نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

وأريحوا العالم من وجوده ، قال أبو لهب : كفّوا عنه ، فهو مخدوع من محمّد وقد أفدى نفسه له.

حينئذ التفت علي عليه‌السلام إلى أبي جهل وقال : «ياأبا جهل بل الله قد أعطاني من العقل ما لو قسّم على جميع حمقاء الدنيا ومجانينها لصاروا به عقلاء ، ومن القوّة ما لو قسّم على جميع ضعفاء الدنيا لصاروا به أقوياء ، ومن الشجاعة ما لو قسّم على جميع جبناء الدنيا لصاروا به شجعاناً ، ومن الحلم ما لو قسّم على جميع سفهاء الدنيا لصاروا به حلماء» (١).

فحينما يتمتّع علي عليه‌السلام بهذه المرتبة من العقل والمعرفة فمن المسلّم أن يتمتّع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل هذه الموهبة العظيمة بطريق أولى.

كما أنّ حياة الأنبياء تبيّن أنّ لهم من العقل والمعرفة ما يخرق العادة ، وهذا بنفسه هو أحد المنابع المهمّة لعلومهم ومعارفهم.

٦ ـ الطريق السادس والمصدر الأخير هو العلوم التي ورثوها خلفاً عن سلف ، ولدينا أدلّة كثيرة على أنّ الأنبياء عليهم‌السلام قد نقلوا علومهم ومعارفهم إلى الأنبياء الآخرين أو إلى أوصيائهم وأورثوها إيّاهم.

قال فريق من المفسّرين في تفسير الآية : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ). (النمل / ١٦)

إنّ «الإرث» هنا يعني إرث علم ومعرفة ذلك النبي ، أو أنّه يعني مطلق التوارث الشامل للعلم والمعرفة أيضاً.

كما أنّ بعض المفسّرين اعتبر توارث العلم في قصّة زكريا عند تفسير الآية ٦ من سورة مريم : (يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) داخلاً في المفهوم الجامع للآية (٢).

كما نقرأ في العديد من الروايات : أنّ العلوم التي وهبها الله لآدم (علم الأسماء) لم تغب عن الوجود ، بل ورثها أولاده المنتجبون!

من جملتها ما نقرأه في رواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ العلم الذي نزل مع آدم لم يرفع

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٩ ، ص ٨٣.

(٢) من جملتهم الآلوسي في تفسير روح المعاني ؛ والسيّد قطب في تفسيره في ظلال القرآن.

١٨١

والعلم يتوارث ، وكان علي عالم هذه الامّة ، وأنّه لم يهلك منّا عالم قطّ إلّاخلّفه من أهله من علم علمه أو ما شاء الله» (١).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام نقرأ أنّه قال : «أما إنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ورث علم من كان قبله من الأنبياء والمرسلين» (٢).

كانت هذه المصادر الستّة بمجموعها السبب وراء اطّلاع الأنبياء الإلهيين ، ليس فقط على المسائل المرتبطة بمعارف الدين وأحكام الشريعة ، بل وكذلك على العلوم والمعارف الأخرى الأعمّ من كونها ذات تأثير مباشر في أداء مهمّة الرسالة ، أو غير مباشر في تكميل أهداف النبوّة (تأمّل جيّداً).

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٢٢ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثة العلم) ح ٢ ، كما ورد نفس هذا المعنى في ح ٤ و ٥ و ٨ من نفس ذلك الباب ، وبنفس هذا المنوال الحديث المتظافر المنقول عن أئمّة أهل البيت بأسانيد مختلفة.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٢٤ (باب أنّ الأئمّة ورثوا علم النبي) ، ح ٢.

١٨٢

الأنبياء عليهم‌السلام

وعلم الغيب

١٨٣
١٨٤

تمهيد :

لفظة «الغيب» تقابلـ «الشهود» ، والشهود يطلق على الموارد التي يكون فيها الشيء قابلاً للإحساس والمشاهدة ، وبهذا فالغيب يطلق على كلّ الامور الخافية عن شعور الإنسان ، ولذا ورد في البعض من الآيات القرآنية تعبير «الإيمان بالغيب» عند التطرّق للإيمان بالله واليوم الآخر : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). (البقرة / ٣)

وفي موضع آخر يصف القرآن المتّقين : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ). (الأنبياء / ٤٩)

بل وحتّى يمكن أن يعدّ الشيء واضحاً محسوساً لفرد وغير محسوس لآخر وذلك لعدم حضوره في ذلك المكان حيث يطلق «الغيب» على ذلك أيضاً ، كما نقرأ في قصّة يوسف عليه‌السلام أنّ امرأة عزيز مصر حينما اعترفت بطهارة يوسف في غيابه أضافت قائلة : (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ (يوسف) (أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). (يوسف / ٥٢)

بعد هذا يدور الكلام حول الأنبياء الإلهيين وهل أنّهم مطّلعون على أسرار الغيب والامور الخافية عن حواس الإنسان (الشاملة للمحسوس غير الحاضر ، أو غير المحسوس أصلاً) أم أنّ علم الغيب يختصّ بذاته تعالى ، وأنّه لا سبيل لسواه إليه أبداً؟

تبدو آيات القرآن وللوهلة الاولى وكأنّها على قسمين متفاوتين : القسم الأوّل يعتبر علم الغيب خاصّاً به تعالى ، والقسم الآخر يقول بإمكانه لغيره أيضاً ، ولغرض الإجابة على السؤال أعلاه لابدّ من مراجعة هذه الآيات أوّلاً ، ثمّ التطرّق لكيفية الجمع بينها.

