نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

التقوى والعصمة

تمهيد :

بالنظر لتحمّل الرسل وحملة الوحي الإلهي أهمّ وأخطر مسؤولية في عالم البشرية ، وهي مسؤولية هداية الإنسان وتربية النفوس وتهذيبها وتنقيتها من كافّة الشوائب والممارسات اللاأخلاقية ، بالإضافة إلى تطهير المجتمعات البشرية من أنواع الظلم والتعسّف ، بطرق لا يمكنهم طيّها اعتماداً على العقل والفكر والمعلومات الخاصّة فحسب ، بل لابدّ والحالة هذه من تمسّكهم بأعلى درجات «التقوى» ، والتي نطلق عليها منزلة «العصمة» التي لا يمكن ضمان أهداف الرسالة بدونها.

ومن المؤكّد أنّ منزلة العصمة لا تعني «العصمة من الذنب والمعصية» فحسب ، بل لها فرع آخر لا يقلّ أهميّة عنها ، ألا وهو «العصمة من كلّ خطأ واشتباه وانحراف وضلال» ، ولا يخفى أنّ تحقيق الهدف من البعثة مرهون بإمدادهم بالتأييدات الإلهيّة من هذه الناحية.

ولكلٍّ من هذين القسمين تشعّبات اخرى أيضاً : كالعصمة من الذنوب كبيرها وصغيرها ، في فترة ما قبل النبوّة وبعدها والعصمة من الخيانة في تبليغ الوحي والرسالة و...

كما يندرج في قسم العصمة من الخطأ أيضاً كلّ من «العصمة من الخطأ في تلقّي الوحي وإبلاغه» ، والعصمة من الخطأ في القيام بالفرائض الدينيّة والأوامر الشرعية ، وكذلك العصمة من الإنحراف في الامور الدنيوية والشخصية. وهناك سؤال يتبادر للذهن وهو : هل تعود مسألة عصمة الأنبياء في كلّ هذه الأبحاث إلى هذين القسمين؟ وما هو الدليل على ذلك على فرض الصحّة؟ وما هو الدليل على الاختلاف الحاصل بينهما لو وجد؟

٦١

هذه صورة عن مسألة عصمة الأنبياء اصولاً وفروعاً من الناحية المبدئية ، والتي ينبغي بيانها في ظلّ الآيات القرآنية والأدلّة العقلية نظراً لأهميّتها الأساسية والمصيرية ، وبهذه الإشارة الخاطفة نعود ثانيةً إلى القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال :

١ ـ (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ). (البقرة / ١٢٤)

٢ ـ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). (الحشر / ٧)

٣ ـ (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً). (النساء / ٨٠)

٤ ـ (فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). (النساء / ٦٥)

٥ ـ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (الأحزاب / ٢١)

٦ ـ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (الأحزاب / ٣٣)

٧ ـ (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ). (ص / ٨٣ ـ ٨٢)

٨ ـ (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الْأَيْدِى وَالْأَبْصَارِ* إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ). (ص / ٤٥ ـ ٤٧)

٩ ـ (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ). (الأنعام / ٩٠)

١٠ ـ (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى). (النجم / ٣ ـ ٤)

* * *

٦٢

جمع الآيات وتفسيرها

كيف يكون المذنبون دعاةً للتقوى؟

إنّ الآية الاولى من آيات بحثنا تكشف النقاب عن ثلاثة مواضيع :

الأوّل : الإبتلاءات الكبيرة التي أُبتلي بها إبراهيم من قبل الله تعالى ، والتي اجتازها بنجاح تامّ.

الثاني : المكافأة العظيمة التي نالها إبراهيم من الله بعد هذا الاختبار ، أي مقام الإمامة.

الثالث : طلب إبراهيم منح هذه الموهبة لبعض ذرّيته ، وجواب الله تعالى له بأنّ الظالمين من ذرّيته لن ينالوا هذا المقام الرفيع أبداً :

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ).

أمّا فيما يتعلّق بالقسم الأوّل فقد تقدّم الكلام عنه بشكل وافٍ فيما مضى ، كما أنّ هناك حديثاً طويلاً فيما يتعلّق بالقسم الثاني أي نيل مقام الإمامة الرفيع وماهيتها.

فهل أن الإمامة تعني «النبوّة»؟ في حين أنّ هناك قرائن واضحة تدلّ على أنّ إبراهيم عليه‌السلام قد تطرّق لهذا الأمر بعد وصوله لمقام النبوّة ، وفي أواخر سنيّ عمره ، حينما كان له أولاده وذرّيته كإسماعيل وإسحاق ، وعلى أمل امتداد ذرّيته هذه إلى الأجيال اللاحقة ، ومن هنا فقد تمنّى لهم أيضاً مقام الإمامة ، إذ إنّه وكما نعلم لم يرزق ولداً لمدّة مديدة ، حتّى أنّه أخذته الدهشة حينما بشّره الملائكة الموكّلون بهلاك قوم لوط ، هو وزوجته بولد كما تقرأ في قوله تعالى : (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَنْ مَسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ* قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ). (الحجر / ٥٤ ـ ٥٥)

بل قد تعجّبت زوجته أيضاً لهذه البشرى واستغربت قائلة : (قَالَتْ يَا وَيْلَتى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَىءٌ عَجِيبٌ). (هود / ٧٢)

لكن الملائكة حذّرته من تبعة اليأس من رحمة الله في كلّ الأحوال.

وبناءً على هذا فمن المستبعد جدّاً أن يكون المراد هو النبوّة ، بل المراد هو الحكومة

٦٣

الإلهيّة المطلقة على الأموال والأنفس وكلّ شؤون الحياة الإنسانية ، أو الحكومة الظاهرية والباطنية على الأرواح والأنفس عن طريق التربية الظاهرية والباطنية لإيصال الناس إلى الكمال المطلوب بإذنه تعالى ، وعدم الإقتصار على رسم الطريق فحسب ، والذي يعدّ من مهام كلّ الأنبياء.

