نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

اللطيف هو أنّ الله أشار في هذه الآية إلى العفو أوّلاً ثمّ يأتي العتاب ، لكن البعض من المغفّلين تناول هذا الموضوع بشكل مسيء حتّى اعتبر الآية دليلاً على صدور الذنوب من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون الإلتفات إلى لطف هذا البيان الإلهي الذي أشرنا إليه! من جملتهم «الزمخشري» في «الكشّاف» حيث قال في تفسير هذه الآية : «جملة عفا الله عنك كناية عن الجناية لأنّ العفو مرادف لها ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت» (١).

لكنّه لو تأمّل أكثر في محتوى الآية وصدرها وذيلها ، والتعابير الواردة فيها لأدرك أنّ كلمة العفو والعتاب إنّما هي في الحقيقة لبيان سوء معاملة المنافقين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتوجيه الكلام إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو نوع من التعبير الكنائي اللطيف لبيان واقعة خطيرة.

وتوضيح ذلك : يخاطب الإنسان أحياناً أحد أصدقائه ويعاتبه لأنّه لم يَدَع الشخصَ الفلانيَّ يُفتَضَح وتُبيّن حقيقتُه للناس! في حين أنّ هذا العتاب والخطاب يعدّ مقدّمة لانتقاد شخص ثالث في حقيقة الأمر.

ويمكن توضيح هذا الموضوع بضرب مثال بسيط : لو فرضنا أنّ أحداً أراد أن يوجه صفعة إلى إبنك البريء ، فمنعه أحد أصدقائك ، فمع انّك لم تنزعج من تصرف صديقك بطبيعة الحال ، لكن أحياناً ولغرض إثبات سوء سريرة ذلك الشخص ، تلتفت إلى صديقك وتقول له معاتباً : لماذا لم تدعه يصفع إبني حتّى يتعرّف الناس على قساوة قلبه ، هذا الخطاب الذي هو على صيغة العتاب والملامة ، هو في الواقع كناية بليغة عن قساوة ذلك الظالم.

جاء في بعض التعابير الواردة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في تفسير هذه الآية : هذا ممّا نزلـ «اياك اعنى واسمعى ياجارة» خاطب الله تعالى بذلك نبيه ، واراد به امته(٢).

يحتمل أن يكون هذا الكلام إشارة إلى نفس ذلك المطلب المتقدّم أعلاه ، والدليل على هذا الأمر هو الصلاحية التي اعطيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات القرآنية الأخرى ، وذلك بالسماح لمن شاء من المؤمنين بالتفرّغ لمشاغلهم الشخصية ، وعدم الإشتراك في بعض

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، ج ٢ ، ص ٢٧٤.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٣٠ ، ح ١.

١٢١

الأعمال الهامّة ، فيما لو طلبوا ذلك وكان فيه صلاح : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ). (النور / ٦٢)

وبناءً على هذا فلا مانع من سماح النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لبعض المنافقين بعدم الإشتراك في المعركة ، خصوصاً وأنّ إشتراكهم لن يحلّ للمسلمين أيّة مشكلة ، هذا إن لم يخلق لهم مزيداً من المتاعب.

من مجموع هذه الإعتبارات يمكن إدراك أنّ التفسير الأخير يناسب الآية المتقدّمة ، إذ لا وجود لما يخدش مقام العصمة فيها.

* * *

ج) الآية الأخرى التي نزلت في مسألة زواج نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله من مطلّقة إبنه بالتبنّي (زيد) ، أثارت استفهاماً لدى البعض أيضاً.

هذه الآية تقول بصراحة : كلّما حدث خلاف بين زيد وزوجته ، كان النبي يحثّ زيداً على عدم طلاقها ، ويكرّر عليه ذلك ، ولكن حينما لم تؤثّر هذه التوصيات ، وطلّق زيد زوجته تزوّجها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليحطّم تلك العادة الجاهلية البغيضة التي كانت تعتبر زوجة (الإبن بالتبنّي) حراماً على الإنسان ، كزوجة الإبن الحقيقي ، هذا من جهة.

وليعيد من جهة أخرى إلى (زينب) حيثيتها واعتبارها ، لأنّها حفيدة عبدالمطلّب وابنة عمّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أُسرة معروفة ، وكانت قد تزوّجت زيداً العبد المعتق امتثالاً لأمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، ومن المسلّم أنّ زواجاً كهذا كان صعباً عليها وكان هذا الفراق أصعب. (تأمّل جيّداً).

وهنا يقول القرآن : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لَايَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً). (الأحزاب / ٣٧)

١٢٢

وهنا فُسِحَ المجال لبعض المغفّلين وأحياناً المغرضين لنسج مجموعة من الأساطير الكاذبة ، وفرضها على القرآن ونسبتها إلى نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

المهمّ لدينا هنا وما ينبغي توضيحه جملتان وردتا في الآية السابقة ، وإلّا فالأساطير الخرافية التي لا أثرلها في القرآن ، ليست شيئاً يستحقّ التحقيق فيه والردّ عليه.

جاء في إحدى الجمل : (وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ).

كما نقرأ في الجملة الثانية : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ).

