نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

طرق معرفة سفراء الله

تمهيد :

لا شكّ أنّ أيّ ادّعاء لا يمكن قبوله إذا لم يكن معززاً بدليل ، خصوصاً الإدّعاء الخطير جدّاً وهو ادّعاء النبوّة مثلاً ، وبالأخصّ بعد معرفتنا للكثير من الأشخاص وعلى امتداد التاريخ ممّن ادّعوا السفارة والنبوّة ، ورسالة هداية الخلق من قبل الله زوراً وبهتاناً ، بهدف إضلال البسطاء من الناس ، فادّعوا أنّهم مرسلون من قبل الله لتحقيق أهدافهم المشؤومة وضمان طموحاتهم اللامشروعة ، وقد وُفّقوا بعض الشيء في كسب بعض المغفلين نحوهم.

وبناءً على هذا فلابدّ من وجود مقاييس يمكن من خلالها تمييز الأنبياء الإلهيين من المدّعين الكذّابين ، وبعد مطالعة هذا الموضوع بدقّة تنكشف أمامنا أربعة طرق :

١ ـ «الإعجاز» وهو القيام بأمور خارقة للعادة وخارجة عن قدرة الإنسان ، مرفقة بدعوى النبوّة.

٢ ـ التحقيق في مضمون دعواتهم والتي يمكن أن تكون لوحدها في بعض الأحيان دليلاً على صدقهم وحقّانيتهم ، وقد يكون هذا الطريق أكثر قبولاً وثقة لدى العلماء حتّى من المعجزة.

٣ ـ جمع القرائن التي تحوم حول مدعي النبوّة ، وسوابقه وسلوكه ومحيطه والذين آمنوا به ، بالإضافة إلى الطرق التي يسلكها لنشر دعوته ، وما إلى ذلك.

وكثيراً ما يحدث أن تدفع هذه القرائن مجتمعة للإيمان برسالته وصدق دعوته دون حاجة إلى اللجوء إلى شيء آخر.

٢٢١

٤ ـ شهادة الانبياء السابقين التشخيص عن طريق الأخبار وتزكية الأنبياء السابقين ، أي أنّه يمكن لأخبار من اتّضح أنّه نبي أن تكون دليلاً وعاملاً مساعداً لمن يأتي بعدهم.

على أيّة حال فالشيء المسلّم به هو عدم إمكان قبول أي دعوى بلا دليل مقنع ، وقد عاتب القرآن مراراً وكراراً أولئك الذين يدّعون أو يتّبعون بلا علم ولا دليل.

ومن البديهي أنّ أشخاصاً كهؤلاء سيكونون في مهب ريح اللوم والعتاب على الدوام ، وعلى حدّ قول بعض الفلاسفة : «من يقبل كلاماً بلا دليل لا يستحقّ إسم الإنسان».

كما أنّ القرآن يعتبر أمثال هؤلاء الأشخاص أي الذين يتبعون الهوى بلا علم ولا دليل من أضلّ الناس إذ يقول : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِّنَ اللهِ). (القصص / ٥٠)

وفي موضع آخر يقول بصراحة لمن يدّعي دعوىً فيما يتعلّق بالتوحيد أو النبوّة : (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ). (البقرة / ١١١) (النمل / ٦٤)

كما يقول في موضع آخر : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). (الإسراء / ٣٦)

وأخيراً فقد اعتبر أولئك الذين يتكلّمون بغير علم من أكثر الناس كذباً وافتراءً وظلماً ، يقول الله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ). (الأنعام / ١٤٤)

بعد هذه المقدّمة الخاطفة يأتي دور كلّ واحد من هذه الطرق الأربعة ونبدأ بمسألة «الإعجاز».

* * *

٢٢٢

١ ـ الاعجاز

وينبغي الإلتفات إلى أنّ القرآن لا يعبّر بالإعجاز أو المعجزة في هذه المسألة ، بل يستعمل وبشكل رئيسي ثلاثة تعابير أخرى وهي : «آية» و «بيّنة» و «برهان» ، والآن لنمعن خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال :

١ ـ (قَالَ (فرعون) إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ (من جيبه) فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ). (الأعراف / ١٠٦ ـ ١٠٨)

٢ ـ (وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنينَ). (آل عمران / ٤٩)

٣ ـ (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ). (الأعراف / ١٣٢ ـ ١٣٣)

٤ ـ (وَإِلَى (قوم) ثَمُودَ (أرسلنا) (أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ...). (الأعراف / ٧٣)

٥ ـ قَالَ (نوح) (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ (فهل تنكرون دعوتي ثانية) أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ). (هود / ٢٨)

٢٢٣

٦ ـ (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ...* اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ). (القصص / ٣١ ـ ٣٢)

٧ ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (الإسراء / ٨٨)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

الإعجاز ، أوّل دليل على النبوّة :

كما تمّت الإشارة سابقاً فانّ لفظة الـ «معجزة» لم ترد في القرآن بالمعنى المصطلح عليه اليوم أبداً ، بل إنّ ألفاظاً أخرى من قبيلـ «آية» و «بيّنة» و «برهان» قد حلّت محلّها ، وعلى الرغم من إطلاق هذه الألفاظ الثلاثة في القرآن على معاني أخرى أيضاً ، فانّ «المعجزة» أحد معانيها.

