نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

ولذا أشارت الآية التاسعة من البحث إلى هذا الهدف ، قال تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ).

و «الامّة» : في الأصل على ما ذهب إليه الراغب في مفرداته تطلق على كلّ جماعة يجمعهم أمرٌ ما ، إمّا أن يكون دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد ، سواء كان ذلك الأمر الجامع قسريّاً أو اختياريّاً ، وجمعها امم.

لكنّ هذه اللفظة وردت بمعنى العقيدة أيضاً : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ* وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ). (الزخرف / ٢٢ ـ ٢٣)

وأحياناً جاءت بمعنى نفس الزمان قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ). (يوسف / ٤٥)

وكذلك قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). (هود / ٨)

وفي الآية مورد البحث يبدو أنّ «الامّة» جاءت بمعنى الجماعة الواحدة.

لكن ما هي هذه الامّة الواحدة التي عاشت في بداية الخلقة يا ترى؟ وما هي عقيدتها؟ يوجد بين المفسّرين حديث طويل وعريض حول هذا الموضوع ، ولهم احتمالات عديدة في تفسير لفظ «الامّة» ومصيرها ، وأهمّها ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أنّها كانت امّة مهتدية ، وكانت هدايتها نابعة من الفطرة الإلهيّة المودعة لديها ، ثمّ اختلفت ذلك الاختلاف الناشيء من علمها المحدود ، وذلك لعجز أحكام الفطرة والمستقلات العقلية عن الأخذ بزمام الامور لوحدها ، ومن هنا بعث الله تعالى الأنبياء عليهم‌السلام إلى البشرية لتخليصها من مشكلة الاختلافات الناشئة من الجهل ومحدودية معرفتها.

فبعث الله الأنبياء عليهم‌السلام ووضعوا حدّاً لهذه الاختلافات وبيّنوا الحقائق ، لكنّه ظهر بعد ذلك اختلاف آخر نشأ من البخل والظلم والفساد ، وهنا أيضاً شملت الألطاف الإلهيّة

٢١

المؤمنين المخلصين ، فسلكوا الطريق إلى الحقّ مهتدين بنور إيمانهم وتقواهم إلى أن بلغوا الصراط المستقيم ، بينما بقي الآخرون غارقين في ظلمات الاختلاف.

وطبقاً لهذا التفسير ، فالامّة الواحدة التي ظهرت أوّلاً كانت على الحقّ ، لكنّ محدودية إدراك العقل البشري كانت سبباً في الاختلافات ، ثمّ أعلن الأنبياء عليهم‌السلام عن خاتمة هذه الاختلافات عن طريق الوحي المعصوم من الخطأ ، لكنّ هوى النفس والميول والتكبّر والعجب كان السبب وراء بروز اختلافات جديدة ، ولم ينج من هذه الاختلافات سوى المؤمنين الصالحين.

والدليل على هذا التفسير هو مضمون الآية التي تذكر نوعين من الاختلاف في الامّة ، الاختلاف الذي كان السبب في بعثة الأنبياء عليهم‌السلام وذلك لرفعه ، والاختلاف الذي ظهر بعد نزول الكتب السماوية والبيّنات ، أمّا إصرار بعض المفسّرين على كون هذه الامّة الواحدة ضالّة منحرفة بمجموعها منذ البداية ، لا ينسجم مع لحن الآية وفطرةِ الإنسان التوحيدية التي يصرّح بها القرآن (خصوصاً تلك الفطرة الملموسة عند الناس السذّج في أوّل الخلقة الذين لم تكن الميول والرغبات النفسانية قد هيمنت عليهم بشكل خطير بعد).

أمّا فيما يتعلّق بالعصر الذي استوعب المجتمع البشري الأوّل الذي عبّر عنه القرآن بـ «الامّة الواحدة» ، فقد ذهب البعض إلى أنّه إشارة إلى الفترة ما قبل بعثة نوح عليه‌السلام وبعد هبوط آدم عليه‌السلام وبناءً على هذا ف «الامّة الواحدة» هي نفس تلك الامّه التي ظهرت منذ زمن تناسل ذرّية آدم عليه‌السلام ، والتي كان الإيمان والتوحيد حاكمين عليها إلى أن اتّسعت فيها آثار الشرك يوماً بعد آخر ، بسبب الجهل وقلّة المعرفة ، ممّا هيّأ الأرضية المناسبة لرسالة نوح عليه‌السلام.

ومن الطبيعي أنّ استثناءً من قبيل وجود «قابيل» بين أولاد آدم عليه‌السلام لا يحول دون إطلاق كلمة «الامّة الواحدة» على مجموعة أولاده ، وهناك احتمالات اخرى حول هذا الموضوع لا تفي بالغرض بحسب الظاهر.

على أيّة حال يستفاد من مجموع ما جاء حول تفسير الآية أعلاه أنّ أحد أهداف بعثة الأنبياء عليهم‌السلام هو رفع الاختلافات الناشئة من جهل الناس ، ولا يخفى أيضاً أنّ الاختلافات

٢٢

الناشئة من هوى النفس والعجب والتكبّر ستبقى ما بقي الإنسان بالرغم من أنّ الأنبياء عليهم‌السلام قد خفضوا من نسبتها بتعليماتهم القيّمة.

* * *

٩ ـ التذكير (بالنسبة للبديهيات والمستقلات العقليّة)

تمّت الإشارة في نفس هذه الآية إلى أنّ أحكام الأنبياء عليهم‌السلام وتعليماتهم تؤيّد أحكام العقل وتدعمها ، وهذه بنفسها أحد أهداف بعثتهم.

