نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

جانب الاسم «محمّد» (مدعوماً بالشواهد والقرائن) إلى المستقبل.

٢ ـ بشارة التوراة (أو التوراة والإنجيل) بظهور نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله والتي تعرّضت لها عدّة آيات قرآنية ، هي من الوضوح عند ذكرها لصفاته وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش بين ظهرانيهم يعرفونه كأحد أبنائهم.

بل جاء في التواريخ أنّ هجرة اليهود من الشام وفلسطين إلى المدينة والإستقرار فيها إنّما كان لأجل تلك البشارات التي وجدوها في كتبهم حول ظهور النبي (هذا الموضوع ورد بالتفصيل في التفسير الأمثل ذيل الآية ٨٩ من سورة البقرة) (١) ، وعلى الرغم من كون الكثير منهم من المبلّغين لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لكنّهم سرعان ما انقلبوا على أعقابهم وامتنعوا عن الإيمان به بعد ظهوره ، نظراً لتعرّض مصالحهم الشخصية للخطر ، وقد لامهم القرآن على ذلك.

من الآيات التي تشير إلى هذا المعنى ما جاءت في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)! (البقرة / ١٤٦)

وورد نفس هذا المعنى في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)! (الأنعام / ٢٠)

وجاء هذا المعنى بصراحة أجلى حيث قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ). (الأعراف / ١٥٧)

كما أنّ أحد الاحتمالات الواردة في تفسير الآيات القائلة بتصديق القرآن ، والكتبـ «السابقة» هو أنّ المراد من «التصديق» هو انطباق القرآن وصفات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على تلك العلامات التي جاءت في تلك الكتب (٢).

كما وأشارت الروايات الإسلامية إلى بشارة الأنبياء السابقين باللاحقين ، إذ نقرأ في أوّل

__________________

(١) التفسير الأمثل ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) لمزيد من الإطّلاع راجع التفسير الأمثل ذيل الآية ٤٩ سورة البقرة.

٢٦١

خطبة من خطب نهج البلاغة : «مِن سابقٍ سُمِّىَ له من بعده ، أو غابر عَرَّفَهُ مَن قَبْلَهُ».

هذا التعبير الذي كشف النقاب عن طرفي القضيّة يعدّ من أبلغ التعابير حول هذا الموضوع ، كما تمّ التصريح بهذا الأمر في حديث مفصّل عن الإمام الباقر عليه‌السلام إذ يقول : «وبَشَّرَ آدَمُ بِنُوح».

وقال في مكان آخر : «وبَشَّرَ نُوحٌ ساماً بِهُودٍ».

وجاء عنه عليه‌السلام في موضع آخر : «فَلَمّا نَزَلَتِ التَورَاةُ عَلى مُوسى بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فَلَم تَزَلْ الأنبِياءُ تُبَشِّرُ بِمُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله حَتّى بَعَثَ اللهُ تَبارَك وتَعالى المَسِيحَ عيسَى بنَ مَرْيَمَ فَبَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للخوئي ، ج ٢ ، ص ١٣٨ ـ ١٤١.

٢٦٢

مسألة الوحي

٢٦٣
٢٦٤

«كيفية الإرتباط بعالم الغيب»

تمهيد :

لا شكّ أنّ للأنبياء الإلهيين ارتباطاً بعالم الغيب وما وراء الطبيعة ، وبعبارة اخرى ، أنّ لهم علاقة خاصّة بالله تعالى ، وقد استلهموا عن هذا الطريق التعاليم الخاصّة والأحكام والقوانين الإلهيّة وبلّغوها الامم.

لكن كيف كانت هذه الرابطة ياترى؟ فهذه مسألة في غاية التعقيد ، ومن السهل الإطّلاع عليها إجمالاً في حين تعدّ الإحاطة بها تفصيلاً في غاية الصعوبة ، لاستحالة إدراكها بالدقّة من قبل من يفتقر لهذه العلاقة ، بالضبط كإحساس البصير منذ ولادته بامتلاك الآخرين لحسّ إضافي ، يطّلعون من خلاله على كلّ الموجودات المحيطة بهم ولامتدادات واسعة ، كما ويدركون من خلالها مختلف الألوان والأنوار ، أمّا ما هو هذا الحسّ ، وما هي حقيقة «اللون» و «النور»؟ فهذا ما لا يمكن إدراكه أبداً.

