نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

١٠ ـ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَايُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً* سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). (الأحزاب / ٦٠ ـ ٦٢)

١١ ـ (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ). (الأنبياء / ٧٣)

١٢ ـ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ انَّ الارْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصَّالِحُونَ). (الأنبياء / ١٠٥)

١٣ ـ (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). (البقرة / ٢١٣)

١٤ ـ (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ). (هود / ١١٦)

١٥ ـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ). (آل عمران / ١٩)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

وحدة المسير لدى الأنبياء جميعاً :

١ ـ الكلام في أوّل آية هو عن الأمر الذي أصدره الله إلى المسلمين كافةً بالقول لمخالفيهم : إنّنا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما انزل إلى الأنبياء السابقين ، كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى (لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وورد نفس هذا المضمون في آيتين اخريين من القرآن الكريم : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). (البقرة / ٢٨٥)

٢٨١

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (النساء / ١٥٢)

وبهذا فهي تؤكّد على أنّ المؤمنين الحقيقيين هم الذين لا يفرّقون بين الأنبياء الإلهيين ، ويؤمنون بكلّ تعاليمهم ، وهذا خير دليل على اتّحاد الاصول العامّة لتعاليمهم.

ولِمَ لا يكونون كذلك وقد بعثوا كلّهم من قبل الله ، وتساوت أدوارهم ، كما أنّ اصول المعارف الإلهيّة وسعادة البشرية واحدة في كلّ مكان ، إذ ليست بذلك الشيء الذي يتغيّر بتغيّر جزئياته على مرّ الأيّام.

بالضبط كحاجة الإنسان إلى الطعام والملبس والمسكن والصحّة والنظافة والتربية والتعليم ، إذ إنّ اصول هذه الامور ثابتة لا تقبل التغيير ، في حين أنّ جزئياتها هي في تحوّل وتغيّر ، أي ، إنّ في حالة تكامل بعبارة اخرى.

لابدّ من القول : إنّ هذه الآية وطبقاً لسبب نزولها كانت ردّاً على اليهود والنصارى ، حيث كان ينفي أحدهما الآخر ويعتبر نبيّه هو الأفضل وكتابه هو الأقدس (مع إهمالهم للآخرين) ، فجاء دور المسلمين للتعبير بصراحة باستحالة التفريق بين أنبياء الله.

على أيّة حال فهذا يعدّ توضيحاً مجملاً لوحدة الاصول العامّة لدعوة الأنبياء ، والآن نعود إلى بقيّة الآيات التي تؤكّد على كلّ واحد من هذه الاصول.

* * *

٢ ـ مسألة الوحي هي واحدة من هذه الاصول والتي عرضت في ثاني آية من الآيات مورد البحث ، يقول تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ (أنبياء بني إسرائيل) وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً* رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

وعلى هذا فالكلّ يشير إلى الوحي والإرتباط بعالم الغيب ، والكلّ يخطو في مسيرة إبلاغ الدعوة الإلهيّة وإتمام الحجّة على الناس ، لم يقل أحد منهم شيئاً من عنده ، والهدف النهائي للكلّ واحد.

٢٨٢

٣ ـ أصل التوحيد ونفي الشرك هو أحد أهمّ اصول دعوة الأنبياء ، وبشهادة آيات مختلفة من القرآن ، فالتوحيد هو كلامهم الأوّل حين بعثتهم ، التوحيد في كافّة الأبعاد خصوصاً في العبادة.

والآية الثالثة من البحث تدور حول هذا الموضوع باعتباره أصلاً عاماً في دعوة الأنبياء ، يقول تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

وورد هذا المعنى بتأكيد أكبر في قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). (النحل / ٣٦)

وعلى هذا فمقاومة الطواغيت وتخصيص العبادة لله كانا يتصدّران قائمة تعاليم كلّ الأنبياء ، باعتبار كون الإنسان أسيراً ما دام في عبادة الطاغوت ، وحرّاً حيث ما يعبد الله وحده ، الله الذي هو مصدر كلّ القيم السامية وصاحب الأسماء والصفات الحسنى.

