نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أئمّتهم وقادتهم ، ونسبة مسألة علم الغيب إلى الشيعة من قبل بعض المغفّلين ، أو القول بأنّهم يعتبرون أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام شركاء مع الله في هذه الصفة ، هو اشتباه عظيم لا يمكن جبرانه ، لأنّه :

أوّلاً : لا يرى أي أحدٍ من علماء الشيعة أي إنسان لا نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا الأئمّة عليهم‌السلام نظراء لله تعالى بأيّة صفة أبداً ، واعتقادهم بعلمهم بالغيب إنّما هو من بابـ «تعلّم من ذي علم» (الأئمّة من النبي والنبي من الله العظيم).

وبعبارة اخرى ، كما أنّ كلّ ما لدينا هو من عند الله وانّنا محتاجون إليه ومتعلّقون به في كافّة شؤون حياتنا ، فكذلك علم غيب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام إنّما هو من عند الله ومرتبط بعلمه.

ثانياً : اطّلاع الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام على الغيب مسألة واردة بشكل كبير في الروايات أيضاً ، فضلاً عن الآيات القرآنية ، وحسبنا ما في كتب أهل السنّة من أنّ لبعض الصحابة وغيرهم فضلاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اطّلاع على كلّ أسرار الغيب أو جلّها!

ويكفي هنا ذكر خلاصة البحث التحقيقي الذي ذكره العلّامة الأميني في كتابه «الغدير» الجزء ٥ ، (بالإضافة إلى التطرّق لبعض الروايات الاخرى إكمالاً للبحث) :

١ ـ جاء في الكثير من المصادر المعروفة لأهل السنّة أنّ «حذيفة» قال : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علّمني علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة» (١).

٢ ـ وجاء في حديث آخر عن «حذيفة» أيضاً أنّه قال : «والله انّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة» (٢).

٣ ـ نقرأ في حديث آخر في صحيح مسلم أنّ أبا زيد أي «عمرو بن أخطب» قال : صلّى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة الصبح ، ثمّ ارتقى المنبر وخطب خطبة دامت إلى الظهر ثمّ صلّى الظهر وصعد المنبر إلى صلاة العصر ثمّ نزل وصلّى العصر وصعد المنبر ثانية وخطب إلى

__________________

(١) صحيح مسلم (كتاب الفتن باب إخبار النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يكون إلى قيام الساعة) ، مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٣٨٦ وكتب اخرى.

(٢) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٣٨٨.

٢٠١

غروب الشمس ، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا» (١).

ثمّ يذكر أحاديث أخرى متعرّضة لمسائل الغيب في بعض الأحيان عن بعض من الصحابة وأمثالهم ، من جملتها قوله : وذكر الخطيب البغدادي في تأريخه عن أبي الحسن المالكي قال : كنت أصحب ـ محمّد بن إسماعيل ـ سنين كثيرة ، ورأيت له من كرامات الله تعالى ما يكثر ذكره ، إنّه قال لي قبل وفاته بثمانية أيّام ، إنّي أموت يوم الخميس المغرب فادفنّي يوم الجمعة قبل الصلاة ... قال أبو الحسن : فنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من خبّرني بموته ، فخرجت لأحضر جنازته فوجدت الناس راجعين ، فسألتهم لِمَ رجعوا فذكروا أنّه يدفن بعد الصلاة ، فبادرت ولم ألتفت إلى قولهم فوجدت الجنازة قد اخرجت للدفن قبل الصلاة!

ثمّ يضيف العلّامة الأميني رحمه‌الله : توجد في طي كتب الحفّاظ ومعاجم أعلام القوم قضايا جمّة في اناس كثيرين ، عدّوها لهم فضلاً وكرامة تنبيء عن علمهم بالغيب وبما تخفي الصدور ولا يراها أحد منهم شركاً وهو ما يدعو للعجب (٢).

كما نشاهد مسائل علم الغيب في روايات أهل البيت عليهم‌السلام بكثافة أيضاً ، من جملتها الباب الذي عقده المرحوم العلّامة المجلسي في «بحار الأنوار» الجزء ٢٦ حول هذا الموضوع ، وجاء بالعشرات من الروايات حول اطّلاع الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام على علم الغيب ، من جملتها الرواية التي وردت بتعابير شتّى ، ومن مختلف الطرق من أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «أترى من جعله الله حجّة على خلقه يخفى عليه شيء من أمورهم؟».

ونقرأ عبارة اخرى لهذا الإمام نفسه عليه‌السلام : «أنّ الله أحكم وأكرم وأجلّ وأعلم من أن يكون احتجّ على عباده بحجّة ثمّ يغيّب عنه شيئاً من امورهم» (٣).