إذن فالذي سيعرض في مبحث الوحي وحقيقته لا يتعدّى سوى الحصول على العلم الإجمالي بخواص الوحي ، مع الإجابة عن الأسئلة التي ستثار هنا ، ومن هنا لا ينبغي مطالبة هذه المباحث بالكشف عن «كنه» الوحي ، لاستحالة ذلك لغير الأنبياء عليهم‌السلام بالضبط كالمثال المتقدّم أعلاه.

في المجلّد الأوّل من هذا التفسير «نفحات القرآن» وعند شرح خامس مصدر من مصادر المعرفة تحدّثنا بالتفصيل عن مسألة الوحي ، وكشفنا النقاب عمّا يرتبط به من معارف قدر المستطاع ، ولذا فقد اكتفينا بذكر موجز لمبحث الوحي ، مع إضافات جديدة على ما قيل هناك ، وسنوكل توضيح باقي المسائل إلى ذلك البحث ، وبهذه الخلاصة نعود إلى

٢٦٥

القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات التالية الواردة في هذا المجال :

١ ـ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ). (الشورى / ٥١)

٢ ـ (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ). (الشعراء / ١٩٣ ـ ١٩٤)

٣ ـ (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى). (هود / ٦٩)

٤ ـ (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ الصَّابِرِينَ). (الصافات / ١٠٢)

٥ ـ (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ مِنْ شَاطِىءِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّى أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). (القصص / ٣٠)

جمع الآيات وتفسيرها

طرق الإرتباط بعالم الغيب :

تمّ في هذه الآيات بيان مختلف الطرق التي اتّصل الأنبياء الإلهيون عن طريقها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة بصورة إجمالية ، والتي تبلغ أربعة أو خمسة طرق :

في الآية الاولى اشير إلى ثلاثة طرق ، يقول المرحوم الطبرسي في تفسير هذه الآية:

«ليس لأحد من البشر أن يكلّمه الله إلّاأن يوحي إليه وحياً كداود الذي أوحى في صدره الزبور ، أو يكلّمه من وراء حجاب مثل موسى أو يرسل رسولاً كجبرائيل إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليبلّغه أمرَه».

فهذا الإرتباط إنّما يكون أحياناً عن طريق الإلقاء في القلب ، واخرى عن طريق الأمواج الصوتية التي يسمعها النبي من الخارج ، وثالثة عن طريق نزول الملك الموكّل بالوحي.

أصلـ «الوحي» الإشارة السريعة ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بالصوت المجرّد عن التركيب اللغوي ، وتارةً بالإشارة أو الكتابة.

هذا ما ذكره «الراغب» في «المفردات» ، لكن «ابن فارس» في «المقاييس» يرى

٢٦٦

معناه الأصلي إلقاء علم ما بشكل خفي أو علني على شخص آخر.

ذكر «ابن منظور» أهمّ معاني هذه اللفظة واعتبرها الرسالة والإلهام والكلام من غير معاينة ، والإلقاء في الروع ، كما ذكر معظم أرباب اللغة هذه المعاني بزيادة أو نقيصة ، ولكنّ الخليل بن أحمد ذكر معناه في كتاب (العين) بأنّه الكتابة والتدوين!

أمّا في اصطلاح أهل الشرع فيطلق على إبلاغ الرسائل الإلهيّة من قبل الله إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، وإن كانت دائرة استعماله في القرآن أوسع من هذا المعنى كثيراً ، وشاملة لكلّ أنواع الإلقاء للعلم المرموز ، ولذا استعمل في مورد الغرائز أو العلوم التي استودعت عند بعض الحيوانات كالنحل مثل : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ). (النحل / ٦٨)

ويقول فيما يتعلّق بما ألقاه الله على قلب امّ موسى بالنسبة لولدها : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى). (القصص / ٧)

إذ قد تمّ التعبير عن الإلهام الإلهي لها بالوحي مع عدم كونها نبيّاً قطعاً ، كما أنّ يوسف لم يكن في طفولته نبيّاً ومع ذلك يقول القرآن في حقّه : (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) (اخوتك) بِأَمْرِهِمْ هَذَا (التخطيط لقتلك)».