ألا تتنافى هاتان الجملتان مع مقام عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

مفهوم الجملة الاولى يبدو مبهماً ، لكن الذين يحوكون الأساطير ربطوا بها مطالب كثيرة ، وقدّموها كلقمة سائغة لأعداء الإسلام حتّى يتّهموا النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (والعياذ بالله) بعشقه لزوجة زيد.

في حين أنّ نفس الآية تكذب هذا الإدّعاء ، إذ تقول : إنّك أوصيت زيداً مراراً بعدم طلاق زوجته (لا يفوتك أنّ جملة «إذ تقول» هي بصيغة المضارع الدالّ على الإستمرار) ، ولو كانت المسألة كما توهّمها الأعداء لوافق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على الطلاق بكلّ رحابة صدر ، أو لاختار السكوت على أقلّ تقدير ، فكيف يعقل أن ينهاه عن ذلك والحالة هذه.

امّا فيما يتعلّق بالجملة الثانية فقد قالوا : بأيّ دليل يخاف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من الناس ، والله أحقّ أن يخافه ويخشاه؟

بالرغم من الإحتمالات الكثيرة التي اعطيت لتفسير هذه الآية ، خصوصاً هاتين الجملتين ، حتّى أنّ بعض المفسّرين المعروفين تورّط في الإشتباه ، فمجرّد إمعان النظر في متن نفس الآية (خصوصاً الجمل السابقة واللاحقة لهاتين الجملتين) يُدرك المرء وضوح وجلاء مفهوم الآية ، امّا لو لوحظت لوحدها مجرّدة عمّا يحيط بها فما أكثر الإبهامات التي ستحفّ بها.

__________________

(١) لمن أراد مزيداً من الإطلاع على هذه القصص الموضوعة ونقدها ، الرجوع إلى التفسير الأمثل ، ذيل الآية مورد البحث.

١٢٣

لو أخذنا الآية جملة جملة ، وفسّرناها لكان معناها كما يلي أنعم الله بالإيمان على «زيد» ابن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتبنّي (الذي كان سابقاً عبداً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أعتقه ، وتبناه لذكائه ودرايته) ، كما أنعم عليه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أعتقه واعتبره كولده ، وزَوَّجه ابنة عمّته التي كانت لها شخصيّة مرموقة في المجتمع ، هذا هو مفهوم جملة (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ).

كما يستفاد من الجملة الثانية وقوع سوء التفاهم بين زيد وزوجته حتّى جال في ذهنه طلاقها ، وأنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحثّه على عدم الطلاق ، ويدعوه للورع والتقوى : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ).

كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هنا أمام محذورين : فهو من جهة يفكر في أنّه لو انتهى الأمر بالطلاق لوجب عليه أن يتزوّجها ، لِينهي كلم الناس السيّ الذي سيلحق بإبنة عمّته زينب ، باعتبار أنّ العبد المعتق أيضاً لم يرض بها فطلّقها ، ومن جهة أخرى كان يخشى الناس خصوصاً المنافقين ، الذين كانوا يتربّصون به الدوائر والذرائع ليعيروه بهذا الأمر من جهتين :

الاولى : تجاوزه لاحدى عادات عرب الجاهلية المتأصّلة ، والتي كانت تعتبر زوجة الإبن بالتبنّي كزوجة الإبن الحقيقي وأنّ الزواج منها هو كالزواج من تلك.

الثاني : إعتقادهم بأنّ الزواج من مطلّقة العبد المعتق هو دون شأن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه انتقاص من مكانته.

لكن شاء الله أن يتحقّق هذا الزواج بعد ذلك الفراق؟ وأن تتحطّم تلك العادة السيّئة ، كما جاء في ذيل الآية : (لِكَىْ لَايَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً).

وبناءً على هذا ، فالذي كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يخفيه في قلبه ، وأعلنه الله في خاتمة المطاف هو الزواج من زوجة زيد في حالة إصراره على طلاقها.

والذي كان يخشاه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ردّ الفعل نتيجة لقضائه على احدى عادات الجاهلية ، كذلك زواجه من امرأة دون شأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستمرّ خوفه ما دام الأمر الإلهي القطعي

١٢٤

لم يصدر بحقّه ، لكن بعد صدوره بلزوم زواجه منها وتحطيمه لكلتا العادتين الخاطئتين ، بل حتّى أنّ صيغة عقد زواجه أجراها الله تعالى كما في متن الآية : (زَوَّجْنَاكَهَا) ، لم يبق هناك بعد ذلك أي مجال لخوفه وتردّده بالنسبة لهذه المسألة.

اللطيف هو التأكيد على هذه المسألة في الآية التي بعدها أيضاً : قال تعالى : (مَا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيَما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).

هذه الآية تشير بصراحة إلى أن ما قام به النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هنا ، كان فريضة إلهية وسنّة كانت في الأوّلين أيضاً ، وأمراً إلهيّاً مقدّراً ينبغي وقوعه.