على أيّة حال فإنّه مقام يفوق النبوّة ، ولم ينله إلّاالبعض من الأنبياء فقط.

وامّا فيما يتعلّق بالموضوع الثالث وهو طلب إبراهيم هذا المقام لبعض أولاده ، وسماعه الجواب في الحال من أنّ هذا المقام هو نوع من التعهّد الإلهي لا يناله الظالمون ، فالكلام فيه يدور حول المراد من «الظالم» معنىً ومفهوماً.

يجب معرفة ما المراد بالظالم؟ هل هو فقط ذلك الشخص الموصوف بهذه الصفة فعلاً؟ مع أنّه يستبعد جدّاً بل يستحيل أن يطلب إبراهيم عليه‌السلام مثل هذا الطلب للظلمة من ذرّيته خصوصاً بعد اجتيازه لكلّ تلك الإختبارات الصعبة وشموله بمثل تلك العناية ، هذا الشيء غير معقول أبداً سواء كان هذا الظلم بمعني الكفر كما يصرّح بذلك القرآن الكريم : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). (لقمان / ١٣)

أو بمعناه الواسع الشامل لكل أنواع الفسق والفجور والمعصية.

وبناءً على هذا فالمراد بـ «الظالم» هنا هو ذلك الشخص الموصوف بتلك الصفة ولو للحظة واحدة طول عمره مهما انقضى على تلك اللحظة من مدّة ، فان مثل هذا المصداق بحاجة إلى بيان.

وفي الحقيقة إنّ الله تعالى أراد ببيانه هذا إيقاف إبراهيم على هذه الحقيقة ، وهي أنّ مقام الإمامة رفيع بدرجة لا يناله إلّااولئك الذين يليقون لهذه (النعمة) العظيمة المنزّهون عن كلّ أنواع الظلم والشرك والكفر والمعصية ، وبعبارة اخرى ، المعصومون.

ولذا يقول الفخر الرازي حين يصل إلى تفسير الآية المذكورة : «هذه الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين :

الأوّل : إنّه قد ثبت أنّ المراد من هذه العصمة : الإمامة ، ولا شكّ أنّ كلّ نبي إمام ، فانّ الإمام هو الذي يؤتمّ به ، والنبي أولى الناس بذلك ، وإذا دلّت الآية على أنّ الإمام لا يكون فاسقاً ،

٦٤

فإنّها تدلّ على أنّ الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى.

الثاني : إنّ التعبير بـ «عهدي» لو كان يشير إلى النبوّة فالقصد منه أن أحداً من الظلمة لا ينال مقام النبوّة ، وأنّ النبي يجب أن يكون معصوماً ، ولو كان يشير إلى الإمامة فدلالة الآية تامّة أيضاً ، لأنّ كلّ نبي إمام نظراً لاقتداء الناس به (في كلّ الامور بلا قيد أو شرط)» (١).

مع أنّ كلام الرازي في تفسير الإمامة لم يف بالمطلوب (كما تقدّم) ، لكن اعترافه الصريح فيما يتعلّق بالدلالة على لزوم عصمة الأنبياء (والأئمّة) ملفت للنظر ، والإشكال الوحيد الذي يمكن إيراده على هذا الاستدلال ، هو أنّ عصمة الأئمّة هي المستوحاة من الآية المذكورة لا الأنبياء (الأئمّة بالمعنى المتقدّم).

لكن هذا الإشكال يمكن ردّه بالقول : إنّ طلب إبراهيم عليه‌السلام مع أنّه يدور حول مقام الإمامة ، فلفظ «العهد» الوارد في جواب الباري جلّت قدرته : (لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) تشمل كلاً من «الإمامة» و «النبوّة» معاً ، لكون كلّ منهما عهداً إلهيّاً لبداهة شموله لهما كيفما فسّرناه ، وموهبة كهذه لا تكون من نصيب الظالمين كما جاء في روح البيان أيضاً : «وفي الآية دليل على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الكبائر قبل البعثة وبعدها» (٢).

* * *

في الآية الثانية يأمر الله تعالى المؤمنين كافّة بالامتثال لأوامر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله واجتناب ما ينهى عنه ، ويحثهم على التقوى لأنّه تعالى شديد العقاب.

(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

التأمّل في الآية يكشف عن أنّ المراد من : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ) ، هو كلّ أوامر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، باعتبار أنّ نواهيه هي الطرف المقابل : (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، ومن هنا فقد صرّح الكثير من المفسّرين بعمومية مفاد الآية (كالطبرسي في مجمع البيان ، أبي الفتوح

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٤ ، ص ٤٨.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ١ ، ص ٣٣٨.

٦٥

الرازي في روح الجنان ، القرطبي في تفسيره ، والفخر الرازي في التفسير الكبير ، بالإضافة إلى العديد من المفسّرين المعروفين أيضاً)؟

وطبقاً لهذه الآية يجب التسليم المطلق في مقابل أوامر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ونواهيه ، ولا يمكن تصوّر التسليم والطاعة بلا قيد أو شرط لشخص غير المعصوم ، إذ مع ارتكاب الخطأ أو المعصية والذنب يجب على المؤمنين تنبيهه على ذلك أو نهيه عنه فضلاً عن حرمة التسليم له.

كما ورد نظير هذا المعنى أيضاً بصيغة اخرى في الآية الثالثة من آيات بحثنا حيث تقول كحكم مطلق : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً).