الملفت للنظر هو أنّ الطَّاغُوتَ صيغة مبالغة للطغيان الذي يعني التعدّي وتجاوز الحدّ ، ومن هنا تطلق لفظة الطاغوت على الشيطان والوثن والحاكم الجبّار والمتكبّر والمستكبر ، وكلّ طريق ينتهي إلى غير الحقّ ، هذه المفردة وعلى حدّ قول الراغب في المفردات التي تستعمل في المفرد والجمع كليهما (كما وتجمع في نفس الوقت على صيغة طواغيت. وفسّر لسان العرب لفظة الـ «طاغوت» بمعنى الشيطان وأئمّة الضلال والإنحراف (١).

على أيّة حال فإحدى علامات الأنبياء الحقيقيين هي الدعوة للتوحيد ، واجتناب كلّ الطواغيت ، في حين أنّ المدعين كذباً يدعون الناس للشرك وعبادة الأوثان ، بل وحتّى إلى عبادتهم أحياناً كفرعون ، هذا النحو من النظرة السلبية للطاغوت ـ كما قيل في محلّه ـ له أثره في كافّة شؤون الإنسان ، خاصّة في فكّ يديه ورجليه من قيود الرقّ والعبودية ودعوته للإتّحاد والعزّة والتحرّر.

__________________

(١) العجيب هو أنّ المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان ، ج ١٢ ، ص ٢٤٢ ، قد اعتبر هذه اللفظة مصدراً ، مع أنّها تستعمل بالمعنى الوصفي في كلّ المواضع ، خصوصاً الموارد الثمانية الواردة في القرآن إذ إنّها أفادت المعنى الوصفي على الأعمّ الأغلب.

٢٨٣

٤ ـ التأكيد على نظام الكون للتعرّف من خلاله على الله هو أحد الاصول العامّة لدعوة هؤلاء الرجال الإلهيين ، كما نقرأ في الآية الرابعة من آيات بحثنا : (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ (مع كلّ هذه العظمة والنظام في الكون والأسرار الكامنة) يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) (لتطووا طريق معرفة الله وتبلغوا الكمال اللازم).

أي هل يبقى هناك مجال للشكّ في وجود الله مع الأخذ بنظر الاعتبار كلّ أسرار خلق السماوات والأرض ، وأنواع الابداعات التي تحتويها والأسرار التي يتمّ كشفها يوماً بعد آخر نتيجة تطوّر العلوم والمعارف؟

صحيح أنّ معرفة الإنسان بأسرار خلق السماوات والأرض كانت في قديم الزمان بسيطة ، لكن نفس ذلك النظام البسيط الحاصل للإنسان بدقّة متواضعة يكفي لإثبات وجود الخالق ، أمّا اليوم حيث تمّ فلق الخليّة وانشطار الذرّة والجزيء ، والوقوف على الكثير من أسرارها فالتأمّل في إحدى الذرّات كافٍ ليبعث نور معرفة الله في القلوب ، ويتحقّق هذا في البيت الشعري المعروف باللغة الفارسية والذي مضمونه :

قلب كلّ ذرّة حين فتحه

تجد نوره يشعّ فيه

وقريب من هذا المعنى نجده في البيت الشعري المعروف والمنسوب للإمام علي عليه‌السلام :

أتزعم أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

* * *

٥ ـ التأكيد على مسألة المعاد باعتباره أصل آخر من اصول دعوتهم كما يقول تعالى في الآية الخامسة من آيات بحثنا : (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا).

هذا الكلام سواء كان صادراً من الله أم الملائكة فلا فرق في ذلك ، إذ المهمّ أنّه يعكس قيام كلّ الأنبياء والمرسلين بتحذير الناس من هول يوم القيامة واشتراكهم في هذا الأصل الأساسي.

٢٨٤

وهل ياترى أرسل إليهم رسُلاً من «الجنّ» (كما يبدو من كلمة «منكم») أم أنّ كلّ الرسل الإلهيين كانوا من الإنس؟ هناك نقاش بين المفسّرين ، وإن ذهب معظمهم إلى الاحتمال الثاني باعتبار أنّ ما جاء في الآية السابقة إنّما هو من باب التغليب اصطلاحاً ، ومع ذلك لا مانع من قيام الأنبياء والرسل الإلهيين بتكليف رسل ووكلاء لهم من جنسهم لدعوتهم كما يستفاد ذلك من قوله تعالى :

(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (الأحقاف / ٢٩)

٦ ـ الدعوة للتقوى : وهي أيضاً من الاصول العامّة لدعوتهم عليهم‌السلام ، وذلك لاستحالة ضمان الهدف النهائي من خلق البشر ونظام حياته الفردية والاجتماعية بدونها ، نقرأ في سادس آية من البحث : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ).

