من المال ، وصار البيع بينهما في غاية الحال ، وصار القبطان ينتظر لحوق (كذا) الجيوش به ليدخل وهران ، ويصيّرها عمالة ثانية طائعة للدولة بغاية الإذعان. وانجلا أكثر أهل وهران في

٨٥

خامس صفر الموافق لسابع عشرين جليت بأحسن البيان ، وتعرّضت الأعراب البادية لهم في السّبل لأخذ الأمتعة والإهانة لهم بكل ما كان في كل مكان. وإلى ذلك أشار العلامة الماهر ، السيد مسلم الكاتب بن عبد القادر ، الحميري في رجزه بقوله :

في خامس من صفر حان الرحيل

لأهل وهران خوفا من التبديل

فرّوا بأنفسهم وخلّفوا

بها ملك الوقت عنه انحرفوا

فافترقوا شرقا وغربا ومجوا

وساحوا في كل الأوطان وعجوا

فارتكبوا وانتكبوا وانتهبوا

وانتهكوا وانهمكوا وانتشبوا

في يوم ذي حرّ والناس سكارى

كيومهم في الحشر صاروا حيارى

فكم وكم من المتاع تركوا

من عدم الظهر عليه انهمكوا

وكم وكم من الأطفال تلفوا

من شدّة الرجف والخوف اختلفوا

/ وكم وكم من الشيوخ عجزوا

عن الفرار في الفلل تحيّزوا

وكم وكم من غانية ما رأت

الشمس قط بالحفا قد مشيت

وكم وكم من حاضر بباديه

حرمته بعد السّتور باديه

وكم وكم من عالم مدرّس

في مسكن من شجر معرّس

إلى أن قال :

ثم انتقالنا من وهران بدا

من غير حرب حذار من الرّدا

خلع الملك شارل العاشر

ثم أن هذا السلطان المذكور قام عليه أهل دولته ، لمخالفته لهم بإظهار صولته فاجتمعوا عليه وحاربوه ، وبعد ثلاثة أيام غلبوه بعد ما ضاربوه ، فخلعوه من الملك في سابع صفر الخير ، الموافق للتاسع وعشرين من جليت (كذا) بغير الضير ، من العامين المذكورين وحرّموا المملكة عليه وعلى ذويه وأهل بيته ، وتركوه مرمى في زوايا الإهمال مخفضا من حينه لصوته. ولما خلعوه صار أمرهم بينهم شوريا ، وفي أحوالهم حكموا حكما جمهوريا. ورجع القبطان دوبرمنت من مرسى وهران للجزائر ، لما معه من الجيش في ثالث أوت الموافق الثاني عشر

٨٦

صفر بالمشاهر وصارت تلك الأخبار تسمى عندهم بأخبار جليت ، وتغيرت قوانينهم وعلا أمرها وانتشرت في الصيت وتشوش المريشال دوبرمنت تشويشا كثيرا من تلك الأخبار وذهب فورا لافرانسا وخلفه الجنرال كلوزيل المأمور بإرسال الجيوش لفتح وهران من غير نظر لتلك الأخبار.

الملك لويس فيليب الأول

وثاني سبعينهم لويز فيليب الأول تولى في تاسع أوت سنة ثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لثامن عشر صفر عام ست وأربعين ومائتين وألف. وهذا السلطان من الفخذ السادس ، بالتجاريس ، من الطبقة الثالثة من طبقات ملوك الفرانسيس. ثم نزعته دولته من الملك وتركته بعد ذلك في الحالة الدالة على الحلك. ولا يخفى على أكثر الناس كيفية نزعه من ملكه الذي كان فيه بما هنالك ، وما جرى له من الوقائع في أثناء ذلك.

الفرنسيون يحتلون وهران

ولما تولى هذا السلطان جاءت الجيوش الفرانسوية للمرسى الكبير ، في أول وقيل في ثاني ربيع الأول الموافق للعشرين أو الحادي والعشرين من أوت من العام والسنة الواضحي التشهير. وكانت تلك الجيوش على أربعة أنواع ، أحدها من ذوي المدافع المعلم بعدد اثنين ومعه خمسون نفرا من أهل الشغور بلا نزاع ، وثانيها من أصحاب علامة الثلاثة ، وثالثها من أصحاب علامة الأربعة بغير الحلاثة ، ورابعها من أصحاب علامة الإحدى والعشرين وكلها تحت رئاسة الكولونيل قندلفو / بالتبيين ، فعبرت البحر في يومين ونزلت بالمرسى الكبير. فأتاها كبراء المخزن بقصد الإذعان والخدمة المسهلة للعسير ، فأبى ذلك كبراء المحلة وظنّوا فيهم لغشامتهم عدم الأمان ، وخشية على أنفسهم من الوقوع في شركة الهوان ولم يدروا أن هذا المخزن هو عين المراد ، وأنه الذي به تفتح جميع البلاد ، ولما رأى المخزن ذلك رجع كغيره عدوا للدولة ومظهرا لما له وفيه من البسالة والصولة.