كما نجد في نهج البلاغة أيضاً على العديد من الجمل التي تخبر عن الإطّلاع الواسع

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ٢٢١٧ (باب إخبار النبي فيما يكون إلى قيام الساعة من كتاب الفتن) يتبيّن من هذا الحديث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشغولاً ببيان إخبار الغيب لأصحابه يوماً بأكمله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

(٢) الغدير ، ج ٥ ، ص ٥٩ ـ ٦٢ (باختصار) وورد الحديث الأخير في تاريخ بغداد ، ج ٢ ، ص ٤٩.

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٦ ، ص ١٣٧ ـ ١٥٤.

٢٠٢

لعلي عليه‌السلام على علم الغيب ، لكن وكما قال هو بنفسه في الخطبة ١٢٨ فهذه ليست علم غيب (إستقلالي ذاتي) ، بل هي تعلّم من ذي علم (أي نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي تعلّم هو بدوره من الله تعالى).

هذه الإخبارات الغيبية جاءت في عدّة خطب من جملتها الخطبة ١٣ حول أحداث البصرة القادمة.

وفي الخطبة ٤٧ حول مستقبل الكوفة.

وفي الخطبة ٥٧ حول بعض سلاطين بني اميّة.

وفي الخطبة ٥٩ حول عدد قتلى الخوارج وأصحابه ومريديه في معركة النهروان وذلك قبل نشوبها.

وفي الخطبة ١١٦ حول ظهور الحجّاج وجناياته العجيبة البشعة في المستقبل.

وفي الخطبة ١٢٨ حول الفتن العظيمة التي ستقع في البصرة (فتنة صاحب الزنج أو الأتراك والمغول).

وفي الخطبة ١٣٨ حول أحداث الشام في المستقبل.

وفي الخطبة ١٥٨ حول الجرائم الفجيعة لبني اميّة.

وفي الحكمة ٣٦٩ يتعرّض لحوادث آخر الزمان.

واللطيف هنا هو اتّكاؤه في الكثير من هذه الموارد على الجزئيات ، وعدم اقتناعه أبداً بذكر الكليّات التي ربّما تخطر على ذهن المتأمّل الفطن غير المعصوم أيضاً ، ويتّضح جيّداً أنّ كلّ هذه الأخبار نابعة من الإطّلاع على علم الغيب.

ونذكر هنا ما جاء في الخطبة ٥٩ حول خوارج النهروان كمثال على ذلك ، قال : «مصارعهم دون النطفة! والله لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة»!.

وفي الخطبة ٦٠ حينما قالوا لعلي عليه‌السلام ، لقد اضمحلّ الخوارج وانقرضوا ، قال : كلّا! والله إنّهم نُطفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء ، كلّما نَجَمَ منهم قرنٌ قطع ، حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلابين!

فأشار عليه‌السلام هنا إلى مسألة إخماد نار الخوارج خلال مختلف الأنظمة وعاقبة أمرهم

٢٠٣

أيضاً ، وعلى حدّ قول ابن أبي الحديد «وهكذا وقع وصحّ إخباره عليه‌السلام أيضاً أنّه سيكون آخرهم لصوصاً سلّابين ، فانّ دعوة الخوارج اضمحلّت ، ورجالها فنيت ، حتّى أفضى الأمر إلى أن صار خَلفَهُم قطّاع طرق ، متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض».

ثمّ تعرّض بعد ذلك لمقاطع مختلفة من تأريخهم بالتفصيل ، وخروج بعضهم في أيّام الخلفاء والقضاء عليهم (١).

وزبدة الكلام هي أنّ مسألة العلم بأسرار الغيب سواء فيما يتعلّق بالماضي أو المستقبل أو حتّى الامور الخافية عن الأنظار في الوقت الحاضر ، ليست بذلك الشيء الذي يمكن إنكاره من وجهة نظر القرآن ، والأحاديث الإسلامية وتواريخ الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

وهذه المسألة من الوضوح بحيث إنّهم عدّوا اشتمال القرآن على الأخبار الغيبية أحد وجوه إعجازه ، وقد اشير في كتب إعجاز القرآن إلى تلك الموارد على الأعمّ الأغلب ، كما تعرّضنا نحن أيضاً في التفسير الأمثل إلى الموارد ذات العلاقة بهذا القسم في ذيل كلّ آية ، ألم يكن القرآن بمثابة تعاليم إلهيّة لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فما هو الفرق بين تعليمه عن طريق القرآن أو غيره؟!

* * *

حدود علم الغيب وكيفيته :

لا كلام في مسألة اطّلاع الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام على علم الغيب عن طريق التعليم الإلهي ، وقد تقدّمت أدلّتها مفصّلة في الأبحاث السابقة.