وهذا التعبير إلى حدّ يشمل كلّ الكتب السماوية السابقة ، وبناءً على هذا فالوصيّة بالتقوى ، أي ، حفظ النفس وتجنّب الذنوب وعدم الخروج عن طاعة الله ، كان ولا يزال من الاصول المشتركة للأديان السماوية.

كما نعلم أنّ للتقوى فروعاً كثيرة ، التقوى في العمل والحديث والتفكّر والنيّة والعزم ، كما أنّ للتقوى العملية فروعاً متعدّدة أيضاً ، التقوى الأخلاقية والاجتماعية والسياسية ، والخلاصة هي أنّ للتقوى مفهوماً واسعاً يقابل كلّ إهمال وتسيّب في كافّة الامور ، ولذا جاء في تفسير القرطبي عن بعض الفضلاء العرفاء أنّ هذه الآية هي بمثابة القطب من الرحى وأنّ كلّ الآيات القرآنية تدور حولها (١).

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ١٩٧٨.

٢٨٥

٧ ـ الدعوة إلى العدالة الاجتماعية هي أصل آخر من هذه الاصول الأساسية ، وقد وردت بصراحة في الآية السابعة ، يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).

ولِمَ لمْ يكن كذلك حين يستحيل على المجتمع البشري بلوغ أهدافه النهائية أي التكامل المعنوي مع غياب إقامة القسط والعدالة الاجتماعية؟

الملفت للنظر هو قوله : إنّ الهدف من إرسال الرسل والبيّنات والكتاب والميزان هو قيام الناس بالقسط والعدل مباشرة مع تنفيذه ، لا أن يفرض عليهم ذلك فرضاً ، أجل فضمان هذا الهدف مرهون ببلوغ المجتمع البشري مرحلة إقامة القسط والعدل وتنفيذه بذاته.

وحول المراد من «البيّنات والكتاب والميزان» هناك أبحاث كثيرة للمفسّرين ، أقواها كما يبدو أنّ «للبيّنات» معنىً واسعاً شاملاً لكلّ المعجزات وأنواع الأدلّة العقلية التي تقام لإثبات النبوّة ، و «الكتاب» إشارة إلى مجموع تعاليمهم ، وامّا «الميزان» فيعني معايير قياس الحقّ من الباطل ، أو القوانين والمقرّرات التي يصل بها الحقّ إلى أهله.

وهذه كلّها وسائل لبلوغ العدالة الاجتماعية وإقامة القسط والتي تكون بدورها مقدّمة لتوفير الأرضية المناسبة لتربية الإنسان وتعليمه وتكامله (١).

٨ ـ أهميّة «الإيمان» و «العمل الصالح» كقيم أساسية لإنقاذ البشرية هي أيضاً من الاصول المشتركة لتعاليم الأنبياء ، نقرأ في ثامن آية من البحث :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

جاء في أحد التفاسير المعروفة : إنّ أهل النجاة هم المسلمون الذين آمنوا بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثبتوا على إيمانهم وعملوا صالحاً وكذا الذين عاشوا قبل ظهور نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمنوا بالأديان السماوية وعملوا صالحاً.

طبقاً لهذا التفسير ف «الإيمان» و «العمل الصالح» كانا كأصلين عامّين في برامج كلّ الأديان الإلهيّة لغرض نجاة الإنسان.

__________________

(١) لمزيد من الإطّلاع حول هذا الموضوع راجع التفسير الأمثل ذيل الآية مورد البحث.

٢٨٦

وهناك طبعاً تفاسير اخرى لهذه الآية بإمكانك الإطّلاع عليها بالرجوع إلى التفسير الأمثل ذيل الآية ٦٢ من سورة البقرة.

* * *

٩ ـ القضاء على «السنن الخاطئة» التي تتسبّب في انحراف المجتمعات البشرية وتأخّرها يعدّ أيضاً من الاصول العامّة لدعوة الأنبياء.

في تاسع آية من البحث وضمن الإشارة إلى مسألة زواج النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من مطلّقة إبنه بالتبنّي والتي نزلت لازالة إحدى العادات الجاهلية (حيث كانوا يعتبرون الإبن بالتبنّي كالإبن الحقيقي) يقول تعالى : (مَا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيَما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).