٨٧

ثم أتت سفينة من سفن الدولة الكائنة بالجزائر أيضا للمرسى الكبير ، مشحونة بالجيوش العديدة ذات العدد الكثيرة ، وعليها موضوع صورة وثن ، وبفور وصولها للمرسى الكبير شرعت في هدم البرج المحصن لها من جهة البحر فتشوش كثيرا لذلك الباي حسن ، وكان وصول هذه السفينة للمرسى الكبير ، في سابع عشرين جمادى الثانية الموافق لثالث عشر دسانبر (كذا) بالتحرير وقد خرجت من الجزائر في خامس عشرين جمادى المذكور ، الموافق لحادي عشر دسانبر (كذا) المسطور. ومكثت الجيوش بالمرسى إلى رجب الأصم ، الموافق لدسانبر الأحكم ، وهي تحت رئاسة الجنرال دمرموا وغرضه الدخول لوهران والإبعاد عنها للباي حسان.

الباي حسن يستنجد بسلطان المغرب الأقصى

ولما سمع الباي بذلك بعث لسلطان المغرب وهو السيد مولاي عبد الرحمان بن هشام الشريف العلاوى بالقدوم ، ليتولى على المغرب الأوسط ويضيفه للأقصا (كذا) ويكون هو من جملة نوّابه فهو الأولى به من الروم. فأحبّ سلطان المغرب ذلك لما بلغه الخبر لكنه خشي أن يقع له ما وقع لجدّه مولاي إسماعيل ، وبعث له ابن عمه مولاي علي ولد السلطان مولاي سليمان ومعه خليفة السيد أحمد الحجوطي ليقوم مقامه في الاستيلاء (كذا) على المغرب الأوسط بالتأويل ، وأوصاه أن يبعث الحجوطي للمعسكر ويتخذ هو دار سكناه تلمسان ، وأن ينتقم من جميع أهل المغرب الأوسط ولا يحاشي إلّا الشرفاء الأعيان.

انقسام مخزن وهران على نفسه

ولما وصل مولاي علي لتلمسان انقسم المخزن على شطرين ، فشطر صار تحت رئاسة الحاج محمد المزاري وتولى خدمة مولاي علي بالنصيحة بغير مين ، وشطر صار تحت رئاسة عمه مصطفى بن إسماعيل. وتولى خدمة الباي حسن

٨٨

كالعادة بالنصيحة بغاية التفاصيل. وأقسم مصطفى بمخزنه للباي حسن بأنهم في خدمته بالنية والصفاء ما دام بوهران كما أقسم الحاج المزاري بمخزنه للشريف مولاي علي بأنهم في خدمته بالنية وخالص المودة والصفاء ما دام بتلمسان فصير مولاي علي الحاج المزاري من أول وزرائه الأعيان ، وجعله آغة المخزن حيث كان ، فبذل عند ذلك جهده معه في الخدمة بالنصيحة وتلك عادة المخزن سيما الأعيان سيما البحايثية المجتنبين للأحوال القبيحة. قال وأما الجنرال دمرموا فإنه لا زال بجيوشه بالمرسى الكبير. منتظرا اتيان الأمر له لدخول / وهران بكل حال في التحبير.