الآيات المختارة المذكورة هي من أجلى الآيات التي تتحدّث عن المعجزة بالاستفادة من هذه الألفاظ الثلاثة ، بالإضافة إلى بعض الآيات الأخرى التي تعكس مفهوم ضعف الإنسان وعجزه عن مقابلة بعض ما يقوم به الأنبياء من بعض الممارسات الخارقة للنواميس الطبيعية بالمثل ، بالرغم من خلوّها من كلّ واحدة من هذه الألفاظ الثلاثة ، وبالنتيجة فهي تثبت استعانة الأنبياء بـ «الإعجاز» للتدليل على حقّانيتهم من جهة ، ومطالبة الناس بـ (المعجزة) من جهة أخرى.

ورد في الآية الاولى : (قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ).

إذ نرى هنا أنّ فرعون قد اعتبر المطالبة بـ «آية» أي «معجزة» حقّاً مشروعاً له ، ومن المعلوم أنّ موسى قد وافق بدوره على هذا الطلب برحابة صدر ، وجاء بنموذجين من معجزاته.

٢٢٤

وبهذا فهذه الآيات تعتبر الأمور الخارقة للعادة (المشروطة) تمثل الطريق لمعرفة الأنبياء عليهم‌السلام.

هذه الآيات لم تقل أبداً أنّ هذا الشيء قد تجسّم أمام أنظار فرعون ، بل تحكي عن حقيقة متحقّقة ألا وهي استبدال العصا بثعبان رهيب ، وبياض يد موسى حينما أخرجها من جيبه ، كما أنّ التعبير بالـ «مبين» إشارة إلى نفس هذا الشيء أيضاً.

يحتمل أن يكون السبب وراء اختيار هاتين المعجزتين يعود إلى امتلاك إحداهما ميزة الإرهاب للمستكبرين والمعاندين وتهديدهم ، والأخرى ميزة الترغيب لإيمان المؤمنين ، على أمل أن يمتزج «اللين» بـ «الشدّة» ليقدما معاً دواءً شافياً للعباد.

* * *

وفي الآية الثانية تمّت الإشارة بقوّة إلى معجزات السيّد المسيح ، وتمّ التعبير عنها بالـ «آية» ، وكان ذلك في وقت بشّرت فيه مريم عليها‌السلام بولادة المسيح عليه‌السلام ، إذ قال تعالى : (وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنينَ).

وقد تمّ في هذه الآية ذكر مجموعة من معجزات السيّد المسيح : خلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص الذي يستحيل علاجه ، وإحياء الموتى ، والتي تمّت كلّها بإذن الله بالإضافة إلى الإطّلاع على الأمور الخفيّة وأسرار الغيب.

لم تكن معجزة المسيح لتنحصر بهذه المعاجز الأربع فحسب ، إذ إنّ هناك خوارق أخرى للعادات قد نقلت عنه في القرآن الكريم ، من جملتها تكلّمه في المهد ، ونزول مائدة من السماء على الحوارين بدعائه.

والمعروف هو أنّ اختيار الله لقسم من هذه المعجزات للمسيح عليه‌السلام ، إنّما كان بسبب انتشار العلوم الطبيّة وتطوّرها في ذلك الزمان ، وحاجة الناس الماسة إلى مهنة الطبابة نظراً

٢٢٥

لشيوع الأمراض آنذاك ، فوضع الله هذه المعجزات الخاصّة تحت تصرّف المسيح ، ليتعرّف به العالم وغيره ويستسلم له ولتتجلّى عظمة إعجازه بشكل أكبر (١).

هذه الملاحظة أيضاً جديرة بالاعتبار وهي وجود نوع من التنسيق بين هذه المعجزات الماديّة ، وبين البرامج المعنوية والتربوية للسيّد المسيح : فلقد ربى بدعوته هذه أناساً متفتّحين على أفكار ومعارف جديدة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، شفاء المرضى الذين يستحيل علاجهم على يديه ، وإحياء ضحايا وادي الضلال وهداهم ، ومسح بأسرار الغيب وأنوار المعرفة على القلوب ، وبهذا كانت تلك المعجزات الماديّة متناسبة مع هذه الأهداف المعنوية.

صحيح أنّ «المعجزة» يجب أن تكون عملاً خارقاً للعادة بحيث يعجز الكلّ عن الإتيان بمثله ، لكن الله الحكيم الذي يتصرّف بحكمة ، قد اختار المعجزات طبقاً لبرنامج مدروس.

هذه الملاحظة أيضاً جديرة بالتأمّل والتفحّص وهي أنّ التعبير بـ «إذن الله» قد تكرّر مرّتين في هذه الآية ، لئلّا يضل الجهّال في وادي الشرك أو يبالغوا في درجة النبي إلى مرتبة الغلو ، خصوصاً وأنّ كيفية خلق عيسى كانت بشكل يساعد على تهيئة الأرضية المناسبة للغلو في أفكار قصيري النظر ، ولذا فقد تمّ التأكيد مراراً على إذن الله وأمره لئلّا يذهب بهم خيالهم إلى اتّصافه واقعاً بصفات الربوبية ، وكون هذه الأعمال صادرة منه بنفسه ، بل ليعلموا أنّها جميعاً من عند الله.

* * *

الآية الثالثة تبيّن بوضوح أنّ موسى عليه‌السلام قد جاء للفراعنة بالعديد من خوارق العادة ، (أو بعبارة أخرى بالآيات المفصّلات) ، لكن الملأ من آل فرعون لم يؤمنوا بحجّة كون ذلكـ «سحراً» ، يقول تعالى : (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ).

__________________

(١) وردت هذه الملاحظة في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام (بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٧٠).

٢٢٦

هذه الحوادث العجيبة وغير المتوقّعة كانت لها صفتي التأديب والإعجاز معاً.

