نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

المنزلة العلمية

للأنبياء عليهم‌السلام

١٦١
١٦٢

المنزلة العلمية للأنبياء عليهم‌السلام

لا شكّ أنّ قادة المجتمعات البشرية عموماً ، والقادة الإلهيين خصوصاً ينبغي لهم أن يتمتّعوا بقسط وافر من العلم والمعرفة ، وفي شتّى المجالات ، وبما أنّ دائرة رسالة الأنبياء عليهم‌السلام تشمل بدن الإنسان وروحه ، وبعبارة أخرى إنّها تسع جميع البشر في دنياهم وآخرتهم ، فلابدّ لهم من معلومات جمّة لا تشوبها شائبة الخطأ والسهو ، لكي لا يقودوا الناس إلى طرق الضلال تحت عنوان نيابتهم عن الله ، وليثق بهم عباد الله ولا ينحرفوا.

ولهذا السبب فقد جهزهم الله وقبل كلّ شيء بسلاح العلم والمعرفة ، كما شهدت بذلك آيات القرآن الكريم ، فالآيات أدناه دليل واضح على هذا المعنى ابتداءً بآدم وانتهاءً بالخاتم.

* * *

١ ـ لقد وهب الله آدم عليه‌السلام علماً ومعرفة حتّى أنّ الملائكة بمقامهم العلمي وإحاطتهم بأمور العالم قد سجدوا له :

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأسْمِاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأسْمِائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأسْمِائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ). (البقرة / ٣١ ـ ٣٣)

ولغرض إكمال هذا البحث لابدّ لنا من معرفة أمور :

١٦٣

ما هو علم الأسماء؟

للمفسّرين كلام طويل حول ماهية علم الأسماء هذا ، الذي يعدّ من أعظم المواهب الإلهيّة لآدم عليه‌السلام ، والمنشأ لفضيلته وافتخاره ولياقته لتسلّم مقام الخلافة الإلهيّة.

فتارة قيل : إنّ المراد به هو علم اللغات ، في حين أنّ معرفة مجموعة من اللغات لا يمكن أن تكون المنشأ لفضيلة كهذه ، فضلاً عن عدم تناسب هذا المعنى مع التعبير الوارد في هذه الآيات ، لأنّ التعبير بـ : (غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) يبيّن عودة هذا العلم إلى أسرار السماوات والأرضين الخفيّة ، التي بقيت خافية عن أنظار الملائكة.

وقالوا تارةً اخرى : إنّ المراد هو أسماء حجج الله ، خصوصاً الأئمّة المعصومين الذين كانت أرواحهم مخلوقة من قبل ، وقد ورد مثل هذا التفسير في بعض الروايات.

لكن من المسلّم أنّ مثل هذه الروايات ليست أكثر من إشارة إلى البعض من المصاديق المهمّة لهذا العنوان الكلّي ، كما عليه أسلوب الروايات التفسيرية ، لا أنّ «علم الأسماء» يختصّ بها.

لكن الكثير من المفسّرين قالوا : إنّ المراد من «الاسم» هنا هو «المسمّى» ، أي أنّ الله علّم آدم كلّ العلوم المرتبطة بالأرض والسماء ، وأنواع الصناعات واستخراج المعادن وغرس الأشجار وخواصها ومنافعها ، (أو أنّه تعالى وضعها في كيانه ووجوده بشكل مركّز).

وعلى هذا فقد تعرّف آدم على كلّ أسرار العالم ، وهيّأ الأرضية لذرّيته للإحاطة بكلّ هذه الأسرار. فأيّة فضيلة أسمى وأرفع من التمتّع بمثل هذا العلم ، وكذلك جعل القابلية على نيله في متناول أولاده أيضاً.

ولذا نقرأ في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام حو تفسير هذه الآية قال : «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثمّ نظر إلى بساط تحته فقال هذا البساط ممّا علمه» (١) ، (وباختصار كلّ موجودات العالم).

هذا التعبير يبيّن أنّ آدم عليه‌السلام كان عالماً بكلّ هذه العلوم.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٧٦.