نفي الباي حسن إلى المشرق

ثم جاء جيش مولاي علي لغنم المخزن الذي بوهران ، فأخذها عن آخرها وقصد بها تلمسان. فسمع مخزن وهران ذلك ولحقوا مالهم ، وسألوا الله أن يجبر حالهم ، فبينما هم غائبون عن البلد ، وإذا بالجنرال دمرموا لما سمع بذلك اغتنم الفرصة وجاء بجيشه عازما فدخل من حينه غفلة للبلد ، ولم يتكلم فيه وجه واحد من البارود ، ولمّا حلّ بها لم يتعرض لأحد بالضرر من أهل البلد والوفود. وكان دخوله لها في رابع جانفي سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لتاسع رجب سنة ست وأربعين ومائتين وألف. وقال بعضهم دخل في أول رجب سنة ست وأربعين ومائتين وألف ، الموافق لسابع عشرين دسانبر (كذا) سنة ثلاثين وثمانمائة وألف. وكان الجيش الذي دخله بها معلما بعدد إحدى وعشرين ومعه بعض الطبجية وواحد من أصحاب الشفور ، وكل من كان من المخزن في غناء ، فربّما عنده ليلا لملاتة وغيرها من النواحي في المسطور. ولما دخل النصارى وهران بعد الجزائر ، أخذوا السلاح لأهلهما وتركوا الحكم كعادته بيد من كان بهما من الأكابر ، ثم أركبوا الباشا بمن معه من الأتراك ، والباي حسن بما عنده أيضا من الأتراك وأوصلوا كلا منهم للمحل الذي أراده ، ولم يتعرضوا لهم بسوء ، ولا لكل واحد منهم الشيء الذي أراده ، وما ذلك إلّا من كثرة الشفقة والعدل ، وكل دولة ملة يدوم ملكها بما عندها من العدل.

٨٩

الأمير علي يقود زعماء المخزن إلى فاس

ثم إن مصطفى ابن إسماعيل لما خرج بمخزنه من وهران ، قصد بأعيانه في ذهابه لناحية مولاي علي بتلمسان ، ولما مثّلوا بين يديه بشّ في وجوههم بغاية البشاشة ، وأدناهم منه دنوا تظهر به مودة البشاشة. وكان الحجوطي قد جمع ما بخزنة المعسكر من المال وأتى به لمولاي علي بتلمسان كما جمع مولاي علي أيضا ما بخزنة تلمسان ، ومن الغد ارتحل مغربا لناحية فاس ، حاملا لمصطفى بن إسماعيل وما (كذا) معه من الأعيان بحايثية وغيرهم دوائر وزمالة مغولين على البغال إلى مدينة فاس ، وهو بأحد لا يبال ، ولا عبرة له إلّا بما جمعه من المال. فتبّا له من العامل الشرير ، الذي فعل بالأعيان ما فعل من غير ذنب صغير فعلوه فضلا عن الذنب الكبير. ولما وصل لفاس ومثل أعيان المخزن بين يدي السلطان مولاي عبد الرحمان. نظر لهم بالنظرة الدالة على الخير والإحسان ، فألفاهم في الحالة الدالة على الذل والهوان سأل عنهم وعن إتيانهم وما دليل ذلك بالعبارة أو الإشارة ، فلم يجد شيئا فانتقم منه وعزله من حينه من تلك الإمارة ، وقال له يا خسيس العقل من سياسة الملوك إن الأعيان الذين يكون بهم الحل والربط والتشهير ، لا تكون المؤاخذة لهم إلّا بتكرر الذنب الكبير ، وهؤلاء لا ذنب لهم أصلا ، فكيف تؤاخذهم بكلام الوشاة وتأتيهم إلى هنا على هذه الحالة فلا قوة إلا بالله ولا حولا.

وأما آغة الحاج المزاري / فإنه لم يأخذه معهم بل تركه على الخدمة وأوصاه بالجهد فيها ولم يفعل به شيئا من الأشياء التي تكون له الملامة عليها ، بل أبقاه في محله على الخدمة التي كان عليها. غير أنه كان في الحيرة والجزع ، من جانب عميه وقرابته وأعيان محله الذين ذهبوا للمغرب على تلك الحالة من غير سبب وزاد في القلق والفزع ، إلى أن قدموا عليه بغاية العز والتوفير والتمكين ، وحصل بذهابهم للمغرب الارتباط الشديد بين المخزن والعلاويين ، فلقد أحيا (كذا) الفريقان ما درس من الارتباط الواقع بينهما من الأسلاف ، حال قدوم مولاي إسماعيل بن علي لوهران والمغرب الأوسط من غير الخلاف والاختلاف ، وأعطاهم هدايا جليلة وخلع عليهم سيما مصطفى خلعا جميلة ، وبعث معهم خليفة آخر يقال له السيد أحمد بن العامري بالبيان ، ومعه مائة

٩٠

وصيف من عسكر السلطان ، ولما وصل مصطفى بن إسماعيل بذلك الجيش ، أسكنه المعسكر وصار يجلب له الرعية من كل ناحية وهو في غاية الفيش.