كما أنّ الآيات اللاحقة لها تبيّن أيضاً أنّهم كانوا يلجأون إلى موسى عند الشدائد ، ويرجون منه الطلب من الله برفع «البلاء» ويعدونه لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمننّ لك ، ولكن حينما كان يكشف عنهم الرجز ينكثون عهدهم ، إلى أن استحقّوا أخيراً «عذاب الإستئصال» واجتُثُّوا عن بكرة أبيهم.

صحيح أنّ الفراعنة وبني إسرائيل كانوا يعيشون معاً ، لكن لا يخفى أنّ الفراعنة كانوا هم المستهدفين بهذه البلايا ، فتلك قصورهم الفخمة تطلّ على طرفي النيل ، بينما منازل بني إسرائيل تقع في مناطق نائية ، ولذا ذهب الطوفان والفيضان بقصور الفراعنة.

كما دمّر الجراد والآفات الزراعية مزارعهم الواسعة ، وحصلت زيادة مطّردة ومفاجئة في تكاثر الضفادع لتخرج من النيل وتدخل في كلّ جزئيات حياة الفراعنة ، بل لم تترك حتّى غرف نومهم وموائد طعامهم وأوانيهم بالإضافة إلى تحمّلهم لخسائر فادحة جدّاً حينما تلوّن نهر النيل بالدم.

لكن هذه البلايا أو بعبارة أخرى «المعجزات المنبّهة» التي ورد شرحها في التوراة الحالي ، في «سفر الخروج» الفصل السابع إلى العاشر ، لم توقظهم أبداً.

ويحتمل أن يكون اختيار هذه المعجزات الخمس ناظراً إلى إحاطة العذاب الإلهي بكافّة شؤون حياتهم ، فالطوفان قلب قصورهم رأساً على عقب ، والجراد دمّر بساتينهم ، و «القمّل» ذهب بزراعتهم ، والضفادع سلبتهم راحة بالهم وسكينتهم ، وإستبدال ماء النيل بالدم حرمهم ماء شربهم!

* * *

وهناك إشارة مختصرة في الآية الرابعة إلى معجزة نبي آخر وهو النبي صالح عليه‌السلام ، حيث تعبّر عنها بـ «البيّنة» ، وكذلك الـ «آية» ، يقول تعالى :

(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ

٢٢٧

مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ...).

«الناقة» : تعني في الأصل أُنثى البعير ، وقد أشير في القرآن إلى ناقة صالح بهذه اللفظة أكثر من مرّة ، والتي كانت ناقة إستثنائية بلا شكّ ، وذلك في كيفية خروجها بالإضافة إلى بقيّة الحالات والصفات التي يكون الخوض في جزئياتها خارجاً عن موضوع هذا البحث ، إذ لا نعلم أكثر من عدم كونها ناقة عادية ، ولذلك يعتبرها بمثابة البيّنة والآية ولغرض الوقوف على أهميّة هذه المعجزة فقد تمّ التعبير عنها في الآية المذكورة بـ «ناقة الله».

لماذا اختار الله هذه المعجزة من بين كلّ المعجزات لصالح عليه‌السلام؟ قال البعض : كان ذلك استجابة لطلب القوم لمثل هذه الناقة.

نقرأ في إحدى الروايات : «حينما بُعث صالح بالنبوّة بين قوم ثمود الذين كان لهم سبعون صنماً يعبدونها ، لبث فيهم مدّة طويلة يدعوهم وينصحهم ، لكنّهم لم يجيبوه إلى خير ، فقال لهم ذات يوم : أنا أعرض عليكم أمرين ، إن شئتم فاسألوني حتّى أسأل إلهي فيجيبكم فيما تسألون ، وإن شئتم سألت آلهتكم فان أجابوني خرجت عنكم ، فقد شنئتكم وشنئتموني ، فقالوا قد أنصفت!

فتواعدوا ليوم يخرجون فيه ، فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم وأكلوا وشربوا فلمّا فرغوا ، دعوه فقالوا ياصالح سل فسألها فلم تجبه ، فقال : لا أرى آلهتكم تجيبني فاسألوني حتّى أسأل إلهي فيجيبكم الساعة ، فقالوا ياصالح! اخرج لنا من هذه الصخرة (وأشاروا إلى صخرة منفردة) ناقة مخترجة جوفاء وبراء فان فعلت صدّقناك وآمنا بك ، ففعل صالح ذلك ولم يؤمنوا» (١).

* * *

الكلام في الآية الخامسة هو عن «البيّنة» أيضاً ، وقد ذكرت هنا «بيّنة نوح» تلك البيّنة التي يراد منها «معجزة ظاهرة» ، إذ نراه يعقّب على كلام مشركي القوم حينما قالوا : «بل

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٤١ (بتلخيص).

٢٢٨

نظنّكم كاذبين» ، بالقول : (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ (تعصّباً وعناداً) أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (١).

قال الكثير من المفسّرين أنّ «البيّنة» تعني هنا المعجزة ، وعلى الرغم من المنقول عن ابن عبّاس أنّ المراد بالبيّنة هو الدليل المنطقي الجليّ ، لكن نظراً للتعبير بـ «من ربّي» ولكون هذه البيّنة قد اقيمت في مقابل تكذيب نوح وأتباعه ، فلا يمكن أن يفهم منها سوى المعجزة ، وربّما كان مراد ابن عبّاس من الدليل الواضح نفس المعجزة أيضاً.

* * *

ونلاحظ في الآية السادسة تعبيراً آخر حول هذا الموضوع ألا وهو «البرهان» ، إشارة إلى معجزتي موسى المعروفتين واللتين وردتا في الآيات السابقة ، أي استبدال العصا بثعبان عظيم ، وبياض اليد ، يقول تعالى : (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ).