حول ماهيّة هذه السنّة التي كانت جارية في الأقوام السابقة والتي عطف الله عليها مسؤولية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال فريق من المفسّرين : المراد بها هو السنّة الإلهيّة في رفع الموانع من الاستفادة من اللذائذ المحلّلة ، أو سُنّة تعدّد الزوجات التي كانت جارية في الامم السابقة أيضاً (١).

في حين أنّ هناك أدلّة واضحة في الآيات التي تحفّ بهذه الآية تشهد على أنّ هذه السنّة كانت ترتبط بإبلاغ رسالة إلهية لا تيسير اللذائذ المحلّلة ، كما نقرأ في الآية التي بعدها : (الَّذِينَ (الأنبياء السابقون) يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ).

لكن أنسبها كما يبدو هو أنّ هذه الرسالة الإلهيّة ليست سوى «القضاء على السنن الخاطئة» فحسب.

كما نقرأ في الآيات التي قبلها : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) كما يصرّح بعد هذه الآية : (لِكَىْ لَايَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً). (الأحزاب / ٣٧)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٣٦١ ؛ تفسير الكبير ، ج ٢٥ ، ص ١٣ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٢٧٧ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٢٢ ، ص ٢٥.

٢٨٧

هذه القرائن بمجموعها تشهد بوضوح على أنّ المراد من هذه السنّة الخالدة للأنبياء السابقين هو إزالة السنن الخاطئة والخرافية تلك.

ولِمَ لا؟! وأحد أهداف بعثة الأنبياء هو تخليص الناس من مخالب مثل هذه السنن الباطلة ، لتحلّ محلّها السنن الإلهيّة.

* * *

١٠ ـ مقاومة المنافقين بشدّة وعدم الرضوخ لهم هي إحدى الاصول الاخرى لتعاليم الأنبياء الثابتة ، كما جاء في نفس هذه الآية وبعد الإشارة إلى أعمال المنافقين القبيحة المتعمَّدة في المجتمع الإسلامي ، والتهديد بأنّ هؤلاء المنافقين الكذّابين ، والذين في قلوبهم مرضٌ والذين يشيعون الأباطيل لو لم ينتهوا عن غيّهم ويرجعوا عن مواصلة أعمالهم العدوانية ، لجعلناك تثور عليهم وتطردهم من كلّ مكان وتمزّقهم شرّ ممزّق : (سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). (الأحزاب / ٦٢)

صرّح معظم المفسّرين بأنّ المراد من هذه السنّة هي نفس مجاهدة المنافقين والأفراد المضرّين الذين لا ينتهون عن أعمالهم الشنيعة في المجتمعات البشرية وعن عدائهم للأنبياء والمؤمنين (١).

* * *

١١ ـ اصول العبادات والأعمال الحسنة : كانت أيضاً من ضمن التعاليم المشتركة لهؤلاء القادة الحقيقيين كما يقول تعالى في الآية الحادية عشرة من البحث ، وضمن الإشارة إلى فريق من الأنبياء العظام : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ).

إشارة إلى أنّه وفضلاً عن مقام النبوّة والرسالة اللذين يتطلّبان استلام الوحي وإبلاغه

__________________

(١) راجع تفاسير مجمع البيان ؛ والمراغي ؛ والكبير ؛ والقرطبي ؛ وروح البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢٨٨

للناس ، كانت الإمامة أي القيادة الشاملة لكل الابعاد الجسمانية والروحانية ، الظاهرية والباطنية للناس ضمن مسؤوليتهم ، وكان دورهم في هذه المرحلة هو (الهداية بأمر الله) أي الإيصال إلى المطلوب وبلوغ المراد ، وضمن هذه المرحلة أوحى الله إليهم فعل الخيرات والعبادات.

ومع أنّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعدّان من الخيرات والأفعال الحسنة ، فقد تمّ التأكيد عليهما بالخصوص نظراً لأهميّتهما.

حول المراد من «الوحي» هنا في جملة (أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) ، فقد اعتبره أكثر المفسّرين بمعنى «الوحي التشريعي» ، أي إنَّ أنواع الأعمال الحسنة وضعناها ضمن برامجهم الدينية (١) ، لكن البعض الآخر فسّره بمعنى «الوحي التكويني» أي انّنا منحناهم التوفيق لأداء هذه الأعمال بلهفة وأيّدناهم بروح القدس ليؤدّوها على أتمّ وجه.