لكنّ هناك كلاماً مطوّلاً حول كيفية هذا العلم ومساحته ، وهذه المسألة تعدّ من أعقد المسائل التي تواجه الباحث في مثل هذه الأبحاث ، وقد وردت بحقّها أخبار متفاوتة ، كما وتلاحظ هنالك آراء متنوّعة من قبل العلماء أيضاً ، ومجموع هذه الإحتمالات الأساسية في هذه المسألة كالتالي :

١ ـ إنّهم يرون كلّ شيء «بالفعل» باستثناء القسم الخاصّ بالذات المقدّسة ، كالعلوم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٥ ، ص ٧٣.

٢٠٤

الخمسة الواردة في آخر سورة لقمان والتي تمّت الإشارة إليها سابقاً ، وكالعلم بكنه ذات الباري جلّت قدرته وكنه أسمائه وصفاته.

الدليل على هذا الكلام هو الروايات المتظافرة التي تقول صراحة : إنّ للأئمّة «علم ما يكون وما هو كائن حتّى تقوم الساعة» ، ومن البديهي أنّ للنبي ذلك العلم بطريق أولى.

المرحوم الكليني وفي اصول الكافي ذكر باباً تحت عنوان : «إنّ الأئمّة عليهم‌السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنّه لا يخفى عليهم شيء» (١).

٢ ـ إنّهم يعلمون كلّ هذه الامور لكن «بالقوّة» لا «بالفعل» ، أي أنّهم كلّما شاؤا أن يعلموا شيئاً من أسرار الغيب ألهمهم الله به ، أو أنّهم يمتلكون قواعد واصول يستندون عليها للإطّلاع على كلّ أسرار الغيب ، أو أنّ معهم كتباً يطّلعون على أسرار الغيب من خلال التأمّل فيها ، أو أنّهم يعلمون بهذه الأسرار كلّما شاء الله ذلك ، أي كلّما منحهم حالة البسط اصطلاحاً ، في حين أنّ هذه العلوم تختفي عند عودة المشيئة وحصول حالة القبض كما يصطلح على ذلك.

الدليل على هذا القول (في الحالة الاولى) هو الروايات القائلة : إنّ الأئمّة والقادة المعصومين إذا أرادوا أن يعلموا شيئاً علموه ، وقد عقد المرحوم الكليني في اصول الكافي باباً حول هذا الموضوع تحت عنوان : «إنّ الأئمّة إذا شاؤا أن يعلموا علموا» (٢).

هذا البيان يحلّ الكثير من المشاكل المتعلّقة بعلم الأنبياء والأئمّة أيضاً ، من جملتها أنّه لماذا شرب الإمام الحسن عليه‌السلام مثلاً من ماء الجرّة المسموم؟ وتناول الإمام الثامن عليه‌السلام العنب أو الرمّان المسموم؟ لماذا انتخبوا فلاناً المناسب للقضاء أو القيادة؟ ولماذا كان يعقوب قلقاً إلى ذلك الحدّ على إبنه؟ مع أنّ ابنه كان يتدرّج في المناصب الحسّاسة ، ثمّ استبدل الفراق إلى الوصال في خاتمة المطاف ، لماذا ... ، ولماذا ...؟

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٥ (ذكر المرحوم الكليني في هذا الباب ست روايات) كما أنّ المرحوم العلّامة المجلسي قد تعرّض لشرح هذه الروايات في مرآة العقول ، ج ٣ ، من ص ١٢٩ ـ ١٣٤.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٥٨ (ذكرت في هذا الباب ثلاث روايات بنفس هذا المضمون) كما أشار إليها المرحوم العلّامة المجلسي في مرآة العقول ، ج ٣ ، ص ١١٨.

٢٠٥

يمكن القول أنّهم وفي كلّ هذه الموارد لو شاؤا أن يعلموا لعلموا ، لكنّهم كانوا يعلمون أنّ الله لم يجز لهم الإطّلاع إمّا اختباراً أو لمصالح اخرى.

ويمكن توضيح هذه المسألة بذكر هذا المثال : لو أعطى أحد رسالة حاوية على أسماء أشخاص أو مناصبهم أو على حقائق سرّية اخرى ، لشخص آخر فبإمكان ذلك الشخص الإطّلاع على هذه الحقائق بمجرّد فتح الرسالة ، لكن حيث إنّها لم تفتح بعد فليس له اطّلاع على محتواها ، كما أنّ الشخص الرئيسي الذي أعطاه الرسالة كان قد خوّله فتح الرسالة متى شاء.