و «البرهان» : وعلى حدّ قول الراغب في المفردات يعني الدليل المحكم ، وقد اعتبره البعض مصدراً لمادّة «بَرَهَ ـ يَبْرَهُ» إذا ابيضّ ، وإطلاق هذه المفردة على الأدلّة المحكمة من باب بيانه للمطلب ، وتوضيحه له ، أو لأنّه يبعث على افتخار المتكلّم ، أو أنّه إشارة إلى الكلام الواضح الذي يعتريه الإبهام.

وفي «لسان العرب» فسّر البرهان بمعنى الدليل الواضح الذي يميّز الحقّ عن الباطل ، ومن هنا فسّر المفسّرون لفظة «برهانان» في ذيل الآية بمعنى الدليلين الجليين (٢).

لكن صاحب كتابـ «التحقيق» يعتقد بأنّ استعمال لفظة البرهان بمعنى الدليل اصطلاح منطقي خارج عن دائرة اللغة ، وأنّ معناه هو ذلك الكلام الواضح الخالي من الإبهام ، أو الموضوع الواضح تماماً.

على أيّة حال ، ففي الآية أعلاه قد استعملت هذه اللفظة في التعبير عن المعجزة ، التي تعدّ دليلاً جليّاً وواضحاً على صدق مدّعي النبوّة ، أي النبي موسى عليه‌السلام هنا.

__________________

(١) جملة «أنلزمكموها» هي بمثابة الجزاء للقضيّة الشرطية «إن كنت».

(٢) تفسير الكبير ، ج ٢٤ ، ص ٢٣٨.

٢٢٩

وفي الآية السابعة والأخيرة من الآيات التي وردت في البحث لم يكن التعبير بالـ «آية» أو الـ «بيّنة» أو الـ «برهان» ، بل بمصداق من المصاديق البارزة جدّاً للمعجزة ، وبعد ذلك تمّ التصريح بالقول : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

الهدف لا يكمن في الخوض في بحث «إعجاز القرآن» لأنّ هذا البحث قد جاء في ذيل هذه الآية في المجلّد الثاني عشر من «التفسير الأمثل» ، كما سيأتي أيضاً في المجلّد القادم من نفحات القرآن ، بشرح أوفى ، إنّما الهدف هو بيان حقيقة كون المعجزة هي إحدى الطرق القطعية لمعرفة الأنبياء عليهم‌السلام.

ولذا نقرأ في ذيل آية أخرى دعوة القرآن المخالفين للإتيان بعشر سور مثل سور القرآن : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ). (هود / ١٤)

ثمرة البحث :

يمكن الإستنتاج بوضوح من مجموع ما تقدّم ، أنّ المعجزة لم تكن بنظر القرآن أحد الأدلّة الرئيسيّة لإثبات نبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب ، بل لنبوّة سائر الأنبياء أيضاً.

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ هناك آيات قرآنية تعدّ بمثابة العلّة لمنكري المعجزة ، والتي سنتكلّم عنها بالتفصيل في قسم التوضيحات.

* * *

توضيحات

١ ـ ما هي حقيقة الإعجاز

لفظة الإعجاز والمعجزة وكما أشرنا سابقاً لم ترد في القرآن بالمعنى المصطلح عليه اليوم ، بل قد تمّت الإستعانة بتعابير أخرى في هذا المجال ، وقد تقدّم شرحها في الآيات التي مرّ ذكرها ، فالبحث هنا ليس بحثاً لغوياً ، إذ الهدف هو بيان حقيقة الإعجاز والمعجزة ، لكن لا

٢٣٠

بأس بإشارة خاطفة قبل ذلك إلى المفهوم اللغوي للفظة «الإعجاز» ، ليتّضح السبب الذي دفع العلماء والأكابر إلى انتخاب هذه المفردة لخصوص هذا المعنى.

مع أنّ هناك معنيين قد ذكرا في مقاييس اللغة لأصلـ «الإعجاز» أي «العجز» وهما : «الضعف» و «عقب كلّ شيء» ، لكن الراغب أرجع هذين المعنيين في المفردات إلى معنى واحد ، واعتبر المعنى الأصلي هو «عقب كلّ شيء» ، وقد ترد بمعنى «الضعف» نظراً لتبعية الأفراد الضعفاء للآخرين ، وحيث إنّ معجزات الأنبياء هي من القوّة بحيث يعجز الآخرون عن التصدّي لها ومقابلتها بالمثل ، فقد اطلقت لفظة المعجزة عليها.

على أيّة حال ف «المعجزة» في التعريف الذي ذكره لها علماء العقائد ، عبارة عن ذلك الشيء الجامع للشروط الثلاثة أدناه :

١ ـ العمل الخارق للعادة والخارج كليّاً عن طاقة النوع البشري ، والذي يعجز عن الإتيان بمثله حتّى أكبر نوابغ العالم.

٢ ـ أن تكون مرافقة لدعوى النبوّة أو الإمامة من قبل الله ، وبعبارة أخرى أن تكون بمثابة الدليل على حقّانية مدّعي الرسالة والإمامة.

٣ ـ أن تكون بلسان «التحدّي» أي الدعوة للمعارضة والمقابلة بالمثل ، وبعبارة أخرى أن يتحدّى مدّعي النبوّة أو الإمامة أولئك الذين ينكرون كونها من عند الله ، الإتيان بمثلها ، بالضبط كما عرض القرآن هذا الأمر أكثر من مرّة فيما يتعلّق بإعجاز هذا الكتاب السماوي ، وقد مرّ بنا مثال ذلك في الآيات السابقة.