* * *

١٢ ـ حكومة الصالحين : وبشكل عامّ فقد كانت حكومة «العدل الإلهي» مندرجة أيضاً ضمن برامج الأنبياء ، سواء وفّقوا في إقامتها أم أعاقتهم ظروفهم وأوضاعهم الخاصّة عن ذلك.

في الآية الثانية عشرة من البحث إشارة لطيفة إلى هذا المعنى ، يقول تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ (التوراة) انَّ الارْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ).

المرحوم الطبرسي في مجمع البيان ذكر ثلاثة أقوال في تفسير «الزبور» و «الذكر» :

١ ـ «الزبور» يعني كلّ كتب الأنبياء و «الذكر» يعني اللوح المحفوظ ، أي أنّ هذا الحكم جاء أوّلاً في اللوح المحفوظ ثمّ في كلّ كتب الأنبياء.

٢ ـ «الزبور» يعني الكتب النازلة بعد التوراة و «الذكر» إشارة إلى التوراة.

__________________

(١) طبقاً لهذا التفسير فللآية محذوف تقديره : وأوحينا إليهم الأمر بفعل الخيرات.

٢٨٩

٣ ـ «الزبور» يعني زبور داود و «الذكر» يعني التوراة (١).

على أيّة حال فالآية تبيّن أنّ هذا كان حكماً عامّاً وسنّة إلهيّة دائمة ، تقوم بتوجيه تعاليم الأنبياء نحو تأسيس حكومة الصالحين والطاهرين في الكرة الأرضية ، وقد وفّق البعض منهم أحياناً في تشكيل نموذج لها ، وطبقاً للروايات المتواترة فسيتجسّد مصداقها الكامل عند ظهور المهدي (أرواحنا فداه).

ومن البداهة أيضاً أنّ ضمان أهداف أديان الأنبياء الإلهيين مرهون بتشكيل مثل هذه الحكومة ، إذ أثبتت التجارب أنّ الأحكام الإلهيّة لا يمكن تطبيقها بالكامل عن طريق الوصايا والنصائح والحِكَم فقط ، بل لابدّ من استثمار كلّ طاقات الحكومة وفي كافّة الأبعاد ، مع وضع الإنسان منذ لحظة ولادته وإلى وفاته تحت إشراف التعاليم السماوية.

التعبير بـ «عبادي الصالحون» تعبير جامع وبليغ جدّاً ، شامل لكلّ المؤهلات من حيث «الإيمان» و «العلم» و «التقوى» و «الإدارة والتدبير» ، أجل ، فمثل هؤلاء الأشخاص يمكنهم أن يكونوا وارثي حكومة السماء في الأرض.

* * *

١٣ ـ الدعوة إلى الوحدة : الاختلاف أكبر عامل لفساد المجتمع وضياع الطاقات الماديّة والمعنوية لكلّ قوم وشعب ، ومن هنا فأحد الأهداف الرئيسيّة للأنبياء وبرامجهم العامّة هو محاربة الاختلافات ، كما نقرأ في الآية الثالثة عشرة من البحث حيث يقول تعالى :

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً (ثمّ ظهر الاختلاف فيما بينهم) (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ) (وليقضوا على تلك الخلافات).

ومع هذا فقد أشعل فريق نار الفتنة وشقّ الكلمة ، بل اختلفوا حتّى في الحقائق النازلة في الكتب السماوية : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٦٦ ، ووردت نفس هذه المعاني الثلاثة في تفسير القرطبي.

٢٩٠

لكن : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وبناءً على هذا فقد ظهر هنالك نوعان من الاختلاف بين الامم ، الاختلاف الأوّل قبل ظهور الأنبياء والناشيء من اختلاط العلوم البشرية بأنواع الأخطاء والجهل والإشتباه في تشخيص الحقائق ، ففرّق الأنبياء بين الحقّ والباطل ووضعوا نهاية لتلك الخلافات مدعومين بالوحي.

الاختلاف الذي كان بعد ظهور الأنبياء ، والناشيء من البغي والظلم والحسد وعبادة النفس ، حيث قام فريق بتفسير ثمرة تعاليم الأنبياء طبقاً لميولهم ومصالحهم وحرّفوا الحقائق وفقاً لأهوائهم ، فلم ينج من عاقبة هذه الاختلافات سوى المؤمنين الحقيقيين نظراً لعدم إمكان إزالة هذه الاختلافات إلّافي ظلّ الإيمان والتقوى.