كذلك استعملت هذه المفردة فيما يتعلّق بوساوس الشياطين الخفية إلى أتباعهم قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ). (الأنعام / ١١٢)

واستعملت الأوامر الإلهيّة الغامضة فيما يتعلق بالجمادات كالأرض قوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا). (الزلزال / ٥)

جملة «من وراء حجاب» تعني أنّ الله كان يخاطب نبيّه بأمواج صوتية خاصّة خافية على الآخرين أو أنّ نبيّه كان يسمع الخطاب دون مشاهدة مصدره ، بالضبط كالكلام الذي يطرق السمع من وراء الستار.

* * *

٢٦٧

ودار الحديث في ثاني آية عن نزول ملك الوحي وإتيانه بالقرآن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول تعالى : (وَإِنَّهُ (القرآن) لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ).

الملفت للنظر هو أنّ ملك الوحي قد تمّ وصفه بوصفين «الروح» أي عين الحياة و «الأمين» إشارة إلى الأمانة التي هي أهمّ شرط للرسالة والتبليغ.

* * *

يستفاد جيّداً من مختلف الآيات والروايات أنّ ملك الوحي المأمور بإبلاغ الرسالة إلى نبي الإسلام كان اسمه جبرائيل ، في حين أنّه يظهر من ثالث آية من الآيات مورد البحث ، أنّ الملائكة بـ «صيغة الجمع» كانوا أحياناً يؤمرون بإبلاغ الوحي الإلهي إلى الأنبياء ، يقول تعالى : (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ).

البشارة التي كان يحملها هذا الفريق من الملائكة هي البشارة بولادة إسماعيل وإسحاق ، إذ إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان قد قضى كثيراً من عمره محروماً من الولد مع تمنّيه الذرّية لحمل لوائه. كما كانت هنالك وظيفة اخرى للملائكة ذكرت في الآيات التي بعدها ، إلى جانب وظيفتهم الاولى في إبلاغ إبراهيم بالبشارة الإلهيّة ألا وهي تدمير مدينة قوم لوط وقلبها رأساً على عقب.

* * *

هنالك نوع آخر من أنواع الوحي ذكر في رابع آية وهو الرسالة التي كانت تصل إلى النبي عن طريق الرؤيا ، وهي «رؤيا صادقة» لا تتفاوت مع حالة اليقظة ، يقول تعالى : (قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ).

ونقرأ في الآيات التي بعدها أنّ إبراهيم عليه‌السلام استعدّ لتنفيذ هذا الأمر ، ولا يخفى أنّ هذه الرؤيا لو كانت مثل الرؤيا العادية لما أقدم إبراهيم عليه‌السلام على ذبح ابنه أبداً وهذا يكشف عن كونها وحياً إلهياً قطعيّاً.

٢٦٨

كما يصدق نفس هذا المعنى في حقّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يتعلّق بالبشارة التي بشّر بها في (الحلم) من دخول المسلمين إلى المسجد الحرام ، وأدائهم لمناسك الحجّ بكلّ أمان :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ). (الفتح / ٢٧)

التعبير بـ (صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا) يدلّ بوضوح على كون هذا الحلم حلماً إلهياً أي نوعاً من أنواع الوحي.

* * *

في خامس وآخر آية من الآيات مورد البحث تمّت الإشارة إلى إحدى طرق ارتباط الأنبياء بمبدأ عالم الوجود ، والتي اشير إليها كناية في أوّل آية أيضاً بالتعبير (من وراء حجاب) يقول تعالى : (فَلَمَّا أَتَاهَا (حينما أتى موسى النار التي رآها بجانب الطور) نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّى أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

أجل فلقد سمع موسى عليه‌السلام كلام الله مباشرة ، وطبقاً لبعض الروايات (١) يقول موسى : «لقد سمعت كلام ربّي بجميع جوارحي ، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي».