الحماية التونسية على وهران

قال وفي غيبة مصطفى للمغرب اشتغل النصارى بتنظيم جيش تونسي وأتوا به لوهران ، تحت رئاسة خير الدين التونسي ومعه رجل من الزمالة ذهب فارا لتونس اسمه علي ابن التازي وسماه النصارى باي وهران ، ودخل من بقي من كبراء المخزن من غير الحاج المزاري ورحل المخزن ما بين الدوائر والزمالة من قرب تلمسان وأتوا إلى قرب وهران ، ودخل من بقي من كبراء المخزن من غير الحاج المزاري عند الجنرال دمرموا وتكلموا معه على الدخول تحت حكم التونسي خير الدين ، ولكنهم يبقون ساكنين بملاتة فقبل منهم الجنرال ذلك وصاروا تحت حكم التونسي في الحين ، ولما رأى المخزن حكم مصطفى بن إسماعيل وابن أخيه الحاج المزاري مع المغربي السيد أحمد بن العامري صاروا يتأخرون عن مخالطة التونسي بوهران ويدخلون تحت حكم مصطفى وابن أخيه الحاج محمد المزاري الذين لهما الحرمة الوافية مع السيد أحمد بن العامري. ولما بلغ الجنرال دمرموا ذلك بعث للدولة بافرانسا وأخبرها بفعل سلطان المغرب مولاي عبد الرحمان ، وما وقع بسببه من الخلاط في مخزن وهران ، فبعثت الدولة لسلطان المغرب ليكف نفسه عن هذا الفعل ولا يعود له أبدا ، وإن عاد سيرى ما لا سمعه ولا رآه أبدا. وكان بالعامري قد استقل بالتصرف دون مشاورة أعيان المخزن وغيرهم ، بل كان اعتماده على شرذمته التي لا أمن لأحد من مكرهم ، وظهر في الوطن عبث المغاربة بالفساد ، والجور والظلم وعدم الرفق بالعباد. ولما رأى أهل الوطن ذلك فزعوا من فعلهم تفزيعا وعمّوا بالوقوع بهم وقتلهم جميعا ، فشعروا بذلك ورأوا أنه لا ريب توقيعا ، ووافق ذلك أمر سلطانهم لهم بالقدوم ، ويتركوا المغرب الأوسط لمن هو من غيرهم موصوف بالعكروم فهرب كبيرهم السيد أحمد بن العامري لتلمسان ومنها زاد لفاس ، وهرب أصحابه لوهران ومنها زادوا / ، في الفلك لطنجة في شدة إياس. ولما حصل لهذا الوطن بالمغاربة الإذلال ، أنشد بعض الأدباء من أهله في ذلك أبياتا فقال :

٩١

٩٢

آها للمغرب الأوسط ضاعا

وبان وهنه من به جاعا

تراكمت أهواله وزادت

به الشّدائد الفساد ذاعا

جاء به للحكم أهل فاس

فجاسوا خلال دياره سراعا

وحلّوا وأبرموا الحكم بظلم

ودبّت فيه اجراء ضباعا

كأنه على التّحقيق ليست

به رجال قد قهروا سباعا

لا غرو يا علاويين يحلّ

بكم ما ببني سعد قد شاعا

فإنهم قبيلكم قد جاء و (كذا)

لمغربنا وقد ذهبوا جزاعا

رأوا من بأسنا ما ليس يرى

وأسيافنا للحمهم بضاعا

بنادقنا رصاصها مصيب

لهم بكلّ حالة وقّاعا

هزمناهم إلى فاس وزدنا

في أثرهم قتلا وسبيا إيقاعا

حالة بايليك الغرب بعد رحيل الأتراك

والمغاربة :

ولما ذهب الأتراك من وهران ، والمغاربة من المعسكر وتلمسان ، وذلك في عام ستة وأربعين من الهجري ، وعام ثلاثين وإحدى وثلاثين من المسيحي الحبري ، قامت العرب على بعضها بعض في كل ناحية ومكان ، وعمت الفتنة وعظمت البلوى في أقطار المغرب الأوسط مدة من زمان. فقام المخزن وريّسوا عليهم مصطفى بن إسماعيل وابن أخيه الحاج محمد المزاري واعتمدوا في ذلك على أهل ملاتة ، وتليلات ، وسيق ، وهبرة ، ومينا ، وشلف في القول الحاري ، ووقع القتال ما بين الأعراب والقرى والمدون (كذا) وصار كل واحد من رؤساء العرب يروم إرث مملكة الترك إلى أن وقع الخلاط الكبير في البوادي والمدون (كذا) ، وخرج أهل تليلات وسيق من دائرة المخزن ودخلوا في دائرة الأعراب النائية التي لا تطيق على الكر والفرّ في ما كان ويكون وكثر الجزع والهرج ، والفزع والحرج ، وأطرد النصارى التوانسة من وهران وأبعدوهم من الدواوين لما رأوا سيرتهم مخالفة للأحكام الخصوصية ، والعمومية وسائر القوانين وراموا مخالطة العرب بأنفسهم ، إلى أن يصيروا بالسياسة من أبناء جنسهم ، فاستقلوا