٣ ـ المراد من اطّلاع المعصومين على علم الغيب هو الإطّلاع على كلّ المسائل ذات العلاقة بهداية البشرية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وبناءً على هذا فهم مطّلعون بالفعل على كلّ المعارف والأحكام ، وتواريخ الأنبياء ومسائل الخلق والحوادث السابقة واللاحقة إلى كلّ ما يرتبط بهداية الناس ، لكن ليس من الضروري القول بما هو خارج عن نطاق هذه الدائرة في حقّهم.

الروايات المتعدّدة التي أشرنا إليها والقائلة : «إنّ الله أحكم وأكرم وأجلّ وأعظم وأعدل من أن يحتجّ بحجّة (للخلق) ثمّ يغيّب عنه شيئاً من امورهم» (١).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من زعم أنّ الله يحتجّ بعبد في بلاده (بين خلقه) ثمّ يَستُر عنه جميع ما يحتاج إليه فقد افترى على الله!» (٢).

هذه كلّها إشارة إلى العلوم الضرورية لهداية الخلق.

٤ ـ إنّهم مطّلعون على كلّ أسرار الغيب ، لكنّ اطّلاعهم هذا مبتنٍ على اصول كلّية ، فهم يعلمون بكلّيات كافّة الامور ، في حين أنّ العلم بكلّيات العالم وجزئياته كلّها خاصة بذاته تعالى.

هذا الكلام في الواقع يشبه ما ورد في روايات متعدّدة من أنّ عليّاً عليه‌السلام قال : «إنّ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٦ ، ص ١٣٨ ، ح ٥ (ورد هذا الحديث قبل عدّة صفحات بتفاوت ضئيل).

(٢) المصدر السابق ، ص ١٣٩ ، ح ٨.

٢٠٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علّمني الف باب من الحلال والحرام وممّا كان وممّا يكون إلى يوم القيامة ، كلّ باب منها يفتح الف باب فذلك الف الف باب» (١).

العدد (الف) في هذا الحديث سواء كان للعدد أو كناية عن الكثرة فهو دليل على الكثرة ، التي تفوق الحدّ لأبواب العلم التي علّمه إيّاها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك إشارة إلى اشتمال هذه الأبواب على سلسلة من الاصول الكلّية التي تطلّ عليها مئات بل آلاف الأبواب الاخرى.

والملاحظة الجديرة بالإعتبار هي أنّ الحديث ، (إذا شاؤا أن يعلموا علموا) يمكن أن يكون إشارة إلى نفس هذا المعنى وهو أنّهم إذا شاؤا أن يعلموا بعضاً من الجزئيات ، لراجعوا الاصول الكلّية التي علّمهم إيّاها الله تعالى أو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله واطّلعوا عليها.

٥ ـ إنّ علمهم يكون بكلّ حقائق العالم لكن من خلالـ «لوح المحو والإثبات» ، في حين علم الله بكلّ الحقائق هو من خلالـ «اللوح المحفوظ».

بيان ذلك : حوادث الكون لها مرحلتان : المرحلة القطعيّة التي لا سبيل لأي تغيير إليها ، أي أنّ حادثة ما بكلّ أسبابها وعللها حاضرة عند العالم ، وحيث إنّه مطّلع على كلّ أسبابها وعللها وموانعها وعلاقتها بالماضي والمستقبل ، فهو يعلمها قطعاً ويخبر عنها بجدّية ، وقد تمّ التعبير عن هذه المرحلة على لسان الآيات والروايات بـ «امّ الكتاب» أو «اللوح المحفوظ».

والمرحلة الاخرى هي «المرحلة غير القطعية» أو بعبارة اخرى «المرحلة المشروطة» ، فالشخص العالم مطّلع على علل الحوادث في هذه المرحلة ، لكن من الممكن عدم وضوح كلّ شروطها وموانعها لديه ، ولذا لا يمكنه البتّ في وقوع الحوادث إنّما يمكنه ذلك مشروطاً ، وهذا ما تمّ التعبير عنه على لسان الآيات والروايات بـ «لوح المحو والإثبات».

الاختلاف بين علم الله وعلوم الأنبياء والأولياء هو نفس الاختلاف بين هاتين

__________________

(١) المرحوم العلّامة المجلسي عقد في المجلّد الأربعين باباً تحت نفس هذا العنوان (إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علّمه الف باب) وذكر ٨٢ حديثاً حول هذا الموضوع والذي ذكرناه أعلاه هو الحديث السادس (بحار الأنوار ، ج ٤٠ ، ص ١٣٠).

٢٠٧

المرحلتين ، أي أنّه وفضلاً عن كون أحدهما ذاتياً ومستقلاً دون الآخر فانّ لأحدهما صفة القطع والبتّ دون صاحبه.