بديهي أنّ هذه المسألة لو كانت نابعة عن رغبة شخصية ، لما كان لهذه التعابير النازلة بشأنها أي معنى يذكر ، لكن لا الأعداء المغرضون يصغون لمثل هذه الحقائق ، ولا البعض من رواة القصص المغفّلين الذين يرجّحون الأساطير المفتعلة الصاخبة في مثل هذه الحوادث على الحقائق.

لكن ولحسن الحظّ فانّ تعابير القرآن هنا كافية وواضحة جدّاً ، والملفت للنظر هو ما نقرأه في حديث نقله «القرطبي» المفسّر المعروف من أهل السنّة عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام حيث يقول : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أوحى الله تعالى إليه أنّ زيداً يطلّق زينب ، ويتزوّجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا اشتكى زيد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خُلُق زينب ، وأنّها لا تطيعه ، وأعلن أنّه يريد طلاقها ، قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على جهة الأدب والوصيّة : (اتّق الله في قولك وأمسك عليك زوجك) ، وهو يعلم أنّه سيفارقها ويتزوّجها ، وهذا هو الذي أخفى في نفسه ، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنّه سيتزوّجها ، وخشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يلحقه قول من الناس في أنّ يتزوّج زينب بعد زيد ، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها ، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن يخشى الناس لشيء قد أباحه الله له ، بأن قال (أمسك) مع علمه بأنّه يطلّق ، واعلمه أنّ الله أحقّ بالخشية أي في كلّ حال».

ثمّ يضيف (القرطبي) قائلاً : «قال علماؤنا رحمة الله عليهم وهذا القول أحسن ما قيل في

١٢٥

تأويل هذه الآية ، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسّرين والعلماء الراسخين».

ثمّ يتابع كلامه هذا قائلاً : «يقول الترمذي في نوادر الوصول (وضمن الإشارة إلى هذا الحديث) بأنّ علي بن الحسين قد جاء بهذا من خزانة العلم جوهراً من الجواهر ودرّاً ثميناً من الدرر ...» (١).

د) الآية الأخرى التي تثير الاستفهام حول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي قوله تعالى : (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). (الانعام / ٦٨)

السؤال هو : لو تمكّن الشيطان من النفوذ إلى روح النبي الطاهرة وأنساه الحكم الإلهي بعدم مجالسة أهل الباطل ، فكيف يمكن أن يكون معصوماً من الخطأ؟ وبعبارة أخرى أنّه يفتقد أحد فرعي «العصمة» وهو الصون من السهو والخطأ والنسيان ، ألا تخدش الآية أعلاه في عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

* * *

الجواب :

التأمّل في الآية التي تليها يبيّن بكلّ وضوح أنّ الحديث وإن كان حسب الظاهر موجّهاً إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّ المراد في الواقع هو أصحابه ، وأنّهم لو ابتلوا بالنسيان وشاركوا في المجالس الملوثة بالذنوب ، واستهزأ الكفّار بمقدساتهم فيجب عليهم ترك ومغادرة ذلك المكان فوراً ، وذلك لكي يلتفتوا إلى أنفسهم ، وهذا في الحقيقة من قبيل المثل العربي المعروف : «ايَّاكَ اعْنِى وَاسْمَعِى يَاجَارَةٌ».

إذ انّنا نقرأ في الآية التي تليها : (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَىْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). (الأنعام / ٦٩)

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٢٧٢ ، ذيل الآيات مورد البحث.

١٢٦

وكما نلاحظ فالكلام في هذه الآية يخصّ المتّقين ، والمقصود منه عامّة المسلمين لا شخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الآية تكمل بحث الآية السابقة عليها.

نظير هذه الأبحاث يشاهد في الكثير من الحوارات اليومية أيضاً وفي آداب مختلف اللغات ، والتي توجّه الكلام إلى شخص معيّن وتقصد شخصاً غيره.

من جملتها ما نشاهده في القرآن الكريم وذلك عند التوصية في حقّ الأبوين : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً). (الاسراء / ٢٣)

واضح أنّ الضمير في «ربّك» يعودإلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حين أنّ خطابـ «ألّا تعبدوا» موجّه إلى كافّة المؤمنين (لوروده بصيغة الجمع) ، ثمّ أنّه في جملة : «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ» ، وإلى آخر الآية ، فالضمائر كلّها مفردة والمخاطب فيها هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع علمنا بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد فقد أبويه لسنين طويلة قبل النبوّة ، وبناءً على هذا فمثل هذه الأوامر حول احترام الأبوين التي تخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هي من قبيل المتقدّم : «ايَّاكَ اعْنِي وَاسْمَعِي يَاجَارَة».

وما ذهب إليه جمع من مفسّري أهل السنّة ، من عدم المانع من كون النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المخاطب في الآية مورد البحث ، وجواز مثل هذا النسيان في حقّه ، لا يبدو صحيحاً ، حيث إنّ مورد آية النسيان هو أحكام الله تعالى ، وهل يصحّ أن ينسى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الأحكام الإلهيّة ، وأي اعتماد واطمئنان بعد ذلك في كلامه عن الوحي الذي هو أساس دعوته والحالة هذه؟!