ومن هنا يتّضح الجواب عن سؤال يثار حول هذه الآية وهو أنّه : لو كان مجيء الأنبياء هو من أجل حلّ الخلافات العقائدية والفكرية والاجتماعية ، فلماذا واصلت هذه الاختلافات مسيرها بعدهم أيضاً؟

الآية المذكورة تقول بوجود التفاوت بين هذين الاختلافين ، فالأوّل نابع من الجهل والغفلة وعدم الإطّلاع وقد زال ببعثة الأنبياء ، امّا الآخر فقد كان متضمّناً لدوافع كالبغي والظلم والعناد والغرور حتّى دفع بالبعض إلى مواصلة طريق الفرقة عن قصد ، حتّى بعد أن تبيّن لهم الحقّ ، وفي الواقع فقد كان الاختلاف الأوّل نابعاً من قصور الناس والثاني من تقصيرهم.

على أيّة حال يستفاد من الآية الآنفة الذكر أنّ الدعوة إلى الوحدة ومحاربة الاختلاف وفي أبعاد ومجالات مختلفة كانت من بين الاصول العامّة لمسؤولية الأنبياء.

* * *

١٤ ـ الدعوة إلى الإصلاح والنهي عن الفساد : تعدّ أيضاً من البرامج الرئيسيّة لدعوة

٢٩١

الأنبياء ، وبعبارة اخرى فالأديان الإلهيّة وبالإضافة إلى المسائل الشخصية ، كانت ترقب عن كثب وضع المجتمع أيضاً وتدعو الكلّ للمشاركة في إصلاحه ومحاربة الفساد.

ولذا تُشَمٌّ من الآية «الرابعة عشرة» من بحثنا حالة من الإعتراض العامّ على الأقوام السابقة التي ابتليت بالعذاب الإلهي ، حيث يقول تعالى : (فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِى الْأَرْضِ (لم يكن العلماء في الامم التي قبلكم متصدّين للحكم ولذا شاع بينها الفساد واستحقّت عذابنا) إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ).

«اولوا بقيّة» أي «أصحاب إرث وثبات» ، وحيث إنّ الإنسان يدّخر عادة الأشياء النفيسة ويحتفظ بها ، فقد ورد هذا التعبير بحقّ اولئك الذين يمتلكون ثروة نفيسة أي أصحاب العلم والشخصية والقدرة والنفوذ ، ومثل هؤلاء هم الذين يتمكّنون من الوقوف بوجه الفساد ويساعدون على بقاء الامم.

على أيّة حال يتبيّن من هذا التعبير أنّ التكليف بالأمر بالمعروف ، ومحاربة الفساد خصوصاً على مستوى العلماء وأصحاب القدرة والنفوذ ، كان موجوداً في كلّ الأديان الإلهيّة ، وأنّ الكثير من الامم قد استحقّ العقاب الإلهي نتيجة الانحراف عن هذه المهمّة.

* * *

١٥ ـ التسليم لأمر الحقّ تعالى : الأصل الآخر الموجود في كلّ الأديان ، والحاكم عليها هو أصل التسليم المطلق لأمر الله ، لذا نقرأ في آخر آية من البحث : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ).

أجل فروح وجوهر كلّ الأديان تعبر عن الحق وعن أمر الخالق وتمثل القوانين الإلهيّة وجميع الحقائق ، ونظراً لكون دين نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله من أفضل الأديان الإلهيّة فقد اختير له اسم الإسلام وإلّا فبالإمكان إطلاقه على كلّ الأديان السماوية.

وبناءً على هذا فالآية لا تعني أنّ دين نبيّنا هو الإسلام (وان كان هذا هو الواقع) ، بل المراد أنّ الإسلام كان الدين الحقيقي في كلّ العصور ، لأنّ التسليم أمام العقيدة الواقعية في

٢٩٢

مقام العمل بالأحكام الإلهيّة كان موجوداً في كلّ الأديان الإلهيّة ، وبناءً على هذا فالأديان الإلهيّة وإن كانت قد بدأت بأبسط أشكالها إلى أن انتهت بأكملها إلى دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن روحها كلّها واحدة ألا وهي التسليم المطلق المشار إليه أعلاه ، ولا تباين أبداً بينها من هذه الناحية.