١٦٤

وهناك كلام للمرحوم «العلّامة الطباطبائي» في «الميزان» حاصله : «أوّلاً يستفاد من تعابير الآية أنّ هذه «الأسماء» سلسلة أمور غائبة عن العالم السماوي والأرضي ، خارج محيط الكون ، ولها مفهوم عام واسع أشير إليه بلفظة «كلّها» كما أنّ الضمير «هم» بصيغة الجمع ، مشعر بأنّ كلّ هذه الأسماء كانت موجودات حيّة عاقلة مستورة في عالم الغيب» ، ثمّ يضيف قائلاً : «وإذا تأمّلت هذه الجهات أعني عموم الأسماء ، وكون مسمّياتها لها حياة وعلم ، وكونها غيب السموات والأرض ، قضيت بانطباقها بالضرورة على ما أشير إليه في قوله تبارك وتعالى : (وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). (الحجر / ٢١)

وأخيراً يقول العلّامة : «فتحصّل أنّ هؤلاء الذين عرضهم الله على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله ، محجوبة بحجب الغيب ، أنزل الله كلّ اسم في العالم بخيرها وبركتها ، واشتقّ كلّ ما في السموات والأرض من نورها وبهائها» (١).

على أيّة حال فقد كان «علم الأسماء» علماً واسعاً محيطاً بكلّ الحقائق المهمّة لهذا العالم.

* * *

٢ ـ يقول الله تعالى حول موسى بن عمران عليه‌السلام :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ). (القصص / ١٤)

٣ ـ ويقول عن داود عليه‌السلام :

(وَقَتَلَ دَاوُدُ (الذي كان في ذلك الزمان فتى في ريعان الشباب) جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ). (البقرة / ٢٥١)

٤ ـ ويقول عن داود وسليمان عليهما‌السلام :

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١ ذيل الآيات مورد البحث ، يمكن أن يكون مراد العلّامة من هذا الكلام المجمل شيئاً شبيهاً بالمثل الافلاطونية أو العقول العشرة.

١٦٥

(وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً). (الأنبياء / ٧٩)

٥ ـ ويقول عن النبي لوط عليه‌السلام :

(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً). (الأنبياء / ٧٤)

٦ ـ كما يكرّر نفس هذا المعنى في حقّ يوسف عليه‌السلام إذ يقول :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً). (يوسف / ٢٢)

ولابدّ من الإلتفات هنا إلى هذه النكتة ، وهي أنّ لفظة «علماً» قد وردت في هذه الآيات بصيغة «النكرة» وذلك لبيان العظمة التي لا نعرف لها حدّاً وحدوداً.

البعض فسّر لفظة الـ «حكم» في هذه الآيات بمعنى مقام «القضاء» والبعض فسّرها بمعنى مقام «النبوّة» ، وحملها البعض الآخر على معنى العلم الخاصّ الذي يساعد الإنسان على تمييز الحقّ من الباطل ، وبعبارة أخرى أن المراد هو العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والفصل بين الحقّ والباطل (١) ، لكن بالنتيجة يمكن لكلّ واحدة من هذه المعاني أن تكون شاهداً على المراد.

٧ ـ ويقول حول السيّد المسيح عليه‌السلام :

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ). (المائدة / ١١٠)

٨ ـ ويقول حول نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله :

(وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (النساء / ١١٣)

٩ ـ وفي موضع آخر وبعد الإشارة إلى فريق من الأنبياء العظام ، أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس واسماعيل واليسع ويونس ولوط يقول :

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ). (الأنعام / ٨٩)

وبناءً على هذا فقد وهب الله ثلاثة امتيازات مهمّة لهؤلاء الأنبياء العظام الثمانية عشر،

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٢٢ ، ذيل الآية ٢٢ من سورة يوسف.

١٦٦

لكنّها لم تكن تختصّ بهم فقط بل كانت شاملة لكلّ الأنبياء الإلهيين ببداهة الحال ، وهي : «الكتاب السماوي» و «الحكم» و «النبوّة» ، طبعاً ينبغي ألّا يفهم من هذا الكلام أنّ كلّ واحد منهم كان يمتلك كتاباً مستقلاً ، بل إنّ فريقاً منهم كان قد اوحي إليه كتاب ، وفريقاً آخر كان حافظاً لكتب السلف.

١٠ ـ هناك تعبير بليغ آخر يشاهد في آيات القرآن حول هذا الموضوع بالنسبة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخلفائه المعصومين ، وهو تعبير (الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ) حيث يقول القرآن ، وبعد تقسيمه للآيات القرآنية إلى «المحكمات» (الآيات الصريحة والواضحة) و «المتشابهات» (الآيات التي ليست كذلك) :

(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ (أي المتشابهات) إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ ، (ونظراً لفهمهم أسرار آيات القرآن) يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ). (آل عمران / ٧)

ومعلوم أنّ هناك حديثاً مفصّلاً بين المفسّرين حول تفسير هذه الآية ، وأنّه هل يجب الوقوف بعد لفظ الجلالة «الله» وفصل جملة (وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ) ، ليفهم منها أنّ الراسخين في العلم يؤمنون إجمالاً بالآيات المتشابهة وإن لم يكن لهم إلمام كافٍ بها ، أم أنّ جملة «الراسخون في العلم» معطوفة على لفظ الجلالة «الله» ليفهم منها أنّ كلاً من الله وكذلك الراسخين في العلم لهم اطّلاع بتأويل هذه الآيات ، وقد اخترنا في التفسير الأمثل الشقّ الثاني ، وذكرنا هناك أربعة أدلّة على مدّعانا (١).