أمّا بالنسبة للقسم الأوّل فالآيات الآتية ملفتة للنظر :

١٨٥

١ ـ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ). (الأنعام / ٥٩)

٢ ـ (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ). (يونس / ٢٠)

٣ ـ (قُلْ لَايَعْلَمُ مَنْ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ). (النمل / ٦٥)

٤ ـ (قُلْ لَاأَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ). (الأنعام / ٥٠)

٥ ـ (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ). (الأعراف / ١٨٨)

٦ ـ (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). (الأنعام / ٧٣)

جمع الآيات وتفسيرها

اعتبر علم الغيب في هذا القسم من الآيات التي وردت بتعابير شتّى خاصّاً بالله تعالى وأنّه لا سبيل لغيره إليه.

قال تعالى في الآية الاولى : (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ).

إنّ تقديم ظرف المكان (عنده) في أوّل الآية دليل على الإنحصار ، وكذا ذيل الآية الذي يصرّح قائلاً : لا يعلمها إلّاهو.

المفاتح جمع «مِفْتَح» (على وزن مِنْجل) بمعنى المفتاح ، وجمع «مَفْتَح» (على وزن دفتر) بمعنى الخزانة ومحلّ حفظ الأشياء (١) ، وقد ذكر المفسّرون كلا المعنيين للآية ، إذ قالوا تارةً : إنّ كلّ خزائن الغيب عند الله ، واخرى كلّ مفاتيح الغيب ، لكن نتيجة كليهما واحدة وإن اختلفت العبارات.

وقد اعتبرها بعض المفسّرين ، واستناداً إلى ما جاء في صحيح البخاري في تفسير الآية ، إشارة إلى الامور الخمسة الواردة في آخر سورة لقمان ، لكن لايخفى أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك بكثير ، بحيث يشمل كل خزائن الغيب ومفاتيحه.

ويبدو أنّ ما جاء في الرواية حول آخر سورة لقمان كان بياناً لمصاديق جليّة له ، ولذا أشار في ذيل الآية مورد البحث إلى كلّ الأوراق الساقطة من الأشجار ، والحبوب في باطن

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ٨ ، ذيل الآية مورد البحث.

١٨٦

الأرض ، وكلّ رطب ويابس في عالم الوجود ، واعتبرها ثابتة في اللوح المحفوظ ، لوح علم الباري تعالى.

وفي الآية الثانية كان الخطاب موجّهاً إلى نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ).

وكان هذا في معرض الجواب عن سؤال المشركين الذين يتحججون على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بإظهار المعجزات (المعجزات التي كانوا يقترحونها هم بأنفسهم من باب الإصرار والعناد للتذرّع بها متى ما مشاءوا) ، وبناءً على هذا فالقرآن يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : تخلى عن مسؤولية مثل هذه الامور ، إنّها من أسرار الغيب التي لا يعلمها إلّاالله ، ومتى ما شاء فسيصدر أمره ، فلا تستسلم أبداً لرغبات المتذرّعين الحمقى!

* * *

ونفس هذا المعنى جاء في ثالث آية وبتعبير آخر ، حيث إنّ الله تعالى يعلّم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ماذا يقول لأهل الحجج الذين يصرّون على السؤال عن موعد يوم القيامة ، فيأمره أن يقول لهم : إنّ هذا من أسرار الغيب وأنّه لا أحد في السماوات والأرض يعلم الغيب ، وموعد يوم القيامة ومتى يكون البعث؟ : (قُلْ لَايَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

صحيح أنّ مورد نزول هذه الآية هو يوم القيامة ، لكن مفهومها أوسع بل شامل لكلّ الغيوب.

* * *

وفي رابع آية يأمر الله نبيّه بصراحة : (قُلْ لَاأَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ... إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ).

١٨٧

هذا الكلام أيضاً كان ردّاً على المشركين المعاندين ، الذين يطلبون منه كلّ يوم معجزة ثمّ لم يقتنعوا حتّى بمشاهدتها ، كما كانوا يطلبون منه أن يطلعهم على أسرار الغيب.

واعلم جيّداً أنّ جملة (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ) الواردة في ذيل الآية هي إحدى المفاتيح لحلّ غوامض علم الأنبياء عليهم‌السلام ، والتي سنتكلّم عنها بالتفصيل ان شاء الله.

كما ورد نظير هذا المعنى وبتفاوت ضئيل في الآية : (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ). (هود / ٣١)

هذا التفاوت هو أنّ الاولى كانت على لسان نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله والثانية على لسان نوح عليه‌السلام.