كما يقول تعالى في مكان آخر : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ (والتسليم لأمر الله) دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ). (آل عمران / ٨٥)

* * *

ثمرة البحث :

هذه الاصول الخمسة عشر هي من أهمّ الاصول المشتركة بين كلّ الأديان الإلهيّة ، وبعبارة اخرى فانّها تشكّل العمود الفقري لكلّ المذاهب السماوية وجميع تعاليم الأنبياء ، كما أنّ بالإمكان تشخيص الأديان الحقيقية من المذاهب المختلقة والإنحرافية عن طريقها.

كما أنّ التدقيق فيها يعكس من جهة اخرى تلك القيم السامية لتعاليم الأنبياء وعلى مرّ القرون والأعصار ، بالإضافة إلى كونها لوحدها من الأدلّة على صدق دعوتهم وحقّانية دينهم.

* * *

٢٩٣
٢٩٤

الأنبياء عليهم‌السلام

في القرآن المجيد

٢٩٥
٢٩٦

الأنبياء في القرآن المجيد

تمهيد :

سيتمّ في هذا البحث الإجابة عن عدّة أسئلة مهمّة تدور حول أنبياء الله ورسله :

١ ـ عدد الأنبياء في القرآن.

٢ ـ الأنبياء اولوا العزم في القرآن.

٣ ـ الكتب السماوية للأنبياء.

٤ ـ الفرق بين الرسول والنبي.

٥ ـ لماذا ظهر الأنبياء الكبار من منطقة خاصّة؟

٦ ـ تكامل الأديان.

القرآن هو محور كلّ هذه الأبحاث بطبيعة الحال ، وعلى أساس التفسير الموضوعي ، أي أنّه سيتمّ البحث في هذه الجهات على ضوء القرآن أوّلاً ، ومن ثمّ نبحث على حدة باقي المسائل المستفادة من الروايات الإسلامية ، والتواريخ والأدلّة العقلية ، لتتّضح مختلف أبعاد هذه المباحث.

* * *

١ ـ عدد الأنبياء في القرآن :

لنتمعن في آيات القرآن الكريم خاشعين :

نقرأ في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَّنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ). (المؤمن / ٧٨)

يتّضح من هذه الآية عدم مجيء أسماء فريق من الأنبياء والرسل الإلهيين في القرآن

٢٩٧

المجيد (على الأقل في السور النازلة قبل سورة المؤمن) (١) ، وأنّ عددهم يزيد على المذكور في القرآن.

نظير هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً) (٢). (النساء / ١٦٤)

طبعاً لم يتّضح عدد انبياء الله ورسله من خلال تعرّض آيات القرآن لذكر العدد ، لكن يستفاد من بعض الآيات أنّ عددهم كان كبيراً جدّاً ، كما نقرأ في القرآن الكريم حيث يقول تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ). (فاطر / ٢٤)

مع الأخذ بنظر الإعتبار عنواني «بَشيراً» و «نَذيراً» ، الواردين في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في صدر الآية ، يتّضح أنّ المراد من كلمة «نذير» ، في ذيل الآية هم انبياء الله ورسله أيضاً ، كما يستفاد من عموم مفهوم الآية أنّ هناك نبيّاً إلهيّاً كان قد ظهر بين كلّ امّة من الامم فيما مضى وأنّه قام بتحذيرهم. وتفسير بعض المفسّرين لكلمة «نذير» هنا بالمعنى الأوسع الشامل لكلّ الفقهاء والعلماء الذين ينذرون الناس ويحذّرونهم ، يخالف ظاهر الآية بطبيعة الحال.

وبهذا يتّضح جيّداً أنّ عدد الأنبياء من وجهة نظر القرآن عدد هائل!

سؤال :

وهنا يرد هذا السؤال وهو : كيف يُمكن الجمع بين مضمون الآية أعلاه وبعض الآيات القرآنية التي تخاطب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقول : (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَّذِيرٍ). (سبأ / ٤٤)

وكذا في قوله تعالى : (تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ) (٣). (يس / ٥ ـ ٦)

__________________

(١) سورة المؤمن وطبقاً لقولٍ : هي السورة السابعة والخمسون النازلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) سورة النساء طبقاً لروايةٍ : هي السورة الثانية والتسعون النازلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) ذهب معظم المفسّرين إلى أنّ «ما» في جملة (مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ) «نافية ، لجملة (فَهُمْ غَافِلُونَ) ، والآية الثالثة ـ

٢٩٨

الجواب :

الظاهر أنّ المراد من الـ «نذير» في هذه الآيات هم الأنبياء العظام خصوصاً الأنبياء اولي العزم ، الذين شاعت سمعتهم في كل مكان ، وإلّا فهناك حجّة إلهية في كلّ زمان للمشتاقين والطالبين طبقاً لمختلف الأدلّة العقلية والنقلية التي بحوزتنا ، ولو اعتبرت الفترة ما بين المسيح عليه‌السلام ونبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فترة ركود وجمود ، فإنّما هي بسبب عدم ظهور نبي عظيم ومشهور ، لا عدم وجود حجّة إلهية مطلقاً.