على أيّة حال فعبارة «الراسخون في العلم» تدلّ على أنّ لهؤلاء القادة العظام سهماً وافراً من العلم ، لأنّ لفظة «الرسوخ» وعلى حدّ قول صاحب المفردات تعني ثبات الشيء متمكّناً ، وأنّ الراسخ في العلم هو المحقّق به الذي لا تعترضه شبهة.

فنستنتج من مجموع هذه الآيات بكلّ وضوح ، أنّ للأنبياء الإلهيين حصّة كبيرة من العلوم والمعارف.

__________________

(١) يرجى مراجعة التفسير الأمثل ، ذيل الآية مورد البحث.

١٦٧

توضيحان

١ ـ حدود علم الأنبياء عليهم‌السلام

لا شكّ في ضرورة تمتّع الأنبياء عليهم‌السلام بمعرفة تامّة بكلّ أصول الدين وفروعه ، وما يرتبط بالمعارف الإلهيّة ، والأحكام ، والأخلاق وأسباب سعادة الإنسان وشقائه ، وطرق نجاته وهدايته ، وذلك لاستلزام مهمّة إبلاغ هذه الأمور ، ونيل أهداف النبوّة السامية لمثل هذه العلوم. ومن البديهي عدم إحاطتهم التامّة بهذه الأمور يحول دون تحقّق المقصود ، وحسب التعبير المعروف ، فهذه المسائل من القضايا التي تكون قياساتها معها.

كما يجب أن يكون لهم إلمام بالمسائل التنفيذية والامور المرتبطة بإدارة المجتمع ، وتشكيل الحكومة الإلهيّة ومسائل من هذا القبيل ، وذلك لأنّ للأنبياء مقام الولاية فضلاً عن جانب التربية والتعليم ، ولو لم نتمكّن من تعميم حكم هذه المسألة على كلّ الأنبياء عليهم‌السلام ، فهذا المقام ممّا يمكن إثباته لكبار الأنبياء على أقلّ تقدير ، فإبراهيم كان إماماً وقائداً للناس ، وكان كلّ من سليمان وداود وموسى بن عمران ويوسف متصدّياً للحكومة عمليّاً ، كما أنّ نوحاً كان شبيهاً برئيس الحكومة وذلك في ظروف خاصّة بعد مسألة الطوفان ، والأوضح من الكلّ هو مقام ولاية وحكومة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي شكّل حكومة إلهية كاملة بكافّة أبعادها.

إنّ ضرورة تمتّعهم بالمعلومات الكافية لإدارة هذه الحكومات هو ممّا لا يخفى ، لأنّ أي خطأ واشتباه منهم في أمر الحكومة سيترك أثراً سلبيّاً في مسألة دعوتهم إلى الله ، وعلى العكس فالقيادة الصحيحة للحكومة ستكون السبب في نجاحهم في هذه المهمّة.

ويمكن إثبات هذين القسمين من العلوم والمعارف ـ الدينية والحكومية بالدليل العقلي ، باعتبار عدم ضمان الهدف من البعثة لو لم يكن للأنبياء اطّلاع عليهما.

لكن هل يلزم عقلاً أن يكون الأنبياء والأئمّة المعصومون مطّلعين على العلوم الأخرى ، التي لا ترتبط بأهدافهم مباشرةً؟ مثلاً هل يجب أن يكون لهم اطّلاع بعلم الطبّ والرياضيات والأعشاب والنجوم والهيئة وسائر العلوم؟

١٦٨

بعبارة أخرى هل يلزم أن يكون لهم إلمام بكافّة العلوم على مستوى إلمام الأخصائي وما فوقه ـ الدكتوراه وما فوق ذلك ـ لا مجرّد المعلومات العامّة التي يحتاجها كلّ قائد؟

يعتقد البعض بعدم وجود أدلّة عقلية على إثبات مثل هذه العلوم الكثيرة للأنبياء ، مهما تمّ الإستشهاد بالآيات والروايات كأدلّة نقلية على اتّساع دائرة علومهم في شتّى المجالات.