ه) البعض من آيات سورة «الضحى» هي من جملة الآيات التي تدعونا ، نحن الذين نعتقد بلزوم عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ ولادته ، للإستفسار ، يقول تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى). (الضحى / ٦ ـ ٨) للمفسّرين آراء مختلفة حول تفسير هذه الآية وبيان محتواها : فالقليل منهم فسّر الآية بمعنى الكفر والضلال ، بل حتّى أنّ بعض المفسّرين الغافلين الذين يجهلون أدلّة العصمة

١٢٧

قالوا : إنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على دين قومه (الوثنية) أربعين سنة إلى أن هداه الله.

لكن كلّ مفسّري «الشيعة» وجمهور مفسّري «السنّة» (كما اعترف بذلك الفخر الرازي) لم يقبلوا مثل هذا التفسير ، بل متّفقون بالجملة على أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكفر طوال عمره ، ولو لحظة واحدة ولم يشرك أبداً.

ولهؤلاء المفسّرين آراء عديدة حول تفسير الآية وقد بلغ عددها عشرين تفسيراً ، جمعها الفخر الرازي في ذيل الآية مورد البحث ، ومن التفاسير التي تلفت النظر وتتسق مع مضمون الآية وسائر آيات القرآن هي التفاسير التالية :

١ ـ مع الإلتفات إلى الآيتين السابقة واللاحقة لها واللتين تشيران إلى فترة طفولته صلى‌الله‌عليه‌وآله وشبابه ، أي الإشارة إلى أنّك أيّها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تعرضت للضياع في تلك الفترة (مراراً) وتعرّضت حياتك للخطر (تارةً حينما جاءت بك امّك من مرضعتكـ «حليمة السعدية» وذلك بعد انقضاء فترة رضاعك إلى مكّة لتسلّمك إلى عبدالمطلّب فضعت في الوادي ، وتارةً أخرى بين أودية مكّة حين كنت في كفالة عبدالمطلّب ، وثالثة حينما كنت متّجهاً مع عمّك أبي طالب في قافلة إلى الشام ، إذ ضللت الطريق في ليلة حالكة الظلام ، وانقطع عنك رفاق طريقك) ، فهداك الله في كلّ هذه الموارد وأعادك إلى أحضان جدّك أو عمّك الحنونين.

الدليل على هذا التفسير هو إشارة الآية التي سبقتها إلى مسألة يُتم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واللاحقة لها المشيرة إلى فقره المادّي ، «الضلالة» و «الهداية» اللتين توسطتا هاتين الآيتين ، هما تلك الهداية والضلالة الماديّة والجسمية ، وإلّا فثبوت الهداية المعنوية بين هذين الأمرين المادّيين لا يبدو مناسباً كثيراً (تأمّل جيّداً).

٢ ـ المراد من الضلالة والهداية هو الإطّلاع وعدمه ، على الأسرار النبوية وقوانين الإسلام ومعارف القرآن ، أي أنّك لم تكن مطّلعاً أبداً على هذه الامور ، بل قذف الله هذا النور في قلبك لتهدي به الناس.

الدليل على هذا الإدّعاء هو آيات أخرى من القرآن ، من جملتها الآية التي تقول : (مَا

١٢٨

كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا). (الشورى / ٥٢)

بديهي أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبل بلوغه لمقام النبوّة والرسالة كان يفتقر إلى هذا الفيض الإلهي ، أي مقام الرسالة والمعارف القرآنية رغم كونه موحّداً ، فأخذ الله بيده وهداه وبلغ به هذا المقام.

التعبير (نَهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) في هذه الآية يبيّن أنّ المراد من الهداية هنا هو نفس الهداية إلى الإسلام.

ونقرأ في ثالث آية من سورة يوسف أيضاً :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).

مع أنّ هذا التفسير قد أعطى الهداية والضلالة مفهومهما المعنوي الذي يتفاوت وكما قلنا مع الآية السابقة واللاحقة عليهما ، لكنّه يعدّ قرينة لما ذكرنا مع الأخذ بنظر الاعتبار بأنّ الْقُرآن يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضَاً ، التفاتاً إلى الآيات الأخرى.

٣ ـ المراد من «الضالّ» هنا هو «الضياع بين قومه وأهله من الناحية الشخصية» وذلك كما نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «وَوَجَدَكَ ضَالّاً ، أي ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك» (١).

وتفسير هذا المعنى جاء بتعبير آخر في تفسير نور الثقلين عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام (٢).

إطلاق لفظة «الضالّ» و «الضالّة» على هذا المعنى شيء طبيعي ، كما جاء في الحديث : «الحكمة ضالّة المؤمن» (٣).

إذن فهناك تفاسير مقبولة عديدة لهذه الآية لا تتنافى ومقام العصمة.

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٠٦.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٩٦.

(٣) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٨٠.

١٢٩

١٠ ـ الأنبياء السابقون بشكل عامّ

هناك تعبير في القرآن الكريم حول عامّة الأنبياء يثير الاستفهام حول مسألة العصمة ، وذلك حينما يقول تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِىٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (الحجّ / ٥٢)

وهنا ربّما يطرح هذا السؤال ، وهو أنّه كيف يكون الأنبياء معصومين في حين أنّ قلوبهم ـ طبقاً للآية أعلاه ـ معرّضة للإغواء الشيطاني؟!