وتوضيح ذلك : إنّ الإنسان يدرك الكثير من «حقائق» الكون وكذلكـ «ما ينبغي» و «ما لا ينبغي» بواسطة عقله ، لكنّ هناك وساوس مزمنة كامنة في هذه الإدراكات العقلية ، خصوصاً إشكالات السوفسطائيين أو الطوائف المنكرة للحسن والقبح العقليين وأمثالها التي تؤدّي إلى إضعاف العقل وبالتالي النظر إلى هذه الإدراكات والمستقلّات العقلية نظرة سلبية.

وهنا يستوجب اللطف الإلهي إرسال الأنبياء عليهم‌السلام ليؤكّدوا ضمن دعوتهم إلى الله تعالى صحّة الإدراكات العقليّة وعلى أنّ الفتن الواقعية إنّما هي من فعل العقل البشري ، وذلك من خلال بياناتهم الصادرة من الوحي السماوي ، ويقطعوا الطريق أمام الوساوس التي تعترض هذه الإدراكات.

هذا هو الذي عبّر عنه القرآن بـ «التذكّر» ، يقول تعالى في الآية مورد البحث : (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) والتعبير بـ «الذكر» كثير جدّاً في القرآن ، ومجموع ما ذكر إثنتان وخمسون مرّة في مختلف الآيات والتي تشير أغلبها إلى القرآن الكريم.

أمّا التعبير بـ «ذكّر» (مخاطبة النبي بصيغة الأمر) فقد جاء في ستّة موارد ، وتعبير «يتذكّر» في ثمانية موارد ، و «تذكّرون» في سبعة عشر مورداً ، و «يتذكّرون» في سبعة موارد ، وما أكثر مشتقّات هذه المادّة في القرآن الكريم والتي تبيّن بمجموعها أنّ قسماً عظيماً من تعليمات الأنبياء عليهم‌السلام لها صبغة تذكّرية وإعادة المنسيّات إلى الأذهان على أقلّ تقدير.

٢٣

يستفاد من كلمات بعض أرباب اللغة أنّ «الذكر» لا يعني العلم والمعرفة ، بل يعني «إعادة الإطّلاع على الشيء» ، يقول الراغب في مفرداته بعد مقارنته بين «الذكر» و «الحفظ» : «التفاوت بينهما هو أنّ الحفظ يقال اعتباراً بالإحراز ، والذكر يقال اعتباراً بالإستحضار» ، ثمّ يضيف قائلاً : الذكر ضربان : ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ.

وهذا التعبير يبيّن أنّ الذكر هو في كلّ الأحوال نوع من الإلتفات المستأنف للشيء الذي كان ساكناً في الذهن سابقاً ، سواء كان بعد النسيان أم لا ، وقد ورد «الذِكر» بمعنيين أيضاً في «مقاييس اللغة» : الأوّل إشارة إلى الجنس المذكّر في قبال الجنس المؤنث ، والثاني ما يقابل النسيان.

إنّ هذه التعابير القرآنية يمكنها أن تكون إشارة إلى ما ذكر أعلاه ، وهو أنّ الإنسان يدرك سلسلة من الحقائق عن طريق العقل ، كما ويحصل على القسم الأعظم من (ما ينبغي) و (ما لا ينبغي) الذي يعدّ من المستقلّات العقلية كحسن أنواع الإحسان وقبح أنواع الظلم والفساد ، لكنّ الشكّ والترديد يراود هذه البديهيات أحياناً بسبب وساوس الشياطين.

وهنا يأتي دور الأنبياء عليهم‌السلام لمساعدة الناس وتأييد هذه الإدراكات العقلية ، إذ يبطلون مفعول هذه الوساوس ، أو بعبارة اخرى يعيدون هذه الامور إلى الأذهان.

بعض الفلاسفة كأفلاطون وأتباعه يعتبرون العلوم الإنسانية ضرباً من الذكريات ، ويعتقدون بأنّ الروح الإنسانية قبل نزولها إلى هذا العالم كانت تدرك كلّ هذه الحقائق ولكن حجب عالم المادّة تسبّبت في نسيانها (١) وبناءً على هذا فالتعلّم والتعليم سواء أكان عن طريق الأنبياء والرسل عليهم‌السلام أم عن طريق التجربة وشرح الاستاذ لا تخرج عن كونها ضرباً من التذكّر والتذكير ليس إلّا.

ومن البديهي عدم وجود دليل واضح يدعم هذا الإدّعاء بهذه السعة ، بل الصحيح هو ما تقدّم أعلاه من أنّ قسماً من معلومات الإنسان تحصل عن طريق الفطرة أو العقل ، وأحياناً

__________________

(١) لمزيد من الإطّلاع راجع «سير حكمت در اروپا» ج ١ ص ٢٣ ، مبحث فلسفة أفلاطون (بالفارسية).

٢٤

تودع في زاوية النسيان والإهمال ، أو تجد الوساوس طريقها إليها ، فمهمة الأنبياء عليهم‌السلام حينئذ بالإضافة إلى تعليم الناس مسائل جديدة ، من شأنها تقوية بنية مثل هذه الأحكام الواقعية وتنقيتها من الوساوس التي تخالطها.

كما يستفاد من الآية الآنفة الذِكر أنّ دور الأنبياء عليهم‌السلام يكمن في أربعة أمور ، الأوّل : إبلاغ الدعوة الإلهيّة للبشرية جمعاء ، والثاني : إتمام الحجّة ، والثالث : الإنذار (والتبشير) ، وأخيراً التعليم والتذكير وقد تمّت الإشارة إليها في الآيات السابقة أيضاً.