وبعبارة أخرى : فعلوم الأنبياء عليهم‌السلام الضرورية لهم هي ما تمّت الإشارة إليها طبقاً للأدلّة العقلية ، لكن عند الاستدلال بالأدلّة النقلية تتّسع مسألة علومهم بشكل أكبر ولا مانع من عدم لزوم هذه العلوم لهم عقلاً ، لأنّ الأدلّة النقلية تثبت لهم هذه العلوم من باب الفضيلة والكمال ، نظراً لإمكان هذه العلوم من إضفاء عظمة أكبر عليهم ، ومن الإسراع في تقبّل الناس لدعوتهم.

٢ ـ القرآن والعلوم الأخرى للأنبياء عليهم‌السلام

ومن جهة أخرى فلا يمكن إنكار هذه الحقيقة وهي ارتفاع الحجب عن قلوب الأنبياء ، بسبب سمو نفوسهم وتهذيبهم الكامل للنفس وتصفية قلوبهم من الشوائب ، وأنّ هذه المعرفة وان لم تكن ضمن شروط النبوّة لكنّها تعتبر ضرورية في سلّم الكمال كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى ، فان مسألة نقض الغرض شيء ، ومسألة قدرة نفوس وعقول الأنبياء يمثل شيئاً آخر ، ولو أنّنا عجزنا عن إثبات ما زاد عمّا له علاقة بعالم الشريعة والتربية وإدارة المجتمع الإنساني ، فبالإمكان إثباته بالطريق الثاني.

ويمكن لآيات القرأن أن تكون دليلاً حسناً على هذه المسألة أيضاً ، إذ قد تمّت الإشارة في القرآن ، بالإضافة إلى مسألة الأسماء التي وهبت لآدم والتي اتّسع نطاقها بما يفوق الحدّ ـ كما علمنا ـ إلى موارد أخرى من علوم مختلف الأنبياء الإلهيين ، والتي لا تبدو حسب الظاهر لازمة لمسألة التشريع وبيان أحكام الدين ، لكنّها تعدّ الأساس لكمالها. لاحظ الآيات الآتية المرتبطة بهذا الموضوع.

١ ـ نقرأ عن داود عليه‌السلام : (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ). (الأنبياء / ٨٠)

١٦٩

الـ «لبوس» يعني في الأصل كلّ أنواع الألبسة ، لكنّه استعمل هنا في خصوص ملابس المعركة كالدرع مثلاً ، ولكن بعض أرباب اللغة كابن منظور في لسان العرب وبعض المفسّرين كالمرحوم الطبرسي في مجمع البيان قالوا في ذيل هذه الآية : كلّ أنواع السلاح (الأسلحة الهجومية والدفاعية) ، إذ إنّه يصدق بحقّها استعمالها للدفاع في الحروب التي اشير إليها في الآية وإن كانت ظاهرة في الدرع كما هو واضح.

ذكر بعض المفسّرين أنّهم وقبل داود عليه‌السلام كانوا يربطون بأبدانهم صفحات حديدية رقيقة لوقاية أنفسهم من ضربات الأعداء ، (وأنّ هذا العمل كان شاقّاً وصعباً للغاية ، وأنّ أوّل من صنع الدرع من الحلقات الصغيرة المرتبطة ببعضها البعض هو نبي الله داود الذي خطر على باله هذا الشيء بإلهام إلهي (١).

وقد ورد نفس هذا المعنى بتعبير أشمل في موضع آخر إذ يقول تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً). (سبأ / ١٠ ـ ١١)

«السابغات» جمع «سابغ» الذي يعني الدرع الكامل العريض بالضبط ، كما أنّ «إسباغ النعمة» يعني وفورها و «إسباغ الوضوء» يعني كثرة ماء الوضوء.

«السرد» يعني في الأصل غزل الأشياء الخشنة ، وقد ورد في جملة «وقدّر في السرد» الأمر برعاية الأحجام الملائمة لحلقات الدرع وكيفية غزلها.

وبهذا تبيّن أنّ الله قد ألآن له الحديد بالإضافة إلى تعليمه لفنون غزل الدرع الكامل.

هل كان الحديد يلين في يد داود كالشمع؟ أم أنّ الله قد علّمه طريقة إذابة الحديد وصناعة القضبان الحديدية الدقيقة والمتينة؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن يكون لين الحديد في يده معجزة إلهية ، أم أنّ الله علّمه الأسلوب الخاصّ لإذابة الحديد ، والذي لم يكن معروفاً حينذاك؟ أيّاً كان فقد علّم الله داود كيفية صناعة القضبان المناسبة واستبدالها بحلقات الدرع القويّة ونسجها ، وكانت نتيجة ذلك هي صناعة ثوب يسهل ارتداؤه مع مرونة حركته ، طبقاً لحركات بدن الإنسان وأعضائه ، لا كصفحات الحديد القويّة التي يتعذر

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ١١ ، ص ٢١ ؛ وتفسير في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٥٥٢.