٩٣

برئاسة وهران ، وحصّنوها بالعسس المفترقة في أماكنها المخوفة في كل حين وزمان ، وذلك كشعبة رأس العين وغيرها من الأماكن المخوفة ورفعوا بالمدينة ما لهم من البنود وضربوا النواقيس ، وأمروا الحراس بضرب من صعد السور بغير إذن بالبارود. وقبل طردهم للتوانسة نادوا بالأمان لكل خارج وداخل ، وأباحوا المخالطة لرائمها (كذا) منهم من / غير تعرض بسوء لكل فارّ وقابل ، فجاءتهم العرب لبيع الخيل والبغال والحمير ومباح الحيوان ، وشراء السلع بأنواعها من العطرية والكتان فاتسعت الدولة في دخول الأرزاق عليها من كل جهة ومكان ، وعاشت جيوشها في الأرزاق الجديدة من اللحم وغيره بحسب الإمكان ، وعينت المكلف بشراء الخيل لجيوشها فاشترى إلى أن ركب المحتاج ، وفرح الضعيف وكثر النتاج.

حاكم وهران الفرنسي يثير الفرقة والعداوة

مع المخزن

وحدثني من أثق به ممن كان بوهران ، إنّ التونسي كان أول عمله خرج بجيشه وغزى بالساحل دواوير حميان ، فغنم منهم كثيرا وأسّر وسبا (كذا) وقتل واجترّ خمسين رأسا أتى بها على الأعمدة لوهران. وفي إبريل من سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لست وأربعين ومائتين وألف ، جاء الجنرال فداس حاكما بوهران بغاية التحكيم ، فأول عمله أنشأ العداوة مع الدواوير والزمالة الذين هم المخزن بوهران وعليهم العمدة من الزمان القديم ، فكل دولة معتمدة عليهم في الحركة والسكون ، وبهم تتوصل لكل مطلوب ومظنون ، فصار القتال بينهم وبينه شديدا ، ووقع الحرب بين الفريقين مترادفا مزيدا. وفي تاسع عشر ستانبر (كذا) من العامين المذكورين جاء الجنرال بوافي (١٧٧) حاكما بوهران وكان ممن حضر لفتح مصر واستلاء (كذا) الدولة عليه ، وعلم خدمة المسلمين وصارت محفوظة لديه ، فزعم أنه سيلقي على مسلمي وهران بعض المخوفات

__________________

(١٧٧) يقصد بوايي :.BOYER

٩٤

التي ألقيت على مسلمي مصر وما قاربها من المشارقة ، ولم يعلم أن مخزن وهران لا خشية لهم من شيء ، وإنما شيمتهم الشجاعة والمبارزة والتقدم للطعن والضرب والوفاء بالعهود الصادقة ذات الأحوال المبارقة. ونار الفتنة ثاقبة بين المسلمين بواديها والحواضر ، منذ دخل النصارى لمدينتي وهران والجزائر.

ظهور الشيخ محي الدين

فقام لإطفائها العلماء والشرفاء والمرابطون سيما القطب الكبير ، الذي كان يخشاه الباي حسن إلى أن سجنه وهو السيد محي الدين بن السيد المصطفى ابن المختار المختاري الحسني الراشدي الغريسي والد الأمير ، وافترقوا على تخميدها بكل مكان وناحية ، وكل جهة وضاحية ، والشيطان اللعين الطريد ، لا يزيدها إلّا إيقادا بين الأحرار والعبيد. فشمّر السيد محي الدين المذكور عن ساعديه وساقيه لإطفائها بغاية التشمير ، لما له من العناية بالخلف خصوصا المخزن وتفضيله له عن النائبة التحرير وصار يروم الصلح بين الفئتين بحسب القوة والطاقة ، ويزيل ما بينهما من الأمور الضارة والشاقة. ولما رأى أن إطفاءها لا يكون إلا بجمعهم للجهاد ، أتى القطب السيد الحاج عبد القادر ابن زيان الزياني كثير الأنوار والأسرار واحد الأفراد ، وسأل منه أن يعينه على ذلك بالتحقيق فألفى للسيد الصلاح في ذلك فوافقه وشمّر من حينه عن ساعديه وساقيه بالنية والتوفيق ، واندبا ابتداء قبيل الغرابة على ذلك ، بعد أن دعيا الله على التوفيق لذلك ، وقالا في دعائهما اللهم اجعل كيد المسلمين في نحر عدوهم ، وأبعد عنهم الإذاية وتسلّطها على عدوّهم / اللهم وفقنا وإياهم لهذا السبيل اللهم اهدي العباد اللهم اجمع كلمة الأمة المحمدية ووفقها للجهاد ، فلبّاهما القبيل المذكور ، ووافقهما على الجهاد الذي هو بكورة السعد المبرور وجمع جيشه وأتى به إليهما. وكان الشجاع الكرّار خليفة ولد محمود يحرض قبيلة الغرابة بذلك لديهما. قال فصلّى الشيخان ومعهما الأمير السيد الحاج عبد القادر بذلك الجيش العصر وذهبوا من سيق لوهران ، وتمادوا على سيرهم ليلا بفرح وسرور وخلاص نية إلى أن صبحوا وهران.