* * *

اسطورتا الآيات الشيطانية والغرانيق :

ذكروا حول هذا الموضوع قصّة عرفت بـ «قصّة الغرانيق» ، هذه القصّة تقول : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشغولاً بقراءة سورة «النجم» أمام المشركين ، فوصل إلى هذه الآية : (أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) وفي هذه الأثناء أجرى الشيطان على لسانه هاتين الجملتين : (تِلْكَ الْغَرانِيْقُ الْعُلى وَانَّ شَفاعَتُهُنَّ لَتُرْتَجى) (١) فابتهج المشركون لسماعهم هاتين الجملتين ، وقالوا : لم يذكر «محمّد» آلهتنا بخير إلى الآن أبداً ، فسجد النبي وسجدوا معه أيضاً في تلك الحال ، بعد ذلك تفرّق مشركو قريش فرحين ، فلم يمض وقت حتّى نزل جبرائيل وأخبر النبي قائلاً : إنّي لم آتِك بهاتين الجملتين أبداً! ، إنّه من القاء الشيطان!! ونزل بالآية : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِىٍّ ...) كما حذّر النبي والمؤمنين أيضاً من هذا الشيء (٢).

مع هذا الحديث تكون عصمة الأنبياء حتّى في تلقّي الوحي ، معرّضة للخطر والإعتماد عليها غير ثابت.

__________________

(١) «الغرانيق» جمع «غرنوق» نوع من الطيور المائية البيضاء أو السوداء اللون ... كما جاءت بمعاني أخرى أيضاً (نقلاً عن قاموس اللغة).

(٢) ذكر معظم المفسّرون هذا الحديث بتفاوت ضئيل وانتقدوه.

١٣٠

الجواب :

في البداية يجب فصل نصّ الآية عن الروايات الموضوعة التي حيكت حولها ولننظر إلى ما تقول ، ثمّ نتعرّض لنقد وتحقيق الروايات :

من المحقّق أنّ هذه الآية وبقطع النظر عن الهوامش المصطنعة ، لا تخدش عصمة الأنبياء فحسب ، بل تعدّ من الأدلّة على عصمتهم أيضاً : إذ يقول : حينما يتمنّى الأنبياء امنية صالحة «الامنية» تطلق على كلّ أنواع الأمل والرجاء ، لكنّها هنا تعني البعد الايجابي البنّاء لتحقيق أهداف الأنبياء ، لأنّها لو لم تكن ذات بعد إيجابي لما ألقى فيها الشيطان إلقاءاته) ، كان الشيطان ينقض عليهم ويلقي القاءاته لكن الله كان يبطلها على الفور ، ويحكم آياته قبل أن تترك تلك الوساوس أثرها السيء على إرادة الأنبياء وتصرّفاتهم.

(لا يخفى أنّ «الفاء» في (فينسخ الله) إشارة إلى الترتيب المتصل ، أي أنّ الله كان ينسخ ويزيل القاءات الشيطان مباشرة) ، الدليل على هذا الكلام هو آيات القرآن الأخرى التي تقول بصراحة : (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً). (الإسراء / ٧٤)

نظراً إلى أنّ الآية (٧٣) : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) من نفس سورة الإسراء والتي سبقت هذه الآية ، تبيّن أنّ الكفّار والمشركين كانوا يسعون بوساوسهم إلى حرف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الوحي السماوي ، فيتّضح أنّ الله تعالى لم يدع لهم المجال أبداً ليفلحوا بوساوسهم تلك (تأمّل جيّداً).

كما نقرأ أيضاً : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ). (النساء / ١١٣)

هذه كلّها تبيّن أنّ الله قد حفظ نبي الإسلام من كلّ أنواع الإنحراف ولم يفسح المجال أبداً بمنّه وفضله من نفوذ وساوس شياطين الإنس والجنّ إليه.

هذا كلّه فيما لو حملنا «الامنية» على «الغاية» أو «الخطّة» أو «الشروع» (لأنّ جذور هذه الكلمة الأصيلة تعود إلى «التقدير والتصوّر والفرض»).

لكن لو حملنا «الامنية» على التلاوة ، كما احتمله معظم المفسّرين ، بل وحتّى استشهدوا

١٣١

ببعض أشعار «حسّان بن ثابت» لإثبات هذا المدّعى (١).

كما أنّ الفخر الرازي قال في تفسيره : فالحاصل من هذا البحث أنّ الامنية إمّا القراءة وإمّا الخاطر (٢).

ففي هذه الصورة سيكون مفهوم الآية هو أنّ الأنبياء الإلهيين ، عندما كانوا يقرأون آيات الله ومواعظه أمام الكفّار والمشركين كان الشياطين يلقون وساوسهم وسمومهم بين ثنايا كلماتهم لإغفال الناس ، بالضبط كما طبّقوا هذا الشيء في حقّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ، أي كما نقرأ في قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). (فصلت / ٢٦)

طبقاً لهذا المعنى يتّضح مفهوم الآية التي بعدها أيضاً والتي تقول : (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ). (الحجّ / ٥٣)

كما أنّ من المتعارف اليوم أيضاً أنّه حينما يشرع مصلحو المجتمعات البشرية ، بإلقاء خطبهم البنّاءة وسط جمهور من الناس يسعى المنحرفون الذين في قلوبهم مرض ، إلى محو آثار تلك الخطب بالقيل والقال والشعارات الفارغة والتعابير الشيطانية التافهة.