* * *

١٠ ـ الدعوة إلى الحياة الإنسانية الطيبة

لقد أشارت الآية الحادية عشرة من آيات بحثنا هذا إلى نقطة اتفقت عليها الاهداف التي سبقت الاشارة إليها من بعثة الأنبياء ، وهي أنّ الأنبياء عليهم‌السلام دعوا أفراد البشر لكي يحيون حياة طيبة حقيقية وشاملة لكل متطلبات العيش.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).

وهذا التعبير هو أقصر وفي نفس الوقت أشمل تعبير ورد بحقّ دعوة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله (ودعوة كافّة الأنبياء عليهم‌السلام) والذي يؤكّد على أنّ هدف البعثة هو الحياة في كافّة أبعادها : الماديّة والمعنوية والثقافية والاقتصادية والسياسيّة والأخلاقية والاجتماعية.

مع أنّ الحياة في آيات القرآن قد وردت بمعنى الحياة النباتية في قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (الحديد / ١٧)

وأحياناً الحياة الحيوانية في قوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لُمحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ). (فصلت / ٣٩)

لكنّها وردت هنا بمعنى الحياة الإنسانية ، قال تعالى (في بعض المؤمنين الذين آمنوا) : (أوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ...). (الأنعام / ١٢٢)

٢٥

وبناءً على هذا فلو رأينا البعض يعتبر الآية المعنية ناظرة إلى «الجهاد» لوحده باعتباره العامل الاساسي في حياة الامم ، أو «الإيمان بالله» أو العلم والمعرفة أو الحياة الاخروية ، فهم في الواقع إنّما يحدّدونها في بعض مصاديقها فحسب ، وإلّا فمفهومها أوسع وأشمل من هذه كلّها.

والملفت للنظر أنّ الحياة في هذه الآية قد فسّرت في الروايات (١) بمعنى ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهي في الحقيقة أحد مصاديقها الهامّة وذلك لأنّ ولايته عليه‌السلام هي السبب للدعوة إلى الإسلام في كافّة المجالات ، فولايته دعوة إلى العلم والزهد والتقوى والإيثار والإخلاص.

* * *

ثمرة البحث :

بالإمكان إدغام واختصار الأهداف العشرة من بعثة الأنبياء والمذكورة سابقاً في ستة اهداف ، وهي : «التعليم ، تهذيب النفوس ، اقامة القسط والعدل ، الحرية ، اقامة الحجة ورفع الاختلافات» ، ولكن بالنظر لأهميّة الموضوع فإنّ القرآن الكريم تناول كل واحدة منها على حدة ، ونتيجة لذلك فإنّه يبدو واضحاً أنّه لولا الأنبياء واديانهم السماوية والتعاليم المقدسة التي جاءوا بها ، ومنذ اليوم الأول لنشأة المجتمع الانساني ، فأي مصير مظلم سوف ينتظر الانسانية؟

وفي عصرنا الحاضر ، أيّ عالم رهيب ومخوف سوف يصبح فيه عالم اليوم لو تنكر الانسان لتعاليم الأنبياء والتزم بالقيم الجوفاء البعيدة عن الرحمة والنورانية وجعلها بديلاً للقيم الإلهيّة التي جاء بها الأنبياء في دعواتهم وتعاليمهم ، وكما هو متعارف اليوم في بعض دول العالم؟!

كما يمكن الإستنتاج من الشرح أعلاه أنّ الدين والمذهب على خلاف ما يراه الكثير من

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٤١ ، ح ٥٠ و ٥٢.

٢٦

البسطاء وذوى النظر الضيق ، أنّه لم يعد مسألة شخصية خاصّة ، بل حقيقة لها وجودها ودورها الفاعل في كافّة أبعاد حياة الإنسان ، وأنّها تضيف على كافّة شؤون الحياة صبغة إلهيّة وإنسانيّة.

إنّ الشعار الذي ترفعه اليوم كلّ القوى العظمى في العالم أي الدول التي يصطلح عليها بالمتطوّرة ، هو الحفاظ على منافعها الخاصّة ، فكل خطوة تخطوها تعلن بكلّ صراحة أنّها إنّما تخطوها لأجل المنافع الماديّة للدولة ، وليس من الغريب أن يكون عالم كهذا بؤرة للأزمات ومركزاً للصراعات وأنواع الظلم والإعتداء ، ونقض العهود والإستعمار واستغلال المستضعفين ، وذلك لأنّ هدفهم الرئيسي هو حفظ المصالح الشخصيّة والوطنية لا حفظ المثل والقيم كالعدالة الاجتماعية وإقامة القسط والحرّية والأخلاق الإنسانية ، إذ إنّ مثل هذه القيم لا توجد إلّابمعيّة دعوة الأنبياء عليهم‌السلام ولا غير.

* * *

توضيحات

١ ـ فلسفة بعثة الأنبياء والرسل في الروايات الإسلامية

ما تقدّم في الآيات المذكورة حول اهداف بعثة الأنبياء عليهم‌السلام وعللها ، قد تمّ ذكره في الروايات الإسلامية أيضاً وبتعابير اخرى لا تخلو بنفسها من فائدة قصوى ، وكنموذج على ذلك يمكن التأمّل في البعض من الروايات أدناه والتي تنظر كلّ واحدة منها إلى هدف واحد أو أكثر :

١ ـ ورد في الحديث : عندما أعلن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن دعوته ، جاء أشراف قريش إلى أبي طالب وقالوا له : ياأبا طالب ، إنّ ابن أخيك يتّهمنا بالسفه ويطعن في آلهتنا ويفسد شبابنا ويحدث التفرقة بيننا لو كان يبغي مالاً لجعلناه أغنى رجال قريش أو جاهاً لأمّرناه علينا! فذهب أبو طالب إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ما أردته ، ولكن كلمة يعطونيها يملكون بها العرب

٢٧

وتدين بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنّة.