الملفت للنظر هو ما قاله الفخر الرازي في تفسيره : «إنّ هذه الآية هي من أقوى الأدلّة على عصمة نبي الإسلام في كلّ أوامره ونواهيه ، وبأنّ كلّ ما يقوله هو عن الله تعالى ، لأنّه لو أخطأ في شيء فلن تكون إطاعته إطاعة الله تعالى ، كما يجب أن يكون معصوماً في أفعاله أيضاً ، لأنّ الله تعالى قد أمر باتّباعه» (بشكل مطلق) (١).

* * *

وكذلك فقد جاء نظير هذا المعنى أيضاً بقالب آخر في الآية الرابعة من آيات بحثنا حيث تقول : (فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

من الواضح أن هناك مجالاً للاعتراض أو عدم قبول حكم القاضي إذا قطعنا بخطئه ، فلا يجب الانصياع لحكمه ، في حين أننا يجب أن لا نشك طرفة عين في صوابية أحكام الرسول الاكرم ويجب أن نُسلم تسليماً مطلقاً ونرضى من الأعماق بما يقضي ويحكم به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون أن يساورنا الشك أو يدخل في نفوسنا الحرج ، وما أكّدت عليه الآية أعلاه دليل واضح على معصوميته ، ولذا يصرّح الفخر الرازي في ذيل هذه الآية بأنّها

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٠ ، ص ١٩٣.

٦٦

تدلّ على أنّ الأنبياء عليهم‌السلام معصومون من الخطأ في الفتاوى والأحكام ، لأنّه تعالى أوجب الإنقياد لحكمهم وبالغ في ذلك الوجوب ، وبيّن أنّه لابدّ من حصول ذلك الإنقياد في الظاهر وفي القلب ، وذلك ينفي صدور الخطأ عنهم (١).

صحيح أنّ الآية قد نزلت في تحكيم نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّها توجب إطاعته في كلّ شيء طبقاً للقرائن التي تحفّ بها ، ولذا نقرأ في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «لو أنّ قوماً عبدوا الله ، فأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصاموا شهر رمضان ، وحجّوا البيت ، ثمّ قالوا لشيء صنعه رسول الله ألا صنع خلاف ما صنع أو وجدوا من ذلك حرجاً في أنفسهم لكانوا مشركين! ثمّ تلا هذه الآية ...» (٢).

واضح أنّ هذه الآية لا تختصّ بزمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط ، بل هي قائمة إلى يوم القيامة ، وقد أشار البعض من المفسّرين إلى ذلك أيضاً (٣).

وبناءً على هذا فكلّ من خالف سنّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله القطعيّة وأحكامه ، أو وجد من ذلك حرجاً في نفسه أصبح مصداقاً لهذه الآية.

وبالجملة فالآيات الثلاث السابقة هي بصدد بيان حقيقة واحدة بعبارات شتّى ، ألا وهي ضرورة التسليم المطلق أمام أوامر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحكامه ، ولا يتمّ هذا إلّابالقول بضرورة عصمته.

والغريب هو أنّ بعضاً من مفسّري أهل السنّة قد استدلّ بما جاء في صحيح مسلم أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بقوم يلقّحون (النخل) فقال : «لو لم تفعلوا لصلح ، قال : فخرج شيصاً (لم يثمر) ، فمرّ بهم فقال : ما لنخلكم؟ قالوا : قلت كذا وكذا. قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم» (٤).

ومن هنا فقد قسّم البعض منهم أحاديث النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قسمين : ما يقوله عن الله

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٠ ، ص ١٦٥.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٦٩.

(٣) تفسير روح المعاني ، ج ٥ ، ص ٦٥.

(٤) جاء في صحيح مسلم في هذا الموضوع ثلاثة أحاديث متّفقة مضموناً وبعبارات شتّى ، (صحيح مسلم ، ج ٤ ، الباب ٣٨ ص ١٨٣٥ ، ح ١٣٩ و ١٤١ باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله من معايش الدنيا على سبيل الرأي).

٦٧

تعالى في المسائل الدينية والشرعية ، وما يقول عن نفسه في امور الدنيا ، فهو معصوم في الأوّل دون الثاني!!

لكننا لا نعتقد بصحة مثل هذه الاحاديث مطلقاً لانها من أجلى مصاديق الروايات المخالفة لكتاب الله تعالى ، لأنّ القرآن اعتبر كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحاديثه مقياساً وميزاناً ، واعتبره عين الوحي ، حيث ورد في قوله تعالى : (وَما يَنطِقُ عَنِ الهوى). (النجم / ٣)

فكيف يمكن التصديق بأنّ نبيّاً بكلّ تلك العظمة يدعو الناس إلى شيء من دون علم ، بحيث يكون سبباً لدمار محاصيلهم ثمّ يتنازل عن كلامه هذا ويقول لهم : أنتم أدرى منّي بامور دنياكم ، في حين أنّه وبلا شكّ يعدّ من أعلم وأذكى الناس وله اطّلاع واسع بامور من قبيل تأبير النخل و... بل كيف يمكن لشخص يبدي رأيه رجماً بالغيب (والعياذ بالله) أن يكون رئيساً لحكومة إسلامية بتلك العظمة.

ولهذا السبب لا نستبعد كون مثل هذه الأحاديث من الموضوعات التي دبرها المنافقون وأعداء الإسلام ، وأدخلوها بين طيّات الكتب الإسلامية للحطّ من عظمة ومنزلة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلمه وعقله وتعريضه للشكّ والريبة والاستفهام.

إن عدم نقل هذا الحديث في الكثير من المصادر الإسلامية الاخرى ، يعدّ بنفسه دليلاً على عدم اطمئنان علماء الإسلام بمثل هذه الأحاديث الواهية ، والذي يدعو للعجب هو الاستشهادبها من قبل أشخاص كـ «المراغي» وصاحبـ «المنار» في تفاسيرهم ، في الوقت الذي يُشكلون على الكثير من المسائل الاخرى.