وهذا في الحقيقة اختبار لأفراد المجتمع ، وهنا ينحرف المرضى القاسية قلوبهم عن طريق الحقّ ، في حين يزداد إيمان المؤمنين شيئاً فشيئاً بحقّانية الأنبياء ، والتمسّك بدعوتهم (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ).

لكن تفسير الآية طبقاً للمعنى الأخير لا يخلو من إشكال ، لأنّ الإلقاءات الشيطانية في نفوس الأنبياء عليهم‌السلام مهما كانت تنسخ وتزال بالإمدادات الإلهيّة على الفور ، لكنّها لا يمكنها

__________________

(١) الشعر هو هذا :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر

جاء تمنّى الكتاب بمعنى تلاوة الكتاب في «تاج العروس» القاموس وكذلك في متن «القاموس» ، ثمّ ينقل الزهري أنّ «الامنية» تطلق على التلاوة لكن القارىء كلّما انتهى بآية رحمة تمنّاها ، وكلّما وصل إلى آية منها ذكر للعذاب تمنّى النجاة منه. لكن صاحبـ «مقاييس اللغة» يعتقد أنّ إطلاق هذه اللفظة على التلاوة إنّما هو لأجل وجود نوع من القياس ووضع كلّ آية في مكانها.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٢٣ ، ص ٥١.

١٣٢

أن تكون أساساً لاختبار المنافقين والذين في قلوبهم مرض لبداهة عدم تحقّق وجود خارجي لهذه الوساوس ، إنّما هي القاءات عابرة في نفوس الأنبياء.

إلّا أن يقال بأنّ المراد هو أنّه حينما يريد الأنبياء الإلهيون تجسيد (امنياتهم وخططهم) وتنفيذها في الخارج ، يشرع الشياطين بتحطيمها وإلقاء السموم والوساوس عليها ، وهنا تتجسّد ساحة الإختبار الساخنة ، وطبقاً لهذا البيان فالإنسجام والإرتباط بين الآيات الثلاث (الحجّ / ٥٢ و ٥٣ و ٥٤) محفوظ وقائم.

العجيب أنّ بعض المفسّرين ذكروا للآية الاولى احتمالات وتفاسير مختلفة دون الحفاظ على انسجامها مع الآيتين اللتين تليانها (تأمّل جيّداً).

على أيّة حال نستنتج من مجموع ما تقدم عدم وجود ما ينفي مسألة عصمة الأنبياء من الخطأ والانحراف في الآية مورد البحث ، بل هي على العكس من ذلك تؤكّد على هذه المسألة لأنّها تقول إنّ الله يحفظ أنبياءه من القاءات الشيطان حين تلقّي الوحي أو التصميم على إنجاز أعمال أخرى.

والآن يجب أن نلتفت إلى الروايات والأساطير التي ذكرت في هذا القسم ، والتي دفعت بالبعض من شياطين الإنس في الأونة الأخيرة إلى تأليف كتابـ «الآيات الشيطانية» ، أملاً في إيجاد الفتنة وإلقاء السموم والشبهات حول سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لنعرف ما قيمة مثل هذه الروايات والأساطير؟

نقد الروايات المرتبطة بأسطورة الغرانيق :

كما تقدّم القول إنّ الآيات السابقة لا تحتوي على ما يتنافى وعصمة الأنبياء ، بل هي على العكس دليل على عصمتهم ، لكن هناك قضايا عجيبة جدّاً يمكن مشاهدتها في الروايات المذكورة في بعض مصادر أهل السنّة من الدرجة الثانية والتي ينبغي التحقيق فيها على انفراد ، هذه الروايات التي ذكرناها في بداية البحث ، منقولة تارةً عن ابن عبّاس وأخرى

١٣٣

عن سعيد بن جبير وثالثة عن البعض من الصحابة أو التابعين (١).

مع أنّ هذه الروايات لم تشاهد في أي مصدر لأتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، كما أنّه لا وجود لها أيضاً في كتب الصحاح الستّة على حدّ قول بعض علماء أهل السنّة ، حتّى أنّ المراغي يقول في تفسيره : «وقد دسّ بعض الزنادقة في تفسير هذه الآية أحاديث مكذوبة لم ترد في كتاب من كتب السنّة الصحيحة ، وأصول الدين تكذبها ، والعقل السليم يرشد إلى بطلانها ... ويجب على كلّ العلماء طرحها وراء ظهورهم ، ولا يضيعوا في تأويلها وتخريجها ، ولا سيّما بعد أن نصّ الثقات من المحدّثين على وضعها وكذبها» (٢).