١٧٠

تطويعها والتي تقيّد المقاتلين فتجعلهم وكأنّهم في قفص.

وهنا ملاحظة لابدّ وأن تؤخذ بنظر الإعتبار وهي أنّ داود عليه‌السلام حينما كان يلين الحديد بيديه كان يرجّح صناعة المعدّات الدفاعية على الهجومية كالسيف مثلاً.

على أيّة حال فمع أنّ عدم الإلمام بصناعة آلية دفاعية مهمّة ومصيرية ، في حروب ذلك الزمان لم يكن بتلك الأهميّة ، بحيث يحدث خللاً في دعوة النبي الدينية ، لكن الله علّمه هذه الصنعة وبقيت رائجة بين الناس.

* * *

٢ ـ نقرأ فيما يتعلّق بسليمان عليه‌السلام : (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ). (النمل / ١٦)

هذا في الواقع جزء من العلم العظيم الذي وهبه الله لداود وسليمان ، والذي جاء في الآية السابقة : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً).

بديهي أنّ الإطّلاع على منطق الطير (محاورات الطيور) بأي معنىً كان ليس من شروط النبوّة ، وفي نفس الوقت فالقرآن يصرّح بأنّ الله تعالى كان قد وهب سليمان عليه‌السلام علماً كهذا ، بل أشار أيضاً في آيتين لاحقتين إلى معرفة سليمان بمنطق النمل : (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ الَّنمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا الَّنمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَايَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ). (النمل / ١٨ ـ ١٩)

وكما نقرأ حوار سليمان مع الهدهد في الآيات اللاحقة كذلك : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِىَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ...). (النمل / ٢٠ ـ ٢٨)

مع أنّ هناك أبحاثاً كثيرة تبحث في تفسير هذه الآيات ، أنّه هل لهذه الطيور كالهدهد والحشرات كالنمل ذلك المستوى من العقل والشعور ، بحيث تدرك مفاهيم الكلمات

١٧١

والجمل وتتحدّث بشكل منطقي؟ وهل أنّ اسلوب محاوراتها يتمّ بالألفاظ أم من خلال حركات تعكس المراد؟ (ذكرنا ذلك مفصّلاً في التفسير الأمثل) (١).

لكن تفسير هذه الآيات أيّاً كان فلن يؤثّر على الهدف الذي نبغيه هنا ، لأنّ المراد هو وجود سلسلة من المعلومات التي تخرق العادة عند الأنبياء ، وعدم وجودها عند الناس العاديين ، مع عدم كونها من شروط النبوّة في نفس الوقت.

* * *

٣ ـ وحول يوسف عليه‌السلام جاء في العديد من الآيات أنّ له علماً خارقاً للعادة في تفسير الأحلام.

ففي أحد المواضع يبشّره أبوه يعقوب عليه‌السلام بأنّ الله سيختارك ويعلّمك من تفسير الأحلام : (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). (يوسف / ٦)

وفي موضع آخر حينما يدور الحديث حول مجيء يوسف عليه‌السلام إلى قصر عزيز مصر يقول القرآن الكريم : (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). (يوسف / ٢١)

ويتحدّث في موضع آخر عن تفسير يوسف عليه‌السلام لرؤيا السجينين ، وقوله لهما : (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى). (يوسف / ٣٧)

وأخيراً حينما يدور الحديث عن ابتهال يوسف عليه‌السلام ومناجاته لخالقه بعد تصدّيه لمقام الحكومة ، ولقائه بأبيه وامّه واخوته ، يقول القرآن الكريم على لسان يوسف عليه‌السلام : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). (يوسف / ١٠١)

مع أنّ البعض من المفسّرين قد ذكروا احتمالاً آخر غير تفسير الأحلام فيما يتعلّق بعبارة (تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) وقالوا : إنّ المراد هو تعليمه أسرار الكتب الإلهيّة ودقائق سنن

__________________

(١) راجع التفسير الأمثل ، ذيل الآيات مورد البحث.

١٧٢

الأنبياء عليهم‌السلام (١) ، لكن ومع الأخذ بنظر الإعتبار مجموع الآيات الأربع أعلاه ولفظة «التأويل» التي تتلاءم كثيراً مع تفسير الأحلام ، بالإضافة إلى قرائن اخرى يكون المراد هو نفس علم تفسير الأحلام وهو مختار الكثير من المفسّرين أيضاً (٢).