* * *

وممّا تقدّم أعلاه يمكن استنتاج الأمور التالية :

أ) المعجزة مستندة على القدرة الإلهيّة

ولا يمكن قياسها بأعمال نوابغ العالم ، والإكتشافات العلمية العجيبة ، إذ يحتمل مثلاً وجود طفل ذكي لم يتجاوز عمره السبع سنين ، ومع ذلك نراه يخطب خطبة عصماء ، فهذا

٢٣١

نوع من النبوغ ، ولذا يحتمل العثور على طفل آخر مثله أيضاً ، أمّا الطفل الرضيع فمن غير الممكن (عادةً) أن ينطق بفصاحة ليقول كما نقرأ بالنسبة للمسيح : (قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً). (مريم / ٣٠)

أو أنّ من الممكن لعالمٍ إختصار فترة نضوج فاكهة ما من سبع سنين مثلاً إلى عدّة أشهر ، وذلك باكتشاف علمي جديد وأدوية خاصّة ، فمن الواضح أنّ هذا العالم قد جاء باكتشاف عظيم ، لكن من المحتمل أن يأتي مكتشف ونابغة آخر بعمل مشابه له أيضاً ، امّا لو تحوّلت شجرة يابسة إلى مثمرة في لحظة واحدة (وكانت ترافقها دعوى النبوّة والتحدّي) فهي معجزة إلهية.

* * *

ب) المعجزة لا تعني عمل المستحيل عقلاً

(سواء كان محالاً ذاتياً كاجتماع النقيضين والضدّين في مكان واحد وزمان واحد ، أو محالاً بالغير كالأمر الذي ينتهي وجوده في خاتمة المطاف إلى محال عقلي) لأنّه غير ممكن بحكم العقل ، أو بعبارة أخرى هو خارج عن دائرة القدرة ، أي أنّ استعمال كلمة «القدرة» في حقّها لا معنى له أصلاً ، مثل أن يريد أحد الأنبياء أن يكون الشيء موجوداً وغير موجود في آن واحد ، أو أن يضع صخرة عظيمة داخل بيضة دون أن تصغر الصخرةٌ أو تكبر البيضة ، مثل هذه القضايا إنّما تزرع التضادّ في داخلها بنفسها ، أي أنّها في حقيقتها قضيّة خاطئة ، ومفهومها في الحقيقة هو أن يريد الإنسان شيئاً ولا يريده (تأمّل جيّداً).

وبناءً على هذا فالمحالات العقليّة لا محلّ لها لا في بحث الإعجاز ، ولا حتّى في أي بحث آخر ، بل الذي يمكن عرضه هو المحال العادي فحسب ، وبهذا فالمعجزة محال عادي لا غير.

أي أنّ مثل هذا الشيء لا يمكن تحقّقه طبقاً للتسلسل الطبيعي لقانون العلّة والمعلول ، واستناداً إلى الأسباب والشروط العادية والطاقة البشرية ، لكن لا مانع من تحقّقه أبداً بالقدرة الإلهيّة كالأمثلة المذكورة آنفاً.

٢٣٢

ج) المعجزة لا تعني تحطيم قانون العلّية

قد يتوهّم البعض أنّنا وبقبولنا للمعجزات يجب أن نضرب أصل العلّية عرض الحائط ، وان نسلّم بإمكان صدور المعلول بلا علّة ، إلّاأنّ هذا المعنى غير مقبول لدى أي عالم ومفكّر.

ومن الواضح أنّ أصل العلّية لا ينحصر في الأصول البديهية للعلوم البشرية ، بل يمتدّ ليعدّ في الفلسفة أيضاً من المسائل البديهية ، وذلك لعدم إمكان وجود أيّة حادثة بلا علّية ، والقائلون بالمعجزة لا ينكرون هذا الأصل البديهي والمسلّم به.

وبناءً على هذا فللمعجزات علل وأسباب حتماً خلافاً لهذا التوهّم ، ويحتمل أن تكون هذه العلّة أمراً ميتافيزيقيّاً أي ما وراء عالم الطبيعة (وذلك لعدم انحصار الوجود بعالم المادّة والطبيعة فقط) ، بل يمكن أن تكون علّة طبيعية إلّاأنّها غير مكتشفة ، أي تلك العلّة التي يستحيل لأفراد البشر إدراكها دون الإتّكاء على علم وقدرة الخالق ، وبهذا فكلّما وصل إنسان ما لهذا العامل الطبيعي والمجهول في نفس الوقت ، لاستنتجنا اتّكاءه على قدرة إلهية.

ومعجزات الأنبياء عليهم‌السلام يمكن أن تكون من النوع الأوّل أو الثاني ، وذلك لتساويهما في إثبات ارتباطهم بالله.

وقد اعتمد القرآن في موارد كثيرة على قانون العلّية وتقبّله كأصل مسلّم به ، سواء فيما يتعلّق بعالم الطبيعة والخلقة أو بحياة الإنسان الاجتماعية أو حتّى بالحياة الشخصية لكلّ فرد ، وهناك ما لا يعدّ ولا يحصى من الآيات الشريفة حول هذا الموضوع ، وطبقاً لهذا فلا يمكن القول بأنّ المعجزات معاليل بلا علّة.

* * *

د) المعجزة لا تزلزل أُسس التوحيد ومعرفة الله

قد يتوهّم البعض ويقول : لقد عرفنا الله من خلال نظام عالم الخلقة الثابت ، فلو أمكن زلزلة هذا النظام عن طريق المعجزات ، لتزلزل أساس التوحيد ومعرفة الله ، إنّكم تريدون

٢٣٣

إثبات النبوّة بواسطة المعجزات ، وفاتكم انّكم إنّما تهدمون بذلك أساس التوحيد.