هذا الكلام سمعه موسى عليه‌السلام من كلّ الجهات وبكافّة جوارحه (لا الاذنين فقط) ، ومثل هذا الإرتباط على حدّ قول الطبرسي في مجمع البيان يعدّ من أفضل منازل الأنبياء وأرفع أنواع ارتباطهم بمبدأ عالم الوجود.

ولا شكّ أنّ الله لم يكن جسماً وليس له سائر العوارض الجسمانية واللسان والأمواج الصوتية ، لكنّه يتمكّن من إيصال مشيئته إلى سمع خواصّ عباده بالأمواج الصوتية التي يوجدها ، ولغرض العلم بكونه من كلام الله ينبغي أن يكون محفوفاً بالقرائن لنفي أي احتمال آخر عنه ، وهذه القرائن كانت موجودة في قصّة موسى عليه‌السلام وسائر الأنبياء عليهم‌السلام.

هذه القرائن يمكنها أن تكون رؤية النار من الشجرة الخضراء أو سماع الصوت من كافّة

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٣ ، ص ٢٨٣ ؛ تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ص ٢٥١.

٢٦٩

الجهات ، مع الإحساس بكونه صادراً من الشجرة أو سماعه بكلّ أعضاء بدنه ، أو على حدّ قول البعض : اتّحاد صوت كلّ الكون بهذا الصوت ، أو مضموناً خاصّاً غير ممكن من غير الله ، أو قرائن اخرى. يستفاد من سور (طه / ١١) ، و (النمل / ٨) أنّ هناك كلاماً آخر أيضاً قيل لموسى عليه‌السلام في هذه اللحظة إذ نقرأ في سورة طه : (نُودِىَ يَامُوسَى* إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

ونقرأ في قوله تعالى : (نُودِىَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا)! (النحل / ٨)

على أيّة حال فمن مجموع الآيات أعلاه انعكست أشكال مختلفة من ارتباط الأنبياء بمبدأ عالم الوجود.

إنّ عجز الأدلّة العقلية عن حلّ جزئيات هذه المسألة هو ممّا لا يخفى ، لانحصار وظيفتها في بيان لزوم إرسال الرسل ، وإنزال الكتب المستلزمة لارتباط الأنبياء بعالم الغيب ، ومن هنا فينبغي الرجوع إلى الأدلّة النقلية للوقوف على جزئياتها.

* * *

توضيحان

١ ـ أقسام الوحي وكيفيته في الروايات الإسلامية

مع خروج مسألة الوحي عن دائرة حسّ الإنسان الإعتيادي ، وامتلاكنا لعلم إجمالي عنه دون العلم التفصيلي كما قلنا ، فهنالك توضيحات أكثر في الروايات الإسلامية حول هذا الموضوع نشير فيما يلي إلى بعضها :

١ ـ نقرأ في حديث عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه ذكر تفاسير وأقسام متعدّدة للوحي:

الأوّل : «وحي النبوّة والرسالة» الوارد في الآية الشريفة : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ...). (النساء / ١٦٣)

الثاني : «الوحي الإلهامي» الوارد في الآية : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ). (النحل / ٦٨)

الثالث : «الوحي بالإشارة» كما قال الله عن زكريا : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الِمحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً). (مريم / ١١)

٢٧٠

الرابع : «الوحي التقديري» كما يقول تعالى : (وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا). (فصلت / ١٢)

الخامس : «الوحي الأمري» كما نقرأ عن الحوارين : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى). (المائدة / ١١١)

السادس : «الوحي الكاذب» بالشكل الذي يخبر الله تعالى به عن الشياطين : (يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً). (الأنعام / ١١٢)

(السابع : «الوحي الإخباري») كما يقول تعالى عن فريق من الأنبياء : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ...). (١) (الأنبياء / ٧٣).