* * *

ونلاحظ في الآية الخامسة تعبيراً جديداً حول هذا الموضوع ، حيث يؤمر النبي بنفي علم الغيب عن نفسه باستدلال لطيف ، إذ يأمره تعالى : (قُلْ لَاأَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ).

مع أنّ هذه الآية قد جاءت بعد الآية التي تتحدّث عن موعد يوم القيامة ، وانحصار علمه بالله تعالى ، لكن مفهومها واستدلالها أوسع كثيراً.

ومن البديهي أنّ الكثير من المنافع التي تفوت الإنسان أو الأضرار التي تلحق به ناشئة من عدم وقوفه على عاقبة الامور وأسرار الغيب ، ولو كان له اطّلاع عليها لتجنّب شرّها ولجلب لنفسه خيرها ، فعجزه عن ذلك دليل على عدم اطّلاعه على أسرار الغيب.

* * *

في سادس آية يعتبر علم الغيب إحدى الصفات الخاصّة بالله تعالى حيث يقول : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ).

هذا التعبير الذي ورد في عدّة آيات من القرآن (١) باعتباره إحدى الصفات البارزة لله

__________________

(١) الأنعام ، ٧٣ ؛ التوبة ، ٩٤ و ١٠٥ ؛ الرعد ، ٩ ؛ المؤمنون ، ٩٢ ؛ السجدة ، ٦ ؛ الزمر ، ٤٦ ؛ الحشر ، ٢٢ ؛ الجمعة ، ٨ ؛ التغابن ، ١٨.

١٨٨

تعالى ، يبيّن أنّ الله وحده هو المحيط بغيب وشهود الكون ، حيث إنّها ذكرت كصفة خاصّة وفي مقام الحصر ، فيستفاد منها أنّ غيره تعالى حتّى الأنبياء لم يكونوا مصاديق لـ (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ).

ومع أنّ المفسّرين قد ذكروا عدّة احتمالات لتفسير هذه الآية ، إذ فسّرها بعضهم بـ «عالم السِّرِّ والعَلانِيةِ» ، والبعض الآخر بـ «ما كان وما يكون» ، وثالث بـ «العالم بالدنيا والآخرة» ، ورابع بـ «العالم بما هو ظاهر لخلقه وما هو خفي عنهم» (١) ، لكن من الواضح أنّ كلّ هذه قد وردت حول معنى الآية بصيغة الجمع ، لأنّ كلمتي «الغيب» و «الشهادة» اللتين تعنيان هنا العموم ، والمذكورتين بـ (الف ولام الجنس) ، شاملة لكلّ الغيوب والشهود الأعمّ من السابقة واللاحقة ، الدنيا والآخرة ، السرّ وأخفى ، السماوات والأرض ، الماديات والمجردات.

ومع أنّ هذا التعبير في الآيات العشر المشار إليها ، قد ذكر في كلّ مناسبة لغرض معيّن ، وأنّ القرآن استنتج من كلّ مورد نتيجة ، لكن مفهومه في كلّها واحد ، وهو الإحاطة العلمية لله بأسرار الغيب والشهادة الخاصّة بذاته المقدّسة.

* * *

النتيجة :

يمكن الإستنتاج بوضوح من مجموع العبارات الستّ أعلاه والتي تكرّر بعضها في القرآن أنّ علم الغيب والإحاطة بالأسرار الغامضة خاصّ بذاته تعالى.

* * *

والآن نذهب وراء القسم الثاني من الآيات والتي تعطي الأنبياء عليهم‌السلام سهماً من علم الغيب ، إذ ينبغي التحقيق فيها جيّداً ليتّضح الدليل على عدم تضادّها مع آيات القسم الأوّل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٥٢٤ ، ذيل الآية ٢٢ من سورة الحشر.

١٨٩

المخفية بين ثنايا نفس هذه الآيات :

١ ـ (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً). (الجنّ / ٢٦ ـ ٢٨)

٢ ـ (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ). (آل عمران / ١٧٩)

٣ ـ (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ). (آل عمران / ٤٩)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

وصف الله في أوّل آية بأنّه : (عَالِمُ الْغَيْبِ) المطلق ، أي المطلع على كلّ الأسرار الخفيّة ، يقول تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ) ثمّ يستثني قائلاً : (إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ).

أي أنّ الله يطلع مثل هؤلاء الرسل على ما شاء من أسرار الغيب ، وبناءً على هذا فهم بأنفسهم لا يعلمون شيئاً عن الغيب ، لكنّهم يطّلعون عليه بتعليم إلهي.

ثمّ يضيف : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (ليحفظه من كلّ انحراف).

هذا التعبير دليل على مقام عصمة الأنبياء ، وكذلك تأكيد على علمهم بأسرار الغيب.