٦ ـ آخر كلام ونظرية يمكن بيانها فيما يتعلّق بكيفية اطّلاع الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام على أسرار الغيب ، هو القول باطّلاعهم عليها إجمالاً ، لكن ما هي مساحة ذلك ياترى؟ فلا نعلم ذلك بالدقّة ، وما نعلمه فقط هو أنّ الله العالِم يعلّمهم كلّما وجد في ذلك مصلحة وضرورة ، لكن كيف؟ وكم؟ فهذا ما لا نعلمه.

* * *

كانت هذه هي الطرق الستّة التي يمكن ذكرها للإجابة عن مسألة كيفية اطّلاع الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام على أسرار الغيب وحدود ذلك.

ونظراً إلى أنّ البحث حول كلّ الجزئيات المرتبطة بعلم الغيب قد أفرد في كتاب مستقلّ ، فضلاً عن أنّ هدفنا الرئيس من عرض هذه المباحث شيء آخر (وهو رفع التضادّ الذي ربّما يتوهّمه بعض المغفّلين بين الآيات المرتبطة بعلم الغيب) فسنوكل مزيداً من الشرح والتفصيل حول هذا الموضوع ، واختيار النظرية الأقوى من بين هذه النظريات إلى بحثه الخاصّ به.

* * *

٢٠٨

إثبات علم القادة

الإلهيين عن طريق العقل

٢٠٩
٢١٠

إثبات علم القادة الإلهيين عن طريق العقل

كان الكلام لحدّ الآن عن الآيات والروايات التي أثبتت مسألة إمكان علم الغيب للأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، لكن علاوة على ذلك فهناك طريق آخر أيضاً لإثبات هذا المعنى وهو عن طريق العقل ، حيث إنّ هؤلاء العظماء لا يستطيعون أداء وظيفتهم على أتمّ وجه في حالة عدم اطّلاعهم على أسرار الغيب أو بعض منها.

بيان ذلك : نحن نعلم أنّ دائرة وظيفتهم واسعة جدّاً ، سواء من الناحية الزمانية أو المكانية ، خصوصاً فيما يتعلّق بمسألة رسالة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمامة الأئمّة عليهم‌السلام إذ هي «عالمية» و «خالدة» ، أي أنّها شاملة لكلّ بقاع العالم ومحيطة بكلّ الأزمنة إلى قيام الساعة.

فهل يمكن لمحافظ مدينة ما مثلاً أن يؤدّي دوره في تلك المحافظة دون الوقوف على أوضاع أهاليها ، وإمكانات المنطقة وامتيازاتهم ومحرومياتهم؟ من البديهي أنّه غير قادر على ذلك.

ومع هذا فكيف يمكن لرسول مرسل إلى البشرية جمعاء ، وإلى يوم القيامة تبليغ رسالته دون الإطّلاع على وضع العالم إلى آخر يوم من مهمّته؟!

بديهي أنّهم لا يتمكّنون من الإحاطة بكلّ الأعصار والقرون ، أو الإطّلاع على الأقوام والطوائف عن طريق العلوم الإعتيادية ، إذن فلا سبيل لهم إلى ذلك سوى علم الغيب (بالتعليم الإلهي).

علاوة على ذلك فمساحة دائرة مسؤوليتهم لا تنحصر بالظواهر فحسب إنّما تمتدّ لتشمل ظاهر المجتمع ، وباطنه وجوهر الإنسان ومظهره أيضاً ، واتّساع المسؤولية هذه يستلزم بدوره الإطّلاع على أسرار أفراد المجتمع الباطنية أيضاً ، وهذا هو نفس ذلك الذي ورد في

٢١١

روايات متعدّدة بشكل استدلال عقلي ، لا حكم تعبّدي (تأمّل جيّداً).

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام ـ على سبيل المثال ـ لأحد الرواة باسم «عبدالعزيز الصائغ» في حديث أشرنا إليه سابقاً : «أترى أنّ الله استرعى راعياً (على عباده) واستخلف خليفة عليهم يحجب عنه شيئاً من امورهم» (١)؟!

كما ورد نفس هذا المعنى بتعبير أوضح في حديث إبراهيم بن عمر أنّه قال ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «من زعم أنّ الله يحتجّ بعبد في بلاده ثمّ يستر عنه جميع ما يحتاج إليه فقد افترى على الله» (٢).

* * *

العلوم الأخرى للأنبياء في القرآن المجيد :

يستفاد بوضوح من آيات قرآنية مختلفة أنّ لبعض الأنبياء الإلهيين فضلاً عن العلوم ذات العلاقة بهداية الخلق وتربيتهم والحفاظ على نظام المجتمع البشري وبلوغ الأهداف النهائية للخلق ، علوماً أخرى أيضاً ، من جملتها الموارد أدناه :

١ ـ تعلّم موسى من الخضر

ورد في سورة الكهف ٢٣ آية تمّ من خلالها بيان قصّة موسى عليه‌السلام بعبارات لطيفة جدّاً وموزونة ، وتعلّمه من عبد لله لم يذكر القرآن إسمه لكنّه في الحقيقة هو «الخضر» كما هو المتعارف (الكهف / ٦٠ ـ ٨٢).