* * *

٢ ـ يستفاد من بعض الروايات أنّ حالة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت طبيعية عند نزول جبرائيل بالوحي عليه ، في حين كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يحسّ بضيق شديد عندما يكون الارتباط مباشراً ، بل ربّما يغشى عليه كما ورد في توحيد الصدوق عن الإمام الصادق عليه‌السلام حينما سألوه : «الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نزل عليه الوحي؟ قال ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحدٌ ، ذاك إذا تجلّى الله له» (٢).

* * *

٣ ـ الآخر هو أنّ جبرائيل حينما كان ينزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينزل بأدب ووقار ، كما جاء في حديث عن الإمام الصّادق عليه‌السلام : (كان جبرائيل إذا أتى النبيَ قعد بين يديه قِعْدَةَ العبيد ، وكان لا يدخل حتّى يستأذنه) (٣).

٤ ـ يستفاد من روايات اخرى أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تعرّف على جبرائيل بتوفيق إلهي كما جاء في حديث عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : «ما عَلِمَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جبرائيل من قبل الله إلّابالتوفيق» (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٥٢.

(٢) توحيد الصدوق طبقاً لما نقله بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٥٦ ، ح ٥.

(٣) علل الشرائع طبقاً لما نقله بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٥٦.

(٤) بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٢٥٦.

٢٧١

٥ ـ وهنالك تفسير ملفت للنظر لمسألة غشية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند نزول الوحي عليه ، في حديث عن ابن عبّاس إذ يقول : «كان النبي إذا نزل عليه الوحي وجد منه ألماً شديداً ويتصدّع رأسُه ويجد ثقلاً ، وذلك قوله إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ، وسمعت أنّه نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ستّين ألف مرّةٍ».

* * *

٢ ـ الوحي في كلمات الفلاسفة المتقدّمين والمتأخّرين

فات الكثير من الفلاسفة القدماء والمعاصرين هذه الملاحظة وهي كون مسألة الوحي ارتباطاً خاصّاً للأنبياء بعالم ما وراء الطبيعة ، وانحصار علمنا به بالإجمال دون التفصيل ، إذ انّنا لا نرى سوى شبحٍ من بعيد ، ونتيقّن بوجوده دون العلم بحقيقة ماهيّته.

ومن هنا فقد سعوا للوصول إلى حقيقة الوحي ، لكنّهم اصطدموا بطريق مسدود بطبيعة الحال.

وهنا نتعرّض لنقد وتحليل نظريتين أو فرضيتين على الأصحّ للفلاسفة المتقدّمين والمتأخّرين حول هذا الموضوع لتتضح الحقيقة أعلاه :

النظرية الاولى : الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون أنّ حقيقة الوحي هي ارتباط الإنسان بـ «العقل الفعّال»!

بيان ذلك : إنّهم يعتقدون بالأفلاك التسعة البطليموسية وبوجود النفس المجرّدة لكلّ واحدة من تلك الأفلاك (أي ما يماثل الروح بالنسبة لأبداننا)! كما أضافوا : إنّ «النفوس» الفلكية تستلهم من موجودات مجرّدة تدعى «العقول» ، وبهذا فقد قالوا بـ «تسعة عقول» لتلك الأفلاك التسعة ، واعتقدوا وراء ذلك بـ «العقل العاشر» أو «العقل الفعّال» باعتباره المصدر لكلّ المعلومات.

كما كانوا يعتقدون من جهة اخرى بضرورة إفاضة العقل الفعّال على النفوس الإنسانية وأرواحها لتدرك الحقائق وتضفي الفاعلية على قابلياتها ، ويعتقدون بكون

٢٧٢

النسبة بين قوّة الروح الإنسانية وشدّة اتّصالها بالعقل الفعّال الذي هو مصدر العلوم طردية.

واستنتجوا من هذه المقدّمات أنّ اتّصال أرواح الأنبياء بالعقل الفعّال ولشدّة قوّتها يفوق العادة ، ولهذا السبب تمكّنت من استلام معلوماتها الكليّة (صورها) من العقل الفعّال في أغلب الأحيان ، ونظراً لحدّة «قواهم التخيلية» التي يدركون بواسطتها «الصور الجزئية» ولتبعيّتها للقوّة العقلية في نفس الوقت ، فقد تمكّنت من إعطاء صور محسوسة مناسبة لتلكـ «الصور الكليّة» التي استلموها من العقل الفعّال ، لتتجسّد في افق أذهانهم متلبسة بلباس الحسّ.