ومع أنّ علم تفسير الأحلام لم يحض بتلك الأهميّة عند البعض ، لكنّه يعدّ من الحقائق ، وذلك للشواهد والقرائن العينية الكثيرة التي تحفّ بهذا الموضوع ، كما أنّ بإمكانه كشف اللثام عن بعض الغوامض لمن له إلمام به. وقد تناولنا هذا الموضوع بالشرح والتفصيل في التفسير الأمثل ذيل الآية السادسة سورة يوسف عليه‌السلام.

كما أنّ القرآن قد أيّد صحّة ذلك أيضاً وذكر لذلك مثالاً عجيباً ، وبيّن أنّ مستقبل بلاد كبيرة كمصر قد تغيّر عن طريق تفسير يوسف عليه‌السلام للرؤيا بصورة دقيقة ، كما أنّ نفس هذا التغيّر قد ترك أثره في مستقبل يوسف عليه‌السلام أيضاً وأوصله إلى أرفع المناصب الحكومية في مصر.

ولا شكّ أنّ علم تفسير الأحلام بنظر المنطق العقلي ليس بذلك الشيء الذي ترتكز عليه اسس الرسالة ، لكن مع ذلك فقد وهب الله قسطاً وافراً منه ليوسف عليه‌السلام.

* * *

٤ ـ وحول موسى عليه‌السلام أيضاً يشاهد هذا المعنى بوضوح في القرآن ، حيث أن قصّة «الخضر» و «موسى» وبذلك التفصيل الرائع والبليغ ، الذي جاء في سورة الكهف (وان لم يصرّح القرآن باسم الخضر) تبيّن وجود علوم لدى الخضر كانت غائبة عن ذهن موسى ، وأنّه جاء إلى «الخضر» ليتعلّم قسماً منها.

هذه العلوم ليست اموراً مرتبطة بالشريعة وأصول الدين وفروعه ، بل هي حقائق مرتبطة

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ١٢ ، ص ١٨٦ ، نقل هذا التفسير عن البعض من المفسّرين كما أنّ المفسّر الكبيرالطبرسي ذكر ذلك كأحد الأقوال في ج ٥ ، ص ٢١٠ ، ذيل الآية السادسة من سورة يوسف.

(٢) تفسير مجمع البيان ذيل الآية ١٠١ ؛ وتفسير روح المعاني ذيل الآية ٢١ ؛ وتفسير القرطبي ذيل الآية ٦ ؛ وتفسير روح البيان ذيل الآية ٦ ؛ وأخيراً تفسير في ظلال القرآن ذيل الآية ١٠١ من سورة يوسف.

١٧٣

بتكوين الإنسان وحياته ، مثل تلك السفينة التي كانت لفريق من المستضعفين ، والتي خرقها الخضر ليحول دون غصبها من قبل الملك الظالم ، أو الشاب الذي قتله الخضر لأنّه سوف يكون سبباً في انحراف أبويه المؤمنين مستقبلاً ، أو الجدار الذي كاد ينقضّ حيث قام الخضر بترميمه حفاظاً على كنز الأيتام الموجود تحته.

فالخضر كان يسعى دائماً بأسلوبه الخاصّ لمساعدة المظلومين والمؤمنين ، في حين كان تصرّفه هذا بنظر موسى خاطئاً وغير مطابق للموازين الشرعية ، وذلك بسبب عدم اطلاعه على بعض الحقائق التي كانت محجوبة عنه ، ولذا كان يغضب كثيراً حتّى أنّه نسي أكثر من مرّة عهده الذي أعطاه للخضر ، بعدم الإعتراض على ما يفعله قبل بيانها واعترض عليه بشدّة ، ثمّ اعتذر منه بعد التفاته إلى ذلك.

هذه القصّة بكلّ نكاتها اللطيفة تؤكّد على حقيقة أنّ موسى عليه‌السلام كان بصدد تعلّم مثل هذه العلوم من الخضر عليه‌السلام بأمر من الله ، في حين أنّ هذه العلوم لم يكن لها دخل في مسألة إبلاغ النبوّة ، بل تعتبر سبباً في تكاملها لأنّها تعني التعمّق في المسائل بشكل أكبر.

ولو اعتبرنا الخضر نبيّاً (نظراً لوجود الخلاف بين المفسّرين والمحدّثين حول نبوّته) فسنصل إلى هذه النتيجة أيضاً وهي أنّ هناك علوماً لدى الخضر وراء علوم الشريعة ، وبديهي أنّ اطّلاع الأنبياء عليهم‌السلام على هذه الحقائق يعني أنّ الله تعالى قد جهّزهم بعلوم كثيرة ، لتكون لهم قدرة أكبر على هداية الخلق ورسم الطريق لنيل المطلوب ، وإن كانت هذه العلوم بعيدة كلّ البعد عن الشروط القطعية للنبوّة.