هذه الحادثة تبيّن بوضوح أنّ موسى عليه‌السلام قد ذهب وراء ذلك المعلّم الإلهي طبقاً للعنوان الذي كان لديه ، ليستفيد من العلوم التي تعلّمها من الله ، ولذلك فحينما وصل إليه بعد جُهدٍ جهيد قال : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً). (الكهف / ٦٦)

__________________

(١) بصائر الدرجات طبقاً لما نقله صاحب بحار الأنوار ، ج ٢٦ ، ص ١٣٧ ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٣٩ ، الرواية الثامنة.

٢١٢

فوافق الخضر على ذلك ورافقه موسى عليه‌السلام بدوره ، ثمّ إنّه واجه ثلاث حوادث مؤلمة وغير مألوفة بحسب الظاهر (وذلك لعدم إحاطته بها) ، الاولى خرق السفينة التي تعود إلى فريق من الطبقة المسحوقة ، والتي كانت تعدّ مصدراً لمعيشتهم ، الثانية قتل الشاب ، والثالثة إقامة الجدار الذي يريد أن ينقضّ ، مع عدم وجود أي دليل لها ظاهراً.

وفي كلّ مرّة كان يتصاعد اعتراض موسى عليه‌السلام وذلك لتعرّض أحكام شرعية مهمّة في هذه الحوادث الثلاث لخطر الزوال والإضمحلال ، ففي أوّل حادثة تمّ التعدي على حرمة أموال الناس من قبل الخضر ، وفي الثانية أُنتهكت حرمة حياة الناس ، وفي الثالثة صدر منه تصرّف غير مسؤول بحسب الظاهر ، وذلك ببنائه للجدار الذي كان مشرفاً على السقوط بلا أخذ أجر عليه أو دليل على لزوم إعادة بنائه.

وأخيراً بَيَّنَ له الخضر أسرار هذه الامور الغامضة ليقف على فلسفتها وحكمتها ، وتبين أنّه لو لم يخرق السفينة لأخذها ملك غاصب ولتدهورت أحوال أصحابها ، ولو لم يُقتل ذلك الشاب المرتدّ لاحتمل أن يُضِّلّ أبويه المؤمنين ، وأنّه كان هناك كنز خفي تحت ذلك الجدار ليتيمين وكان أبوهما صالحاً ، وأراد الله الحفاظ على كنزهما عن هذا الطريق إلى أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما للاستفادة منه ، ومع أنّ موسى المأمور بظاهر الشريعة لم يتمكّن من البقاء أكثر من هذا مع الخضر الذي كانت له وظائف اخرى أيضاً وأنّه انفصل عنه طبقاً للعهد الذي أخذه على نفسه ، لكنّه توصّل من خلال هذه القصّة بشكل عامّ إلى أنّ الكثير من الحوادث التي لها ظاهر مؤلم تعدّ أسباباً لليمن والبركة في جوهرها ، فضلاً عن وقوفه على العلم التفصيلي لهذه القصص الثلاث ، وانّنا لعلمنا المحدود نتوهّمها في غير محلّها في حين أنّ وقوفنا على حقيقة الأمر يدفعنا لاقتفاء أثره وإدراكه بكلّ سرور.

كانت هذه علوماً تعلّمها موسى من الخضر إلى جانب علم الشريعة ، والأسمى منها هو الخضر الذي يعدّ من الأنبياء الإلهيين عظيمي الشأن ، والذي كان له اطّلاع واسع على هذه الامور (١).

__________________

(١) لمزيد من التوضيح فيما يتعلّق بهذه الآيات وجزئيات هذه القصّة ، راجع التفسير الأمثل ، ذيل الآيات ٦٠ ـ ٨٢ من سورة الكهف.

٢١٣

٢ ـ اطّلاع داود على إعداد وسيلة دفاعية

تمّ البحث في سورتين من القرآن المجيد حول اختراع الدرع المناسب ، الذي كان يعدّ وسيلة دفاعية مهمّة لحروب الأزمنة الغابرة ، وذلك من قبل داود النبي الإلهي العظيم الشأن.

يقول تعالى في أحد المواضع : (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ). (الأنبياء / ٨٠)

يتّضح جيّداً من هذه الآية أنّ إبداع هذه الوسيلة الدفاعية قد تمّ في عهد داود عليه‌السلام وبتعليم ربّاني ، في حين انّنا نعلم بعدم ضرورة أن يكون نبي إلهي مبتكراً لمثل هذا الموضوع.