فقال لهم أبو طالب ذلك ، فقالوا : نعم ، وعشر كلمات ، فقال لهم رسول الله : تشهدون أن لا إله إلّاالله وأنّي رسول الله (١).

هذا الحديث يكشف بكلّ وضوح أنّ قبول دعوة الأنبياء عليهم‌السلام يعدّ في الحقيقة نصراً في الدارين وعزّاً وحرّية وحياة راضية مرضيّة.

٢ ـ وفي حديث آخر عن هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عليه‌السلام روي أنّه عليه‌السلام وفي معرض الردّ على سؤال أحد الكفّار والزنادقة حول الغرض من بعثة الأنبياء عليهم‌السلام قال : إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم (٢).

٣ ـ ورد في نهج البلاغة بيان جذّاب لأميرالمؤمنين عليه‌السلام حول فلسفة بعثة الأنبياء عليهم‌السلام حيث يقول : فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءَه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسيّ نعمته ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول (٣).

٤ ـ وفي حديث آخر جاء عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : إنّما بعثت لُاتمّم صالح الأخلاق (٤) ، وقريب من هذا المعنى ورد في حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «بعثت لُاتمّم مكارم الأخلاق» (٥).

٥ ـ جاء عن الإمام علي عليه‌السلام في كتاب فروع الكافي أنّه خطب ذات مرّة فقال فيما قال : «أمّا بعد فإنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ ليخرج عباده من عبادة عباده

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ، ٤٤٢ ، ح ٧ ؛ وفي ترجمة علي بن إبراهيم ج ٢ ص ٢٢٨.

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ص ١٦٨ ، كتاب الحجّة باب الاضطرار إلى حجّة ، ح ١.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١.

(٤) طبقات ابن سعد ، ج ١ ، ص ١٩٢ (ط. بيروت).

(٥) كنز العمّال ، ج ١١ ، ص ٤٢٠ ، ح ٣١٩٦٩.

٢٨

إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته ، بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً» (١).

٢ ـ الغاية من إرسال الرسل في التصور العقلي

أ) عجز الإنسان عن التقنين الدقيق

هناك علاقة وثيقة وواضحة جدّاً بين بعثة الأنبياء عليهم‌السلام والهدف من خلق الإنسان ، ولا يمكن لأحد الجمع بين الإيمان بالله وبين إنكار حكمته في كلّ الكون ، خصوصاً خلقة الإنسان ، بناءً على هذا فلابدّ من وجود هدف وراء خلق الإنسان ، وليس هذا الهدف سوى تربية مخلوق كامل يشعّ منه نور من صفات جمال الحقّ وجلاله ، ويليق بنيل القرب الإلهي.

ومن البديهي أنّ تربية موجود كهذا بدون تخطيط دقيق ومسبق في كافّة أبعاد الحياة غير ممكن ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فهذه البرامج ليست بتلك السهولة التي يمكن للإنسان الإحاطة بجميع أبعادها مستعيناً بعقله الناقص ولعدم تمكّن الجميع من التعامل مع الوحي الإلهي بصورة مباشرة.

ويُفهم من هذه المقدّمات التي اشير إلى كلّ منها بصورة مختصرة ، بداهة أن يختار الله تعالى نوّاباً من قبله ليحملوا مشعل الهداية الإلهيّة إلى المجتمع البشري ليخرجوه من الظلمات إلى النور ، ومن النقص إلى الكمال ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن الإنحراف إلى التقوى ومكارم الأخلاق ، ولا يخفى أنّ عدم تحقّق بعثة الأنبياء يؤدّي إلى عبثية خلق الإنسان وانتفاء الغاية والهدف.

وحيث إنّ الإنسان مدني بالطبع يستأنس بالحياة الاجتماعية ، فقد أودع الله تعالى حبّ مثل هذه الحياة في باطنه ليقوده عن طريقها نحو الهدف الأسمى ، إذ إنّ محدودية القوّة البدنية والفكرية للإنسان المنزوي لا يمكن إنكارها ، فلو عاش لوحده بعيداً عن أفراد نوعه لما وجدت هناك حضارة ولا اختراع واكتشاف ولا علوم ومعارف ، إذ إنّ اجتماع

__________________

(١) فروع الكافي ، ج ٨ ، ص ٣٨٦ ، ح ٥٨٦.

٢٩

وتلاقح عقول وأفكار وتجارب بني الإنسان هي السبب وراء ظهور قوّة عظيمة وتوفير الأرضيّة المناسبة للحركة التكاملية في تمام الجوانب الماديّة والمعنوية وبسرعة خاطفة.

فلو عاش الإنسان على انفراد لبقي لحدّ الآن في العصر الحجري ، ولما تعلّم القراءة والكتابة على أكبر الظنّ ، فضلاً عن كلّ هذه العلوم والإختراعات والإكتشافات ، وخلاصة القول هي أنّ أكبر إنجازين للإنسان هما حريّة التفكير ، والتمتّع بالإبتكار والابداع والاختراع ، فضلاً عن الرغبة في حياة اجتماعية في المرحلة المتقدّمة.

لكنّ من الواضح جدّاً أنّ الحياة الجماعية مع كلّ ما تحمله من بركات هي السبب من جهة اخرى وراء خلق المشاكل والمصادمات والازمات وتعارض الأهواء الشخصية ، وإنّ طيّ المسير التكاملي إنّما يتسنّى لذلك المجتمع الذي تشخّص فيه واجبات كلّ فرد وحقوقه ، ومن هنا تظهر الحاجة إلى سنّ القوانين الاجتماعية وتنظيم حقوق أفراد المجتمع ، فالقانون هو الذي يعيّن واجبات كلّ فرد بالضبط كما يعيّن حقوقه ، وأخيراً يقدّم خطّة القضاء على المشاكل وحلّ الخصومات ويبيّن كيفيّة مواجهة التخلّفات والانحرافات.