هذا طبعاً في حالة كون «رَصَداً» بمعنى «المراقب» أو «المراقبين» من الملائكة الإلهيين ، لكن هناك تفاسير اخرى أيضاً لهذه الجملة ، من جملتها أنّ المراد بـ «رصداً» هو الطرق التي رسمها للماضين ، أو الذين سيأتون في المستقبل و (جملة (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) إشارة إلى الحوادث السابقة و (وَمِنْ خَلْفِهِ) إشارة إلى الحوادث اللاحقة).

وقيل أحياناً إنّه إشارة إلى الحفظة من الملائكة الذين يحفظون الأنبياء من شرّ الأعداء(١).

__________________

(١) يجب ألّا يفوتنا أنّ «الرصد» يعني في الأصل المراقب الذي يكمن في موضع ليراقب الأحداث عن كثب أي الإستعداد للترقّب وربّما كان إطلاق هذه اللفظة على الطريق لنفس هذا السبب ، وإلّا فأصلها هو ما قيل أعلاه طبقاً لقول صاحب مقاييس اللغة ؛ والراغب في المفردات.

١٩٠

لكن على أيّة حال فلا شكّ في دلالة الآية على اطّلاع الأنبياء على أسرار الغيب عن طريق التلقين الإلهي.

أمّا فيما يتعلّق بجملة (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ...) ، التي جاءت بعد هذه الآية ، وكيفية ارتباطها بالآية التي قبلها ، فللمفسّرين احتمالات كثيرة معظمها على خلاف ظاهر الآية ، وتؤدّي إلى انعدام الإنسجام بين الضمائر ، بل وحتّى بين الجمل في الآية.

والذي يبدو أقرب إلى الصواب هو أنّ الضمائر في (لِيَعْلَمَ) و (أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) و (أَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً) عائدة كلّها إلى لفظ الجلالة «الله» ، وأنّ الضمير في (أَبْلَغُوا) إمّا إشارة إلى الأنبياء أو إلى الملائكة الإلهيين المأمورين بإبلاغ الوحي ، وبناءً على هذا فمفهوم الآية بمجموعها هو : «إنّ الهدف من تعليم أسرار الغيب أو مراقبة الملائكة لكي يعلم الله أنّ رسله قد أبلغوا رسالات ربّهم ، وأنّه تعالى قد أحاط بما لديهم وأحصى كلّ شيء عدداً».

طبعاً ليس المراد من جملة «لِيَعْلَمَ» أنّه لم يكن يعلم شيئاً ثمّ علم ، بل المراد هو التحقّق العيني لعلم الله والذي يُعبَّر عنه بالعلم الفعلي ، أي أنّ الهدف كان حصول علم الله حول إبلاغ الرسالة وتجسّده خارجاً.

فالنتيجة هي أنّ علم الأنبياء عليهم‌السلام بأسرار الغيب عن طريق الله تعالى أو الملائكة ، يكون السبب وراء إكمال إبلاغ الرسالة وتحكيم اسس النبوّة (تأمّل جيّداً).

والآية الثانية وبعد نفيها لاطّلاع عامّة الناس على الغيب استثنت الأنبياء عليهم‌السلام ، يقول تعالى : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ).

مع أنّه لم تبد هناك إشارة صريحة في هذه الآية إلى مسألة اطّلاع الأنبياء عليهم‌السلام على أسرار الغيب للوهلة الاولى ، لكن نظراً لكون جملة «ولكِنَّ اللهَ ...» مشعرة بالإستدراك والإستثناء ، فسيكون مفهوم الآية هو أنّه ينتخب فريقاً من الرسل ويعلّمهم من أسرار الغيب(١).

__________________

(١) جمهور المفسّرين اتّخذوا هذا المعنى في تفسير الآية ، لكن البعض ذكر احتمالات واهية لتلك الآية لا علاقة لها بمسألة اطّلاع الأنبياء على علم الغيب ، وسبب النزول الذي ورد في البعض من التفاسير مثل روح المعاني شاهد على ذلك التفسير المشهور أيضاً.

١٩١

صحيح أنّ بداية الآية إشارة إلى الحوادث التي ميّزت صفوف المنافقين عن فريق المؤمنين ، وفضحت ما يكنّونه في قلوبهم ، لكن من الواضح أنّ شأن النزول هذا لا يحدّد المفهوم الكلّي للآية ، لأنّ الكلام إنّما هو عن عدم اطّلاع عامّة الناس على الغيب ، واطّلاع الأنبياء على ذلك التعليم الإلهي.

كما ويستفاد من هذه الجملة أنّ الإطّلاع على الغيب مقام رفيع يمنح للأنبياء الإلهيين فقط ، وهو في الواقع مكمّل لبرامجهم وسبب لتحقّق أهدافهم (تأمّل جيّداً).