على أيّة حال فتقسيم أقوال وافعال وتقريرات الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قسمين ، يفتح الطريق أمام الذين في نفوسهم مرض ، لتفسير ما يقوم به النبي الأكرم وفي شتّى المجالات الاجتماعية والحياتية والبشرية ، والتشكيك به ، ثم الاستفهام هل هو من القسم الأوّل أو الثاني؟

لذا ـ وكما سيأتي إن شاء الله ـ لو وجد الخطأ والإشتباه طريقه إلى شيء من كلام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما بقي هناك مجال للاعتماد على كافّة أحاديثه ، ولهذا نعتقد نحن بوجوب

٦٨

عصمة الأنبياء والأئمّة من جميع الجهات.

الآية الخامسة تخاطب المسلمين وتقول لهم : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً).

«الاسوة» : لها معنيان : فهي تارة تعني الإصلاح والعلاج ومن هنا قيل للطبيبـ «آسي» ، وتارة تعني «الغمّ والحزن».

يعتقد البعض أنّ هذه المفردة لو كانت «معتلاً واوياً» لكانت بالمعنى الأوّل ، ولو كانت «معتلاً يائياً» ، لكانت بالمعنى الثاني.

كما احتمل أيضاً عودة كلا المعنيين إلى معنى واحد باعتبار أنّ الغمّ والحزن والأسى إنّما يكون على ما فيه الصلاح والعلاج.

على أيّة حال فظاهر معنى الآية الخامسة هو الإقتداء والإقتفاء (باعتبار أنّ الإقتداء بالعظماء يعدّ من أفضل طرق الصلاح).

الملفت للنظر أنّ «الاسوة» كـ «القدوة» لها معنىً مصدري وهو الإقتداء والمتابعة وليس معنىً وصفيّاً كما هو متداول اليوم ، وبعبارة اخرى فالقرآن الكريم لا يقول : النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قدوة لكم ، بل يقول : في وجوده قدوة حسنة (تأمّل جيّداً).

التعبير بـ «لقد» للتأكيد ، وذكر «كان» إشارة إلى حقيقة كون النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قدوة للمسلمين على مرّ الزمن.

مع أنّ المخاطب في هذه الآية (لكم) يشمل كلّ المؤمنين ، لكن جملة : (لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) تفيد أنّ الأشخاص الذين يتّصفون بهذه الأوصاف ، وهي رجاء رحمة الله واليوم الآخر والذكر الكثير لله تعالى ، هم فقط اولئك الذين يتسنّى لهم الاستفادة من هذه القدوة الحسنة.

وبالرغم من أنّ هذه الآية ناظرة إلى استقامة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وشجاعته الخارقة في معركة الأحزاب : ولكن هذا لا يحدّد مفهوم الآية نظراً لإطلاقه وخلوّه من كلّ قيد أو شرط.

* * *

٦٩

الإجابة عن سؤال :

وهنا يتبادر في الذهن هذا السؤال وهو : هل يمكن الإقتداء المطلق بلا قيد أو شرط بمن لا يتمتّع بمقام العصمة؟! والجواب واضح وهو يمثل دليلاً وشاهداً على مسألة العصمة ، إذن فالأمر بالإقتداء هذا خير دليل على حقيقة معصوميته ، وإلّا لما جاز أن يكون قدوة في كلّ شيء ، ولكلّ شخص في أيّ زمان ومكان.

ومن هنا فالآية الآنفة الذكر متّفقة مع الآيات التي تأمر المؤمنين بإطاعة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا قيد أو شرط (الآيات السابقة).

ربّما قيل : إنّ التعبير بـ «الاسوة» قد جاء في القرآن في موضعين آخرين (الممتحنة / ٤ و ٦) وأنّه شامل للمؤمنين الذين كانوا مع نبي عظيم كإبراهيم عليه‌السلام ، بالإضافة إليه ، بالرغم من عدم عصمتهم ، يقول تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ). (الممتحنة / ٤)

لكنّ التدقيق في الآية المذكورة يكشف انحصار الإقتداء والتأسّي هنا في بُعد واحد فقط ، ألا وهو مسألة البراءة من المشركين ، إذ إنّ هناك طائفة من المسلمين في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حديثو عهد لم يستسيغوا التخلي عن أقربائهم ومعارفهم من المشركين بسهولة ، وهنا يقول القرآن : اقتدوا بإبراهيم وأصحابه فعندما أصبحوا موحدين أعلنوا عن استيائهم من المشركين والبراءة منهم.

كما أنّ الآية السادسة من هذه السورة تؤكّد على هذا الموضوع أيضاً ، وبناءً على هذا فالخطاب لم يقصد منه مطلق الإقتداء والتأسّي بأصحاب إبراهيم عليه‌السلام (تأمّل جيّداً).

* * *

والمخاطب في الآية السادسة هم أهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

جاء في مقاييس اللغة أنّ أصلـ «الرجس» هو «الإختلاط» ، ثمّ أطلق على الأشياء النجسة لاختلاطها بشيء آخر.

٧٠

لكن «الراغب» فسّر أصل الرجس في «مفرداته» بمعنى «الشيء القذر» وقال : إنّه يكون على أربعة أوجه : إمّا من حيث الطبع ، وإمّا من جهة العقل ، وإمّا من جهة الشرع ، وإمّا من كلّ ذلك.

وقد ذكر البعض مصاديق أو معانيَ عديدة لـ «لرجس» كالذنب والشرك والحسد والبخل ، والقذارة ، النجس المختلط ، الصديد والجراحة ، الصياح الخارج عن الحدّ المتعارف ، الشكّ ، الكفر ، اللعن ، الرائحة الكريهة وأمثالها.