وعلى حدّ قول البعض الآخر : إنّ النظام الإلهي ليس العوبة بيد المتلاعبين ، يحرّكونه كيفما شاءوا وأمثال ذلك.

والحقيقة أنّ الذين يدّعون بمثل هذا هم من المتغرّبين المادّيين ، الذين توهّموا أنّ إنكارهم للمعجزات هذا ، سيلفت أنظار المفكّرين الغربيين إليهم ، حتّى المادّيين منهم ، مع كون هذا الكلام خطأ محض بسبب :

أوّلاً : كما تقدّم سابقاً أنّه لا شكّ لأحد في «أصالة» و «عمومية» قانون العلّية ، كما أنّ تفسير المعجزة بـ «المعلول بلا علّة» خطأ فادح ، وغياب مسير العلل العادية استثناءً بمثال محدود واحد أو أكثر ، لا يخدش في نظام الكون أبداً ، لأنّ ما يتجسّد أمامنا كلّ ساعة من الآلاف المؤلّفة من مصاديقه لا يمكن أن يتزلزل بحالة استثنائية تحدث بالسنة مرّة مثلاً فضلاً عن كون حصول ذلك الاستثناء لإثبات هدف أكبر ، نعم لو حدثت كلّ يوم آلاف الآلاف من المعاجز لكان هناك مجال لتردّد البعض في أصل وجود نظام الكون.

ثانياً : لم يدّع أحد أنّ نظام الله هو ألعوبة ، أو أنّ الأنبياء عليهم‌السلام يتصرّفون به كما يحلو لهم ، بل الذي نقوله هو أنّ الأنبياء عليهم‌السلام إنّما يظهرون أمراً خارقاً للعادة بأمر من الله ، ليثبتوا ارتباطهم بعالم ما وراء الطبيعة ، مع اكتفائهم بالحدّ الأدنى من المعاجز ، وعدم استعدادهم لتقبّل المعجزات المقترحة (المعجزات التي تقترح من قبل ذوي الحجج والشكوك الباطلة).

وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تشير إلى هذا المعنى ، والتي سنتكلّم عنها بالتفصيل إن شاء الله عند عرضنا لمنطق «المخالفين للمعجزات».

* * *

ه) فرق المعجزة عن النبوغ

لقد اتّضح عدم وجود أي شبه بين المعجزة وعمل النوابغ ، إذ إنّ المعجزة هي العمل الخارج أساساً عن قدرة الإنسان ، في حين من الممكن أن يظهر أمام كلّ نابغة شخص مثله

٢٣٤

ليقابله بالمثل ، فضلاً عن أنّ أعمال النوابغ محدودة بحدود معيّنة على الدوام ، فأحدهم يبرز مثلاً في الأدبيات والآخر في الفنّ والثالث في الرياضيات والرابع في الصناعة و... ، امّا إعجاز الأنبياء عليهم‌السلام فلا يحدّه إطار معيّن.

وبعبارة اخرى فأهل النبوغ إنّما يؤدّون ما يعلمون لا ما يطلبه الناس منهم ، في حين أنّ معجزات الأنبياء تتمّ طبقاً لمراد الناس (وهم أتباع الحقيقة طبعاً ، لا من يبحث عن الحجج والذرائع).

بالإضافة إلى قيام النوابغ عادةً بتنمية قدراتهم الباطنية عن طريق التربية والتعليم ، وعجزهم عن أداء أي شيء مع غياب التعلّم المستمرّ والتمرين المتواصل ، في حين أنّ هذا لا يصدق في حقّ الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

و) هل أنّ المعجزات عمل إلهي أو نتيجة قوّة نفوس الأنبياء؟

طبقاً لما قلناه سابقاً ، فالأمور الصادرة من النبوغ أو إرادة الإنسان القويّة أو النفوس السامية ، هي أمور محدّدة ومشخّصة ، وبالإمكان العثور على نظير ذلك الشيء عند باقي البشر ، في حين أنّ المعجزات غير محدودة وغير قابلة للمعارضة ، كما أنّه لا يمكن العثور على أمثالها في غير الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام.

أمّا حديثنا فيدور حول المعجزة ، وهل أنّها من عند الله وأنّ دور الأنبياء يقتصر على الدعاء والطلب فحسب ، أم أنّ الله يمنح نفوس الأنبياء وإرادتهم قوّةً تمكّنهم من أداء هذه الأعمال الخارقة للعادة بإذنه تعالى؟

لا شكّ أنّ بعضاً من المعجزات كالقرآن المجيد هو عمل الله وكلامه ، والحديث هنا عن معجزات أخرى كمعجزة عصا موسى عليه‌السلام واليد البيضاء ، ومعجزات المسيح عليه‌السلام فيما يتعلّق بإحياء الموتى وشفاء المرضى.

وكلا الاحتمالين ممكنان بنظر العقل ، أي أنّه لا مانع أبداً في أن تتحقّق المعجزة من قبل

٢٣٥

الله ودعاء النبي وطلبه ، أو أن يمنح الله مثل هذه القدرة لنفوس الأنبياء ، ولا منافاة لأي منهما مع أصل التوحيد وإسناد المعجزات إلى الله.

كما أنّ هناك اختلافاً بين ظواهر آيات القرآن أيضاً ، يقول تعالى فيما يتعلّق بإحياء الموتى من قبل المسيح عليه‌السلام : (وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ) إذ إنّه نسب إحياء الموتى هنا إلى نفسه.