* * *

وهنا يرد سؤالان :

١ ـ إنّ هذه المرتبة لا تنحصر بالأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام فحسب ، بل أن بعض الصلحاء ذوي القلوب النورانية الذين بلغوا درجات سامية من الشهود ، مطّلعون على زاوية من أسرار الغيب ، فكيف يتلاءم هذا الشيء مع النفي المطلق لاطّلاع عامّة الناس على أسرار الغيب الواردةِ في الآية الآنفة الذكر؟

* * *

الجواب :

نظراً لكون هذا الإطّلاع محدوداً غير ذي شأن قياساً باطّلاع الأنبياء عليهم‌السلام ، فلم يؤخذ في الآية بنظر الإعتبار ، وبعبارة اخرى أنّ المراد هو نفي المعرفة الواسعة عن أسرار الغيب ، وهو ما يصدق في حقّ غير الأنبياء عليهم‌السلام.

كما يحتمل أيضاً أن يكون لهاتين الآيتين مفهوم واسع بحيث يشمل كلاً من الأنبياء وكذلك الملائكة وأصحاب الكشوف والشهود ، الذين بلغوا مقاماً عالياً عن طريق المجاهدات النفسية والرياضات المشروعة وإرشادات المعصومين ، لأنّهم إنّما يحصلون على معارفهم عن طريق الإرتباط بالأنبياء والأئمّة أو الملائكة ، وبناءً على هذا فانّ الله يضع

١٩٢

علم غيبه عند أنبيائه فقط ثمّ يستعين الآخرون بهم ، أي بالضبط مثلما أنّ «مريم» مثلاً ، أو امرأة إبراهيم «سارة» اطّلعتا عن طريق الملائكة الإلهيين على البعض من أسرار الغيب فيما يتعلّق بولادة عيسى أو إسحاق ويعقوب عليهم‌السلام.

كما ويحتمل أيضاً كون العلوم العينية على ثلاثة أقسام : قسم منها خاصّ بذاته تعالى ، لم يطّلع عليها سواه حتّى الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين (كالعلم بزمان قيام الساعة وأمثالها).

الثاني : العلوم الغيبية الخاصّة التي يودعها الله عند المعصومين (الأنبياء والأئمّة والملائكة المقرّبين) ، والقسم الثالث : العلوم التي يودعها عند فريق من الأتقياء الذين يبلغون مقام الشهود ، وتزال الحجب عن قلوبهم كما ورد عن بعض أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحاب أئمّة الهدى عليهم‌السلام ، مثل سلمان وأبي ذرّ وميثم التمّار ورشيد الهجري وأمثالهم ، أو ما نقل في عصرنا عن فريق من العلماء المتقدّمين أو المتأخّرين ، وبالإمكان إطلاق اسم «خاصّ الخاصّ» على القسم الأوّل و «الخاصّ» على الثاني و «العام» على الثالث.

ويمكن أن تكون العبارات من قبيل (فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ) إشارة إلى نفس هذا المعنى ، لأنّ لفظة «غيبه» لها دلالة على الأسرار الغيبية الخاصّة.

٢ ـ إنّه فضلاً عمّا قيل عن الصلحاء من أرباب الكشف والشهود ، فلقد سمعنا مراراً وتكراراً أنّ فريقاً من الكهنة في العصر الجاهلي ، أو المرتاضين في عصرنا ، الذين لم يكونوا من أهل الإيمان والتقوى ، يخبرون أحياناً عن أسرار الغيب أو الامور الخافية عن أنظار الناس ، ويتوقّعون اموراً تحدث بعد ذلك ، أليس هذا منافياً لما قيل آنفاً حول تفسير الآيات؟

لكن الإلتفات إلى نكتة واحدة يكشف الإجابة عن هذا السؤال ، وهي إنّ توقّعات المرتاضين وإخبارات الكهنة الغيبية لم تكن أبداً إخبارات يمكن الإعتماد عليها ، فضلاً عن عدم خلوّها من الإشتباه بأي حال من الأحوال ، فقد تصدق أحياناً وقد تكون كاذبة أحياناً اخرى ، وهناك أمثلة كثيرة جدّاً عليها ، وبناءً على هذا فلا يمكن أبداً اعتبار هذه الأخبار والمعلومات من علم الغيب ، بل إنّهم يعترفون بأنفسهم أحياناً بأنّ هذه الأخبار هي تلقين

١٩٣

الشياطين الذين لا يصدقون القول معهم أبداً!

وبعبارة اخرى أنّ هناك أشباحاً تتراءى في افق أذهانهم بسبب رياضتهم ، فيفسّرون هذه الأشباح من عندهم ، لتقع تارةً صحيحة واخرى خاطئة ، مثل الأحلام التي يراها الناس ، والتي تكون تفاسيرهم لها صحيحة أحياناً واخرى غير صحيحة.

هذه المعلومات والمواضيع الخاطئة والتي يخالطها الشكّ لا يمكنها أبداً أن تعدّ من علم الغيب ، أو أن تخدش في تفسير الآية.

* * *

اما في الآية الثالثة فيدور الكلام عن معرفة المسيح عليه‌السلام بأسرار الغيب ، وإظهاره لها صراحةً كمعجزة ، وقوله لمن شكّ في دعوته : (... أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى ...). (آل عمران / ٤٩)

ثمّ يضيف قائلاً : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ).