وبناءً على هذا فالحياة الجماعية بدون القانون السليم والنظام الصحيح هي أسوأ من الحياة الفردية بعدّة مراتب ، وذلك لزوال منافع المجتمع وبسبب التناقضات.

ولبّ الكلام يكمن في السؤال عن الطرف الذي يسنّ هذه القوانين ، فهل هو الإنسان أم الخالق؟

ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بتحليل مختصر : وهو أنّ المقنن الكامل يجب أن يتمتّع بالشروط أدناه ليتمكّن من سنّ أفضل قانون :

١ ـ يجب قبل كلّ شيء أن يكون المقنّن خبيراً بالإنسان عالماً بكلّ أسرار جسمه ونفسه وعواطفه وغرائزه وميوله وأهوائه وأمانيه وفطرته وإدراكاته العقليّة ، وكذلك محيطاً بكلّ الاصول الحاكمة على الروابط التي تجمع الناس مع بعضهم البعض ليتمكّن على ضوئها من وضع قوانين تنسجم معها.

٢ ـ يجب أن يكون له علم تامّ بالماضي والمستقبل البعيدين ، ليقف على جذور مسائل

٣٠

اليوم المعقّدة من خلال الماضي ، ويتمكّن من تقييم آثار قوانين اليوم على مستقبل الحياة البشرية ، نظراً لاستحالة إمكانية حلّ مشاكل اليوم مع الجهل بجذورها الماضية ، كما هو الحال تماماً في استحالة فائدة قوانين اليوم مع عدم الأخذ بنظر الإعتبار مضاعفاتها في الغد (تأمّل جيّداً).

٣ ـ المقنّن المناسب يجب أن يتمتّع بـ «علم كامل» ليتمكّن عن طريق قوانينه من إخراج كلّ القابليات والإمكانات والاستعدادات الكامنة في داخل أفراد المجتمع إلى حيّز الوجود ، ويُضفي الفعلية على ما هو كامن في طبيعة الإنسان بالإمكان والقوّة ، ويغذّي المجتمع بأكبر قدر ممكن من الإنجازات وبأقلّ ثمن يكلّف طبيعة الحياة الجماعية.

٤ ـ يجب أن تكون القوانين ذات جنبة واقعية لا خيالية ، وتتمتع بضمان تنفيذها بشكل وافٍ من قبل مؤيّديها ، وبعيدة عن التعقيد ليسهل على الجميع إدراكها.

٥ ـ المقنّن الحقيقي هو الذي لا يرتكب ذنباً وخطأً وسهواً ، فضلاً عن ضرورة كونه رحيماً باولئك الذين تُسنّ لهم القوانين ، وحازماً قوي الإرادة وشجاعاً في نفس الوقت.

٦ ـ المقنّن اللائق من ليست له مصلحة شخصية في ذلك المجتمع ، لأنّها إنّما تشغل فكر المقنّن وتجلبه نحوها ، إذ إنّه لو تمكّن على سبيل المثال من اجتناب آثارها الظاهرة للعيان لعجز عن الوقوف على آثارها المخفية بالتأكيد ، وإنّ أكبر معضلة لعالم اليوم ، والتي تسبّبت في خلق المواجهات والمشاحنات الدامية هي هذه القوانين التي تسنّ من قبل ما يصطلح عليهم بمفكّري كلّ مجتمع على حده ، إذ كلّ واحد منهم لا يأخذ بنظر الاعتبار سوى منافعه الشخصية أو منافع أتباعه ووطنه ، وبديهي أنّ مثل هذا التكبّر والأنانية وضيق النظر لا يحمل معه سوى زيادة في حدّة الصراعات والمواجهات.

وهل تتوفّر ياترى هذه الحيثيّات الستّ المتقدّمة في غير ذات الباري جلّت قدرته؟ الذي لا نهاية لعلمه بالماضي والمستقبل المحيط بجذور وأسرار كلّ شيء وكلّ موضوع ونتائجه والذي لا يجد الخطأ والسهو والإشتباه طريقاً إلى ذاته المقدّسة.

وأخيراً هو الذي لا يحتاج لشيء ولا لأحد لضمان منافعه.

٣١

ومن هنا نستدلّ على نقص وعدم جدوى كلّ قانون غير قانون الله تعالى ، بل كلّ حكم دون حكمه تعالى زائل لا محالة ولا يمكن الاعتماد عليه ، وحينما ندقّق النظر القويم نجد أنّ كلّ مشاكل الإنسان ومعضلاته نابعة من رغبته في سنّ قانون لنفسه اعتماداً على علمه المحدود ، وبدوافع هوى النفس! وهذا هو أحد الأدلّة العقليّة على لزوم بعثة الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

ب) التنسيق بين التكوين والتشريع

يمكن توضيح مسألة ضرورة بعثة الأنبياء عليهم‌السلام عن طريق منطق وبيان آخر وهو أنّ إلقاء نظرة واحدة على عالم الخلقة كافية لإدراك حقيقة أنّ خالق الكون ومن أجل إيصال كلّ موجود إلى كماله النسبي ، قد وضع تحت تصرّفه كلّ ما يحتاجه وأزال عن طريقه كلّ الموانع ، ولم يقتصر على اللوازم الضرورية لطي هذا الطريق ، وإنّما منحه ما يحتمل كونه عاملاً مساعداً لبلوغ هذا الهدف وإن لم يكن ضرورياً ، فالطائر الذي خلق ليطير مثلاً ، نراه يتمتّع بهيكل يسهّل عمليه طيرانه من كافّة الجهات فضلاً عن أجنحته القويّة التي تكسبه قدرة عظيمة على التحليق عالياً.