يبدو أنّ «الرجس» في هذه الآية ونظراً لإطلاقها ، له معنى واسع شامل ، لكلّ أنواع الذنب والشرك والبخل والحسد والفسوق الظاهري والباطني والأخلاق والعادات السيّئة التي تشمئز منها النفوس ، والحقيقة أنّ أهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبإرادة من الله تعالى كانوا مطهّرين من كلّ هذه الامور ، ولا شكّ أنّ هذه الآية تثبت مسألة العصمة في شخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته (أمّا فيما يتعلّق بالمراد من أهل البيت ومن هم؟ فسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله تعالى) ، إنّ إرادته تعالى لابدّ وأن تتحقّق ، وإرادته في إذهاب الرجس عن هذه الاسرة لا يعني سوى «ضمان عصمتهم» مفهوماً ، لبداهة كون الشرك والذنب من أجلى مصاديق الرجس والقذارة ، ولا شكّ أنّ نفي الرجس بشكل مطلق يشمل الذنوب أيضاً.

هل أنّ هذه الإرادة تشريعية أم تكوينية؟ وبعبارة اخرى ، هل أنّ الله تعالى أمر أهل البيت بعدم ارتكاب الذنوب والقبائح ، أم أنّه تعالى أودع الطهارة في نفوسهم؟

بديهي أنّ المراد ليس المعنى الأوّل ، نظراً لعدم انحصار الإرادة التشريعية (التكليف بأداء الواجبات وترك المحرّمات) باسرة النبي فقط ، بل شمولها لكلّ الناس بلا استثناء في اجتناب الذنوب ، في حين أنّ كلمة «إنّما» تدلّ على اختصاص وانحصار هذه الموهبة في أهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (تأمّل جيّداً).

وبناءً على هذا فـ «الإرادة» هنا تنحصر بالإرادة التكوينية ، لكن ليس بذلك المعنى الذي يستلزم القول بالجبر وأنّ أهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مجبرون على العصمة ، لأنّ الأنبياء

٧١

والأئمّة ـ وكما سيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل ـ لا يذنبون مع قدرتهم على ارتكاب الذنب ، حيث إنّ الله تعالى قد منحهم سلسلة من المعارف والمباديء الفطرية التي تدعوهم إلى الطهارة ، بالضبط مثل العاقل الذي تمنعه معرفته ومبادؤه الفطرية من خروجه إلى الزقاق عارياً كما خلقه الله تعالى ، مع بداهة قدرته على ذلك (سيأتي شرح وافٍ لهذا الموضوع في ذيل الآيات).

* * *

من هم أهل البيت؟

مع كون عبارة أهل البيت مطلقة ، لكن المراد منها هم أهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ، واتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين على ذلك.

المهمّ هنا هو مَنِ المراد من أهل البيت عليهم‌السلام ، هل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (هذه الأنوار الخمسة المقدّسة) فقط ، أم زوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وباقي أقربائه أيضاً؟

عموم علماء الشيعة والبعض من علماء السنّة أخذوا بالقول الأوّل ، في حين ذهب الكثير من علماء أهل السنّه إلى القول الثاني (١).

ولأجل الوقوف على حقيقة المراد من أهل البيت في الآية الشريفة ، لابدّ من التأمّل في الروايات الكثيرة المذكورة في ذيل هذه الآية عن الكثير من الصحابة عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله.

١ ـ السيوطي في «الدرّ المنثور» الذي يُعدّ من أشهر كتب أحاديث تفسير القرآن عند أهل السنّة ، ذكر حوالي عشرين حديثاً في ذيل هذه الآية ، جاء في خمسة عشر منها أنّها نزلت في حقّ الخمسة أهل الكساء ، أي : النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، واللطيف هنا هو انتهاء عشر من هذه الروايات الخمس إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) جاء في «في ظلال القرآن» أنّ التعبير بأهل البيت بشكل مطلق إشارة إلى أنّ البيت الحقيقي في العالم هو بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، «مثلما أنّ هذا التعبير قد ورد بشكل مطلق في حقّ بيت الله الحرام في البعض من آيات القرآن» وفي الواقع فانّ هذا التعبير هو نوع تكريم وتعظيم خاصّين لأهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٧٢

وكون رواتها هم امّ سلمة ، أبو سعيد ، عائشة ، سعد ، واصل بن أصقع ، أبو سعيد الخدري ، أنس ، أبو الحمراء. (البعض من هذه الروايات ينتهي سندها إلى امّ سلمة زوجة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله).

في حين أنّ أربعة من هذه الأحاديث فقط تشير إلى أنّ الآيات ناظرة إلى زوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والملفت للنظر هو أنّ أيّاً من هذه الأحاديث الأربعة لا ينتهي سنداً إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل قد نقلت عن ابن عبّاس وعروة وآخرين كما شهدوا على ذلك بأنفسهم ، فضلاً عن رائحة الوضع التي تشمّ منها ، إذ قد ورد في أربعتها أنّ المراد من الآية زوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط! في حين أنّ الخطاب بـ «كم» في جملة (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ) و (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، الوارد بصيغة المذكّر يبيّن أنّ هناك رجالاً مخاطبين في هذه الآية أيضاً ، على خلاف الآيات السابقة النازلة في خصوص نساء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي استعمل فيها «نون النِسوة» ، إذن فالحديث القائل بأنّ المراد هو زوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو خلاف ظاهر القرآن ولا يمكن قبوله.

* * *

٢ ـ هناك العديد من الروايات في باب حديث الكساء بين طيّات المصادر الإسلامية (وخاصّة مصادر أهل السنّة) التي يستخلص منها هذا المعنى وهو أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دعا عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (أو أنّهم حضروا عنده) وغطّاهم بردائه ، وقال طبقاً لرواية عن جعفر الطيّار (ابن عمّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله) اللهمّ لكلّ نبي أهل وإنّ هؤلاء أهلي ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، وفي هذه الأثناء تقدّمت زينب زوجة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : ألا أدخل معكم؟ قال مكانك فإنّك على خير إن شاء الله (١).