٩٥

معركة خنق النطاح الأولى بوهران

ولما وصلوا خرج لهم العدو بجيوشه كأنها الجردان ، وتصافّ الفريقان للقتال بوادي خنق النطاح من أول النهار ، واشتد القتال بينهما ودام إلى العشية بالاشتهار فمات من النصارى خلق كثير ، ومن المسلمين كذلك فضلا عن الجريح بالتكثير فكان ممّن مات من الغرابة ستة من الأعيان ، وهم الفقيه الخوجة السيد الطيب بن المشري ، والشجاع زيان بن سهيلة ، وسليمان بالهرشي ، وقدور بالعابد ، والحاج الأخضر بن عيرة ، وقدور بن المغراوي ، ومن تحلايت الحبيب ابن رحّ بغاية البيان ، وانجرح (كذا) من كبرائهم ثلاثة في المعدود ، وهم الحبيب بو علام بن الحبوشي ، وابن يعقوب بن سهيلة وخليفة ولد محمود. وكان ذلك في سابع إبريل وقيل في السابع عشر منه سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة وألف ، المطابقة لعام سبع وأربعين ومائتين وألف (١٧٨). وإلى هذه الواقعة أشار الفقيه السيد الحاج عده بن علي الشريف التحلايتي في عروبيته بقوله :

بسم الله أبديت نشدي

والصلات على الهادي

راكب البراق سيدي

من نرجا وشفاعته يوم الميزان

بإذن الله إسقام سعدي

في بوفاطما أحمد شارح الأديان

لا غزو نغد الوهران

يا سايل راني انعظّم

في ذا الجيش الي تلايم

امشا للبهجا ايزادم

وعمل خصايل ضارب عداي الرحمان

ستر الله عليه دايم

ذا النجع الغربي أخباره في البلدان

إلى أن قال :

سيدي محي الدين دبّر

في ذا الراي وجا امزيّر

في سيق انزل يالحاضر

هو والمبروك الأفحال بن زيان

من ثم ركبوا العصر

الأقطاب اجتمعوا اتفقوا في ديوان

خليفا للجهاد لبّا

واجمع قومان الغرابا

__________________

(١٧٨) وهو ما يوافق شهر ذي القعدة.

٩٦

قال لهم ما كان هربا

من يهدر في الغيب واك اليوم ايبان

للميمر نعطوا امكبّا

والّي مات امنازله جنّت رضوان

إلى أن قال :

الهذا الناس القول واتا

من زادوا للرّوم بهتا

ماتوا ما لابطال ستا

سربا مذكورين غير فلان فلان

ما همشي هذون موتا

عالم الغيب امرخهم في القرآن

إلى آخر القصيدة.

وكانت الدولة عينت من جيشها فرقة يقال لها قراندي وأسكنتها للحراسة بخنق النطاح ، ولتمييز بعض الأمور ، ففشا فيها النقص بالقتل وغيره وأدخلتها للمدينة بغير الجناح. وذلك في إبريل من العامين المذكورين ، الموافق لذي الحجة العربي بغير المين (١٧٩).