فمثلاً لو كانت تلك الحقائق الكليّة من قبيل المعاني والمعارف والأحكام فبإمكانهم سماعها على شكل ألفاظ موزونة جدّاً ، وفي غاية البلاغة والفصاحة على لسان شخص في غاية الكمال ، ونظراً لكمال هيمنة قواهم التخيلية على الحسّ المشترك (الحسّ الذي يدركون من خلاله صور المحسوسات) فبإمكانها إضفاء صبغة «الحسّية» على هذه الصور «الذهنية» ، وتمكين النبي من مشاهدة ذلك الشخص على هيئة ملك ببصره وسماع ألفاظه باذنيه! (تأمّل جيّداً).

* * *

إنتقادات

هذه الفرضية قابلة للنقد من عدّة جهات :

أوّلاً ـ إبتناؤها على «الأفلاك البطليموسية التسعة» و «العقول العشرة» التي أبطل أحدها بشكل قاطع ، ولم يوجد أي دليل لإثبات الآخر ، وبديهي أنّ فرضية كهذه لا يمكن قبولها أو تقييمها.

ثانياً ـ هذه الفرضية ليست سوى محاولة للاهتداء إلى الطريق لحل مسألة خارجة عن نطاق أفكارنا ، والإحاطة بها تفصيلاً ، (بالضبط كرغبة المكفوف للوقوف على حقيقة النور والألوان عن طريق الفرضيات التي ينسجها مستعيناً بحواسّه) إذ من الواضح أنّ فرضيّة كهذه لا يمكنها أن تلاقي النجاح أبداً.

٢٧٣

ثالثاً ـ لا تتناسب هذه الفرضية بأي وجه مع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الوحي ، لأنّ الأخيرة تقول بصراحة : الوحي نوع من الإرتباط بالله ، لا بالعقل الفعّال ولا عن طريق الإلهام بالقلب أو بواسطة ملك الوحي (الملك الذي هو وجود واقعي يظهر أمامه لا أنّه متولّد من القوّة التخيلية أو تأثير الحسّ المشترك) ، أو أنّه يسمع تلك الأمواج الصوتية التي أوجدها الله في جسم ما بأُذنيه لا أنّ للأصوات صبغة خيالية ومتولّدة من تأثير القوّة التخيلية أو الحسّ المشترك.

وبناءً على هذا فالفرضية أعلاه مردودة عقلاً ونقلاً.

* * *

النظرية الثانية ـ فسّر بعض الفلاسفة المعاصرين الوحي كأحد مظاهر الشعور الباطني.

يقول فريد وجدي في «دائرة معارف القرن العشرين» في مادّة «الوحي» : كان الغربيون إلى القرن السادس عشر كجميع الامم المتديّنة يقولون بالوحي ، لأنّ كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء فلمّا جاء العلم الجديد الذي فسر كل ظاهرةٍ تفسيراً مادياً ، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة ، وغالت حتّى أنكرت الخالق والروح معاً.

لكن بحلول القرن التاسع عشر الميلادي تغيّرت وجهة النظر في المسائل الروحانية وظهرت إلى الوجود ثانية مسألة الوحي ، إذ أعاد فريق من العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبي ، فتوصّلوا إلى نتائج وإن كانت غير ما قرّره علماء الدين الإسلاميون ، إلّاأنّها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد نسب إلى عالم الخرافة» ، ثمّ يضيف قائلاً : إنّ المؤيّدين لمسألة الروح والمظاهر الروحية دوّنوا إلى الآن (زمن تأليف دائرة المعارف) خمسين مجلّداً ضخماً حول المطالب أعلاه ، وتمّ حلّ الكثير من المسائل الروحانية بها من جملتها مسألة الوحي (١)!

هذا نموذج من كلمات العلماء حول هذه المسألة إذ الكلام حولها كثير ، ولكن بالإمكان بيان خلاصة كلامهم كما يلي :

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين ، مادّة (الوحي).