وبهذا فلقد وضع مسألة خلق الطائر الحي من الطين ، ومعالجة المرضى الذين يستحيل علاجهم ، وإحياء الموتى ، إلى جانب الإخبار عن أسرار الغيب واعتبرها جميعاً أدلّة على نبوّته.

وبديهي أنّ الطعام الذي يأكله الناس ، أو الذي يدّخرونه في بيوتهم يتعلّق بحياتهم الشخصية ، فليس للآخرين اطّلاع عليه عادةً ، فاطّلاع أحد على هذه الجزئيات ، والحالة هذه دليل على اطّلاعه على الغيب.

قال بعض المفسّرين إنّ هذين الموردين هما مجرّد مثال ، ولا يمكن أن تتحدّد بهما معرفة المسيح عليه‌السلام أبداً ، فقد كان يعلم الكثير من أسرار الغيب.

* * *

مضافاً إلى ما قيل ، فهناك العديد من آيات القرآن تعدّ مصداقاً جليّاً لإطّلاع نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله على بعض أحداث المستقبل ، والتي تعتبر من أسرار الغيب ، كالآيات الاولى

١٩٤

من سورة الروم : (غُلِبَتِ الرُّومُ* فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِى بِضْعِ سِنِينَ). (الروم / ٢ ـ ٤)

ومن الواضح أنّ الإخبار عن انتصار دولة مغلوبة على أمرها في المستقبل القريب (خلال بضع سنين) وبكلّ هذه الصراحة والثقة ، ليس بالشيء الذي يمكن الإحاطة به بالطرق الإعتيادية ، ولهذا فهو مصداق بارز لعلم الغيب.

وفي موضع آخر يخاطب القرآن الكريم المسلمين (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ). (الفتح / ٢٧)

وكان هذا الكلام في وقت أحكم فيه المشركون سيطرتهم على مكّة ، وقويت شوكتهم بدرجة بحيث تمكّنوا من فرض شروط صلح الحديبية على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب الظاهر ، إذن فالإخبار عن النصر السريع للمسلمين عليهم بشكل يمكنهم من إزالة أكبر عقبة تعترض طريقتهم ، ودخول مكّة بكل اطمئنان لم يكن سوى إخبار غيبي.

وفي موضع آخر حينما علم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ إحدى زوجاته قد أطلعت الاخريات سرّاً على أمر كان أودعه عندها ، سألته قائلة : (مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا).

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ). (التحريم / ٣)

وكذلك حينما أخفى فريق من المنافقين أعمالهم الشنيعة ، وجاءوا بأعذار واهية لغرض عدم الإشتراك في غزوة تبوك ، قال لهم الرسول : (لَاتَعْتَذِرُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ). (التوبة / ٩٤)

كما يخبر تعالى في موضع آخر عن حتمية هزيمة المشركين صراحةً ، مع أنّهم كانوا بكامل قوّتهم ، حيث يقول : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنْتَصِرٌ).

ويضيف على الفور : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). (القمر / ٤٤ ـ ٤٥)

لا شكّ أنّ المسلمين كانوا قلّة قليلة حين نزول هذه الآيات والعدوّ في أوج القدرة والغطرسة ، وتوقّع مثل هذا النصر المؤزّر والسريع غير ممكن بالطرق الإعتيادية ، ولكن لم يمض وقت حتّى وجّهوا ضربة قاصمة إلى العدو في أوّل حرب طاحنة معه ، أي في معركة

١٩٥

(بدر) ثمّ توالت الإنتصارات الواحدة تلو الاخرى ، وأصبحت كلّ الجزيرة العربية تحت راية الإسلام خلال فترة قصيرة.

ونظير هذا المعنى جاء في قوله تعالى : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ). (التوبة / ١٤ ـ ١٥)

وورد نفس هذا المعنى في القرآن الكريم حيث يخاطب أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايُنْصَرُونَ). (آل عمران / ١١١)

كلّ التعابير التي في هذه الآيات تخبر بشكل قاطع عن انتصار المسلمين وهزيمة الأعداء ، ذلك الإخبار الذي لم يكن يصدّق به أحد في ذلك الزمان.

ونفس هذا المعنى ورد بقالب آخر في سورة القصص الآية ٨٥ ، عندما اضطرّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ترك أرض مكّة المقدّسة ، نتيجة للضغط الشديد الذي تعرض له من قبل المشركين ، الذين كانوا بكامل قدرتهم في ذلك الوقت حيث نزلت الآية : (إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ).

هذه البشارة القطعية في تلك الفترة العصيبة حين كان المسلمون أضعف ما يكونون بحسب الظاهر لم تكن سوى خبر غيبي.