__________________

(١) شواهد التنزيل للحسكاني ، ج ٢ ، ص ٣٢ ، ح ٦٧٣.

٧٣

هذا الحديث يصرّح بعدم دخول زوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في آية التطهير.

والأهمّ من هذا هو الحديث الوارد عن عائشة بنفس هذا المعنى والذي تقول في خاتمته : فقلت : يارسول الله ألست من أهلك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّك لعلى خير ، ولم يدخلني معهم» (١).

كما أنّ نفس هذا المعنى جاء في صحيح مسلم ، غاية الأمر أنّ ذيل الحديث الذي يرتبط بطلب عائشة لم يرد فيه (٢).

وورد نفس هذا المعنى في حديث آخر عن «امّ سلمة» وأنّها قالت في ذيله : يارسول الله وأنا معهم؟! قال : إنّك على خير (لكنّك لست منهم) (٣).

ونقلـ «الحاكم» نفس هذا المعنى بصراحة أكبر في «مستدرك الصحيحين» عن امّ سلمة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّك على خير وهؤلاء أهل بيتي» (٤).

حديث امّ سلمة هذا ورد في الكثير من الكتب المعروفة ، من جملتها ما جاء في «صحيح الترمذي» أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما غطّى عليّاً وفاطمة والحسن والحسين بردائه وقال : «اللهمّ! هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، فقالت امّ سلمة : وأنا معهم يانبي الله؟! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت على مكانك وأنت على خير» (وإن لم تكوني في زمرة أهل البيت في هذه الآية) (٥).

هذه التعابير تبيّن بمجموعها وبكلّ وضوح أنّ الآية لم تشمل أيّاً من زوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا «امّ سلمة» ولا «عائشة» ولا سواهما ، والذي يدعو للإستغراب هو إصرار البعض من مفسّري أهل السنّة على شمول هذه الآية لزوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عدم اكتراثهم بكلّ هذه الأحاديث المعروفة المعتبرة.

__________________

(١) شواهد التنزيل للحسكانى ، ج ٢ ، ص ٣٨ ، ح ٦٨٣.

(٢) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٨٨٣ (باب فضائل أهل بيت النبي) ح ٦١.

(٣) ابن الأثير نقل هذا الحديث في اسد الغابة ، ج ٣ ، ص ٤١٣.

(٤) مستدرك الصحيحين ، ج ٢ ، ص ٤١٦ (ط. حيدر آباد دكن) نقلاً عن إحقاق الحقّ ، ج ٣ ، ص ٥١٨.

(٥) صحيح الترمذي ، ج ٥ ، كتاب تفسير القرآن ، الباب ٣٤ ، ص ٣٥١ ، ح ٣٢٠.

٧٤

والعجيب من الفخر الرازي المعروف بشروحه وتفصيلاته الوافية ودقّة ملاحظاته عند تناول آيات القرآن ، هو مروره مرّ الكرام على هذه الآية التي يطول فيها الحديث من كافّة الأبعاد ، وتفسيره لها لفظيّاً بسطرين أو ثلاثة لا غير؟!

لماذا يبتلى عالم بمثل هذا التعصّب الذي يغلق عليه أبواب الحقيقة مع ما تميّز به من قابلية واطّلاع واسع؟!

* * *

٣ ـ الملاحظة الاخرى هي أنّه : قد جاء في الكثير من الأحاديث ، والتي اشير إلى البعض منها فيما تقدّم أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد نزول هذه الآية كان ينادي لمدّة أربعين يوماً أو ستّة أشهر أو ثمانية أشهر أو أكثر من ذلك عند صلاة الفجر ، أو كلّ الصلوات أو حين مروره ببيت فاطمة الزهراء عليها‌السلام : الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ، وجاء في البعض منها أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت إنّما يريد الله ...» (١).

التفاوت الملحوظ في هذه الروايات من الناحية الزمنية لا أهميّة له أصلاً ، إذ من الممكن أنّ «أنساً» قد شهد هذا الموقف ستّة أشهر ، وأبا سعيد الخدري ثمانية أشهر وغيرهما أكثر أو أقل ، إذ في الواقع كلّ يذكر المدّة التي شهدها هو بنفسه دون أن ينفي ما زاد عليها.

ولكن على أيّة حال فهذه الرواية دليل واضح جدّاً على أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يريد بيان هذه الحقيقة لعموم المسلمين وترسيخها في أذهانهم ، وهي أنّ هذه الأسرة فقط دون سواها هي أهل بيته في هذه الآية.

وإلقاؤه الرداء على هؤلاء النفر من أهل بيته وتشخيصه لهم به ، وحجب الآخرين حتّى

__________________

(١) جاء هذا الحديث في شواهد التنزيل عن أنس بن مالك ، ج ٢ ، ص ١١ ، وعن أبو سعيد الخدري في نفس الجزء ، ص ٢٨ و ٢٩ ، وفي الدرّ المنثور في ذيل الآية مورد البحث عن ابن عبّاس وأبو الحمراء.

٧٥

زوجاته من الدخول تحته إنّما هو لبيان أنّ مصاديق هذه الآية هم أهل الكساء فقط.

نحن لا ندري لو أنّ أحداً أراد تمييز أفراد معدودين من بين جمع كثير ، ومخاطبتهم ، بحيث لا يعترض عليه أهل الشبهات والحجج ، ماذا ينبغي له أن يفعل؟ ألا يكفي لهذا الغرض إلقاء الرداء عليهم ، أو مخاطبتهم عند المرور بالقرب من منازلهم لشهور متوالية!