كما ونقرأ نفس هذا المعنى بشكل آخر في تفسير «الجواهر» لـ «الطنطاوي» حيث يقول : «هذه الأحاديث لم تذكر في أي واحد من كتب الصحاح الستّة مثل موطأ مالك ، صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، جامع الترمذي ، سنن ابن داود ، وسنن النسائي» (٣).

ولذا لم يذكره كتابـ «تيسير الوصول لجامع الأصول» الجامع للروايات التفسيرية للكتب الستّة ، وذلك عند تفسيره لآيات سورة النجم. ومن هنا فليس من اللائق الإهتمام بهذا الحديث أو حتّى التحدّث به ، فضلاً عن التعليق عليه أو ردّه ... هذا الحديث كذب واضح!» (٤).

من الأدلّة التي يذكرها «الفخر الرازي» على كون هذا الحديث من الموضوعات قوله : «وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجنّ ، وليس فيه حديث «الغرانيق» ، وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها حديث الغرانيق بتاتاً» (٥).

ولم يقتصر الأمر على المفسّرين الذين ذكرناهم ، بل هناك أفراد آخرون أيضاً مثل

__________________

(١) لمزيد من الإطّلاع على طرق هذه الروايات عند أهل السنّة يمكن الرجوع إلى تفسير درّ المنثور ، ج ٤ ، ص ٣٦٦ ـ ٣٦٨ ذيل الآية ٥٢ من سورة الحجّ.

(٢) تفسير المراغي ، ج ١٧ ، ص ١٣٠ ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٣) يجب الإلتفات إلى أنّ سنن ابن ماجه هي من الصحاح الستّة لا موطأ مالك.

(٤) تفسير الجواهر ، ج ٦ ، ص ٤٦.

(٥) تفسير الكبير ، ج ٢٣ ، ص ٥٠.

١٣٤

«القرطبي» في تفسير «الجامع» وسيّد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» وغيرهما وعموم كبار مفسّري الشيعة أيضاً ، حيث اعتبروا هذه الرواية من الخرافات والموضوعات ونسبوها إلى أعداء الإسلام.

ومع كلّ هذا فلا عجب أن يضع أعداء الإسلام خصوصاً المستشرقون الحاقدون الأموال الطائلة في خدمة نشر هذه الرواية ويقومون بالعمل عليها بكلّ جديّة ، وقد رأينا في الأونة الأخيرة كيف أنّهم شجّعوا كاتباً شيطانياً لتأليف كتاب تحت عنوان «الآيات الشيطانية» ، حيث إنّه استفاد من عبارات ركيكة جدّاً ومن خلال قصّة خيالية لم يقتصر على هتك مقدّسات الإسلام ووضعها في معرض الشكّ والترديد فحسب ، بل أهان الأنبياء العظام الذين تكنّ لهم كلّ الأديان السماوية الاحترام أيضاً (مثل إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام).

وليس عجيباً أيضاً أن يترجم النصّ الانكليزي لهذا الكتاب إلى مختلف اللغات وبسرعة خيالية ، ويوزّع في كلّ أنحاء العالم ، وحينما أصدر الإمام الخميني قدس‌سره فتواه التأريخية بارتداد كاتب هذا الكتاب أي «سلمان رشدي» ولزوم قتله ، بادرت الدول الاستعمارية وأعداء الإسلام إلى حمايته بشكل منقطع النظير. هذه الحركة العجيبة أثبتت أنّ هناك من يقف وراء سلمان رشدي وأنّ المسألة هي أكبر من مجرّد تأليف كتاب معادٍ للإسلام ، وأنّها في الواقع خطّة مدروسة من قبل الغرب المستعمر والصهيونية لضرب الإسلام من خلال وقوفهم معه بكلّ حزم.

لكن الصمود القوي للإمام الخميني قدس‌سره في فتواه ، واستمرار نهجه من قبل نوّابه ، وما نالته تلك الفتوى من القبول والترحاب من قبل غالبية الشعوب المسلمة في العالم خيّب آمال المفتعلين ، بل لا زال مؤلّف هذا الكتاب وإلى لحظة تدويننا لهذا البحث يعيش متخفياً في محلّ مجهول بالكامل ، تحت رقابة مشدّدة من قبل الدول الاستعمارية ، ويبدو أنّه مضطرّ للعيش هكذا إلى آخر لحظات حياته إن لم يقتل على أيدي نفس تلك الدول ، فيما لو أرادت غسل ذلك العار الذي لحق بها نتيجة دفاعها عنه.

١٣٥

وبناءً على هذا فالدافع لـ «وضع» هذه الرواية المزورة سيكون هو السبب في بقائها أيضاً ، وبعبارة اخرى هناك محاولة من قبل أعداء الإسلام كانت قد بدأت في السابق ، ثمّ واصلت مسيرها بعد الف سنة أو أكثر مدعومة من قبل طائفة أخرى وبصورة مكثفة.

ومن هنا فلا حاجة لنقل التبريرات التي اثيرت بشأن هذا الحديث كالتي وردت في تفسير «روح المعاني» بشكل موسّع ، أو في تفاسير أخرى بشكل مركّز.

وكما أكد كبار علماء الإسلام فان الحديث الذي يكون أساسه خاوياً فإنّه لا يستحق أن يعطى اهمية في تفسيره أو تسليط الأضواء عليه.