وفي آية اخرى حينما كان يستبشر الأعداء بانقراض ذرّية النبي ، وعدم وجود من يحافظ على دينه باعتبار انحصار عقبه في ابنته فاطمة الزهراء عليها‌السلام فقط ، وقالوا : إنّ «محمّداً أبتر» ، نزلت سورة الكوثر وبشّرت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بخبر حتمي بأنّنا أعطيناك خيراً كثيراً ... وأنّ عدوّك هو الأبتر الذي لا عقب له بكلّ تأكيد : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ... إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

واليوم نجد أنّ نسل ذلك العظيم قد انتشر عن طريق ابنته فاطمة الزهراء عليها‌السلام في كلّ أرجاء المعمورة ، وظهر منهم الكثير من القادة الذين وظّفوا أنفسهم لخدمة الإسلام طيلة عمرهم.

في حين أنّ من كان يؤذي النبي ويعيره صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وهم (مشركو قريش) ، قد اضمّحلوا ولم يبق لهم اليوم أثر يذكر ، ولو بقي شيء على سبيل الفرض فهو غير معروف. وبهذا فقد

١٩٦

أمسى كلّ واحد منهم أبتراً ، والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ذا نسل عظيم.

ونلاحظ في قوله تعالى : ملاحظة اخرى تعدّ من إخبارات القرآن الغيبية ، حيث قال : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَاتَعْلَمُونَ). (النحل / ٨)

مع أنّ الكثير من المفسّرين يعتبرون جملة (وَيَخْلُقُ مَا لَاتَعْلَمُونَ) إشارة إلى الحيوانات التي ستخلق مستقبلاً ، أو التي ستؤلف عند الإنسان ، أو كلّ الأشياء الضرورية التي سيخلقها الله في المستقبل سواء الحيوانات أم غيرها ، ولكن إدراك مفهوم هذه الجملة بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في عصر التكنلوجيا المتطورة يعد أمراً يسيراً ـ كما أشار إلى ذلك بعض المفسّرين المتأخّرين كالمراغي والسيّد قطب في تفسير «فى ظلال القرآن» ، بل هو إخبار القرآن عن عصرنا ، ولا منافاة بين عبارة (يخلق) مع اختراعها من قبل الإنسان ، إذ إنّ عمل الإنسان ليس سوى تركيب المواد التي خلقها الله تعالى ، هذا أوّلاً.

وثانياً : إنّ إبتكار الإنسان في صنع هذه الوسائل ناتج من الإستعداد الذي وهبه الله تعالى له! كلّ هذه الآيات تبيّن أنّ الله قد وضع بعضاً من العلم الغيبي تحت تصرّف نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

الثمرة من مجموع آيات علم الغيب :

أوضحنا إلى الآن طائفتين من الآيات التي تتحدّث عن علم الغيب ، طائفة تنفي علم الغيب عن الأنبياء عليهم‌السلام على الإطلاق والاخرى تُثبِتُهُ. وحينما نضعهما إلى جانب بعضهما البعض ، ونجمع بينهما ندرك مفهومهما الأصلي النهائي (وهذا ما يمكن أداؤه عن طريق التفسير الموضوعي بسهولة) وهو الطريق الأوّل للجمع بينهما.

أجل ، يستفاد من مجموع هذه الآيات بوضوح أنّ علم الغيب بإطلاقه وبلا قيد أو شرط مختصّ بـ «الذات» المقدّسة فحسب.

هو المحيط بكلّ عالم الغيب والشهود ، وهذا العلم قائم بذاته المقدّسة غير منفكّ عنها أبداً.

١٩٧

أمّا الآخرون (كالأنبياء والأئمّة المعصومين والملائكة) فالطريق الوحيد لاطّلاعهم على علم الغيب هو الالهام الإلهي فحسب.

وبعبارة اخرى أنّ أشهر طريق للجمع بين هذه الآيات هو القول : إنّ المراد باختصاص علم الغيب بالله تعالى هو «العلم الذاتي الإستقلالي» ، ولذا فلا اطّلاع لأحد غيره على أسرار الغيب مستقلاً ، بل لابدّ أن يكون منه تعالى وعن طريق تعليمه ولطفه وعنايته ، وهذا في الواقع له «ميزة غير استقلالية».

الأدلّة على الجمع بين الآيات المذكورة كثيرة يمكن الإحاطة بها بالتحقيق والتدقيق فيها ثانية.

كما أنّ الأحاديث الشريفة أيضاً تشير إشارة لطيفة إلى هذا الأمر :

منها : ما ورد في نهج البلاغة أنّ عليّاً عليه‌السلام خلال حديثه للإخبار عن وقائع المستقبل (وتوقّعه لهجوم المغول على الدول الإسلامية) قال : كأنّي أراهم قوماً كأنّ وجوههم المجان المطرّقة ... فقال أحد أصحابه : لقد أعطيت ياأمير المؤمنين علم الغيب.

فابتسم عليه‌السلام وقال : ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم (أي من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١).

الطريق الثاني : للجمع بين هذين القسمين من الآيات هو القول : إنّ علم الغيب الذي يختصّ بالله هو الإطّلاع على اللوح المحفوظ ، الذي يتحقّق كلّ ما فيه بلا زيادة ولا نقيصة لا محالة ، (وهو في الواقع علم بالعلل التامّة للأشياء التي لا تنفكّ أبداً عن معلولاتها).