ألا يثير الدهشة والعجب إهمال البعض لهذه الحقائق ، والإصرار على توسيع دائرة تلك الفضيلة المهمّة المحدودة بالخمسة أهل الكساء لتشمل غيرهم؟

والملفت للنظر أنّ الحاكم الحسكاني من علماء أهل السنّة المعروفين ، قد ذكر أكثر من مائة وثلاثين حديثاً! حول هذا الموضوع.

و «السيّد علوي بن ظاهر الحضرمي» يقول في كتابـ «القول الفصل» : «حديث آية التطهير هو من الأحاديث المشهورة المتواترة التي تقبّلتها الامّة الإسلامية .. واعترف بصحّته سبعة عشر من كبار حفّاظ الحديث» (١).

آخر ما يتعلّق بهذا الموضوع ، هو أنّ الكثير من الروايات الواردة بهذا الشأن مذكورة في كتابـ «فضائل الخمسة من الصحاح الستّة» عن صحيح مسلم ، صحيح الترمذي ، تفسير الطبري ، مستدرك الصحيحين ، مسند الإمام أحمد ، خصائص النسائي ، تاريخ بغداد ، مسند أبي داود ، اسد الغابة ، وكتب اخرى يمكن الرجوع إليها لمزيد من الإطّلاع والتعمّق ولإمكانية الحكم بشأنها بشكل أفضل (٢).

* * *

في الآية السابعة نطالع تعبيراً آخر يشير هو الآخر إلى مسألة عصمة الأنبياء أيضاً ، وذلك حينما طرد الشيطان من رحمة الله تعالى (وبدأت عداوته مع الإنسان) ، إذ يقول : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ).

__________________

(١) هذه الأحاديث ذكرها في القول الفصل ، ج ٢ ، ص ١٠ إلى ٩٢ ، (ص ٨٢) فراجعها.

(٢) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة ، ج ١ ، ص ٢٧٠ إلى ٢٨٩.

٧٦

هذا التعبير لا ينحصر بالآية المذكورة ، بل قد ورد نفس هذا المعنى أيضاً بتفاوت ضئيل : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ). (الحجر / ٣٩ ـ ٤٠)

* * *

وفي الآية الثامنة نرى هذا المعنى أيضاً بشكل آخر حيث يحكي تعالى عن فريق من الأنبياء الكبار : (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ).

وكما قلنا في خصائص الأنبياء عليهم‌السلام فـ «المخلص» (بكسر اللام) هو الذي يسعى لتصفية قلبه وهي المرحلة الرفيعة من التقوى وطهارة القلب والمرحلة الأرفع والأسمى منها هي «المخلص» (بفتح اللام) وهو يختصّ باولئك الذين طهّرهم الله تعالى من كلّ الشوائب والقبائح ، نتيجة سعيهم المتواصل لتهذيب أنفسهم ، ولهذا يرتبطون بالله تعالى بكلّ وجودهم ، وبديهي أنّ الشيطان لا يجد إلى نفوسهم طريقاً أبداً ، إذ لا مكان لغير الله في قلوبهم ولذا لا يفكّرون بمن سواه ولا يتمنّون غير رضاه.

ومن المسلّم أنّ صفة كهذه ملازمة لمرتبة العصمة ، وذلك لخروجهم عن دائرة طاعة الشيطان ، وبالشكل الذي جعله لا يفكّر في صرفهم أبداً ، كما أنّهم خالصون لله تعالى من ناحية الصفات النفسانية والميول والرغبات ، ولهذا السبب لا تدنّسهم الخطيئة ولا يتّبعون الهوى.

ومن البديهي أنّ استثناء الشيطان للانبياء من بين بني آدم ، وعدم السعي لإغوائهم ، ليس لاحترام خاصّ يكنّه لهم باعتبارهم مخلصين ، بل ليأسه وقنوطه ويقينه بعجزه عن الوسوسة لهم.

وبالرغم من أنّ الآيات الآنفة الذكر لا تشير صراحة إلى الأنبياء أو الأئمّة المعصومين ، لكن لفظة «المخلصين» وكيفما فسّرناها تخصّ الأنبياء وأوصياءهم ، لعدم وجود أفضل منهم من بين عباد الله ، والملفت للنظر أنّ هذا التأييد الإلهي المانع من ارتكاب المعصية وهو السبب في العصمة ، والذي يدور حول محور الإخلاص متجسّد في قصّة يوسف أيضاً ، يقول

٧٧

تعالى : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ). (يوسف / ٢٤)

هذا التعبير يبيّن أنّ من يكون «مخلصاً» يتخلّص من ثورة هوى النفس وطغيانه ، والوساوس الشيطانية ببركة الإمدادات الغيبية ، وجملة (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ) هي من قبيل القياس منصوص العلّة ، الذي يضفي العمومية على مفهوم الآية.

مفهوم عصمة الأنبياء في ظلّ الإخلاص يتّضح من خلال مقاومة يوسف عليه‌السلام ، مع كونه شاباً أعزباً ، وصموده أمام أمواج الخطيئة المتلاطمة التي أحاطت بزورق وجوده من كلّ حدبٍ وصوب ، وفي ظروف حسّاسة تفوق المتعارف أمام الوساوس الكثيرة ، التي أثارتها تلك المرأة الجذّابة ، ولذا نجد أنّ لأقطاب المفسّرين عبارات تشير إلى مقام عصمة الأنبياء في ذيل الآيات المذكورة (١).

وفي الآية التاسعة خوطب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن الحديث عن الأنبياء السابقين ، كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ، وفريق آخر من الأنبياء الكبار بقوله تعالى : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (٢).