معركة رأس العين بوهران

ثم اندبا (كذا) الشيخان رضي‌الله‌عنهما بعد ذلك جميع المخزن الذي هو الدوائر والزمالة والغرابة والبرجية ، وغيرهم من رزيو وحميان والعبيد الشراقة وبني شقران والحشم وبني عامر وسائر الجهة الغربية ، فوافقوه على الجهاد ، ورغبوا فيه وهم في الفرح والسرور بغاية ما يكون من الازدياد. ولما اجتمع الجيش العرمرم ذهب به الشيخان للحرب والأمير عليه هو السيد محي الدين ، ونزلا به أولا بوادي الحمام ، وثانيا بسيق ، وثالثا بتنازات من أرباض تليلات وكتبا بطاقة للطاغية على أحد الخصال الثلاثة التي هي الإسلام أو الجزية أو القتال في الحين وبعثها الشيخ السيد محي الدين مع رجل يقال له علي بن زرفة من أصحاب وادي الحمّام ، فذهب بها عليّ ولم يظهر له خبر للآن بالاحتكام. ولمّا انقطع خبره وطال أمره جدّا تقدم السيد محي الدين بالجيوش ونزل بها في سيدي معروف وبه جاءه المخزن مجتمعا في غاية الترفّه بما لهم من الملابس

__________________

(١٧٩) شهر أبريل ١٨٣٢ يوافقه ذو القعدة وليس ذو الحجة من عام ١٢٤٧ ه‍.

٩٧

والفروش ، وعتاق الخيل تحتهم كأنها النعام أو العزلان ، ولباسهم منوع بسائر الألوان ، وسروجهم مزوقة مرونقة وجلود النمر مسدولة مع الخيول ، وهي في سيرها منهمدة كأنها السيول ، وسلاحهم في غاية الصفاوة له شعاع وبروق ، وعلى تلك الخيول رجال في الشجاعة كأنها الأسود وألوانها لها نور وشروق ، فبات المخزن تلك الليلة معوّلا على القتال وطالبا للمكافحة والنزال ، شائقة أنفسهم للقاء الرحمان ، سائلة منه الشهادة للفوز بجنة رضوان ، ومن الغد تفرق المخزن بالجيش وقسّمه رايات باشتهار ، وانتشر ممتدّا من الحافة للمروج لكدية الخيار ، وضرعوا في قتالهم في ذلك اليوم ، فلا ترى من شدة الوطيس وكثرة القتلى من الجانبين إلّا الطيور لها عليهم الحوم ، وافترق الفريقان عشية ، وأخذ كل موتاه أخذة قوية ، وقد تمادى المسلمون في هجومهم ، في ذلك اليوم بغاية الجهد والقوة إلى أن وصلوا لوسط المحلة الفرانسوية وللحفير الذي ببرج صنطاندري (١٨٠) في غاية القوة ، ثم من الغد ارتحلت محال المسلمين ونزلوا بالضاية (١٨١) ، وابتدأ القتال بين الفريقين من الزوال / إلى ظلام الليل (كذا) بالغاية ، والمخزن له تقدّم للنزال ، وحرص على دوام القتال ، ثم انفصل الفريقان ورجع كل لمحلّه بالتحقيق ، وانجرح من الدوائر الحاج المزاري من سبّابته اليمنى لنيل التوفيق ، وعدة ولد عثمان من صدره ، وانكسر الحاج بن كاملة من ركبته وسلم في أمره ثم المختار بالتريكي ، والمولود بالبرغوث ، وأخذ النصارى فرسه الأزرق شديد الرغوث ، ويحيى بونوة ، والمختار بن ساردي ، وهم في غاية تقدّم وتمادي ، وكان ذلك في ثالث ورابع وخامس وسادس ماي سنة اثنين وثلاثين من الأعوام العجمية المسطورة ، الموافق لسنة ثمان وأربعين من الأعوام العربية المشهورة (١٨٢) وإلى هذه الواقعة في الأربعة الأيام المتوالية أشار السيد الحاج عده بن علي الشريف المذكور في عروبيته بقوله :

يا سايلني نعيد للشكر هديا

للجيش الّي مشرّب للكفر الامرار

__________________

(١٨٠) يقصد برج القديس أندري : SAINT ANDRE ? بجوار باب الجيارة شرق المدينة.

(١٨١) يقصد ضاية المرسلي ، على طريق سيدي الشحمي شرق المدينة كذلك.

(١٨٢) يقصد المعركة المعروفة بمعركة راس العين عام ١٨٣٢ الموافقة لشهر ذي الحجة عام ١٢٤٧ وليس ١٢٤٨ كما ذكر المؤلف.