لكن هناك بعض الملاحظات ينبغي ذكرها لتوضيح المطلب ليس إلّاوهي :

١ ـ الصراع المرير لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفض المساومة مع عبدة الأصنام والأوثان عند بدء الدعوة وإلى آخر عمره ، وهو أمر لا يخفى على أحد من الأعداء والأصدقاء ، وأهمّ شيء لم يساوم عليه أبداً ولم يتصالح أو يزيغ عنه هو هذا الموضوع ، فكيف يمكن والحالة هذه أن يمدح أصنام المشركين بهذه الأوصاف ويذكرها بخير؟

وقد أكدت التعاليم الإسلامية أنّ الذنب الوحيد الذي لم يغفر أبداً هو الشرك وعبادة الأوثان ، ولذا اعتبر مسألة ضرب أماكن عبادة الأصنام واجبة على كلّ مكلّف مهما كلفه الأمر ، كما أنّ القرآن من ألفه إلى يائه شاهد على ذلك ويشكل بنفسه قرينة واضحة على وضع حديث الغرانيق الذي ذكر فيه تمجيد ومدح الأوثان والوثنية.

٢ ـ فضلاً عن أنّ الذين وضعوا اسطورة الغرانيق لم يلتفتوا إلى هذا الموضوع وهو أنّ مروراً بسيطاً على آيات سورة النجم يبطل هذه الخرافة ، ويثبت عدم وجود الإنسجام بين مدح وتمجيد الأوثان في جملة «تلك الغرانيق العلى ، وأنّ شفاعتهنّ لترتجى» وبين الآيات التي تحفّ بها ، إذ قد صرّح في بداية نفس هذه السورة بأنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينطق عن هوى النفس أبداً وأنّ كلّ ما يقوله بالنسبة لعقائد وقوانين الإسلام إنّما هو من الوحي الإلهي (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى). (النجم / ٣ ـ ٤)

وتصرّح الآيات بأنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينحرف أبداً عن طريق الحقّ «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى».

١٣٦

وأي ضلال وانحراف أعظم من يأتي بحديث عن الشرك والثناء على الأصنام بين آيات التوحيد؟ وأي منطق أسوء من أن يضيف كلام الشيطان (تلك الغرانيق العلى) إلى كلام الله تبعاً للهوى.

والمثير هنا أنّ الآيات التي تتلوها تذمّ الأصنام والمشركين وتقول (إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ). (النجم / ٢٣)

أي عاقل يصدّق أنّ شخصاً رزيناً حكيماً وفي مقام النبوّة وإبلاغ الوحي ، يمدح الأصنام في الجملة السابقة ويذمّها بشدّة وعنف في جملتين بعدها؟! كيف يمكن توجيه هذا التناقض الصارخ بين الجملتين تباعاً؟

ومن هنا يجب الإعتراف بأنّ الإنسجام القائم بين آيات القرآن هو بشكل يرفض كلّ شبهة تضاف إليها من قبل المعاندين والمغرضين ، ويثبت كونها جملة غريبة وإضافة غير متجانسة وأنّها ليست في محلّها ، هذا هو المصير الذي ابتلي به حديث الغرانيق بين طيّات آيات سورة النجم.

وهنا يبقى سؤال واحد ، وهو البحث عن السرّ وراء كلّ هذه الشهرة ، التي لاقاها موضوع تافه لا أساس له كهذا؟

جواب هذا السؤال ليس بتلك الصعوبة أيضاً ، إذ إنّ الفضل في شهرة هذا الحديث يعود بالدرجة الاولى إلى مساعي الأعداء والمرضى ، الذين يظنّون أنّهم قد عثروا على اداة جديدة للطعن في مقام عصمة نبي الإسلام واصالة القرآن ، وبناءً على هذا التحليل يتّضح شهرته بين الأعداء وهو ممّا لا يخفى ، امّا شهرته بين المؤرخّين الإسلاميين المسلمين فعلى حدّ قول بعض علماء الإسلام ، ناتج من كون هؤلاء المؤرخّين يبحثون عن كلّ ما هو مثير وغريب وفريد من نوعه وإن كان يفتقر إلى الاصالة التأريخيّة لدرجه بين طيّات كتبهم ، ليزيدوا من جاذبيتها قدر المستطاع ، ونظراً لكون قصّة كأسطورة الغرانيق حادثة غريبة تنسب إلى حياة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم تخلُ منها كتبهم التأريخية ، بل وحتّى الروائية منها

١٣٧

بغضّ النظر عن ضعف أسانيدها وتفاهة محتواها. كما أنّ البعض أيضاً قد ذكرها للنقد والتحليل.

* * *

ثمرة البحث :

يتّضح من مجموع ما مرّ أنّ آيات القرآن تشكّل دليلاً واضحاً يؤكّد على عصمة الأنبياء ، فضلاً عن خلوّها عما يتنافى وتلك المنزلة الرفيعة.

* * *

١٣٨

أقوال وآراء

حول عصمة الأنبياء عليهم‌السلام

١٣٩
١٤٠