وعندما منح الإنسان عينين لمشاهدة المناظر المختلفة ، فلم يكتف بالأعضاء الضرورية التي تستحيل الرؤية بدونها ، بل وضع تحت اختياره الكثير من الأعضاء التكميليّة إذ زوّد العين بـ «الأهداب» للحؤول دون دخول ذرّات الغبار ، ووضع في سقف الأجفان «غدداً دهنية» لتبقى رطبة دائماً وجهّز العيون بـ «غدد دمعية» ليبقى سطح العين رطباً دائماً لئلّا تحدث حركة الأجفان أدنى جرح فيها ، وأوجد «الحاجبين» كالسدّ فوق العينين لإكمال عملهما ولكي تمنع نزول العرق من الجبين عليهما ، وزوّد كرة العين بـ «عضلات» تمكّنها من الحركة إلى الجهات الستّ بحريّة.

كما أنّ بالإمكان الوقوف على الكثير من هذه النماذج في عالم الخليقة كلّه.

وهنا يرد هذا السؤال وهو أنّه هل يمكن للخالق الذي وضع كلّ هذه الوسائل المتطوّرة

٣٢

تحت تصرّف الموجودات في عالم التكوين (الخلقة) أنّ يغضّ النظر عن إرسال الأنبياء عليهم‌السلام والدور المهمّ لهذه البعثة في طريق تكامل النوع البشري وتحقيق الهدف من حياته في كافّة أبعادها الماديّة والمعنوية كما تقدّم ويحرم المجتمع الإنساني من هذه الموهبة العظيمة؟!

أشار الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابـ «الشفاء» إلى هذه الحقيقة بعبارة مختصرة وتمثيل رائع حيث قال :

«فحاجة الإنسان إلى هذا «بَعْثِ الرُّسُلِ» في أن يبقى نوع الإنسان ويتحصّل وجوده ، أشدّ من الحاجة إلى انبات الشعر على الحاجبين وتقعير الأخمس من القدمين وأشياء اخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء ... فلا يجوز أن تكون العناية الأزلية وتقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي اسّها» (١).

وقد بيّن هشام بن الحكم التلميذ المعروف للإمام الصادق عليه‌السلام هذا الاستدلال بشكل آخر لـ «عمرو بن عبيد» العالم السنّي المعروف وقد سبق ابن سينا بذلك ، ومن جملة ما ذكر في هذه المحاورة : «.. قلت : ـ لابدّ من القلب وإلّا لم تستيقن الجوارح؟ قال : نعم. فقلت له : ياأبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح ويتيقّن به ما شكّ فيه ، ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك؟! قال : فسكت ولم يقل لي شيئاً» (٢).

* * *

ج) التربية العلمية

الطريق الثالث الذي يمكننا أن نستفيد منه للحصول على تحليل منطقي لمسألة علّة إرسال الرسل ، هو أن تربية الإنسان لها بعد علمي قبل أن يكون لها بعد وجانب عملي.

__________________

(١) الشفاء ، الإلهيات ، المقال ١٠ ، الفصل ٢ ، ص ٤٤١.

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٦٩ ، كتاب الحجّة ، باب الإضطرار إلى الحجّة ، ح ٣.

٣٣

والشرط في موفّقية المربّي في مهمّته أنّ يتمكّن من الظهور كقدوة متكاملة في تطبيق تعليماته من الناحية العملية فضلاً عن التربية اللازمة ، وأن يعكس كلّ المسائل التربوية من خلال صفاته وأخلاقه وتصرّفاته ، ولا يمكن هذا إلّاأن ينتخب الأنبياء عليهم‌السلام من جنس البشر كقدوة حسنة ، فيعكسوا صفات الإنسان الكامل وسلوكه من الناحية العملية ليقتدي بهم الناس ، ويسيروا على خطاهم فيقطعوا هذا الطريق المليء بالعثرات والعقبات بقيادتهم.

وبعبارة اخرى : هناك في وجود الإنسان شيء اسمه روحية «المحاكاة» أي أنّه ينجذب بصورة لا إرادية نحو ما يراه في أفراد جنسه ، وهذا الإحساس طبعاً لا يبلغ مرتبة الدافع القهري بل هو بمثابة الأرضية المناسبة لحركة إرادية كما هو الحال في الظمأ فإنّه لا يجبر الإنسان العطشان على شرب الماء لكنّه يعدّ بمثابة الأرضية لذلك.

حينما يأتي الأنبياء عليهم‌السلام أو الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام الذين هم من جنس البشر بالتعليمات الإلهيّة الجامعة إلى من يماثلهم ويطبّقون هذه التعليمات عمليّاً ويعكسون الفضائل الإنسانية بالتقوى والصدق يحصل باقي البشر على أرضية مناسبة لاكتساب مثل هذه الصفات.

ولذا فالقرآن الكريم يصرّح بضرورة كون النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من جنس البشر ، كما أنّه لو كان هنالك ملائكة يعيشون في الأرض لوجب ظهور أنبياء من جنسهم ، وذلك ردّاً على اولئك الذين يصرّون قائلين لماذا لم يكن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من جنس الملائكة أو لماذا لم يصطحبه ملك على أقلّ تقدير؟ يقول تعالى : (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً* قُلْ لَو كَانَ فِى الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً). (الإسراء / ٩٤ ـ ٩٥)

يبدو أنّ التعبير بـ «ملائكة يمشون مطمئنين» لبيان هذه المسألة وهي أنّه حتّى لو كان هناك ملائكة يعيشون في الأرض متسالمين لبعثنا إليهم ملكاً من جنسهم كقائد يقودهم بالرغم من انعدام الخصومات فيما بينهم ، نظراً إلى أنّ مهمّة الأنبياء عليهم‌السلام لا تنحصر في إنهاء حالة التخاصم وإقامة القسط والعدالة الاجتماعية ، بل تعدّ كلّ هذه مقدّمة لطيّ طريق

٣٤

الكمالات المعنوية للتقرّب إلى الله تعالى.