كما ونقرأ في قوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (سبأ / ١٠ ـ ١١)

لا شكّ أنّ هذا الأمر يكشف عن أنّ إقدام داود عليه‌السلام على صنع شيء فريد من نوعه ، كان بأمر إلهي وأنّه تعالى هو الذي علّمه كيفية الصنع وسبل تليين الحديد ، سواء كانت لهذه المسألة صفة إعجاز أم تعليم إلهي بالاستفادة من المعدّات والأسباب ، وعلى أيّة حال فابتكار هذا الأمر (صنع الحلقات الدقيقة والقويّة لغرض نسج الدرع في ذلك الزمان ، بحيث لا يعيق حركة المقاتل ، كما ويسهل ارتداؤه بالإضافة إلى مقاومته لضربات وأسنّة السهام والسيوف والرماح في نفس الوقت) كان عملاً شاقّاً ومعقّداً للغاية ، ولم تكن أهميّته في ذلك العصر أدنى من إبداع الأسلحة المتطوّرة في عالم اليوم.

كما ويحتمل أن تكون الآية ١٥ من سورة النمل إشارة إلى نفس علم ومعرفة داود بصناعة هذه الوسيلة الدفاعية أيضاً ، أو أن تكون مضافة إلى العلوم الأولى حيث يقول تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً). (١)

لقد تناولنا هذا البحث فيما سبق أيضاً ـ بمناسبة أخرى ـ.

* * *

__________________

(١) ورد هذا الاحتمال في تفسير القرطبي ، ج ٧ ، ص ٤٨٧٩ ذيل الآية مورد البحث.

٢١٤

٣ ـ معرفة يوسف بتفسير الاحلام

هل بإمكان الرؤيا إزالة الستار عن حوادث المستقبل والكشف عن المسائل؟

لو كان الجوابـ «نعم» ، فأي رؤيا هذه ، وهل تنطق الأحلام صراحةً أم كنايةً ، أو تكون صريحة تارةً وكنائية أخرى؟ وفي الحالة الثانية فمن أولئك الذين يجيدون لغة كناية الرؤيا ، ومن بيده هذا العلم؟

وأساساً ما هي حقيقة الرؤيا؟ وكيف ترتسم في روح الإنسان وذهنه؟

هذه هي الأسئلة المعقّدة التي تتطلّب الإجابة عنها الخوض في أبحاث مطوّلة ومفصّلة ، وخارجة عن موضوع بحثنا في نفس الوقت (١).

إنّ من المسلّم به في الأبحاث القرآنية أنّ بإمكان الرؤيا الدلالة على الأحداث كناية أو صراحة ، وقد أشار القرآن إلى سبع أحلام صادقة في سور مختلفة بالإمكان الوقوف عليها في «رسالة القرآن» ، المجلّد الأوّل في مبحث مصادر المعرفة (المصدر السادس ـ الكشف والشهود) (٢).

إنّ بعضاً من هذه الأحلام كان كنائيّاً (مثل حلم عزيز مصر) وبعضها صريحاً مثل حلم نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله حول دخول المسلمين إلى المسجد الحرام ، وأداء مراسم الحجّ.

ويصرّح القرآن في سورة يوسف بأنّنا علّمنا يوسف هذا العلم ، ونقرأ في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). (يوسف / ٦)

وقال أيضاً : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). (يوسف / ٢١)

ثمّ تجسّدت نماذج من تفسير يوسف للأحلام ، بما فيها الرؤيا التي قصها كلّ من السجينين عليه ، ورؤيا ملك مصر ، والتي تحكي كلّها عن إحاطته الكاملة بعلم تعبير الاحلام.

بديهي أنّ عدم اطّلاع الأنبياء عليهم‌السلام على تعبير الأحلام لا يخدش في نبوّتهم ، لكن

__________________

(١) ورد هناك في التفسير الأمثل ، في الآيات المرتبطة بيوسف عليه‌السلام ، بحث مفصّل نوعاً ما حول هذا الموضوع ، وان كان بيانه بالكامل يحتلّ كتاباً مستقلاً لوحده.

(٢) لمزيد من الايضاح راجعوا الى ج ١ ، ص ٢١٢ من هذا التفسير.

٢١٥

بإمكان هذا العلم أن يلعب دوراً فعّالاً في الإسراع من عجلة تطوّر مأموريتهم ، وإضفاء المزيد من التقدّم على خططهم.