٢٧٤

إنّهم اكتشفوا أنّ للإنسان شعوراً وإدراكاً وراء شعوره وإدراكه الظاهري ، أطلقوا عليه اسم الشعور الباطن أو الوجدان الخفي ، واعتبروا القسم الأعظم من شعور الإنسان كامناً فيه ، حتّى أنّهم شبّهوه أحياناً بالثلوج الطافية في مياه المحيطات ، والتي لا يخرج منها فوق الماء إلّا عشرها في حين تبقى تسعة أعشارها تحته.

لقد اعتبروا الوحي نوع «تجلّ للشعور الباطني» ، ونظراً لكون الأنبياء رجالاً يفوقون العادة ، فمن الطبيعي أن يتمتّعوا بشعور باطني أقوى ، وتجلّ يفوق العادة في أهميّته ، وهو نفس ما كان يطلق عليه القدماء اسم الوحي!

كما ذهب البعض أحياناً أكثر من هذا وقالوا : إنّ أفكار وعلوم ورغبات النبي ، تخلّق له إلهامات وتطلّ من خلال شعوره الباطني ووجدانه الخفي على تخيّله الرفيع! بل وتترك أثراً حتّى في نظراته فيرى الملك أمامه ويسمع كلامه (١)!

* * *

نقد وتحليل :

هذه الفرضية التي قال بها فريق من الفلاسفة المتقدّمين تماثل الاولى ، من حيث افتقارها للسند الكافي والدليل والشاهد ، ومصدرها هو نفس ما أشرنا إليه ، أي إنّهم يريدون قياس مسألة خارجة عن نطاق أفكارنا بعمقها ومحتواها بالمقاييس المتداولة ، ومن المسلّم أنّ هذا الأمر محال وغاية لا يبلغها مفكّر أبداً.

وحينما نذعن بمحدودية المعلومات دون المجهولات ، يجب أن نقبل هذه الحقيقة أيضاً وهي أنّ للأنبياء الواقعيين نوعاً من الإرتباط بعالم ما وراء الطبيعة ، لا يمكن شرحه وتفصيله بحواسنا الفعلية وإدراكاتنا الإعتيادية.

على أيّة حال فلهذه الفرضية جذور مشتركة مع نظرية الفلاسفة القدماء من جملتها :

١ ـ الوحي يمثل نوعاً من الإرتباط الخاص بعالم ما وراء الطبيعة ، غير مغاير للروابط الفكرية والعقلية لسائر الأفراد!

__________________

(١) الوحي المحمّدي ، الطبعة ٢ ، ص ٢٤.

٢٧٥

٢ ـ مصدر الوحي هو نبوغ الأنبياء وسموهم الروحي.

٣ ـ الوحي لا يمثل وجود مجهول روحاني مستقلّ عن وجودنا يطلق عليه رسول الوحي أو الملك الإلهي ، بل منشأه هو الشعور الباطني والإتّصال بالعقل الفعّال الذي يترك أثره في عالم الخيال ، ثمّ في إحساس النبي فيرى مظاهر الوحي ويسمعها!

لا شكّ أنّ مثل هذه التحليلات لا تتلاءم أبداً مع ما جاء به الأنبياء وما يستفاد من آيات القرآن من جهة ، ومع الدليل العقلي الذي ذكرناه سابقاً من جهة اخرى.

فضلاً عن افتقارها كلّها للسند والدليل ، وأساساً ما هو السروراء إعجاب بعض العلماء بعلومهم ومعارفهم المحدودة إلى هذا الحدّ الذي دفعهم لتفسير وتحليل كلّ أسرار الكون بهذه الحصيلة من العلوم والإكتشافات ، هذا الأمر يشبه قيام النحلة بتفسير وتحليل أنواع رموز الكامبيوترات والسفن الفضائية والأقمار الصناعية بمعلوماتها المحدودة ، فهل نعطيها مثل هذه المكانة ياترى؟

مؤلّف تفسير المنار وبعد نقله لهذه النظرية عن فريق من الفلاسفة الماديين ، وبعبارات شبيهة للتي ذكرناها أعلاه ، يضيف قائلاً : «لقد سرى هذا الإشتباه إلى الكثير من المسلمين الغارقين في الشكّ والترديد ، الذين يقلّدون العلماء المادّيين (بأبصار وآذان مقفلة) أو يقتنعون بتفاسيرهم ، ثمّ يتعرّض بعد ذلك لنقد مثل هذه الأفكار بالشرح والتفصيل» (١).