الملفت للنظر أنّها تأمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإقتداء بهدايتهم بلا قيد أو شرط! ، فهل يعقل عدم حصول اولئك الأنبياء عليهم‌السلام على مقام العصمة ثمّ يؤمر نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإقتداء بهم بلا قيد أو شرط؟

وبعبارة اخرى : في الآية أعلاه تمّ التأكيد أوّلاً على الهداية الإلهيّة لهم ، ثمّ تمّ التفريع على ذلك بالقول : الآن وبعد أن شملتهم الهداية الإلهيّة اقتد بهداهم (تأمّل جيّداً).

ومن المسلّم أنّ المراد ، بالهداية الإلهيّة هنا ليس رسم الطريق فحسب ، لعدم اختصاصه بالأنبياء فقط بل لشموله لكلّ الناس حتّى الكفّار ، وعليه فالهداية المذكورة هي نفس معنى الإيصال إلى المطلوب (وبلوغ المقصود) بعيداً عن أي خطأ وانحراف واشتباه ومعصية.

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان للطبرسي ؛ تفسير جامع البيان للشيخ الطوسي ؛ وتفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي ؛ تفسير روح البيان للقرطبي ؛ وتفسير في ظلال القرآن لسيّد قطب في ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) يجب ألّا يفوتنا أنّ «الهاء» في لفظة «اقتده» ليست ضميراً بل هاء السكتة التي تلحق الكلام عند الوقوف على الحرف المتحرّك.

٧٨

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير «الميزان» : إنّ هذه الآية خاصّة بالمعصومين.

بديهي أنّ المراد بهداية الأنبياء هي تلك الاصول والمعارف التي بلغوها بأنفسهم ، مضافاً إلى اصول تعليماتهم العبادية والسياسية والأخلاقية والتربوية ، ولا منافاة لهذا مع نسخ قسم من تفاصيل أحكام شريعتهم ، كما أنّ تفسيرهم للهداية بمعنى الإيمان أو الصبر وأمثالهما إنّما هو لاقتناعهم بما ذكره البعض من المصاديق.

واعتقاد البعض بأنّ الآية منسوخة ليس في محلّه ، يقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (المائدة / ٤٨)

وهذه لأنّ هداية الأنبياء التي تشكّل الاصول العامّة لتعاليمهم غير قابلة للتغيير ، ولا تتأثّر بالتغيّرات الجزئية للشرائع الناتجة عن الظروف الزمانية والمكانية ، ولذا يقول القرآن على لسان المؤمنين الحقيقيين : (لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). (البقرة / ٢٨٥)

وخلاصة الكلام هي : أنّ الإقتداء بهُدى الأنبياء السابقين هو نوع من «التحقيق» لا «التقليد» كما يراه البعض ، لأنّ التحقيق هو قبول الشيء بالدليل ، ومقام عصمة الأنبياء وصدقهم هو بمثابة الدليل على حقّانية ما يقولونه ، ولذا فاستنباط صفات الله تعالى أو تفصيلات المعاد من القرآن ، هو في الحقيقة نوع من التحقيق لا التقليد ، وذلك لعدم انحصار الدليل بالعقل ، بل هناك الدليل النقلي الثابت عن طريق الوحي والمقبول كالدليل العقلي (تأمّل جيّداً).

* * *

الآية العاشرة من آيات البحث إشارة إلى شخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى).

يستفاد من هذا التعبير بكلّ وضوح أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكذب ولا يخطأ في كلامه أبداً ، ولا سبيل للضلال والإنحراف إليه : «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى».

٧٩

ولذا ـ وعلى حدّ قول بعض المفسّرين ـ يستفاد من هذه الآيات بما لا يدع مجالاً للشكّ ، أنّ سنّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي كـ «الوحي المنزل» (١).

امّا إلى ماذا يعود الضمير «هو» في جملة «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى»؟ الظاهر أنّه يعود على «النطق» المستفاد من جملة «ومَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى» ، أي أنّ «كلامه وحي إلهي» ، سواء أكان هذا الكلام آيات قرآنية أم أحكام ومواعظ وحكم ، وأمثال ذلك ، فكلّها تتمتّع بجذور إلهيّة.

وكما يستفاد من الآيات أعلاه أنّ المصدر الرئيسي للضلال والانحراف هو اتّباع هوى النفس ، وأنّ من يسيطر على هوى نفسه بشكل تامّ لا يعصي الله تعالى ، لأنّ تقواه تحفّظه من الإنحراف لاقترانها بوضوح الرؤية في كافّة المراحل ، وحين بلوغ المرحلة السامية ، يصل وضوح الرؤية بدوره إلى مرحلة الكمال أيضاً ، وبناءً على هذا لا يرتكب ذنباً ولا خطيئة (تأمّل جيّداً).

ثمرة البحث :

ممّا لاشك فيه أن الآيات السابقة لا تتماثل ولا تتشابه في بيان كيفيّة وأبعاد عصمة الأنبياء ، فبعضها يعتبرها عصمة من الذنب أو الصيانة من الخطأ فقط ، والآخر يعتبرها عموميّة وشموليّة لكلّ الامور ، والبعض تحدثت عن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والبعض الآخر عن الأنبياء السابقين ، بعضها وصفت العصمة بعصمة القول ، بينما البعض الآخر اعتبرتها شاملة للفعل أيضاً.

لكنّ مجموع هذه الآيات يثبت هذه الحقيقة ، وهي : أنّ الأنبياء منزّهون معصومون من أي ذنب أو خطأ ، كما أنّ عصمة أهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الثابتة بالآيات المذكورة ، هي ممّا لا يخفى وهو ما كنّا بصدده.

* * *

__________________

(١) يقول القرطبي في تفسيره ، ج ٩ ، ص ٦٢٥٥ وفيها أيضاً دلالة على أنّ السنّة كالوحي المنزل في العمل.

٨٠