* * *

٤ ـ العلم بمنطق الطير

تمّت الإشارة في القرآن الكريم إلى نوع آخر من العلم والمعرفة بالنسبة لسليمان عليه‌السلام ، والذي يبدو لأوّل وهلة أمراً عجيباً ، ألا وهو مسألة القدرة على مخاطبة الطيور وفهم حوارها ، ونقرأ في قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ). (النحل / ١٦)

الكلام هنا طويل :

هل حقّاً تتكلّم الحيوانات؟ كيف يكون حديثها؟ هل بهذه الأصوات المتنوّعة التي تنبعث منها في مختلف الحالات ، أم أنّ هناك كيفية خاصّة أخرى؟

لا شكّ أنّ للطيور أصواتاً متفاوتة وبحسب الظروف المختلفة ، كالغضب والرضا والجوع والعطش والمرض والضجر ، وأنّ بإمكان من لهم أدنى اطّلاع على حالها إدراك مرادها.

لكن من المستبعد أن تكون الآية أعلاه وأمثالها ناظرة إلى هذا المعنى ، إذ إنّها تحكي عن مطالب أدقّ وأهمّ ، فالبحث هو عن تفاهمها وتخاطبها مع الإنسان ، والحديث هو عن سلسلة من المفاهيم العالية والراقية.

مع احتمال إقدام البعض على حمل هذه الآيات وأمثالها على الكنايات أو لغة الأساطير ، توهّماً منهم باستحالة مثل هذا الشيء للحيوانات ، فامتلاك سليمان عليه‌السلام للمعجزة واطّلاعه على العلوم الإلهيّة الخاصّة لا يستبعد أبداً.

وهناك سؤال وهو : هل أنّ للحيوانات مثل هذا الفهم والشعور لتتحدّث مثلاً عن عبادة ملكة سبأ للشمس من دون الله؟

التمعّن في أسرار حياة الطيور ، والمطالب العجيبة التي ينقلها العلماء فيما يتعلّق بذهنها

٢١٦

ومهارتها ودقّتها ، يكشف عن سقم وسطحية افتراض تجرّد الحيوانات خصوصاً الطيور من الشعور.

إنّ أبحاث العلماء تشير إلى أنّ للكثير من الحيوانات القدرة على تحديد الظروف الجويّة ، حتّى قبل حدوثها بعدّة أشهر ، في حين أنّ الإنسان ومع كلّ الأجهزة التي يستعين بها يعجز أحياناً عن مثل ذلك ، ولو لساعات قليلة قبل ذلك.

أغلب الحيوانات تعلم بالزلازل قبل وقوعها وتبدي ردّ فعلها لذلك ، في الوقت الذي تعجز فيه أجهزة رصد الزلازل عن تخمين ولو مقدّماتها.

غرائب حياة النحل واقتفائها العجيب للمناطق التي تكثر فيها الزهور ، ونشاطات النمل العجيبة وتطوّرها المعقّد ، ومعرفة الطيور المهاجرة بوضع الطرق حين تطوي أحياناً المسافة بين القطبين الشمالي والجنوبي للكرة الأرضية ، واطّلاع البعض من الطيور على أحوال فراخها قبل تفقيسها ، وتوقّعها الدقيق لاحتياجاتها مع عدم امتلاكها لتجربة سابقة ، وأمور أخرى من هذا القبيل والتي ذكرت في الكتب المعتبرة والمستندة في هذه الأيّام ، تشير بمجموعها إلى أنّ لا غرابة في تمتّع الحيوانات بنوع من الحوار فيما بينها ، مع تمكّنها من التحدّث مع من له اطّلاع على أبجديات لغتها ، وخلق رابطة ما معه.

الكثير من آيات القرآن تدلّل على أنّ للحيوانات شعوراً وإدراكاً على خلاف ما يتوهّمه البسطاء ، بل بلغ الحدّ بالبعض إلى الإعتقاد بأنّ لكلّ ذرّات الكون بما فيها الجمادات نوعاً من الشعور ، ومن هنا فقد اعتبروا عموم تسبيحها مقروناً بالشعور.

هذه المواضيع تعود بطبيعة الحال إلى بحوث أخرى ذكرناها في محلّها ، امّا الذي ينبغي الإلتفات إليه هنا فهو مسألة اطّلاع البعض من الأنبياء على «منطق الطير» ، وتحدّث قسم من الحيوانات معهم ، والتي لا تعدّ علماً ضرورياً لأداء الرسالة بل باعثاً على كمال النبوّة.

* * *

٢١٧
٢١٨

طرق معرفة سفراء الله

١ ـ الاعجاز

٢ ـ التحقيق في مضمون دعوة الأنبياء عليهم‌السلام

٣ ـ جمع القرائن

٤ ـ شهادة الأنبياء السابقين

٢١٩
٢٢٠