وبهذا نكون قد وصلنا لخاتمة البحث المختصر الذي اعددناه حول مسألة الوحي ، إذ وكما قلنا سابقاً فلقد شرحنا هذا الموضوع شرحاً وافياً في «نفحات القرآن» «المجلّد الأوّل» في مبحث «مصادر المعرفة» (المصدر الخامس).

* * *

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١١ ، ص ١٦٣.

٢٧٦

الاصول العامّة

لدعوة الأنبياء عليهم‌السلام

٢٧٧
٢٧٨

الاصول العامّة لدعوة الأنبياء

تمهيد :

من النكات المهمّة في مباحث النبوّة العامّة هي الاهتمام بالاصول العامّة لدعوة الأنبياء التي تحظى بإنسجام خاصّ ، والتي تعكس النشاط الذي تقوم به هذه السلسلة الجليلة لأنبياء الله بين البشرية ، كقافلة عظيمة متّحدة.

وبعبارة اخرى : يمكن تشبيههم باللجنة العلمية للجامعة التي تقوم بتعليم الطلبة وفق برمجة دقيقة ، اعتباراً من المرحلة الاولى وإلى الأخيرة بشكل منسجم صفّاً بعد صف.

ومن خلال مطالعة هذه الاصول العامّة تتجلى هذه الحقيقة المتكرّرة في القرآن ، وهي أنّه «لا تفاوت بين أنبياء الله ، كما لا ينبغي التفريق بينهم».

ومِنَ المسلَّم أنّه لا منافاة لهذا الإنسجام مع نسخ الأديان بعضها للبعض الآخر أبداً ، بالضبط كاستبدال المناهج الدراسية للجامعة في كل سنة ، إذ إنّ كتب السنة الاولى لا تصلح للثانية ، وهذه لا تصلح للثالثة و... مع أنّ اصولها العامّة منسجمة مع بعضها في نفس الوقت ، فكذلك لا منافاة لهذه المسألة مع تفاوت درجات الأنبياء لأجل تفاوت مسؤولياتهم.

هذا الإنسجام في الاصول العامّة يؤكّد من جهة على الخطوط الأساسيّة للأديان الإلهيّة ويوقفنا عليها ، كما ويوضّح حقّانية دعوتهم من جهة اخرى ، إذ إنّ الساسة الدنيويّون ينفي خلفهم سلفهم طبقاً للآية : (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا). (الأعراف / ٣٨)

وباعتبار أنّ إحدى مميّزات الطواغيت هي حالة التضادّ القائمة بينهم على طول الخطّ.

كما ويمكن لهذه المسألة من جهة ثالثة أن تكون معياراً لمعرفة حقيقة الأنبياء ، من

٢٧٩

المدّعين كذباً ، لأنّ انسجامهم وتوافقهم مع الأنبياء المعروفين السابقين سيكون كقرينة لها دورها المهم.

وبهذه الخلاصة نعود لنتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية الواردة في هذا المجال :

١ ـ (لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (ولا تدفعنا التعصّبات العرقية والمصالح الشخصية لقبول فريق ورفض الآخر). (البقرة / ١٣٦)

٢ ـ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ (أنبياء بني إسرائيل) وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً). (النساء / ١٦٣)

٣ ـ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). (الأنبياء / ٢٥)

٤ ـ (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً). (إبراهيم / ١٠)

٥ ـ (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا). (الأنعام / ١٣٠)

٦ ـ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ). (النساء / ١٣١)

٧ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). (الحديد / ٢٥)

٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (بنبي الإسلام) وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). (البقرة / ٦٢)

٩ ـ (مَا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيَما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً). (الأحزاب / ٣٨)

٢٨٠