* * *

١٧٤

مصادر

علم الأنبياء عليهم‌السلام

١٧٥
١٧٦

مصادر علم الأنبياء عليهم‌السلام

١ ـ يتلقّى أنبياء الله عليهم‌السلام حقائق علومهم بالدرجة الاولى عن طريق الوحي ، الذي ينزل عليهم أحياناً عن طريق «ملك الوحي» ، كما نقرأ ذلك في الآية (١٩٢ ـ ١٩٥) من سورة الشعراء : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ) ، أو عن طرق أخرى ، فهناك أنواع وطرق متعدّدة للوحي وسيأتي تفصيلها في محلّه إن شاء الله.

٢ ـ الطريق الآخر لعلوم الأنبياء عليهم‌السلام هو الإرتباط الروحي والمعنوي بعالم الغيب ، فلقد جعل الله تعالى حقيقة أبصارهم قويّة بدرجة أنّها اخترقت حجب عالم الغيب لتجد سبيلها إلى ما وراء ذلك ، كما يقول تعالى بالنسبة لإبراهيم الخليل عليه‌السلام : (وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ). (الأنعام / ٧٥)

أجل فقد كانت لهم معرفة بعالم «الملكوت» ، فضلاً عن معرفتهم بعالم «الملك» ، وقد تلقّوا الكثير من علومهم عن طريق المشاهدة النفسية والباطنية للملكوت ، وبعبارة أخرى فإدراكاتهم وأبصارهم هي غير تلك الظاهرية التي عندنا ، وقد توصّلوا عن طريقها إلى حقائق كثيرة.

٣ ـ الطريق الثالث هو السير ومشاهدة الآفاق الذي عرض للبعض من الأنبياء بأمر من الله عزوجل ، حيث اطّلعوا عن هذا الطريق على العوالم المختلفة لهذا الكون ، بالضبط كما حدث ذلك لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسألة المعراج ، يقول القرآن :

(سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى

١٧٧

بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). (الاسراء / ١)

كان هذا في الواقع القسم الأوّل من المعراج ، امّا القسم الثاني فهو الذي يبدأ من المسجد الأقصى باتّجاه السماوات ، والذي أشير إليه في آيات سورة النجم إذ يقول تعالى : (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى). (النجم / ١٨)

وهو مضافاً إلى هذه الآيات الشريفة التي تذكر المعراج بشكل مجمل ، نجد أنّ الأحاديث الإسلامية قد ذكرته بشكل تفصيلي ، إذ يتبيّن من مجموعها بكلّ وضوح الحجم العظيم من المعلومات التي حصل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من ذلك السفر الليلي السماوي وهو المعراج.

وكذلك الأنوار البهيّة التي أشرقت على قلبه ، فرفعت مقامه العلمي ممّا هو عليه إلى أعلى علّيين.

٤ ـ الطريق الرابع وهو المستفاد من عدّة آيات في القرآن بأنّ هناك حقيقة باسم «روح القدس» كان برفقة الأنبياء يؤيّدهم ويقوّيهم ويرشدهم في مسيرهم.

وردت لفظة «روح القدس» في القرآن المجيد أربع مرّات ، مرّة في حقّ عيسى وأخرى في حقّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله. يقول القرآن في حقّ السيّد المسيح عليه‌السلام (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). (البقرة / ٨٧)

وحول تكلّم عيسى عليه‌السلام في المهد يقول : (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً). (المائدة / ١١٠)

ونقرأ عن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ). (النحل / ١٠٢)

لقد ذكر المفسّرون معنيين لكلمة «روح القدس» ، أحدهما أنّه ملك الوحي جبرئيل عليه‌السلام. والآخر هو القوّة الغيبية المجهولة التي ترافق الأنبياء عليهم‌السلام ، فالآية المرتبطة بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله تناسب المعنى الأوّل ، والآيات المرتبطة بالسيّد المسيح تناسب المعنى الثاني ، فهو الذي أيّد المسيح عليه‌السلام في تكلّمه بالمهد أو في إحيائه للموتى.

هذا الروح المقدّس والطاهر ، كان المنبع لإلهامات عظيمة للأنبياء عليهم‌السلام ، بل وحتّى

١٧٨

يستفاد من بعض تعابير الروايات أنّ روح القدس يرافق الأفراد المؤمنين أيضاً (طبقاً لسلسلة مراتب الإيمان) ، وهو الذي يؤيّد الخطباء الصالحين والشعراء المؤمنين في خطبهم وقطعهم النثرية وقصائدهم العملاقة ، كما يمدّ المؤمنين الحقيقيين بالعزم على اتّخاذ التصاميم المصيرية.