في حين أنّه يقول تعالى فيما يتعلّق بخلق الطير : (فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ). (آل عمران / ٤٩)

فالاولى تبيّن أنّ بعضاً من المعجزات يكون من عمل الأنبياء عليهم‌السلام بأمر من الله ، والثانية تدلّ على أنّ البعض الآخر هو من عمل الله ، وكما قلنا فكلاهما يعودان في خاتمة المطاف إلى الإرادة الإلهيّة ولا منافاة لأي منهما أبداً مع أصل التوحيد.

فهل أنّ الدواء الشافي بإذن الله يتنافى وأصل التوحيد؟

من البديهي أنّه لا مانع أبداً في أن تؤثر إرادة شخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في إحياء الموتى وشفاء المرضى بإذن الله ، وقد فات المصرّين على نفي هذا المعنى ، تلك الحقيقة وهي أنّ تأثير كلّ شيء إنّما هو بإذن الله وهذا هو عين التوحيد.

* * *

٢ ـ العلاقة بين الإعجاز والنبوّة

هناك كلام بين العلماء فيما يتعلّق بكيفية دلالة المعجزة على نبوّة صاحبها ، أي كيف نثبت أنّ المعارف والقوانين والأحكام التي جاء بها هي وحي إلهي؟ :

قال البعض : إنّ دلالة المعجزة على هذا المعنى هي دلالة عقلية ، في حين رجّح الكثير منهم كونها دلالة وضعية.

بيان ذلك : قد يُتصوّر أحياناً أداء عمل خارق للعادة لا يمكنه أساساً أن يكون دليلاً على صدق مدّعي النبوّة ، إذ لا مانع من قيام شخص بمعجزة ما مع عدم كونه نبيّاً ، فلو أنّ أحداً

٢٣٦

كان خطّاطاً ماهراً ، فهل يدلّ هذا على ضرورة كونه عالماً متبحّراً أيضاً؟!

لكن هناك ملاحظة لم ينتبه لها أصحاب هذا الكلام ، ألا وهي أنّ الأمر الخارق للعادة الصادر من العلماء المتبحّرين لا يُعدّ معجزة والذي يفوق قدرة الإنسان ، أي المستند على خصوص القوّة الإلهيّة.

هل يمكن أن يضع الله أمراً خارقاً للعادة ، خارجاً عن عهدة البشر ، تحت تصرّف مدّع كذّاب ليُضلّ عباده؟ هل ينسجم هذا المعنى مع حكمة الله؟ هذا يشبه تماماً ادّعاء أحد بأنّي وكيل للشخص الفلاني إليكم ، ويستدلّ على ذلك بالخاتم الخاصّ الذي في يده ، والذي يعود إلى ذلك الشخص ، مع علم صاحب الخاتم بذلك.

لا شكّ في كون هذا الأمر دليلاً على قبوله ورضاه ، وإلّا فمن المستحيل أن يسكت على عمل كهذا.

وهذا هو ما بيّنه القرآن فيما يتعلّق بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالَيمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ). (الحاقّة / ٤٤ ـ ٤٦)

إشارة إلى أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع امتلاكه لتلك المعجزات ، لو انحرف عن الحقّ ونسب إلى الله كلاماً مخالفاً ، لاستلزمت الحكمة الإلهيّة عدم إمهاله ولو لحظة واحدة ولأهلكته في الحال.

من الطبيعي أنّ المدّعين للنبوّة كذباً كانوا ولا زالوا كثيرين في العالم ، ولا داعي لأن يهلك الله أحداً لمجرّد ادّعائه النبوّة كذباً ، هذا الكلام إنّما يصدق في حقّ اولئك الذين لديهم معجزة ، إذ إنّهم لو كذّبوا على الله لما أمهلهم أبداً باعتباره اغراء بالجهل.

الجواب الآخر عن هذا السؤال هو أنّ الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يدّعون أنّ الرسالة إنّما تعطى لهم عن طريق الوحي ، سواء كان الوحي نازلاً عليهم مباشرةً ، أو عن طريق نزول الملائكة ، أيّاً كان فهو أمر خارق للعادة غير مشابه لإدراكات الإنسان الإعتيادية ، وحتماً فانّ هناك نوعاً من السيطرة على عالم ما وراء الطبيعة في نفوس الأنبياء.

٢٣٧

ومن هنا كان المخالفون يستشكلون على الأنبياء بأنّكم بشر مثلنا فكيف تمكنتم من الإرتباط بما وراء الطبيعة؟ ولذا فقد توسّلوا بالمعجزات لإثبات تفاوتهم مع الآخرين (١).

ومع أنّ كلا الجوابين مناسبان وفي نفس الوقت لا تنافي بينهما ، فالأوّل يبدو وكأنّه أوضح من الثاني.

* * *

٣ ـ الاختلاف بين معجزات الأنبياء عليهم‌السلام

من المعلوم أنّ معجزات الأنبياء الإلهيين كانت متفاوتة ومتنوّعة كثيراً ، فهل ياترى أنّ هذا الأمر كان من قبيل الصدفة؟ أم أنّ هناك فلسفة ما وراء ذلك.

إنّ احتمال الصدفة بعيد جدّاً ، والظاهر هو أنّ الله الحكيم قد وضع معجزات الأنبياء بشكل بحيث تترك كلّ واحدة منها أكبر الأثر ، قياساً بالظروف الزمانية والمكانية لكلّ نبي على حده.

فمثلاً حينما نجد أنّ القرآن يُعتبر أكبر معجزة لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ ذلك بسبب:

أوّلاً : أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى كلّ البشرية وإلى أبد الدهر ، ومن هنا فلابدّ والحالة هذه أن يأتي بمعجزة خالدة لا تفقد دورها بمرور الأيّام.