على أيّة حال فقد ورد ما يشبه هذا المعنى في لباس آخر كإجابة على تذرع المشركين ، حيث قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ). (الأنعام / ٩)

كما أنّ هناك ملاحظة جديرة بالإعتبار ، وهي أنّ القرآن يؤكّد على كون نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أو سائر الأنبياء عليهم‌السلام قدوة ومثالاً يقتدى به ويوصي الناس بضرورة الإقتداء بهم في برامجهم العملية ، يقول تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). (الأحزاب / ٢١)

ويقول في موضع آخر : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ). (الممتحنة / ٤)

كما تكرّر نفس هذا المعنى في الآية السادسة من نفس هذه السورة.

على أيّة حال فمسألة التربية والتعليم عن طريق الإقتداء بالقادة الإلهيين مؤيّدة بالتحليل المنطقي والآيات القرآنية أيضاً.

* * *

٣ ـ اسلوب المخالفين

في قبال الأدلّة الكثيرة على لزوم إرسال الأنبياء عليهم‌السلام المتقدّمة ، والتي نالت قبول الأكثرية القاطعة من العقلاء في العالم ، نجد أنّ مذهب البراهمة (١) نفى ضرورة بعث الأنبياء عليهم‌السلام من الأساس ، بل اعتبرها مستحيلة وغير معقولة ، لاعتقاده بكفاية ما يعينه العقل للإنسان! وقد نقل الشهرستاني في كتابـ «الملل والنحل» بعضاً من شبهاتهم حول هذا الموضوع وقال :

__________________

(١) مذهب البراهمة هو من أقدم المذاهب المعروفة التي ظهرت في المشرق ، ومركزه الأصلي «الهند» ، قال الشهرستاني في كتابـ «الملل والنحل» : هذا الاسم مأخوذ من اسم «براهام» مؤسس هذا المذهب ، في حين أنّ «فريد وجدي» يقول في «دائرة المعارف» : إنّ هذا الاسم مشتقّ من اسم أحد آلهتهم الكبيرة أي «براهما» ، والبراهمة وفضلاً عن إنكارهم للنبوّة يعتقدون بنوع من التثليث أي الآلهة الثلاثة.

٣٥

أ) أنّ الذي يأتي به الرسول لم يخل من أحد أمرين : فإمّا أن يكون معقولاً وإمّا أن لا يكون معقولاً ، فان كان معقولاً فقد كفانا العقل التامّ بإدراكه والوصول إليه ، فأي حاجة لنا إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولاً فلا يكون مقبولاً ، إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حدّ الإنسانية ودخول في حدّ البهيميّة.

ب) قد دلّ العقل على أنّ الله تعالى حكيم والحكيم لا يتعبّد الخلق إلّابما تدلّ عليه عقولهم ، وقد دلّت الدلائل العقليّة على أنّ للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً ، وأنّه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر ، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا ... وإذا عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه فما بالنا نتّبع بشراً مثلنا؟!

ج) إنّ أكبر الكبائر في الرسالة اتّباع رجل هو مثلك في الصورة والنفس والعقل ، يأكل ممّا تأكل ويشرب ممّا تشرب حتّى تكون بالنسبة إليه كجماد يتصرّف فيك رفعاً ووضعاً ، أو كحيوان يصرفك أماماً وخلفاً ، أو كعبد يتقدّم إليك أمراً ونهياً ، فأي تفوّق له عليك؟ وأيّة فضيلة أوجبت استخدامك؟ ، وما دليله على صدق دعواه؟ وما فضل حديثه على غيره؟ ولو أنّهم جاؤا بأشياء تفوق العادة ، فانّ هناك من يخبر عن المغيبات أيضاً.

د) قد دلّ العقل على أنّ للعالم صانعاً حكيماً ، والحكيم لا يتعبّد الخلق بما يقبح في عقولهم ، وقد جاء أصحاب الشرائع بمستقبحات من حكم العقل : كالإحرام والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وأمثالها ، فما فائدتها؟ لماذا حرّموا بعضاً من طعام الإنسان وحلّلوا ما يكون مضرّاً؟ (١).

* * *

الجواب :

يمكن الإجابة عن هذه الشبهات بسهوله :

أ) يجب ألّا ننسى أنّ معلوماتنا وإدراكاتنا العقليّة ما هي إلّاقطرة من محيط عظيم

__________________

(١) الملل والنحل ، الشهرستاني ، الباب ٤ ، آراء الهند ، الفصل ١ ـ البراهمة ـ ص ٢٥٠.

٣٦

وغيض من فيض بالنسبة إلى مجهولاتنا ، وهذه الحقيقة يعترف بها جميع العلماء والمفكّرين سواءً من الإلهيين أو المادّيين.

فمن يقول إنّ رسالات الأنبياء عليهم‌السلام إمّا أن تكون موافقة لعقولنا أو مخالفة ، فإنّه يفهم من كلامه أنّ العقل يدرك كلّ شيء! لكنّ الأمر ليس كذلك ، بل هناك شقّ ثالث أوسع من صاحبيه ، وهو تلك الامور التي ليس لنا علم بها أصلاً ولا يمكننا نفيها ولا إثباتها ، لكن حينما تثبت إجمالاً عن طريق الأدلّة التي سنشير إليها فيما بعد بأنّ الأنبياء عليهم‌السلام يتكلّمون نيابة عن الله تعالى ويخبرون من علمه اللامحدود فإنّه سوف لن يبقى هناك مجال سوى قبولها والإذعان بصحّتها.