ويبدو في الكثير من الروايات أنّ روح القدس حقيقة عند الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، وأنّهم قد أدركوا بواسطته الكثير من الحقائق ، من جملتها ما جاء في الكثير من الروايات أنّ الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كانوا يستمدّون العون من روح القدس عند القضاء والإفتاء.

هذا التعبير ورد بحقّ «حسّان بن ثابت» حيث قال له النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا» (سفينة البحار ، مادّة كميت).

كما جاء في حقّ الكميت شاعر أهل البيت عليهم‌السلام المعروف ، من أنّ الإمام الباقر عليه‌السلام قال له : «لا تزال مؤيّداً بروح القدس» (١) ، وورد نظير هذا المعنى في حقّ دعبل الخزاعي أيضاً ، وذلك عندما ألقى القصيدة المعروفة «مدارس آيات» في مجلس الإمام الرضا عليه‌السلام ، وحينما وصل إلى هذا البيت حول ظهور المهدي عليه‌السلام :

خروج إمام لا محالة واقع

يقوم على اسم الله والبركات!

بكى الإمام الرضا عليه‌السلام كثيراً ثمّ قال : يادعبل نطق روح القدس على لسانك ، هل تعلم من هذا الإمام؟ قال دعبل : كلّا ، لا أعلم سوى ما سمعته من أنّ إماماً منكم سيظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً. فأيّد الإمام الرضا عليه‌السلام كلامه وتحدّث بشيء من التفصيل عن ظهور المهدي ، باعتباره الخليفة الثاني عشر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (الغدير الجزء ٢ الصفحة ٥٥).

وفي حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام نقرأ أنّ أحد أصحابه سأله : تسألون عن الشيء فلا يكون عندكم علمه؟! قال الإمام عليه‌السلام : «ربّما كان ذلك!».

قال الراوي : كيف تصنعون؟

__________________

(١) الغدير ، ج ٢ ، ص ٢٠٢ ، حالات الكميت.

١٧٩

قال الإمام عليه‌السلام : «تلقّانا به روح القدس؟» (١) (بمعنى لقينا).

نقرأ في حديث آخر : أنّ أحد أصحاب الإمام الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن علم العالم (المراد به النبي والإمام المعصوم).

فقال عليه‌السلام : «يا جابر إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح : روح القدس ، وروح الإيمان ... فبروح القدس ياجابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى» (٢).

كما ورد في رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام أيضاً حول تفسير الآية : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ...) أنّه عليه‌السلام قال : «منذ أنزل الله ذلك الروح على نبيّه ما صعد إلى السماء وإنّه لفينا» (٣).

هذا التعبير يبيّن أنّ الروح الذي يشكّل أحد المنابع الرئيسية لعلوم ومعارف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ليس جبرئيل ، وأنّه حقيقة كامنة في وجودهم قد انتقل من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم واحداً بعد الآخر.

٥ ـ الطريق الخامس لمنابع علومهم هو العقل الخارق والذي أودعه الله عزوجل عند الأنبياء وأوصيائهم المعصومين عليهم‌السلام ، نظراً لإمكانية إدراك الكثير من الحقائق عن طريقه ، عقل ومعرفة الناس العاديين يضيء شعاعاً خاصّاً في حين أنّ عقول الأنبياء والأوصياء لها امتداد واسع جدّاً ، وهذا هو السبب في كشفهم لحقائق لا يدركها الآخرون.

لذا نقرأ في قصّة ليلة المبيت (الليلة التي هاجر فيها النبي سرّاً من مكّة إلى المدينة وترك عليّاً عليه‌السلام في فراشه) أنّه : حينما اقتحم أشراف قريش المنزل عند الفجر ، ووجدوا عليّاً عليه‌السلام في فراش النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صاحوا : أين محمّد؟

قال عليه‌السلام : أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم ، وهنا قالـ «سراقة بن مالك المخزومي» : الآن حيث لا يوجد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا تتركوا عليّاً عليه‌السلام

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٥ ، كتاب الإمامة ، ص ٥٦ ، ح ١٩ ، كما ورد نفس هذا المضمون في ، ح ١٨ و ٢٠ و ٢١ و ٢٢ و ٢٣ أيضاً.

(٢) المصدر السابق ، ص ٥٥ ، ح ١٥ ، كما ورد نفس هذا المعنى بتفاوت ضئيل في الأحاديث ١٤ و ٢٥ و ٢٦.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦١ ، ح ٣٧.

١٨٠