ولذا يقول الإمام علي عليه‌السلام حول هذا الأمر : «إنّ الله بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد من العرب يقرأُ كتاباً ولا يدّعي نبوّة» (١).

على أيّة حال يستفاد من مجموع ما قيل أنّ عدد انبياء الله ورسله وعلى طول التاريخ كان كبيراً جدّاً ، وأنّ القرآن لم يشخّص لهم رقماً بالخصوص.

عدد الأنبياء الذين صرّح القرآن بأسمائهم يبلغ ٢٦ نبيّاً فقط وهم عبارة عن : آدم ، نوح ، إدريس ، صالح ، هود ، إبراهيم ، إسماعيل ، إسحاق ، يوسف ، لوط ، يعقوب ، موسى ، هارون ، شعيب ، زكريا ، يحيى ، عيسى ، داود ، سليمان ، إلياس ، اليسع ، ذو الكفل ، أيّوب ، يونس ، عزير ، ومحمّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

وجاء في سورة الانعام اسم ثمانية عشر منهم ، يقول تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ). (الأنعام / ٨٣ ـ ٨٦)

وجاء في سورة الأنبياء اسم كلّ من إدريس وذا الكفل : (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ). (الأنبياء / ٨٥)

__________________

ـ من سورة السجدة : (لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ، خير شاهد على هذا المدّعى ، في حين اعتبر البعض الآخر «ما» موصولة أو مصدرية ، لكن كلا هذين الإحتمالين ضعيفان حسب الظاهر ، والذي قيل إنّما على أساس المعنى الأوّل.

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣٣ و ١٠٤.

٢٩٩

واشير في سورة هود إلى إثنين آخرين منهم (هود وصالح) : (وَيَا قَوْمِ لَايَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ). (هود / ٨٩)

واشير في سورة العنكبوت إلى شعيب : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً). (العنكبوت / ٣٦)

واشير في سورة التوبة إلى عُزَير : (وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ). (التوبة / ٣٠)

ونقرأ في سورة آل عمران : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ). (آل عمران / ٣٣)

أخيراً وفي آخر آية من سورة الفتح ، ورد اسم خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله : «محمّد رسول الل».

وهذا هو مجموع اولئك العظماء الستّة والعشرين في مقاطع خاصّة من آيات القرآن.

لكن علاوة على هذا فهنالك ٢٦ نبيّاً عظيماً آخر اشير إليهم في القرآن دون التعرّض لذكر أسمائهم مثل : اشموئيل (١) الذي اشير إليه في سورة البقرة تحت عنوان : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ...). (البقرة / ٢٤٧)

ويوشع الذي اشير إليه في سورة الكهف تحت عنوان : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ...). (الكهف / ٦)

إذ يعتقد الكثير من المفسّرين أنّ المراد به هنا هو يوشع بن نون.

و «أرميا» الذي ذكر في سورة البقرة تحت عنوان : (أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ...). (البقرة / ٢٥٩)

وإن اعتبره البعض «عُزير» أو الخضر ، لكنّه ورد في رواية الإمام الباقر عليه‌السلام باسم «أرميا».

«الخضر» الذي جاء في آيات متعدّدة من سورة الكهف من جملتها الآية (٦٥) تحت عنوان : (عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا) ، وإن لم يرد إسمه صريحاً في هذه الآيات ، لكن طبقاً للمشهور فهو أيضاً من أنبياء الله ورسله ، وهنالك قرائن متعدّدة على ذلك في آيات من سورة الكهف.

كما يستفاد من قوله تعالى أنّ الوحي كان ينزل على «أسباط بني إسرائيل» ، حيث يقول تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ). (النساء / ١٦٣)

__________________

(١) قال البعض أنّ إسمه «يوشع» ، وذهب غيرهم إلى أنّه «شمعون» ، لكن المشهور بين المفسّرين هو نفس «اشموئيل» (تفسير مجمع البيان ، ج ١ و ٢ ، ص ٣٥٠).

٣٠٠