فإشكال البراهمة الأوّل يشبه قولنا بعدم لزوم التوجّه إلى الاستاذ والاستفادة من علمه وتجربته ، لأنّ ما يقوله الاستاذ إمّا أن يكون موافقاً لعقل التلميذ أو لا ، ففي الحالة الاولى لا حاجة للذهاب وفي الحالة الثانية لا يجب التسليم وقبول قول الاستاذ.

وبديهي أنّ هذا الكلام صبياني لا يخفى جوابه على أي مفكّر ، فالاستاذ إنّما يعلّم التلميذ أشياء يعجز عقله عن نفيها أو إثباتها بالإضافة إلى ذلك فقد يلتبّس الأمر علينا فنقع في الشكّ والإضطراب أحياناً في مسائل عرفناها بصورة صحيحة فلا ندري هل فهمناها بصورة صحيحة أم لا؟

وبدون شكّ فانّنا سنطمئن ونتيقّن إذا ما أيّدها الأنبياء وصدّقوها ، لذا فنحن محتاجون إلى الأنبياء في كلّ الامور سواء علمناها أم لم نعلمها ، (فتأمّل).

* * *

ب) صحيح أنّنا نعرف الله تعالى بالأدلّة العقليّة ، وأنّ حكم العقل هو الذي يفرض علينا شكر نعمه ، لكنّ هذا لا يكفي ، فطريق السعادة والكمال الإنساني مليء بالعقبات والمخاطر ، ولابدّ من وجود أشخاص مجهّزين بالقدرة الإلهيّة والإمدادات الغيبية ليأخذوا بأيدينا عند اجتيازنا لهذه المخاطر.

٣٧

نحن لا نقتدي بإنسان مثلنا أبداً ، بل بإنسان له اطّلاع واسع جدّاً ، وعلمه متصل بعلم الله اللامحدود عن طريق الوحي ، واتّباع شخص كهذا منطقي جدّاً.

* * *

ج) ممّا تقدّم يتّضح الجواب على الإشكال الثالث أيضاً ، إذ إنّ إطاعتنا لأوامر الأنبياء عليهم‌السلام والوقوف رهن إشارتهم لتقواهم التي لا مثيل لها والتي لمسناها فيهم.

نحن نضع أحياناً قلوبنا وعقولنا التي تعدّ أهمّ وأعزّ أعضائنا تحت تصرّف الجرّاح الذي نثق به ، فينهال عليها بمبضعه ، وحينما نوافق على تخديرنا من قبله ليفعل ما يريد ، فهل يُعدّ هذا العمل حماقة؟

بديهي إنّه ليس كذلك ، فعلم ومعرفة الطبيب الجرّاح من جهة ، وحسن ظنّنا بعمله من جهة اخرى ، يبعثان على التسليم له بلا قيد أو شرط ، ولا يخفى أنّ الأنبياء عليهم‌السلام الإلهيين يفوقون الطبيب علماً وتقوى بكثير.

* * *

د) أي أمر غير منطقي يوجد في تعليمات الأنبياء عليهم‌السلام؟ فهل مراسم الحجّ والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات والإحرام هي خلاف العقل؟

إنّ تأمّلاً بسيطاً في فلسفة هذه الأعمال يكشف عن مدى حكمتها ، وكيف أنّها تربّي الإنسان تربية صالحة.

فنحن نخرج عند الإحرام من حجاب عالم المادّة ، ونترك كلّ الفوارق القوميّة والعرقية والطبقية جانباً ونقف كلّنا سواسية ونترك كلّ ما يشغل القلب جانباً ولو مؤقتاً ، ونتفرّغ لـ «معرفة وجودنا وخالقنا» في عالم معنوي خالص.

والجمرات الثلاث تمثّل الشيطان ، إذ نرميه بالحصى سبع مرّات متعاقبة ، وبهذا نعلن عن رفضنا واستيائنا من الاعمال والأفكار الشيطانية.

٣٨

وعند السعي بين الصفا والمروة نتذكّر سعي «هاجر» تلك المرأة الطاهرة المؤمنة وجهدها لنجاة وليدها «إسماعيل» ، فنطوي المسافة بين الصفا والمروة عدّة مرّات.

وقصارى الكلام ، إنّ الأعمال التي ننجزها يعتبر كلّ واحد منها مثالاً لبرنامج تربوي مسبق ، وعند الانتهاء نشعر بأنّنا قد حصلنا على شخصيّة جديدة ومعرفة جديدة عن الله تعالى وعن نفوسنا ، ذلك الإحساس الذي يحصل لكلّ إنسان بعد مراسم الحجّ.

إنّ تحريم الأنبياء عليهم‌السلام بعض المواد الغذائية والمشروبات مثلـ «الخمر» و «لحم الخنزير» إنّما للأضرار الكامنة فيها والتي غفل الناس عنها سابقاً ثمّ اطّعلوا عليها بالتدريج في هذا العصر ، فنحن لا نعرف شيئاً حلّله الأنبياء عليهم‌السلام وتسبّب في ضرر الإنسان ماديّاً أو معنويّاً.

وخلاصة القول ، إنّ هذه الإشكالات الأربعة للبراهمة قد نشأت عن جهلهم بالأنبياء عليهم‌السلام أو تعليماتهم من جهة وعدم معرفتهم لمدى قدرة العقل من جهة اخرى ، وبهذا نصل إلى نهاية البحث حول فلسفة «البعثة».

* * *

٣٩
٤٠