وأمّا الأنبياء والأئمّة المعصومون عليهم‌السلام فلهم اطّلاع على لوح المحو والإثبات القابل للتبديل والتغيير ، لأنّه علم بـ «العلل الناقصة» لا «العلل التامّة».

وبعبارة اخرى : إنّ من المحتمل أن تتواجد هناك موانع تعترضها وتغيّرها ، أو تغيب شروط تكاملها ، كما جاء في حديث عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : «لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة! فقلت له : أيّة آية؟ فقال : قول الله :

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٨.

١٩٨

يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب» (أي اللوح المحفوظ)» (١).

الطريق الثالث : للجمع بين هذه الآيات هو القول بانقسام أسرار الغيب إلى قسمين:

أحدهما يختصّ به تعالى ولا يعرفه أحد سواه ، والآخر هو الذي يعلّمه لأنبيائه وأوليائه ، كما جاء في نهج البلاغة ذيل الخطبة المتقدّمة أنّه عليه‌السلام قال : (وَانَّما عِلْمُ الغَيبِ عِلْمُ الساعَةِ وَما عَدَّدَهُ الله سُبْحانَهُ بِقَولِهِ : إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِلُ الْغَيث) (آخر آية من سورة لقمان) ، (لا اطّلاع لأحد على كمّه وكيفه وجزئياته وإن كان أصل نزوله قابلاً للإحتمال) وَيَعْلَمُ ما فِي الأرْحام (لم يكن اطّلاعه على جنسيته وهل أنّه ذكر أو انثى فحسب ، بل على كلّ القابليات والمميّزات التي تكمن في جسمه وروحه) وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدَاً وَما تَدري نَفْسٌ بِاىِّ ارضٍ تَمُوتُ (المراد هو العلم التفصيلي بهذه الامور).

ثمّ يضيف في خاتمة هذا الكلام : «فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو انثى وقبيح أو جميل ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيين مرافقاً ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّاالله ، وما سوى ذلك فعلم عَلَّمه الله نبيّه فعلَّمنيه ، ودعا لي بأن يَعِيَهُ صدري ، وتضطَمُّ عليه جوانحي» (٢).

وعلى هذا فالذي يختصّ بالذات المقدّسة هو العلم بكلّ خصوصيات وتفاصيل الأجنّة الروحية والبدنية.

نفس هذا الكلام يمكن تطبيقه على نزول المطر وأعمال الإنسان أو مكان موته والذي لا يعلم جزئياته إلّاالله تعالى.

الطريق الرابع للجمع بين هذه الآيات هو التفريق بين «العلم الفعلي» و «العلم الشأني والإستعدادي» ، إذ لا يخفى شيء عن علمه اللامحدود ، في حين أنّ الكثير من أسرار الغيب يمكن أن تغيب عن الأنبياء والأولياء فعلاً ، لكن الله يعلمهم ذلك متى ما أرادوا (طبعاً هذه

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥١٢ ، ح ١٧٠.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٨.

١٩٩

الإرادة لا تتحقّق إلّابإذنه تعالى ورضاه (تأمّل جيّداً).

هذا المطلب يشابه حالة كون كلّ الأسرار العسكرية لدولة ما مدوّنة في كتاب ضخم محفوظ عند شخص أو أشخاص منتخبين من قبل الدولة بحيث يمكنهم الإطّلاع عليه بإذن من القائد العام للقوات المسلحة ، فالقائد هنا له إحاطة تامّة بهذا الكتاب كما ويمكن للآخرين أيضاً الإطّلاع عليه متى شاؤا (على فرض كون مراجعتهم للكتاب مرهونة بإذن القائد وإجازته طبعاً).

الدليل على هذا الكلام هو الروايات التي جمعها المرحوم الكليني في كتاب الكافي في فصل تحت عنوان «إنّ الأئمّة إذا شاؤا أن يعلموا علموا» (١).

* * *

نستنتج من مجموع ما قيل أنّ للأنبياء والأولياء اطّلاعاً على عالم الغيب بلا شكّ ، كما ويمكن استخلاص طرق الجمع بين الروايات المرتبطة بعلم الغيب بأربعة :

١ ـ العلم الذاتي المستقلّ خاصّ بالله ، وعلم الأنبياء والأولياء يرتبط به تبعاً.

٢ ـ العلم التفصيلي هو من شأنه تعالى ، والعلم الإجمالي من شأن الأولياء والأنبياء.

٣ ـ العلم باللوح المحفوظ خاصّ بالله ، والعلم بلوح المحو والإثبات من شأن الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

٤ ـ العلم الفعلي خاصّ بالله ، والعلم بالقوّة من شأن الأنبياء والأولياء.

* * *

روايات علم الغيب :

إنّ لمسألة «علم الغيب» بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام بحثاً موسّعاً في الروايات الإسلامية أيضاً ، وقد ذكرت كلّ الفرق الإسلامية نماذج كثيرة عن علم الغيب فيما يرتبط

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٥٨.

٢٠٠