٩٨

إلى أن قال :

يا سايلني نعيد لك هذا الغيوان

يوم انحركوا انجوعنا لبلاد الرّوم

الأقطاب اثنين جمع في ذا الديوان

وانصرهم يا لطالب الحي القيّوم

حمر اللحيا الشيخ الأفحل بن زيّان

يبغي الجهاد قدها عز المظيوم

محي الدين الوقيح زيفط للعربان

جاته الإسلام كافّه تراس وقوم

أمحال قويّا التمت يا فرسان

لا من يحصي أعدادها هيلات اطموم

إلى أن قال :

كعجبوني اغرابتي عز عليا

على الاعلاج يا ملاح احملهم جار

اخبرهم راه شاع في كل اثنيا

دمّارين الجهول وشبوب الّي بار

بطّيو ناس قدها ذوك اجزايا

يوم الدّبلا أعلامهم صاعب غرّار

تعقر من لا اتجيب كيف البرجيا

ناس الشيعات والشنا وأهل التفخار

وبني شقران واكدين اعموميا

يزهوا خوتي منين حضر في المشوار

جات امطافيل مالمعسكر يا خيا

خلجوا الاعلاج زينهم كباب ـ لار

يا عجب شوف ما اضنات الحشميا

طفيل اغريس ليس ما فيهم تعيار

الاعرج صبّار جابها للكلبا

وات قولي عليه شباب الي بار

ناس الحمّام ثاني لاقوا بيا

ذكروهم من قبيل للعاد زنجار

وبني عامر قدها ما صليا

كالخل إذا اعناو يهدم الأسوار

وادوايرنا أهل الشنا والعشويا

من ناس قبيل ها الخوا يسروا الاشكار

أهل امشاطي يوقدوا أهل اجزايا

أهل اركبات بيض وامراكيب احرار

يوم الحيها اتصيبهم في لوليا

يقتحم الاصفوف ما فيهم توخار

/ قطّاعين الروس نقم للعديا

أولاد اسماعيل قدها رهج الكفّار

وازمالتنا امدمرين الكفريا

من يتكلف يشطر عظمه تشطار

إلى آخر القصيدة.

٩٩

الشيخ محي الدين يقترح مبايعة

مصطفى بن إسماعيل أميرا

وفي هذه المرة قام الشيخ السيد محي الدين بين الناس خطيبا ، فشوّق للجنّة وحذّر من النّار وذكر فضائل الجهاد والشهداء ، وفضل الإمارة ورغب الناس فيها ترغيبا ، وقال لهم أيها الأمة ينبغي لكم أن تنتخبوا أحدا منكم توفرت فيه شروط الإمارة فتعقدون له البيعة على أنه أمير عليكم يقوم بأموركم في الجهاد وفصل الدعاوى بالتأويل ، وإنّي لا أرى تلك الشروط مجتمعة إلّا في ولدنا الشجاع آغة مصطفى بن إسماعيل ، فهلمّوا معي وامددوا أيديكم لعقد البيعة له من الآن ، وأكون له واحدا من جملة الأعوان ، فأبى ذلك مصطفى غاية ونفر ، وهرب منها هروبا خوف من سقر ، وقال له أيها الشيخ اتّق الله فإنها لا تصلح إلّا لك دون غيرك ، لشرف نسبك وعلوّ همتك عند الله وخلقه وقبول كلمتك وظهور سرّك وقوة علمك وكثرة خيرك ، فأباها أيضا الشيخ المذكور ، وقال إني كبرت ولا أطيق على النهوض في القول المشهور ، وإن كان غرضكم في ابني الحاج عبد القادر وقبلتموه فهو بين أيديكم ، وأنتم أعلم بأموركم وبما من النار يفيدكم. وانفصل المجلس في تلك المرة من غير اختيار ، وترك ذلك لوقت آخر بغاية الاختيار.

معركة خنق النطاح الثانية

ثم جمع الشيخ محي الدين جيش الحشم وبعثه لغزو وهران تحت رئاسة ابنه الأمير السيد الحاج عبد القادر ، ومعه في الرفقة أخوه السيد محمد سعيد وابنه السيد أحمد ذو العز الوافر ، وكان في انتظار ذلك الجيش الشيخ السيد عبد القادر بن زيان ، ومعه قبيل الغرابة واجتمع المخزن عليهم بوهران بحيث جدّ الجميع في السّير ليلا إلى أن أصبحوا بالمقابر بوهران ، فكمنوا إلى أن خرج النصارى بمالهم للرعاية غفلة فلم يشعروا إلا وجيش المسلمين أخذ المال بأجمعه فعند ذلك خرج جيش النصارى وحصل المصاف بجنان بني مزاب المفسر عنه بلغة النصارى بغابة عسة الأصنام ، واشتد القتال وعظم النّزال وقوي الحرب وكثر

١٠٠