ثانياً : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان اميّاً ، فمجيئه بمثل كتاب القرآن يعدّ من أرفع مراتب الإعجاز.

ثالثاً : إنحطاط المستوى الفكري لبيئة الجاهلية مع رفعة مضامين القرآن ، وهذا قرينة واضحة اخرى.

مضافاً إلى ذلك نجد أنّ أدبيات العرب وعلى اختلاف أفكارهم ومعارفهم كانت في ذلك الزمان قد بلغت الذروة ، إذ كان لهم شعراء فحول وخطباء يضرب بهم المثل ، وبالإمكان الوقوف على نماذج منها في الشعر الجاهلي. فحينما يستسلم مثل هؤلاء أمام فصاحة وبلاغة القرآن ، تتجلّى هذه المعجزة بشكل أوضح.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ٨٦ ، ذيل الآية ٢٣ من سورة البقرة (باقتباس).

٢٣٨

وهكذا بالنسبة لمعجزة سليمان عليه‌السلام في مسألة تسخير الرياح والشياطين ، ومعرفة منطق الطير كانت متناسبة مع اتّساع رقعة ملكه وحكومته ، نظراً لتجاوز حدود مملكته لعالم البشرية.

هذا الكلام يمكننا استنتاجه بوضوح من قول الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في معرض جوابه عن سؤالـ «ابن السكيت» (العالم المعروف بأدبيات العرب).

حينما سألـ «ابن السكيت» : لماذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا وآلة السحر ، وبعث عيسى بالطب ، وبعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكلام والخطب؟

قال الإمام عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى كان الغالب على أهل عصره السحر ، فآتاهم من عند الله بما لم يكن في وسع القوم مثله ، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم.

وأنّ الله بعث عيسى في وقت ظهرت فيه العاهات واحتاج الناس إلى الطب ، فآتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، إذ أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به الحجّة عليهم ، (طبعاً كانت مهنة الطب والطبابة رائجة كثيراً).

وإنّ الله بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ، فآتاهم من كتاب الله ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم ، وأثبت الحجّة عليهم.

فحينما سمع ابن السكيت هذا الكلام قال : «تالله ما رأيت مثل اليوم قطّ» أو (تالله ما رأيت مثلك اليوم قطّ)» (١).

* * *

٤ ـ السحر لا يضاهي المعجزة

وهنا يرد سؤال مهمّ آخر كان قد تجسّد في كلمات العلماء منذ قديم الأيّام ، وهو أنّه كثيراً ما يشاهد أنّ أشخاصاً حتّى من الكفّار قد نالوا قسطاً من خوارق العادات نتيجة للرياضات

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٧٠ (باب علّة المعجزة ، ح ١).

٢٣٩

الشاقّة ومقاومة ميول النفس والتمارين الصعبة للغاية ، وبالخصوص بين مرتاضي الهند ، وهناك نماذج مختلفة منها في كتب العلماء والصحف اليومية ، وهي بكثرة بحيث لا يمكن إنكارها ، بل إنّ أصعب الناس تصديقاً حينما يرى هذه المواقف يذعن بإمكان صدور الامور الخارقة للعادة من أفراد لا يمتّون للدين بصلة.

والآن يثار هذا السؤال : وهو أنّه كيف يمكننا التمييز بين خوارق العادات هذه وبين معجزات الأنبياء؟ ولو كان هناك تفاوتاً بينهما فما هو؟ ألا يحتمل أن تكون معجزة النبي من قبيل خوارق العادات لدى المرتاضين أيضاً؟

الجواب : ينبغي أوّلاً تقديم تعريف مختصر عن «السحر» فهناك أبحاث موسّعة عن ماهية السحر وتاريخ ظهوره ، إذ من الصعب تحديده بتأريخ معيّن ، لكن يمكن القول : إنّ السحر يعني في الأصل كلّ أمر لا يعرف مصدره ، ويطلقونه عادةً على الامور الخارقة للعادة التي تتمّ بطرق معيّنة ، والهدف منه هو إغفال الناس وخداعهم.

كما ويتوسّلون أحياناً بالعوامل التلقينية أي إنّهم يعكسون أمام أنظار العوام مسائل لا حقيقة لها ، بالتلقينات القويّة والمؤثّرة ، ويستفيدون أحياناً من المهارة والخدعة ، وهي ما يصطلح عليها بـ «الشعوذة» ، وهكذا يشغلون الناظر بأشياء معيّنة ثمّ يحرّكون الأشياء عن مواضعها بسرعة ومهارة بحيث لا يلتفت إليها الناظر بل يظنّها خرقاً للعادة.

كما ويستعينون أحياناً بالخواصّ الفيزيائية والكيميائية المجهولة لبعض الأجسام ، أو الامور المرتبطة بكيفية صدور النور من زوايا مختلفة ، بحيث يرى الناظر أمامه اموراً خارقة للعادة لا يعلم بأسرارها.

وأخيراً تلك الامور الخارقة للعادة عن طريق الإرتباط بالأرواح والإستعانة بالشياطين ، وهذه كلّها تندرج تحت المفهوم اللغوي الجامع لكلمة «السحر».

كما يمكن اعتبار أعمال المرتاضين التي يؤدّونها عن طريق التمارين الشاقّة ، وتمركز القوى الروحية والبدنية ضرباً من «السحر» أيضاً ، وإن كانت تعدّ أحياناً خرقاً للعادة في قبال السحر.

٢٤٠